-تفسير قول الله تعالى: {اهدنا الصراط المستقيم . صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين}.
تلخيص أقوال المفسرين في الآيات
القراءات
-القراءات في قوله تعالى: ({اهدنا الصّراط المستقيم}
1-قراءة الجمهور بالصّادّ.
2-وقرئ: "السّراط" وقرئ بالزّاي، قال الفرّاء: وهي لغة بني عذرة وبلقين وبني كلب.
القراءات في قوله تعالى: {غير المغضوب عليهم ولا الضّالّين}
1-قرأ الجمهور: "غير" بالجرّ على النّعت.
2- قال الزّمخشريّ: وقرئ بالنّصب على الحال، وهي قراءة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وعمر بن الخطّاب، ورويت عن ابن كثيرٍ.
-(مسألةٌ): حكم الإخلال بتحرير ما بين الضّاد والظّاء في قوله (ولاالضالين)
والصّحيح من مذاهب العلماء أنّه يغتفر لقرب مخرجيهما؛ وذلك أنّ الضّاد مخرجها من أوّل حافّة اللّسان وما يليها من الأضراس، ومخرج الظّاء من طرف اللّسان وأطراف الثّنايا العليا، ولأنّ كلًّا من الحرفين من الحروف المجهورة ومن الحروف الرّخوة ومن الحروف المطبقة، فلهذا كلّه اغتفر استعمال أحدهما مكان الآخر لمن لا يميّز ذلك واللّه أعلم. وأمّا حديث: «أنا أفصح من نطق بالضّاد» فلا أصل له واللّه أعلم). كما ذكره ابن كثير
المسائل التفسيرية
تفسير قوله تعالى: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) )
- مناسبة الآية لما قبلها.
لما تقدم الثناء على المسؤول، تبارك وتعالى، ناسب أن يعقّب بالسّؤال؛ كما قال: [فنصفها لي ونصفها لعبدي، ولعبدي ما سأل] .
-ما أكمل أحوال السّائل؟
أن يمدح مسؤوله، ثمّ يسأل حاجته وحاجة إخوانه المؤمنين ، لأنّه أنجح للحاجة وأنجع للإجابة، ولهذا أرشد اللّه تعالى إليه لأنّه الأكمل كماأورده ابن كثير في تفسيره.
-كيف يكون السؤال (أنواع السؤال )مع الاستدلال.
1-قد يكون السّؤال بالإخبار عن حال السّائل واحتياجه، كما قال موسى عليه السّلام: {ربّ إنّي لما أنزلت إليّ من خيرٍ فقيرٌ}[القصص: 24]
2-قد يتقدم السؤال مع ذلك وصف المسؤول، كقول ذي النّون: {لا إله إلا أنت سبحانك إنّي كنت من الظّالمين}[الأنبياء: 87]
3-وقد يكون السؤال بمجرد الثناء على المسؤول، كقول الشّاعر:
أأذكر حاجتي أم قد كفاني ** حياؤك إنّ شيمتك الحياء
إذا أثنى عليك المرء يومًا ** كفاه من تعرّضه الثّناء
كما اورده ابن كثير في تفسيره.
- المعاني المتضمنة للهداية.
فتضمّن معنى ألهمنا، أو وفّقنا، أو ارزقنا، أو اعطنا، أو دلنا ، وأرشدنا كما ذكر ذلك ابن كثير والسعدي، وزاد الأشقر،معناه: طلب الزيادة من الهداية، كقوله تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى}.
-ما أهمية هذا الدعاء وهو سؤال الله الهداية.
هذا الدعاءُ منْ أجمعِ الأدعيةِ وأنفعِها للعبدِ، ولهذا وجبَ على الإنسانِ أنْ يدعوَ اللهَ بهِ في كلِّ ركعةٍ من صلاتِهِ، لضرورتِهِ إلى ذلكَ).كما أورده السعدي في تفسيره.
