تفسير قوله تعالى: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4) فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6) فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8)}
تفسير قوله تعالى: (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) )
قالَ ابْنِ كَثِيرٍ : يعني: أما شرحنا لك صدرك؟ أي: نوّرناه وجعلناه فسيحاً رحيباً واسعاً، كقوله: {فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام} وكما شرح الله صدره كذلك جعل شرعه فسيحاً واسعاً سمحاً سهلاً، لا حرج فيه ولا إصر ولا ضيق.
وقيل: المراد أن شرح صدره ليلة الإسراء، ولا منافاة؛ فإنّ من جملة شرح صدره الذي فعل بصدره ليلة الإسراء، وما نشأ عنه من الشرح المعنويّ أيضاً.
كان أبو هريرة حريًّا أن يسأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن أشياء لا يسأله عنها غيره، فقال: يا رسول الله، ما أوّل ما رأيت من أمر النّبوّة؟ فاستوى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جالساً.
وقال: ((لقد سألت يا أبا هريرة، إنّي لفي الصّحراء ابن عشر سنين وأشهرٍ، وإذا بكلامٍ فوق رأسي، وإذا رجلٌ يقول لرجلٍ: أهو هو؟ فاستقبلاني بوجوهٍ لم أرها لخلقٍ قطّ، وأرواحٍ لم أجدها من خلقٍ قطّ، وثيابٍ لم أرها على أحدٍ قطّ، فأقبلا إليّ يمشيان، حتّى أخذ كلّ واحدٍ منهما بعضدي، لا أجد لأحدهما مسًّا، فقال أحدهما لصاحبه: أضجعه. فأضجعاني بلا قصرٍ ولا هصرٍ، فقال أحدهما لصاحبه: افلق صدره. فهوى أحدهما إلى صدري ففلقه فيما أرى بلا دمٍ، ولا وجعٍ، فقال له: أخرج الغلّ والحسد. فأخرج شيئاً كهيئة العلقة، ثمّ نبذها فطرحها، فقال له: أدخل الرّأفة والرّحمة. فإذا مثل الّذي أخرج، شبه الفضّة، ثمّ هزّ إبهام رجلي اليمنى فقال: اغد واسلم. فرجعت بها أغدو رقّةً على الصّغير ورحمةً للكبير)) ).
قالَ السّعْدِيُّ وللأشقر كلام في معناه :
يقولُ تعالى ممتناً على رسولهِ: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} أي: نوسعُهُ لشرائعِ الدينِ والدعوةِ إلى اللهِ، والاتصافِ بمكارمِ الأخلاقِ، والإقبالِ على الآخرةِ، وتسهيلِ الخيراتِ، فلمْ يكنْ ضيقاً حرجاً لا يكادُ ينقادُ لخيرٍ، ولا تكادُ تجدهُ منبسطاً).
تفسير قوله تعالى: (وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) )
قالَ ابْنِ كَثِيرٍ : وقوله: {ووضعنا عنك وزرك} بمعنى: {ليغفر لك الله ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر}). وكذلك قال السعدي والأشقر .
تفسير قوله تعالى: (الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3) )
قالَ ابْنِ كَثِيرٍ : الإنقاض: الصوت.
وعند الأشقر ؛ مَعْنَاهُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ حِمْلاً يُحْمَلُ لَسُمِعَ نَقِيضُ ظَهْرِهِ.
ذكر ابن كثير قول غير واحدٍ من السلف في قوله: {الّذي أنقض ظهرك} أي: أثقلك حمله).وهو عند السعدي بمعناه .
قالَ الأَشْقَرُ : قوله تعالى :{الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ} قِيلَ: الوِزْرُ حَمْلُ أعباءِ النُّبُوَّةِ، سَهَّلَ اللَّهُ ذَلِكَ عَلَيْهِ حَتَّى تَيَسَّرَتْ لَهُ).
تفسير قوله تعالى: (وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4) )
-قال مجاهدٌ: لا أذكر إلاّ ذكرت معي (أشهد أن لا إله إلاّ الله، وأشهد أنّ محمداً رسول الله).
