وقد تُزادُ كانَ في حَشْوٍ كَمَا=كَانَ أَصَحَّ عِلْمَ مَنْ تَقَدَّمَا
كانَ على ثلاثةِ أقسامٍ: أحدُها الناقِصَةُ، والثاني: التامَّةُ، وقد تَقَدَّمَ ذِكْرُهما، والثالِثُ: الزائدةُ، وهي المقصودةُ بهذا البيتِ، وقد ذَكَرَ ابنُ عُصْفُورٍ أنها تُزادُ بينَ الشيئيْنِ المتلازميْنِ؛ كالمبتدأِ وخبرِه، نحوُ: (زيدٌ كانَ قائِمٌ)، والفعلِ ومرفوعِه، نحوُ: (لم يُوجَدْ كانَ مِثْلُكَ)، والصلةِ والموصولِ، نحوُ: (جاءَ الذي كانَ أَكْرَمْتُهُ)، والصفةِ والموصوفِ، نحوُ: (مَرَرْتُ برجلٍ كانَ قائمٍ).
وهذا يُفْهَمُ أيضاً من إطلاقِ قولِ المصنِّفِ: (وقد تُزادُ كانَ في حَشْوٍ)، وإنما تَنْقَاسُ زِيادَتُها بينَ (ما) وفعلِ التعجُّبِ، نحوُ: (ما كانَ أَصَحَّ عِلْمَ مَن تَقَدَّمَا) ([2])، ولا تُزادُ في غيرِه إلاَّ سَماعاً.
وقد سُمِعَتْ زِيَادَتُها بينَ الفعلِ ومرفوعِه؛ كقولِهِم ([3]): وَلَدَتْ فاطمةُ بنتُ الخُرْشُبْ الأَنْمَارِيَّةُ الكمَلَةَ من بني عَبْسٍ، لم يُوجَدْ كانَ أفضلُ مِنهم. وقد سُمِعَ أيضاً زيادتُها بينَ الصفةِ والموصوفِ؛ كقولِهِ:
69- فكيفَ إذا مَرَرْتُ بدارِ قَوْمٍ = وجيرانٍ لَنَا كانُوا كِرَامِ ([4])
وشَذَّ زِيَادَتُها بينَ حرفِ الجرِّ ومجرورِه؛ كقولِهِ:
70-سَرَاةُ بَنِي أبي بَكْرٍ تَسَامَى = على كانَ المُسَوَّمَةِ العِرابِ ([5])
وأكثرُ ما تُزَادُ بلفظِ الماضي، وقد شَذَّتْ زيادَتُها بلفظِ المضارِعِ في قولِ أُمِّ عَقِيلِ بنِ أبي طَالِبٍ:
71- أنتَ تكونُ ماجدٌ نَبِيلُ = إذا تَهُبُّ شَمْأَلٌ بَلِيلُ ([6])
ويَحْذِفُونَهَا ويُبْقُونَ الخبرْ = وبعدَ إنْ وَلَوْ كَثيراً ذَا اشْتَهَرْ ([7])
تُحْذَفُ (كان) معَ اسمِها ويَبْقَى خَبَرُها كثيراً بعدَ إنْ؛ كقولِهِ:
72- قدْ قِيلَ مَا قِيلَ إِنْ صِدْقاً وَإِنْ كَذِباً = فَمَا اعْتِذَارُكَ مِنْ قَوْلٍ إِذَا قِيلاَ؟ ([8])
التقديرُ: إنْ كانَ المقولُ صِدْقاً، وإنْ كانَ المقولُ كَذِباً.
وبعد لو ([9]) كقولِكَ: (ائْتِنِي بدَابَّةٍ ولو حِمَاراً)؛ أي: و(لو كانَ المَأْتِيُّ به حِمَاراً).
وقد شَذَّ حَذْفُها بعدَ لَدُنْ؛ كقولِهِ:مِن لَدُ شَوْلاً فإِلَى إِتْلائِهَا ([10])
التقديرُ: مِن لَدُ أنْ كانَتْ شَوْلاً.