- سبب سؤال الله الهداية مع أن المؤمن متصف بها وهل هو تحصيل حاصل.مع الاستدلال
إنّ العبد مفتقرٌ في كلّ ساعةٍ وحالةٍ إلى اللّه تعالى في تثبيته على الهداية، ورسوخه فيها، وتبصّره، وازدياده منها، واستمراره عليها، فإنّ العبد لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًّا إلّا ما شاء اللّه، فأرشده تعالى إلى أن يسأله في كلّ وقتٍ أن يمدّه بالمعونة والثّبات والتّوفيق، فالسّعيد من وفّقه اللّه تعالى لسؤاله؛ فإنّه تعالى قد تكفّل بإجابة الدّاعي إذا دعاه، ولا سيّما المضطرّ المحتاج المفتقر إليه آناء اللّيل وأطراف النّهار، وقد قال تعالى: {يا أيّها الّذين آمنوا آمنوا باللّه ورسوله والكتاب الّذي نزل على رسوله والكتاب الّذي أنزل من قبل} الآية [النّساء: 136]، فقد أمر الّذين آمنوا بالإيمان، وليس في ذلك تحصيل الحاصل؛ لأنّ المراد الثّبات والاستمرار والمداومة على الأعمال المعينة على ذلك، واللّه أعلم.
وقال تعالى آمرًا لعباده المؤمنين أن يقولوا: {ربّنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمةً إنّك أنت الوهّاب} وقد كان الصدّيق رضي اللّه عنه يقرأ بهذه الآية في الرّكعة الثّالثة من صلاة المغرب بعد الفاتحة سرًّا. فمعنى قوله تعالى: {اهدنا الصّراط المستقيم} استمرّ بنا عليه ولا تعدل بنا إلى غيره). كما ذكره ابن كثير في تفسيره.
- معنى الصراط المستقيم.
أجمعت الأمّة من أهل التّأويل جميعًا على أنّ "الصّراط المستقيم" هو الطّريق الواضح الّذي لا اعوجاج فيه.
وكذلك في لغة جميع العرب، فمن ذلك قول جرير بن عطيّة الخطفي:
أمير المؤمنين على صراطٍ ** إذا اعوجّ الموارد مستقيم
والشّواهد على ذلك أكثر من أن تحصر، قال: ثمّ تستعير العرب الصّراط فتستعمله في كلّ قولٍ وعملٍ، وصف باستقامةٍ أو اعوجاجٍ، فتصف المستقيم باستقامته، والمعوجّ باعوجاجه كما رواه الإمام أبو جعفر بن جريرٍ وأورده ابن كثير في تفسيره والسعدي والأشقر.
-كيف تكون الهدايةُ إلى الصراطِ.
لزومُ دينِ الإسلامِ، وتركُ ما سواهُ منَ الأديانِ، والهدايةُ في الصراطِ تشملُ الهدايةَ لجميعِ التفاصيلِ الدينيّةِ علماً وعملاً.كما أورده السعدي في تفسيره.
- الأقوال في معنى الصراط.
اختلفت عبارات المفسّرين من السّلف والخلف في تفسير الصّراط وإن كان يرجع حاصلها إلى شيءٍ واحدٍ، وهو المتابعة للّه وللرّسول.
القول الأول :أنّه كتاب اللّه.
الأدلة:
1- عن عليّ بن أبي طالبٍ، رضي اللّه عنه، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «الصّراط المستقيم كتاب الله)
2- وعنه مرفوعًا: «وهو حبل اللّه المتين، وهو الذّكر الحكيم، وهو الصّراط المستقيم».
وقد روي هذا موقوفًا عن عليٍّ، وهو أشبه، واللّه أعلم.كما ذكره ابن كثير.
3- عن عبد اللّه، قال: «الصّراط المستقيم: كتاب اللّه»،كما ذكره ابن كثير.
القول الثاني: هو الإسلام.
الأدلة:
1- عن ابن عبّاسٍ، قال: «قال جبريل لمحمّدٍ، عليهما السّلام: قل: يا محمّد،{اهدنا الصّراط المستقيم}. يقول: اهدنا الطّريق الهادي، وهو دين اللّه الّذي لا عوج فيه».
2-وعنه أيضا، في قوله: {اهدنا الصّراط المستقيم} قال: «ذاك الإسلام».
3- عن ابن عبّاسٍ، وعن مرّة الهمدانيّ، عن ابن مسعودٍ، وعن ناسٍ من أصحاب النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: {اهدنا الصّراط المستقيم} قالوا: «هو الإسلام».
4-، عن جابرٍ: {اهدنا الصّراط المستقيم} قال: «الإسلام»، قال: «هو أوسع ممّا بين السّماء والأرض».
5-وقال ابن الحنفيّة في قوله تعالى: {اهدنا الصّراط المستقيم} قال: «هو دين اللّه، الّذي لا يقبل من العباد غيره».
