بَابُ الوَصَايَا
مُقَدِّمَةٌ
الوَصَايَا: جَمْعُ وَصِيَّةٍ، مِثْلُ: هَدَايَا جَمْعُ هَدِيَّةٍ، قالَ الأَزْهَرِيُّ: مَأْخُوذَةٌ مِن وَصَيْتُ الشَّيْءَ أَصِيُهُ إذا وَصَلْتَه، سُمِّيَتْ وَصِيَّةً؛ لأنَّ المُوصِيَ وَصَلَ ما كانَ لَهُ في حَياتِه بما كانَ بعدَ مَماتِهِ.
ويُقالُ: وَصَّى بالتشديدِ, وأَوْصَى يُوصِي أَيْضاً، وهي لُغَةً: الأَمْرُ، قالَ اللَّهُ تعالى: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ ويَعْقُوبُ} [البقرة: 132].
وشَرْعاً: عَهْدٌ خَاصٌّ بالتصَرُّفِ بالمَالِ، أو التَّبَرُّعِ به بعدَ المَوْتِ.
وهي مَشْرُوعَةٌ بالكتابِ؛ لقولِهِ تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الوَصِيَّةُ} [البقرة: 180].
ومَشْرُوعَةٌ بالسُّنةِ؛ لهذه الأحاديثِ الآتيةِ، وعليها إجماعُ المُسلِمِينَ في جميعِ الأعصارِ والأمصارِ.
وهي مِن مَحَاسِنِ الإسلامِ؛ إذْ جَعَلَ لصَاحِبِ المالِ جُزْءاً مِن مَالِه، يَعودُ عليه ثوابُه وأَجْرُه بعدَ مَوْتِه.
وهي مِن لُطْفِ اللَّهِ بعِبادِه، ورحمتِه بهم، حِينَما أباحَ لهم مِن أموالِهم عندَ خُرُوجِهم مِن الدنيا أنْ يَتَزَوَّدُوا لآخِرَتِهم بنصيبٍ منها.
ولهذا جَاءَفي بعضِ الأحاديثِ القُدُسِيَّةِ قولُ اللَّهِ تعالى: ((يَا ابْنَ آدَمَ, جَعَلْتُ لَكَ نَصِيباً مِنْ مَالِكَ حِينَ أَخَذْتُ بِكَظَمِكَ، لأُطَهِّرَكَ بِهِ وَأُزَكِّيَكَ)).
وتَجْرِي في الوَصِيَّةِ الأحْكامُ الخَمْسَةُ:
1- تَجِبُ علَى مَن عليهِ حَقٌّ بلا بَيِّنَةٍ.
2- تَحْرُمُ على مَن له وَارِثٌ، إذا وَصَّى بأكْثَرَ مِن الثُّلُثِ، أو وَصَّى لوَارِثٍ بشَيْءٍ, ما لَمْ تُجِزِ الوَرَثَةُ.
3- تُسَنُّ لمَن تَرَكَ خَيْراً كَثِيراً بالثُّلُثِ فأقَلَّ.
4- تُكْرَهُ لفَقِيرٍ، وَارِثُه مُحْتاجٌ.
5- تُباحُ لفَقِيرٍ إنْ كَانَ وَرَثَتُه أغنياءَ.
830- وعَنِ ابنِِ عُمَرَ ـ رَضِيَ اللَّهُ عنهُما ـ أنَّ رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَليهِ وسلَّمَ قالَ: ((مَا حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَهُ شَيْءٌ يُرِيدُ أَنْ يُوصِيَ فِيهِ، يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ إِلاَّ وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ)). مُتَّفَقٌ عليهِ.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
* مُفْرداتُ الحَديثِ:
- ما حَقُّ امْرِئٍ: (مَا) نَافِيَةٌ بمعنى لَيْسَ، و (حَقُّ) مُبْتَدَأٌ، وخَبَرُه المُسْتَثْنَى.
- مُسْلِمٍ: صِفَةٌ أُولَى.
- لَهُ شَيْءٌ: صِفَةٌ ثَانِيَةٌ، يُرِيدُ أنْ يُوصِيَ، صِفَةٌ لشَيْءٍ.
- يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ: صِفَةٌ ثَالِثَةٌ, ومَفْعولُ((يَبِيتُ)):((لَيْلَتَيْنِ)), وقَيَّدَ باللَّيْلَتَيْنِ تأكيداً، وليسَ تحديداً، وهو تَسامُحٌ في إرادةِ المُبالَغَةِ، أي: سَامَحْنَاهُ في هذا المِقْدارِ، فلا يَنْبَغِي أنْ يَتَجَاوَزَهُ.
- ووَصِيَّتُهُ: جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ، مَرْبُوطَةٌ بالوَاوِ والضَّمِيرِ.
والوَصِيَّةُ: في الشَّرْعِ: عَهْدٌ خَاصٌّ مُضافٌ إلى ما بعدَ المَوْتِ.
* ما يُؤْخَذُ من الحديثِ:
1- يَحُضُّ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَليهِ وسلَّمَ أُمَّتَه على المُبادَرَةِ إلى فِعْلِ الخَيْرِ باغتنامِ الوَصِيَّةِ قبلَ فَوَاتِها، فأَرْشَدَهم إلى أنَّه ليسَ مِن الحقِّ والحَزْمِ لمَن عندَه شَيْءٌ يُرِيدُ أَنْ يُوصِيَ بِهِ أَنْ يُهْمِلَهُ، حتى تَمْضِيَ عليهِ المُدَّةُ الطَّويلَةُ، بل عليهِ أَنْ يُبَادِرَ إلى كِتابَتِه وبَيانِه، وغايةُ مَا يُسْمَحُ به مِن التأخيرِ اللَّيْلَةُ واللَّيْلَتَانِ، فإنَّ الإنسانَ لا يَدْرِي ما يَعْرِضُ له في هذه الحياةِ.
فكانَ مِن حِرْصِ ابنِ عُمَرَ وأمثالِه أنه كانَ يَتَعاهَدُ وَصِيَّتَه كلَّ لَيْلَةٍ، قالَ الشافِعِيُّ: معناهُ: مَا الحَزْمُ والاحتياطُ لمُسْلِمٍ إلاَّ أنْ تَكونَ وَصِيَّتُه مَكْتُوبَةً عندَه.
2- مَشْرُوعِيَّةُ الوَصِيَّةِ, وعليها إجماعُ العلماءِ، وعُمْدَةُ الإجماعِ الكتابُ والسُّنَّةُ.
3- أنها قِسْمانِ:
(أ) مُسْتَحَبٌّ.
(ب) وَاجِبٌ.
فالمُسْتَحَبُّ: ما كانَ للتطَوُّعاتِ والقُرُباتِ.
والواجِبُ: في الحُقوقِ الوَاجِبَةِ، التي ليسَ فيها بَيِّنَةٌ تُثْبِتُها بعدَ وَفاتِه؛ لأنَّ ما لا يَتِمُّ الوَاجِبُ إلاَّ به، فهو وَاجِبٌ.
وذَكَرَ ابنُ دَقِيقِ العِيدِ أنَّ هذا الحديثَ مَحمولٌ على النوعِ الواجِبِ.
4- قولُه: ((يُرِيدُ أَنْ يُوصِيَ بِهِ)) اسْتَدَلَّ بهِ جُمهورُ العُلماءِ على أنَّ الوَصِيَّةَ بشَيْءٍ مِن المالِ صَدَقَةٌ لوَجْهِ اللَّهِ تعالى مُسْتَحَبَّةٌ, وليسَتْ بوَاجِبَةٍ.
قالَ ابنُ عَبْدِ البَرِّ: الإجماعُ على عَدَمِ وُجوبِها، وأنَّه لو لَمْ يُوصِ لَقُسِّمَ مَالُه بينَ وَرَثَتِه بالإجماعِ، أما الوَصِيَّةُ بأداءِ الدَّيْنِ، ورَدِّ الأماناتِ والودائعِ، فهي الوَصِيَّةُ الوَاجِبَةُ، كما تَقَدَّمَ تَفْصِيلُه.