وبعدَ أنْ تَعْوِيضُ ما عنها ارْتُكِبْ = كمِثْلِ أمَّا أنتَ بَرًّا فاقْتَرِبْ ([11])
ذَكَرَ في هذا البيتِ أنَّ كانَ تُحْذَفُ بعدَ أنِ المصدريَّةِ ويُعَوَّضُ عنها (ما)، ويَبْقَى اسمُها وخبرُها، نحوُ: (أمَّا أنتَ بَرًّا فاقْتَرِبْ)، والأصلُ: (أنْ كُنْتَ بَرًّا فاقْتَرِبْ)، فحُذِفَتْ (كانَ)، فانْفَصَلَ الضميرُ المتَّصِلُ بها، وهو التاءُ، فصارَ (أنْ أنتَ برًّا)، ثُمَّ أُتِيَ بـ(ما) عِوَضاً عن (كانَ)، فصارَ (أنْ ما أنتَ برًّا)، ثُمَّ أُدْغِمَتِ النونُ في الميمِ، فصارَ (أمَّا أنتَ برًّا) ومثلُه قولُ الشاعرِ:
74- أَبَا خُرَاشَةَ أمَّا أَنْتَ ذَا نَفَرٍ = فإنَّ قَوْمِي لم تَأْكُلْهُمُ الضَّبُعُ ([12])
فـ (أنْ) مَصْدَرِيَّةٌ، و(ما) زائدةٌ عِوَضاً عن (كانَ)، وأنتَ اسمُ كانَ المحذوفةِ، وذا نَفَرٍ خبرُها، ولا يَجُوزُ الجمعُ بينَ كانَ و(ما)؛ لكونِ (ما) عِوَضاً عنها، ولا يَجُوزُ الجمعُ بينَ العِوَضِ والمُعَوَّضِ، وأجازَ ذلك المُبَرِّدُ فيقولُ: (أمَّا كُنْتَ مُنْطَلِقاً انْطَلَقْتُ) ([13]).
ولم يُسْمَعْ مِن لسانِ العربِ حذفُ (كانَ) وتعويضُ (ما) عنها، وإبقاءُ اسمِها وخبرِها، إلاَّ إذا كانَ اسمُها ضميرَ مخاطَبٍ، كما مَثَّلَ به المصنِّفُ، ولم يُسْمَعْ معَ ضميرِ المتكلِّمِ نحوُ: (أما أنا مُنْطَلِقاً انْطَلَقْتَ)، والأصلُ: (أنْ كُنْتُ منطلِقاً)، ولا معَ الظاهِرِ، نحوُ: (أمَّا زيدٌ ذاهباً انْطَلَقْتُ).
والقياسُ جوازُهما كما جازَ معَ المخاطَبِ، والأصلُ: (أن كانَ زيدٌ ذاهباً انطلقتُ)، وقد مَثَّلَ سِيبَوَيْهِ رَحِمَه اللهُ في (كتابِهِ) بـ(أمَّا زيدٌ ذاهباً).
ومِنْ مُضَارِعٍ لِكَانَ مُنْجَزِمْ = تُحْذَفُ نونٌ وَهْوَ حَذْفٌ ما الْتُزِمْ ([14])
إذا جُزِمَ الفعلُ المضارعُ من (كانَ) قيلَ: لم يَكُنْ، والأصلُ يكونُ، فحَذَفَ الجازِمُ الضمَّةَ التي على النونِ فالْتَقَى ساكنانِ: الواوُ، والنونُ؛ فحَذَفَ الواوَ لالتقاءِ الساكنيْنِ ([15])؛ فصارَ اللفظُ: (لم يَكُنْ)، والقياسُ يَقْتَضِي أنْ لا يُحْذَفَ منه بعدَ ذلك شيءٌ آخَرُ، لكنَّهُم حَذَفُوا النونَ بعدَ ذلكَ تخفيفاً؛ لكثرةِ الاستعمالِ ([16])، فقالوا: (لم يَكُ)، وهو حَذْفٌ جائزٌ لا لازِمٌ، ومَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ ومَن تَابَعَهُ أنَّ هذه النونَ لا تُحْذَفُ عندَ ملاقاةِ ساكنٍ، فلا تقولُ: (لم يَكُ الرجلُ قائماً)، وأجازَ ذلك يُونُسُ([17])، وقد قُرِئَ شاذًّا: (لم يَكُ الذين كَفَرُوا).