6-وقال عبد الرّحمن بن زيد بن أسلم: {اهدنا الصّراط المستقيم}، قال: «هو الإسلام».
7-عن النّوّاس بن سمعان، عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: «ضرب اللّه مثلًا صراطًا مستقيمًا، وعلى جنبتي الصّراط سوران فيهما أبوابٌ مفتّحةٌ، وعلى الأبواب ستورٌ مرخاةٌ، وعلى باب الصّراط داعٍ يقول: يا أيّها النّاس، ادخلوا الصّراط جميعًا ولا تعوّجوا، وداعٍ يدعو من فوق الصّراط، فإذا أراد الإنسان أن يفتح شيئًا من تلك الأبواب، قال: ويحك، لا تفتحه؛ فإنّك إن تفتحه تلجه. فالصّراط الإسلام، والسّوران حدود اللّه، والأبواب المفتّحة محارم اللّه، وذلك الدّاعي على رأس الصّراط كتاب اللّه، والدّاعي من فوق الصّراط واعظ اللّه في قلب كلّ مسلمٍ».
وهكذا رواه ابن أبي حاتمٍ، وابن جريرٍ من حديث اللّيث بن سعدٍ به. ورواه التّرمذيّ والنّسائيّ جميعًا، عن عليّ بن حجرٍ عن بقيّة، عن بجير بن سعدٍ، عن خالد بن معدان، عن جبير بن نفيرٍ، عن النّوّاس بن سمعان، به.
وهو إسنادٌ صحيحٌ، واللّه أعلم.كما ذكره ابن كثير والأشقر.
القول الثالث : «الحقّ». وهذا أشمل، ولا منافاة بينه وبين ما تقدّم.وهو مارواه مجاهد كا أورده ابن كثير .
القول الرابع: هو النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، وصاحباه من بعده»،
الدليل:
من حديث أبي النّضر هاشم بن القاسم؛ حدّثنا حمزة بن المغيرة، عن عاصمٍ الأحول، عن أبي العالية: {اهدنا الصّراط المستقيم} قال: «هو النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، وصاحباه من بعده»، قال عاصمٌ: فذكرنا ذلك للحسن، فقال: «صدق أبو العالية ونصح».كما ذكره ابن كثير.
الترجيح :
الجمع بين الأقوال:
وكلّ هذه الأقوال صحيحةٌ، وهي متلازمةٌ، فإنّ من اتّبع النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، واقتدى باللّذين من بعده أبي بكرٍ وعمر، فقد اتّبع الحقّ، ومن اتّبع الحقّ فقد اتّبع الإسلام، ومن اتّبع الإسلام فقد اتّبع القرآن، وهو كتاب اللّه وحبله المتين، وصراطه المستقيم، فكلّها صحيحةٌ يصدّق بعضها بعضًا، وللّه الحمد.
ويؤيد ذلك قول الطبراني: عن عبد اللّه، قال: «الصّراط المستقيم الّذي تركنا عليه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم».
دليل الترجيح :
قال الإمام أبو جعفر بن جريرٍ، رحمه اللّه: والّذي هو أولى بتأويل هذه الآية عندي -أعني {اهدنا الصّراط المستقيم}- أن يكون معنيًّا به: وفّقنا للثّبات على ما ارتضيته ووفّقت له من أنعمت عليه من عبادك، من قولٍ وعملٍ، وذلك هو الصّراط المستقيم؛ لأنّ من وفّق لما وفق له من أنعم اللّه عليهم من النّبيّين والصّدّيقين والشّهداء والصّالحين، فقد وفق للإسلام، وتصديق الرّسل، والتّمسّك بالكتاب، والعمل بما أمره اللّه به، والانزجار عمّا زجره عنه، واتّباع منهاج النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، ومنهاج الخلفاء الأربعة، وكلّ عبدٍ صالحٍ، وكلّ ذلك من الصّراط المستقيم.كما ذكره ابن كثير.
تفسير قوله تعالى: (صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7) )
- بما فسّرٌ الصّراط المستقيم.
بقوله: {صراط الّذين أنعمت عليهم}
- من هم المقصودون بالآية.{الّذين أنعمت عليهم} مع التنظير لها بالسنة.