5- مَشْرُوعِيَّةُ المُبادَرَةِ إليها بياناً لها، وامتثالاً لأَمْرِ الشارِعِ فيها، واسْتِعْداداً للموتِ، وتَبَصُّراً بها وبمَصْرِفِها قبلَ أنْ يَشْغَلَه عنها شَاغِلٌ.
6- أنَّ الكِتَابَةَ المَعْرُوفَةَ تَكْفِي لإثباتِ الوَصِيَّةِ والعَمَلِ بها؛ لأنَّه لَمْ يَذْكُرْ شُهُوداً لها، والخطُّ إذا عُرِفَ بَيِّنَةٌ ووَثِيقَةٌ قَوِيَّةٌ.
7- فَضْلُ ابنِ عُمَرَ ـ رَضِيَ اللَّهُ عنهُ ـ ومُبادَرَتُه إلى فِعْلِ الخَيْرِ واتِّباعِ الشارِعِ الحكيمِ؛ فقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ عنه أنه قالَ: وَلَمْ أَبِتْ لَيْلَةً إِلاَّ وَوَصِيَّتِي مَكْتُوبَةٌ عِنْدِي.
8- قالَ ابنُ دَقِيقِ العيدِ: والتَّرْخِيصُ في اللَّيْلَتَيْنِ والثلاثِ دَفْعٌ للحَرَجِ والعُسْرِ.
9- فيهِ اسْتِحْبَابُ استعمالِ الحَزْمِ وتَدَارُكِ الأُمورِ التي يُخْشَى فَوَاتُها وذَهابُ فُرْصَتِها ووَقْتِها.
10- وفيهِ بَيانُ فَائِدَةِ الكِتَابَةِ وأنه تُحْفَظُ بها العُلومُ، وتُوَثَّقُ بها العُقودُ والأماناتُ, وقدْ نَوَّهَ اللَّهُ تعالى بذِكْرِها، فقالَ: {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} [القلم: 1].
11- وفيهِ المُحَافَظَةُ على الوَصِيَّةِ بعدَ كِتابَتِها، بأنْ تَكُونَ عندَ المُوصِي، فلا يُهْمِلَها.
12- قالَ شيخُ الإسلامِ: تُنَفَّذُ الوَصِيَّةُ بالخَطِّ المَعْرُوفِ، وكذا الإقرارُ إذا وُجِدَ في دَفْتَرِه، وهو مَذْهَبُ أَحْمَدَ، وقالَ: إذا كانَ المَيِّتُ يَكْتُبُ ما عليهِ للنَّاسِ في دَفْتَرٍ ونَحْوِه، وله كَاتِبٌ يَكْتُبُ بإذنِه ما عليهِ ونحوَه؛ فإنه يُرْجَعُ في ذلك إلى الكِتابِ الذي بخَطِّه، أو خَطِّ وَكِيلِه، وإقرارُ الوَكِيلِ فيما وُكِّلَ فيهِ مَقْبُولٌ.
13- قالَ الشيخُ مُحَمَّدُ بنُ إِبْرَاهِيمَ في مَوْضوعِ القَسامةِ: فإنْ قَالَ قَائِلٌ: كَيْفَ يَحْلِفُ على شَيْءٍ مَا رَآهُ وَلاَ شَهِدَهُ؟ قيلَ: هذا يَدُلُّ على أنَّه يَجوزُ للإنسانِ أَنْ يَحْلِفَ إذا غَلَبَ علَى ظَنِّه أَنَّهُ الأَمْرُ.
ومِن أَمْثِلَةِ ذلك إذا وَجَدَ كِتَابَةَ أبيهِ علَى أَحَدٍ دَيْناً. فيَجوزُ له أنْ يَحْلِفَ بِناءً على غَلَبَةِ الظَّنِّ.
14- قالَ شيخُ الإسلامِ: تَجوزُ الشَّهادَةُ على الخَطِّ أنه خَطُّ فُلانٍ إنْ كَانَ يَعْرِفُه يَقِيناً، ولو لمْ يُعاصِرْه، فالناسُ يَشْهَدُونَ شَهَادَةً لا يَسْتَرِيبُونَ فيها على أنَّ هذا خطُّ فُلانٍ، فمَن عُرِفَ خَطُّه عُمِلَ به.