وأمَّا إذا لاَقَتْ مُتَحَرِّكاً فلا يخلو إمَّا أنْ يكونَ ذلك المتحرِّكُ ضميراً متَّصِلاً أو لا؟! فإنْ كانَ ضميراً متَّصلاً لم تُحْذَفِ النونُ اتِّفاقاً؛ كقولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعمرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ في ابنِ صَيَّادٍ: ((إِنْ يَكُنْهُ فَلَنْ تُسَلَّطَ عَلَيْهِ، وَإِلاَّ يَكُنْهُ فَلاَ خَيْرَ لَكَ فِي قَتْلِهِ)) ([18]). فلا يَجُوزُ حذفُ النونِ، فلا تقولُ: (إنْ يَكُهُ وإلاَّ يَكُهُ).
وإنْ كانَ غيرَ ضميرٍ مُتَّصِلٍ جازَ الحذفُ والإثباتُ، نحوُ: (لم يَكُنْ زيدٌ قائماً، ولم يَكُ زيدٌ قائماً).
وظاهرُ كلامِ المصنِّفِ أنه لا فرقَ في ذلكَ بينَ كانَ الناقصةِ والتامَّةِ، وقد قُرِئَ: (وَإِنْ تَكُ حَسَنَةٌ يُضَاعِفْهَا) برفعِ (حَسَنَةٌ) وحذفِ النونِ، وهذه هي التامَّةُ.
([1]) (وقدْ) حرفُ تقليلٍ، (تُزَادُ) فعلٌ مضارعٌ مبنيٌّ للمجهولِ، (كانَ) قُصِدَ لفظُه: نائبُ فاعلِ تُزَادُ، (في حَشْوٍ) جارٌّ ومجرورٌ مُتَعَلِّقٌ بتُزَادُ، (كما) الكافُ جارَّةٌ لقولٍ محذوفٍ، (ما) تَعَجُّبِيَّةٌ، وهي نكرةٌ تامَّةٌ مبتدأٌ، وسَوَّغَ الابتداءَ بها ما فيها من معنى التعجُّبِ، (كانَ) زائدةٌ، (أَصَحَّ) فعلٌ ماضٍ فعلُ تعجُّبٍ، وفاعلُه ضميرٌ مستترٌ فيه وُجُوباً تَقْدِيرُهُ هو يعودُ على ما التعجبيَّةِ، (عِلْمَ) مفعولٌ به لأَصَحَّ، والجملةُ من الفعلِ والفاعلِ والمفعولِ في محلِّ رفعِ خبرِ المبتدأِ، وعِلْمَ مضافٌ و(مَن) اسمٌ موصولٌ مضافٌ إليه، (تَقَدَّمَا) تَقَدَّمَ: فعلٌ ماضٍ، والألفُ للإطلاقِ، وفاعلُه ضميرٌ مستترٌ فيه جوازاً تَقْدِيرُهُ هو يعودُ إلى مَنِ الموصولةِ، والجملةُ مِن تَقَدَّمَ وفاعلِه لا مَحَلَّ لها من الإعرابِ؛ صِلَةُ الموصولِ.
([2])ممَّا وَرَدَ مِن زِيَادَتِها بينَ (ما) التعجبيَّةِ وفعلِ التعجُّبِ قولُ الشاعِرِ:
لِلَّهِ دَرُّ أَنُو شَرْوَانَ مِنْ رَجُلٍ = ما كانَ أَعْرَفَهُ بالدُّونِ والسَّفِلِ
ونظيرُه قولُ الحَمَاسِيِّ (انْظُرْ شَرْحَ التِّبْرِيزِيِّ 3/ 22 بتحقيقِنا):
أبا خَالدٍ ما كانَ أَوْهَى مُصِيبَةً = أصَابَتْ مَعَدًّا يومَ أَصْبَحْتَ ثَاوِيَا
وقولُ امرِئِ القَيْسِ بنِ حُجْرٍ الكِنْدِيِّ (وهو الشاهدُ رَقْمُ 249) الآتي في هذا الكتابِ):
أَرَى أُمَّ عَمْرٍو دَمْعُهَا قَدْ تَحَدَّرَا = بُكاءً على عمرٍو وما كانَ أَصْبَرَا
إذا قَدَّرْتَ الكلامَ: وما كانَ أَصْبَرَها. وقولُ عُرْوَةَ بنِ أُذَيْنَةَ:
ما كانَ أَحْسَنَ فِيكَ العَيْشَ مُؤْتَنِفاً = غَضًّا وأَطْيَبَ في آصَالِكَ الأصُلاَ
([3]) قائلُ هذا الكلامِ هو قَيْسُ بنُ غَالِبٍ، في فاطِمَةَ بنتِ الخُرْشُبِ، من بَنِي أَنْمَارِ بنِ بَغِيضِ بنِ رَيْثِ بنِ غَطَفَانَ، وأولادُها هم: أَنَسُ الفَوَارِسِ، وعمَارَةُ الوهابُ، وقَيْسُ الحُفَّاظِ، ورَبِيعٌ الكامِلُ، وأبوهم زِيادُ العَبْسِيُّ، وكانَ كلُّ واحدٍ منهم نادرةَ أقرانِه شجاعةً وبَسالةً ورِفْعَةَ شأنٍ.