هم المذكورون في سورة النّساء، حيث قال: {ومن يطع اللّه والرّسول فأولئك مع الّذين أنعم اللّه عليهم من النّبيّين والصّدّيقين والشّهداء والصّالحين وحسن أولئك رفيقًا * ذلك الفضل من اللّه وكفى باللّه عليمًا}[النّساء: 69، 70].
من السنة: عن ابن عبّاسٍ: «صراط الّذين أنعمت عليهم بطاعتك وعبادتك، من ملائكتك، وأنبيائك، والصّدّيقين، والشّهداء، والصّالحين؛ وذلك نظير ما قال ربّنا تعالى:{ومن يطع اللّه والرّسول فأولئك مع الّذين أنعم اللّه عليهم}الآية [النّساء: 69]».كما ذكره السعدي والأشقر وابن كثير.
أقوال العلماء في الآية.
1-عن ابن عبّاسٍ: «صراط الّذين أنعمت عليهم بطاعتك وعبادتك، من ملائكتك، وأنبيائك، والصّدّيقين، والشّهداء، والصّالحين..)كما ذكره السعدي والأشقر وابن كثير.
2-عن الرّبيع بن أنسٍ: {صراط الّذين أنعمت عليهم} قال: «هم النّبيّون».
3-قال ابن جريج، عن ابن عبّاسٍ: «هم المؤمنون». وكذا قال مجاهدٌ.
4-قال وكيع: «هم المسلمون».
5-قال عبد الرّحمن بن زيد بن أسلم: «هم النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم ومن معه».
الأقوال ذكره ابن كثير رحمه الله في تفسيره.
الراجح:
والتّفسير المتقدّم، عن ابن عبّاسٍ أعمّ، وأشمل، واللّه أعلم.كما ذكره ابن كثير.
- من هم المغضوب عليهم والضالين ولما سموا بذلك مع الاستدلال.
المغضوب عليهم :
الّذين فسدت إرادتهم، فعلموا الحقّ وعدلوا عنه.وهم اليهود.لأن اليهود علموا الحق فتركوه وحادوا عنه عن علم، فاستحقوا غضب الله. كما ذكره ابن كثير والأشقروالسعدي.
الضّالّين :وهم الّذين فقدوا العلم فهم هائمون في الضّلالة لا يهتدون إلى الحقّ وهم النصارى لأنهم حادوا عن الحقِّ جهلاً فكانوا على ضلال مبين في شأن عيسى عليه السلام).كما ذكره ابن كثير الأشقر والسعدي.
الأدلة:
قال الإمام أحمد ،يقول: سمعت عبّاد بن حبيش، يحدّث عن عديّ بن حاتمٍ، قال: جاءت خيل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فأخذوا عمّتي وناسًا، فلمّا أتوا بهم إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم صفّوا له، فقالت: يا رسول اللّه، ناء الوافد وانقطع الولد، وأنا عجوزٌ كبيرةٌ، ما بي من خدمةٍ، فمنّ عليّ منّ اللّه عليك، قال: «من وافدك؟»، قالت: عديّ بن حاتمٍ، قال:«الّذي فرّ من اللّه ورسوله!»، قالت: فمنّ عليّ، فلمّا رجع، ورجلٌ إلى جنبه، ترى أنّه عليٌّ، قال: سليه حملانا، فسألته، فأمر لها، قال: فأتتني فقالت: لقد فعل فعلةً ما كان أبوك يفعلها، فإنّه قد أتاه فلانٌ فأصاب منه، وأتاه فلانٌ فأصاب منه، فأتيته فإذا عنده امرأةٌ وصبيانٌ أو صبيٌّ، وذكر قربهم من النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، قال: فعرفت أنّه ليس بملك كسرى ولا قيصر، فقال: «يا عديّ، ما أفرّك أن يقال لا إله إلّا اللّه؟ فهل من إلهٍ إلّا اللّه؟»، قال: «ما أفرّك أن يقال: اللّه أكبر، فهل شيءٌ أكبر من اللّه، عزّ وجلّ؟». قال: فأسلمت، فرأيت وجهه استبشر، وقال: «المغضوب عليهم اليهود، وإنّ الضّالّين النّصارى». وذكر الحديث، ورواه التّرمذيّ، من حديث سماك بن حربٍ، وقال: حسنٌ غريبٌ لا نعرفه إلّا من حديثه.
