خلاصة تفسير قول الله تعالى {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (142) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (143) قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144) }
في المراد بالسفهاء ثلاثة أقوال:
1- قيل يعني به: كفار أهل مكة.
2- وقيل يعني به: اليهود والسفهاء.
3ـ و قيل: المنافقون.
وقوله عزّ وجلّ: {ما ولّاهم عن قبلتهم الّتي كانوا عليها}, معنى{ما ولّاهم}: ما عدلهم عنها يعني قبلة بيت المقدس.
و قال بعض العلماء في قول الله تعالى:{و كذلك جعلناكم أمة وسطا}: أمة محمد صلى الله عليه وسلم لم تغل في الدين كما فعلت اليهود، ولا افترت كالنصارى، فهي متوسطة، فهي أعلاها وخيرها من هذه الجهة، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «خير الأمور أوساطها» أي خيارها، وقد يكون العلو والخير في الشيء لما بأنه أنفس جنسه، وأما أن يكون بين الإفراط والتقصير فهو خيار من هذه الجهة وشهداء جمع شاهد في هذا الموضع.
واختلف المفسرون في المراد ب النّاس في هذا الموضع، فقالت فرقة: هم جميع الجنس، وأمة محمد صلى الله عليه وسلم تشهد يوم القيامة للأنبياء على أممهم بالتبليغ، وذلك أن نوحا تناكره أمته في التبليغ، فتقول له أمة محمد نحن نشهد لك، فيشهدون، فيقول الله لهم: كيف شهدتم على ما لم تحضروا؟، فيقولون: أي ربنا جاءنا رسولك ونزل إلينا كتابك فنحن نشهد بما عهدت إلينا وأعلمتنا به، فيقول الله تعالى: صدقتم، وروي في هذا المعنى حديث صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروي عنه أن أمته تشهد لكل نبي ناكره قومه، وقال مجاهد: معنى الآية تشهدون لمحمد صلى الله عليه وسلم أنه قد بلغ الناس في مدته من اليهود والنصارى والمجوس.
وقالت طائفة: معنى الآية يشهد بعضكم على بعض بعد الموت كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين مرت به جنازة فأثني عليها بالخير، فقال: «وجبت» ثم مر بأخرى، فأثني عليها بشرّ، فقال:«وجبت»، يعني الجنة والنار، فسئل عن ذلك، فقال: «أنتم شهداء الله في الأرض»، وروي في بعض الطرق أنه قرأ لتكونوا شهداء على النّاس.
ويكون الرّسول عليكم شهيداً قيل: معناه بأعمالكم يوم القيامة، وقيل: عليكم بمعنى لكم أي يشهد لكم بالإيمان، وقيل: أي يشهد عليكم بالتبليغ إليكم.
وقوله تعالى: {وما جعلنا القبلة الّتي كنت عليها إلا لنعلم من يتّبع الرّسول ممّن ينقلب على عقبيه وإن كانت لكبيرةً إلا على الّذين هدى اللّه} يقول تعالى: إنّما شرعنا لك -يا محمّد -التّوجّه أوّلًا إلى بيت المقدس، ثمّ صرفناك عنها إلى الكعبة، ليظهر حال من يتّبعك ويطيعك ويستقبل معك حيثما توجهت ممّن ينقلب على عقبيه، أي: مرتدّاً عن دينه {وإن كانت لكبيرةً} أي: هذه الفعلة، وهو صرف التّوجّه عن بيت المقدس إلى الكعبة، أي: وإن كان هذا الأمر عظيمًا في النّفوس، إلّا على الّذين هدى اللّه قلوبهم، وأيقنوا بتصديق الرسول، وأنّ كلّ ما جاء به فهو الحقّ الذي لا مرية فيه، وأنّ اللّه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، فله أن يكلّف عباده بما شاء، وينسخ ما يشاء، وله الحكمة التّامّة والحجّة البالغة في جميع ذلك، بخلاف الّذين في قلوبهم مرضٌ، فإنّه كلّما حدث أمرٌ أحدث لهم شكًّا، كما يحصل للّذين آمنوا إيقانٌ وتصديقٌ.
{قد نرى تقلّب وجهك في السّماء فلنولّينّك قبلةً ترضاها فولّ وجهك شطر المسجد الحرام وحيثما كنتم فولّوا وجوهكم شطره وإنّ الّذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنّه الحقّ من ربّهم وما اللّه بغافلٍ عمّا يعملون (144)}
قال عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس: كان أوّل ما نسخ من القرآن القبلة، وذلك أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم لمّا هاجر إلى المدينة، وكان أكثر أهلها اليهود، فأمره اللّه أن يستقبل بيت المقدس، ففرحت اليهود، فاستقبلها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بضعة عشر شهرًا، وكان يحبّ قبلة إبراهيم فكان يدعو إلى اللّه وينظر إلى السّماء، فأنزل اللّه: {قد نرى تقلّب وجهك في السّماء} إلى قوله: {فولّوا وجوهكم شطره} فارتاب من ذلك اليهود، وقالوا: {ما ولاهم عن قبلتهم الّتي كانوا عليها قل للّه المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراطٍ مستقيمٍ} وقال: {فأينما تولّوا فثمّ وجه اللّه}[البقرة: 115] وقال اللّه تعالى: {وما جعلنا القبلة الّتي كنت عليها إلا لنعلم من يتّبع الرّسول ممّن ينقلب على عقبيه}.
وقوله: {وإنّ الّذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنّه الحقّ من ربّهم} أي: واليهود -الّذين أنكروا استقبالكم الكعبة وانصرافكم عن بيت المقدس -يعلمون أنّ اللّه تعالى سيوجهك إليها، بما في كتبهم عن أنبيائهم، من النّعت والصّفة لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وأمّته، وما خصّه اللّه تعالى به وشرفه من الشّريعة الكاملّة العظيمة، ولكنّ أهل الكتاب يتكاتمون ذلك بينهم حسدًا وكفرًا وعنادًا؛ ولهذا يهدّدهم تعالى بقوله: {وما اللّه بغافلٍ عمّا يعملون}.