([4]) البيتُ للفرزدقِ، من قصيدةٍ له يَمْدَحُ فيها هِشامَ بنَ عبدِ الملكِ -وقيلَ: يَمْدَحُ سليمانَ بنَ عبدِ المَلِكِ- وقد أَنْشَدَهُ سِيبَوَيْهِ [ج 1 ص 189] ببعضِ تَغييرٍ.
الإعرابُ: (كيفَ) اسمُ استفهامٍ أُشْرِبَ معنَى التعجُّبِ، وهو مبنيٌّ على الفتحِ في محَلِّ نصبِ حالٍ مِن فاعلٍ هو ضميرٌ مستترٌ في فعلٍ محذوفٍ، وتقديرُ الكلامِ: كيفَ أكونُ، مَثَلاً، (إذا) ظرفٌ لِمَا يُسْتَقْبَلُ من الزمانِ، (مَرَرْتُ) فعلٌ وفاعلٌ، والجملةُ في مَحَلِّ جرٍّ بإضافةِ (إذا) إليها، (بدارِ) جارٌّ ومجرورٌ مُتَعَلِّقٌ بمَرَرْتُ، ودارِ مضافٌ و(قومٍ) مضافٌ إليه، (وجِيرانٍ) معطوفٌ على دارِ قومٍ، (لنا) جارٌّ ومجرورٌ مُتَعَلِّقٌ بمحذوفٍ صفةٌ لجيرانٍ، (كانوا) زائدةٌ ـ وسَتَعْرِفُ ما فيه ـ (كرامِ) صفةٌ لجيرانٍ مجرورٌ، وعلامةُ جَرِّهِ الكسرةُ الظاهرةُ في آخِرِهِ.
الشاهدُ فيه: قولُه: (وجِيرَانٍ لنا كانوا كِرَامِ) حيثُ زِيدَتْ (كانوا) بينَ الصفةِ وهي قولُه: (كرامِ)، والموصوفِ وهو قولُه: (جِيرَانٍ)، وتقديرُ الكلامِ: وجيرانٍ كِرَامٍ لنا.
هذا مُقْتَضَى كلامِ الشارحِ العلاَّمَةِ، وهو ما ذَهَبَ إليه إمامُ النُّحاةِ سِيبَوَيْهِ، لكِنْ قالَ ابنُ هِشامٍ في توضيحِه: إنَّ شرطَ زيادةِ (كانَ) أنْ تكونَ وَحْدَهَا، فلا تُزَادُ معَ اسمِها. وأَنْكَرَ زيادَتَهَا في هذا البيتِ، وهو تابعٌ في هذا الكلامِ لأبي العبَّاسِ مُحَمَّدِ بنِ يَزِيدَ المُبَرِّدِ؛ فإنَّه منَعَ زيادةَ كانَ في هذا البيتِ، على زَعْمِه أنها إنما تُزادُ مفردةً لا اسمَ لها ولا خبرَ، وخرَّجَ هذا البيتَ على أنَّ قولَه: (لنا) جارٌّ ومجرورٌ مُتَعَلِّقٌ بمحذوفٍ خبرُ كانَ مُقَدَّمٌ عليها، وواوُ الجماعةِ المُتَّصِلَةُ بها اسمُها، وغايةُ ما في البابِ أنَّ الشاعرَ فَصَلَ بينَ الصفةِ ومَوْصُوفِها بجملةٍ كاملةٍ من كانَ واسمِها وخبرِها، وقَدَّمَ خبرَ كانَ على اسمِها، وتقديرُ الكلامِ على هذا : وجيرانٍ كرامٍ كانوا لنا.