-وقال قتادة: رفع الله ذكره في الدنيا والآخرة، فليس خطيبٌ، ولا متشهّدٌ، ولا صاحب صلاةٍ إلاّ ينادي بها: أشهد أن لا إله إلاّ الله، وأشهد أنّ محمداً رسول الله.
قال ابن جريرٍ: عن أبي سعيدٍ، عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، أنه قال: ((أتاني جبريل فقال: إنّ ربّي وربّك يقول: كيف رفعت ذكرك؟ قال: الله أعلم. قال: إذا ذكرت ذكرت معي)).وكذا رواه ابن أبي حاتمٍ.
وقال ابن أبي حاتمٍ: عن ابن عبّاسٍ، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ((سألت ربّي مسألةً وددت أنّي لم أكن سألته: قلت: قد كان قبلي أنبياء، منهم من سخّرت له الرّيح، ومنهم من يحيي الموتى. قال: يا محمّد، ألم أجدك يتيماً فآويتك؟ قلت: بلى يا ربّ. قال: ألم أجدك ضالاًّ فهديتك؟ قلت: بلى يا ربّ. قال: ألم أجدك عائلاً فأغنيتك؟ قلت: بلى يا ربّ. قال: ألم أشرح لك صدرك؟ ألم أرفع لك ذكرك؟ قلت: بلى يا ربّ)).
وقال أبو نعيمٍ في (دلائل النّبوّة): عن أنسٍ، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ((لمّا فرغت ممّا أمرني الله به من أمر السّماوات والأرض قلت: يا ربّ، إنّه لم يكن نبيٌّ قبلي إلاّ وقد كرّمته؛ جعلت إبراهيم خليلاً، وموسى كليماً، وسخّرت لداود الجبال، ولسليمان الرّيح والشّياطين، وأحييت لعيسى الموتى، فما جعلت لي؟ قال: أو ليس قد أعطيتك أفضل من ذلك كلّه؛ إنّي لا أذكر إلاّ ذكرت معي، وجعلت صدور أمّتك أناجيل يقرؤون القرآن ظاهراً ولم أعطها أمّةً، وأعطيتك كنزاً من كنوز عرشي: لا حول ولا قوّة إلاّ بالله العليّ العظيم)).
وحكى البغويّ، عن ابن عبّاسٍ ومجاهدٍ، أن المراد بذلك الأذان. يعني: ذكره فيه.
وقال آخرون: رفع الله ذكره في الأوّلين والآخرين، ونوّه به حين أخذ الميثاق على جميع النبيّين أن يؤمنوا به، وأن يأمروا أممهم بالإيمان به، ثمّ شهر ذكره في أمّته، فلا يذكر الله إلاّ ذكر معه.
وقالَ السّعْدِيُّ {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ}أي: أعلينَا قدركَ، وجعلنَا لكَ الثناءَ الحسنَ العالي، الذي لمْ يصلْ إليهِ أحدٌ منَ الخلقِ، فلا يُذكرُ اللهُ إلا ذُكرَ معهُ رسولُهُ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، كمَا في الدخولِ في الإسلامِ، وفي الأذانِ والإقامةِ والخطبِ، وغيرِ ذلكَ منَ الأمورِ التي أعلى اللهَ بهَا ذكرَ رسولهِ محمدٍ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ.
ولهُ في قلوبِ أمتهِ مِنَ المحبةِ والإجلالِ والتعظيمِ مَا ليسَ لأحدٍ غيرهِ، بعدَ اللهِ تعالى، فجزاهُ اللهُ عنْ أمتهِ أفضلَ مَا جزى نبيّاً عنْ أمتهِ). وذكر الأَشْقَرُ فيما معناه .
تفسير قوله تعالى: (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6) )
أخبر تعالى أنّ مع العسر يوجد اليسر، ثمّ أكّد هذا الخبر.
عن الحسن، قال: لا يغلب عسرٌ واحدٌ يسرين اثنين .
يعني: قوله: {فإنّ مع العسر يسراً إنّ مع العسر يسراً} فالعسر الأوّل هو الثاني لأنه معرّف ، واليسر تعدّد لأنه منكّر.ذكره ابن كثير والأشقر والسعدي .