- عن عديّ بن حاتمٍ، قال: سألت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عن قول اللّه: {غير المغضوب عليهم} قال: «هم اليهود»،{ولا الضّالّين} قال:«النّصارى هم الضّالّون». وهكذا رواه سفيان بن عيينة، عن إسماعيل بن أبي خالدٍ، عن الشّعبيّ، عن عديّ بن حاتمٍ به. وقد روي حديث عديٍّ هذا من طرقٍ، وله ألفاظٌ كثيرةٌ يطول ذكرها.
-قال عبد الرّزّاق: أخبرنا معمر، عن بديل العقيلي، أخبرني عبد اللّه بن شقيق، أنّه أخبره من سمع النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم وهو بوادي القرى، وهو على فرسه، وسأله رجلٌ من بني القين، فقال: يا رسول اللّه، من هؤلاء؟ قال: «المغضوب عليهم -وأشار إلى اليهود- والضّالّون هم النّصارى». وقد رواه الجريري وعروة، وخالدٌ الحذّاء، عن عبد اللّه بن شقيقٍ، فأرسلوه، ولم يذكروا من سمع النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم. ووقع في رواية عروة تسمية عبد اللّه بن عمر، فاللّه أعلم.
-قد روى ابن مردويه، عن أبي ذرٍّ قال: سألت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عن المغضوب عليهم قال:«اليهود»، [قال] قلت: الضّالّين، قال: «النّصارى».
- قال السّدّي، عن ابن مسعودٍ، وعن أناسٍ من أصحاب النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: «{غير المغضوب عليهم}هم اليهود،{ولا الضّالّين}هم النّصارى».
- قال الضّحّاك، وابن جريج، عن ابن عبّاسٍ: «{غير المغضوب عليهم}اليهود،{ولا الضالين}[هم] النّصارى».
وكذلك قال الرّبيع بن أنسٍ، وعبد الرّحمن بن زيد بن أسلم، وغير واحدٍ، وقال ابن أبي حاتمٍ: ولا أعلم بين المفسّرين في هذا اختلافًا.
- عن زيد بن عمرو بن نفيلٍ؛ أنّه لمّا خرج هو وجماعةٌ من أصحابه إلى الشّام يطلبون الدّين الحنيف، قالت له اليهود: إنّك لن تستطيع الدّخول معنا حتّى تأخذ بنصيبك من غضب اللّه. فقال: أنا من غضب اللّه أفرّ. وقالت له النّصارى: إنّك لن تستطيع الدّخول معنا حتّى تأخذ بنصيبك من سخط اللّه فقال: لا أستطيعه. فاستمرّ على فطرته، وجانب عبادة الأوثان ودين المشركين، ولم يدخل مع أحدٍ من اليهود ولا النّصارى، وأمّا أصحابه فتنصّروا ودخلوا في دين النّصرانيّة؛ لأنّهم وجدوه أقرب من دين اليهود إذ ذاك، وكان منهم ورقة بن نوفلٍ، حتّى هداه اللّه بنبيّه لمّا بعثه آمن بما وجد من الوحي، رضي اللّه عنه).
الاستدلال من القرآن:
وشاهد ما قاله هؤلاء الأئمّة من أنّ اليهود مغضوبٌ عليهم، والنّصارى ضالّون، الحديث المتقدّم، وقوله تعالى في خطابه مع بني إسرائيل في سورة البقرة: {بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل اللّه بغيًا أن ينزل اللّه من فضله على من يشاء من عباده فباءوا بغضبٍ على غضبٍ وللكافرين عذابٌ مهينٌ}[البقرة: 90]، وقال في المائدة: {قل هل أنبّئكم بشرٍّ من ذلك مثوبةً عند اللّه من لعنه اللّه وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطّاغوت أولئك شرٌّ مكانًا وأضلّ عن سواء السّبيل}[المائدة: 60]، وقال تعالى: {لعن الّذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون * كانوا لا يتناهون عن منكرٍ فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون} [المائدة: 78، 79].
ما أخص أوصاف اليهود والنصارى.مع الاستدلال
أخصّ أوصاف اليهود الغضب [كما قال فيهم: {من لعنه اللّه وغضب عليه}] [المائدة: 60] وأخصّ أوصاف النّصارى الضّلال [كما قال: {قد ضلّوا من قبل وأضلّوا كثيرًا وضلّوا عن سواء السّبيل}] [المائدة: 77]، وبهذا جاءت الأحاديث والآثار. [وذلك واضحٌ بيّنٌ].