والذي ذهَبَ إليه سِيبَوَيْهِ أَوْلَى بالرعايةِ؛ لأنَّ اتِّصَالَها باسمِها لا يَمْنَعُ من زيادَتِها، ألاَ تَرَى أنهم يُلْغُونَ (ظَنَنْتَ) متأخِّرَةً ومتوسِّطَةً، ولا يَمْنَعُهم إسنادُها إلى اسمِها مِن إلغائِها، ثمَّ المصيرُ إلى تقديمِ خبرِ (كانَ) عليها، والفصلُ بينَ الصفةِ وموصوفِها عُدُولٌ عمَّا هو أصلٌ إلى شيءٍ غيرِه.
قالَ سِيبَوَيْهِ: (وقالَ الخليلُ: إنَّ مِن أَفْضَلِهِم كانَ زيداً، على إلغاءِ كانَ. وشَبَّهَهُ بقولِ الشاعِرِ: * وجِيرانٍ لنا كانوا كِرَامِ *) اهـ.
وقالَ الأعلَمُ: (الشاهدُ فيه إلغاءُ كانَ وزيادتُها توكيداً وتبييناً لمعنَى المُضِيِّ، والتقديرُ: جِيرَانٍ لنا كِرَامٍ كانوا كذلكَ). اهـ.
هذا، ومن شواهدِ زيادةِ (كانَ) بينَ الصفةِ وموصوفِها ـ من غيرِ أنْ تكونَ متصلةً باسمِها ـ قولُ جابرٍ الكِلاَبِيِّ (وانْظُرْ مُعْجَمَ البُلدانِ مادَّةَ كتيفة):
وماؤُكُمَا العَذْبُ الذي لو شَرِبْتُهُ = شِفَاءٌ لِنَفْسٍ كانَ طَالَ اعْتِلاَلُهَا
فإنَّ جملةَ (طالَ اعتلالُها) في محَلِّ جرِّ صفةٍ لنَفْسٍ، وقد زادَ بينَهما (كانَ).
([5]) أَنْشَدَ الفَرَّاءُ هذا البيتَ، ولم يَنْسُبْهُ إلى قائِلٍ، ولم يَعْرِفِ العلماءُ له قائلاً، ويُرْوَى المِصْرَاعُ الأوَّلُ منه: * جِيَادُ بَنِي أبي بَكْرٍ تَسَامَى *
اللغةُ: (سَرَاةُ) جَمْعُ سَرِيٍّ، وهو جمعٌ عَزِيزٌ؛ فإنَّه يَنْدُرُ جمعُ فعيلٍ على = فعلةٍ، والجِيَادُ: جَمْعُ جَوَادٍ، وهو الفَرَسُ النفيسُ، (تَسَامَى) أصلُه تَتَسَامَى ـ بتاءيْنِ ـ فحَذَفَ إحداهما تخفيفاً، (المُسَوَّمَةِ) الخيلُ التي جُعِلَتْ لها عَلامةٌ ثُمَّ تُرِكَتْ في المرعَى، (العِرابِ) هي خِلافُ البَرَاذِينِ والبَخَاتِيِّ، ويُرْوَى:
* على كانَ المُطَهَّمَةِ الصِّلاَبِ *
والمُطَهَّمَةُ: البارعةُ التامَّةُ في كلِّ شيءٍ، والصِّلاَبُ: جَمْعُ صُلْبٍ، وهو القويُّ الشديدُ.
المعنى: مَن رَوَاهُ (سَرَاةُ بني أبي بكرٍ... إلخ) فمعناه: إنَّ ساداتِ بني أبي بكرٍ يَرْكَبُونَ الخيولَ العربيَّةَ التي جُعِلَتْ لها علامةٌ تَتَمَيَّزُ بها عَمَّا عَدَاهَا من الخيولِ، ومَن رَوَاهُ (جِيَادُ بني أبي بَكْرٍ... إلخ) فمعناه: أنَّ خيولَ بني أبي بَكْرٍ لَتَسْمُو قِيمَتُها ويَرْتَفِعُ شَأْنُها على جميعِ ما عَدَاهَا مِن الخيولِ العربيَّةِ، يُرِيدُ أنَّ جِيَادَهُم أفضلُ الجِيَادِ وأعلاها.