وقال السعدي بعد ذكر معنى الآية ،
( العسر ) في تعريفهِ بالألفِ واللامِ، الدالةِ على الاستغراقِ والعمومِ، ما يدلُّ على أنَّ كلَّ عسرٍ - وإنْ بلغَ منَ الصعوبةِ مَا بلغَ - فإنهُ في آخرهِ التيسيرُ ملازمٌ لهُ.
قالَ تعالى: {سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً}
تفسير قوله تعالى: (فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8)
_ أي: إذا فرغت من أمور الدّنيا وأشغالها وقطعت علائقها فانصب في العبادة، وقم إليها نشيطاً فارغ البال، وأخلص لربّك النيّة والرغبة.
ومن هذا القبيل قوله صلّى الله عليه وسلّم في الحديث المتّفق على صحّته: ((لا صلاة بحضرة طعامٍ، ولا وهو يدافعه الأخبثان)). وقوله صلّى الله عليه وسلّم: ((إذا أقيمت الصّلاة وحضر العشاء فابدؤوا بالعشاء)).
_وقال مجاهدٌ في هذه الآية: إذا فرغت من أمر الدنيا فقمت إلى الصلاة فانصب لربّك.
_وفي روايةٍ عنه: إذا قمت إلى الصلاة فانصب في حاجتك.
_وعن ابن مسعودٍ وابن عياض : إذا فرغت من الفرائض فانصب في قيام اللّيل.
_وفي روايةٍ عن ابن مسعودٍ: {فانصب * وإلى ربّك فارغب} بعد فراغك من الصلاة وأنت جالسٌ.
_عن ابن عبّاسٍ: {فإذا فرغت فانصب} يعني: في الدعاء.
_وقال زيد بن أسلم: {فإذا فرغت} أي: من الجهاد {فانصب} أي: في العبادة.
{وإلى ربّك فارغب}. قال الثّوريّ: اجعل نيّتك ورغبتك إلى الله عزّ وجل .
وقال السعدي : (ثمَّ أمرَ اللهُ رسولهُ أصلاً، والمؤمنينَ تبعاً، بشكرهِ والقيامِ بواجبِ نعمهِ،فقالَ: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ} أي: إذا تفرغتَ منْ أشغالكَ، ولمْ يبقَ في قلبكَ ما يعوقهُ، فاجتهدْ في العبادةِ والدعاءِ ،{وَإِلَى رَبِّكَ}وحدهُ {فَارْغَبْ} أي: أعظم الرغبةَ في إجابةِ دعائكَ وقبولِ عباداتِكَ، ولا تكنْ ممن إذا فرغوا وتفرغوا لعبوا وأعرضوا عن ربِّهمْ وعن ذكرهِ، فتكونَ من الخاسرينَ.
_(وقدْ قيلَ:إنَّ معنى قولهِ: {فَإِذَا فَرَغْتَ} منَ الصلاةِ وأكملتهَا {فَانْصَبْ} في الدعاءِ {وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} في سؤالِ مطالبكَ.
واستدلَّ مَنْ قالَ بهذا القولِ، على مشروعيةِ الدعاءِ والذكرِ عقبَ الصلواتِ المكتوباتِ، واللهُ أعلمُ بذلكَ.
وقالَ الأَشْقَرُ :{فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ}؛ أَيْ: إِذَا فَرَغْتَ منْ صَلاتِكَ، أَوْ مِنَ التبليغِ، أَوْ مِنَ الغَزْوِ؛ فَاجْتَهِدْ فِي الدُّعَاءِ، وَاطْلُبْ من اللَّهِ حَاجَتَكَ، أَوْ: فَانْصَبْ فِي العبادةِ.
{وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} أَي: اجْعَلْ رَغْبَتَكَ إِلَى اللَّهِ وَحْدَهُ،تَضَرَّعْ إِلَيْهِ رَاهِباً مِنَ النَّارِ، رَاغِباً فِي الْجَنَّةِ.
والله تعالى أعلى وأعلم .