- لما استحق اليهود وصف الغضب والنصارى وصف الضلال.
كان الغضب لليهود، والضّلال للنّصارى، لأنّ من علم وترك استحقّ الغضب، بخلاف من لم يعلم. والنّصارى لمّا كانوا قاصدين شيئًا لكنّهم لا يهتدون إلى طريقه، لأنّهم لم يأتوا الأمر من بابه، وهو اتّباع الرّسول الحقّ، ضلّوا، وكلٌّ من اليهود والنّصارى ضالٌّ مغضوبٌ عليه.
تظهر وسطية الإسلام بين الأديان وضحي ذلك.
فإنّ طريقة أهل الإيمان مشتملةٌ على العلم بالحقّ والعمل به، واليهود فقدوا العمل، والنّصارى فقدوا العلم.
-لماأكدت الآية بلا (ولا الضالين )
وأكد الكلام بلا ليدلّ على أنّ ثمّ مسلكين فاسدين، وهما طريقتا اليهود والنّصارى.كما ذكره ابن كثير.
مسائل عقدية
- نوع الدعاء في الآية.{اهدنا الصّراط المستقيم}
دعاء مسألة.
- نوع الهداية في الآية.
هداية الإرشاد والتّوفيق والدلالة،كما ذكره ابن كثير والسعدي والأشقر.
مسائل نحوية
ما أنواع تعدية الهداية مع بيان ما تتضمن من معان مع الاستدلال.
1-قد تعدّى الهداية بنفسها كما هنا {اهدنا الصّراط المستقيم} فتضمّن معنى ألهمنا، أو وفّقنا، أو ارزقنا، أو اعطنا؛ {وهديناه النّجدين}[البلد: 10] أي: بيّنّا له الخير والشّرّ.
2-قد تعدّى بإلى، كقوله تعالى: {اجتباه وهداه إلى صراطٍ مستقيمٍ}[النّحل: 121] {فاهدوهم إلى صراط الجحيم}[الصّافّات: 23] وذلك بمعنى الإرشاد والدّلالة، وكذلك قوله تعالى: {وإنّك لتهدي إلى صراطٍ مستقيمٍ}[الشّورى: 52]
3-قد تعدّى باللّام، كقول أهل الجنّة: {الحمد للّه الّذي هدانا لهذا} [الأعراف: 43] أي: وفّقنا لهذا وجعلنا له أهلًا
كما ذكره ابن كثير رحمه الله في تفسيره.
- ما موقع قوله تعالى:{صراط الّذين أنعمت عليهم}
وهو بدلٌ منه عند النّحاة، ويجوز أن يكون عطف بيانٍ، واللّه أعلم.كما ذكره ابن كثير
نوع غير في قوله {غير المغضوب عليهم ولا الضّالّين} مع بيان المعنى.
1- الجمهور: "غير" بالجرّ على النّعت، قال الزّمخشريّ: وقرئ بالنّصب على الحال، وذو الحال الضّمير في {عليهم} والعامل: {أنعمت}
والمعنى] اهدنا الصّراط المستقيم، صراط الّذين أنعمت عليهم ممّن تقدّم وصفهم ونعتهم، وهم أهل الهداية والاستقامة والطّاعة للّه ورسله، وامتثال أوامره وترك نواهيه وزواجره،
2- زعم بعض النّحاة أنّ {غير} هاهنا استثنائيّةٌ، فيكون على هذا منقطعًا لاستثنائهم من المنعم عليهم وليسوا منهم، وما أوردناه أولى، لقول الشّاعر:
كأنّك من جمال بني أقيش ...... يقعقع عند رجليه بشنّ
أي: كأنّك جملٌ من جمال بني أقيشٍ، فحذف الموصوف واكتفى بالصّفة، وهكذا، {غير المغضوب عليهم}
أي: غير صراط المغضوب عليهم.
كما ذكر ذلك ابن كثير.
-نوع (لا) في قوله: {ولا الضّالّين} .
1-زائدةٌ، وأن تقدير الكلام عنده: غير المغضوب عليهم والضّالّين، واستشهد ببيت العجّاج:
في بئر لا حورٍ سرى وما شعر
أي: في بئر حورٍ.
2- مؤكدة،ليدلّ على أنّ ثمّ مسلكين فاسدين، وهما طريقتا اليهود والنّصارى.
الراجح: الأول
كما ذكر هذه المسألة ابن كثير.