الإعرابُ: (جِيَادُ) مبتدأٌ، وجيادُ مضافٌ و(بني) مضافٌ إليه، وبني مضافٌ و(أبي) مضافٌ إليه، وأبي مضافٌ و(بَكْرٍ) مضافٌ إليه، (تَسَامَى) فعلٌ مضارِعٌ، وفاعلُه ضميرٌ مستترٌ فيه جَوَازاً تَقْدِيرُهُ هي يعودُ إلى جِيَادُ، والجملةُ في محَلِّ رفعِ خبرِ المبتدأِ، (على) حرفُ جرٍّ، (كانَ) زائدةٌ، (المُسَوَّمَةِ) مجرورةٌ بعَلَى، (العِرابِ) نعتٌ لِلْمُسَوَّمَةِ، والجارُّ والمجرورُ متعلِّقٌ بقولِهِ: (تَسَامَى).
الشاهدُ فيه: قولُه: (على كانَ المُسَوَّمَةِ)؛ حيثُ زادَ (كانَ) بينَ الجارِّ والمجرورِ، ودليلُ زِيَادَتِها أنَّ حَذْفَها لا يُخِلُّ بالمعنى.
([6]) هذا البيتُ ـ كما قالَ الشارِحُ ـ لأُمِّ عَقِيلِ بنِ أبي طالِبٍ، وهي فاطمةُ بنتُ أَسَدِ بنِ هَاشِمِ بنِ عبدِ مَنَافٍ، وهي زَوْجُ أبي طالبِ بنِ عبدِ المطَّلبِ عَمِّ النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبي أميرِ المؤمنينَ عليِّ بنِ أبي طالبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، تقولُه وهي تُرَقِّصُ ابنَها عَقِيلاً، ويُرْوَى بيتُ الشاهدِ معَ ما قبلِه هكذا:
إنَّ عَقِيلاً كاسْمِهِ عَقِيلُ وبِيَبِي المُلَفَّفُ المحمولُ =
أنتَ تَكُونُ السَّيِّدُ النَّبِيُلُ = إذا تَهُبُّ شَمْأَلٌ بَلِيلُ
يُعْطِي رِجَالَ الحيِّ أو يُنِيلُ=...............
اللغةُ: (ماجدٌ) كريمٌ، (نَبِيلٌ) فاضلٌ شريفٌ، (تَهُبُّ) مضارعُ هَبَّتِ الريحُ هُبُوباً وهَبِيباً، إذا هَاجَتْ، (شَمْأَلٌ) هي رِيحٌ تَهُبُّ من ناحيةِ القُطْبِ، (بَلِيلُ) رَطْبَةٌ نَدِيَّةٌ.
الإعرابُ: (أنتَ) ضميرٌ منفصلٌ مبتدأٌ، (تكونُ) زائدةٌ، (ماجِدٌ) خبرُ المبتدأِ، (نَبِيلُ) صفةٌ لِمَاجِدٌ، (إِذَا) ظرفٌ لِمَا يُسْتَقْبَلُ مِن الزمانِ، (تَهُبُّ) فعلٌ مضارعٌ، (شَمْأَلٌ) فاعلُ تَهُبُّ، (بَلِيلُ) نَعْتٌ لشَمْأَلٌ، والجملةُ من الفعلِ والفاعلِ في محلِّ جرٍّ بإضافةِ (إذا) إليها، وجوابُ الشرطِ محذوفٌ يَدُلُّ عليه الكلامُ، والتقديرُ: إذا تَهُبُّ شمألٌ بليلٌ فأنتَ ماجدٌ نبيلٌ حينَئذٍ.
الشاهدُ فيه: قولُها: (أنتَ تكونُ ماجدٌ)؛ حيثُ زَادَتِ المضارِعَ مِن (كانَ) بينَ المبتدأِ وخبرِه، والثابتُ زيادتُه إنما هو الماضي دونَ المضارِعِ؛ لأنَّ الماضِيَ لَمَّا كانَ مبنيًّا أَشْبَهَ الحرفَ، وقد عَلِمْنَا أنَّ الحروفَ تَقَعُ زائدةً، كالباءِ، وقد زِيدَتِ الباءُ في المبتدأِ في نحوِ: (بِحَسْبِكَ دِرْهَمٌ)، وزِيدَتْ في خبرِ ليسَ، في نحوِ قولِهِ تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ}، ونحوِ ذلك، فأما المضارِعُ فهو مُعْرَبٌ، فلم يُشْبِهِ الحرفَ، بل أَشْبَهَ الاسمَ، فتَحَصَّنَ بذلك الشَّبَهِ عن أنْ يُزَادَ، كما أنَّ الأسماءَ لا تُزَادُ إلاَّ شُذُوذاً، وهذا إيضاحُ كلامِ الشارِحِ وتخريجُ كلامِه وتعليلُه.
والقولُ بزيادةِ (تكونُ) شُذُوذاً في هذا البيتِ قولُ ابنِ الناظِمِ وابنِ هِشامٍ، وتَبِعَهُما مَن جاءَ بعدَهما مِن شُرَّاحِ الألفيَّةِ، وهما تابعانِ في ذلك لابنِ السيِّدِ وأبي البقاءِ.
ومِمَّا اسْتُدِلَّ به على زيادةِ (تكونُ) بلفظِ المضارعِ قولُ حَسَّانَ بنِ ثَابِتٍ:
كأنْهُ سَبِيئَةٌ مِن بيتِ رَأْسٍ -يَكُونُ مِزَاجُهَا عَسَلٌ وماءُ
رَوَيَاهُ برفعِ (مِزَاجُها عَسَلٌ وماءُ) على أنها جملةٌ من مبتدأٍ وخبرٍ في محلِّ رفعِ صفةٍ لسَبيئةٌ، وزَعَمَا أنَّ (يكونُ) زائدةٌ.
والردُّ على ذلك أنَّ الروايةَ بنصبِ (مِزَاجَها) على أنه خبرُ يكونُ مُقَدَّماً، ورَفْعِ (عسلٌ وماءُ) على أنه اسمُ يكونُ مُؤَخَّرٌ، ولئِنْ سَلَّمْنَا روايةَ رَفْعِهما فليسَ يَلْزَمُ عليها زيادةُ يكونُ، بل هي عاملةٌ، واسمُها ضميرُ شأنٍ محذوفٌ، وقولُه: (مِزَاجُهَا عسلٌ وماءُ) جملةٌ من مبتدأٍ وخبرٍ، وجملةُ المبتدأِ والخبرِ في محَلِّ نصبِ خبرِ يكونُ.
وكذلكَ بيتُ الشاهدِ، وليسَتْ (تكونُ) فيه زائدةً، بل هي عاملةٌ، واسْمُها ضميرٌ مُسْتَتِرٌ فيه وُجُوباً تَقْدِيرُهُ أنتَ، وخَبَرُها محذوفٌ، والجملةُ لا محلَّ لها؛ معتَرِضَةٌ بينَ المبتدأِ وخبرِه، والتقديرُ: أنتَ ماجدٌ نبيلٌ تكونُه.
([7]) (يَحْذِفُونَهَا) فعلٌ مضارِعٌ، وواوُ الجماعةِ فاعلُه، وها العائدُ على (كانَ) مفعولٌ به، (ويُبْقُونَ) الواوُ حرفُ عطفٍ، يُبْقُونَ: فعلٌ مضارعٌ مرفوعٌ بثبوتِ النونِ، وواوُ الجماعةِ فاعِلُه، (الخَبَرْ) مفعولٌ به ليُبْقُونَ، (وبعدَ) ظرفٌ متعلِّقٌ بقولِهِ: (اشْتَهَر) الآتي، وبعدَ مضافٌ و(إنْ) قُصِدَ لَفْظُه: مضافٌ إليه، (ولوْ) معطوفٌ على إنْ، (كثيراً) حالٌ من الضميرِ المستترِ في اشْتَهَر، (ذا) اسمُ إشارةٍ مبتدأٌ، (اشْتَهَر) فعلٌ ماضٍ، وفاعلُه ضميرٌ مستترٌ فيه جوازاً تَقْدِيرُهُ هو يعودُ إلى (ذا) الواقعِ مبتدأً، والجملةُ مِن اشْتَهَر وفاعلِه في محَلِّ رفعِ خبرِ المبتدأِ.
([8]) البيتُ للنُّعْمَانِ بنِ المُنْذِرِ مَلِكِ العربِ في الحِيرَةِ، مِن أبياتٍ يَقُولُها في الرَّبِيعِ بنِ زِيادٍ العَبْسِيِّ، وهو من شواهدِ سِيبَوَيْهِ [1/131]، ونُسِبَ في (الكِتابِ) لشاعرٍ يقولُه للنُّعْمَانِ، ولم يَتَعَرَّضِ الأعلمُ في شرحِ شواهدِه إلى نِسْبَتِه بشيءٍ، والمشهورُ ما ذَكَرْنَا أوَّلاً من أنَّ قائلَه هو النعمانُ بنُ المُنْذِرِ نفسُه في قِصَّةٍ مشهورةٍ تُذْكَرُ في أخبارِ لَبِيدِ بنِ رَبِيعَةَ.
الإعرابُ: (قدْ) حرفُ تحقيقٍ، (قِيلَ) فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ للمجهولِ، (ما) اسمٌ موصولٌ نائبُ فاعلٍ، (قِيلَ) فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ للمجهولِ، ونائبُ الفاعلِ ضميرٌ مستترٌ فيه جَوَازاً تَقْدِيرُهُ هو يعودُ على (ما)، والجملةُ لا مَحَلَّ لها من الإعرابِ؛ صلةُ الموصولِ، (إنْ) شرطيَّةٌ، (صِدْقاً) خبرٌ لكانَ المحذوفةِ معَ اسمِها، والتقديرُ: (إنْ كانَ المَقُولُ صِدْقاً)، (وَإِنْ كَذِباً) مثلُ قولِه: (إنْ صِدْقاً)، وكانَ المحذوفةُ في الموضعيْنِ فعلُ الشرطِ، وجوابُ الشرطِ محذوفٌ في الموضعيْنِ لدَلالةِ سابقِ الكلامِ عليه، (فما) اسمُ الاستفهامِ مبتدأٌ، (اعْتِذَارُكَ) اعتذارُ: خبرُ المبتدأِ، واعتذارُ مضافٌ والكافُ ضميرُ المخاطَبِ مضافٌ إليه، (مِن قَوْلٍ) جارٌّ ومجرورٌ مُتَعَلِّقٌ باعْتِذَارُ، (إذا) ظرفٌ تَضَمَّنَ معنى الشرطِ، (قِيلاَ) قيلَ: فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ للمجهولِ، والألِفُ للإطلاقِ، ونائبُ الفاعلِ ضميرٌ مستترٌ فيه جَوَازاً تَقْدِيرُهُ هو يعودُ إلى قولٍ، والجملةُ في محلِّ جرٍّ بإضافةِ (إذا) إليها، وجوابُ (إذا) محذوفٌ يَدُلُّ عليه سابقُ الكلامِ، وتَقْدِيرُهُ: إذا قِيلَ قَوْلُكَ فما اعْتِذَارُكَ منه.
الشاهدُ فيه: قولُه: (إِنْ صِدْقاً وَإِنْ كَذِباً)؛ حيثُ حَذَفَ (كانَ) معَ اسمِها وأَبْقَى خَبَرَها بعدَ (إنِ) الشرطيَّةِ، وذلك كثيرٌ شائعٌ مُسْتَسَاغٌ، ومثلُه قولُ ليلى الأَخْيَلِيَّةِ (انْظُرْه في أمَالِي القَالِي 1/248، ثمَّ انْظُر اعْتِرَاضاً عليه في التنبيهِ 88):
لا تَقْرَبَنَّ الدَّهْرَ آلَ مُطَرِّفٍ = إنْ ظالماً - أبداً - وإنْ مَظْلُومَا
وقولُ النابغةِ الذُّبْيَانِيِّ:
حَدِبَتْ عَلَيَّ بُطُونُ ضِنَّةَ كُلُّهَا = إنْ ظَالِماً فيهم وإنْ مَظْلُوماً
وقولُ ابنِ همامٍ السَّلُولِيِّ:
وأَحْضَرْتُ عُذْرِي عَليهِ الشُّهُو = دُ إنْ عَاذِراً لي وإنْ تَارِكَا
وكذا يَكْثُرُ حَذْفُها معَ اسمِها بعدَ (لو)؛ كما قَرَّرَهُ الشارِحُ العلاَّمَةُ، وعليه قولُ الشاعِرِ:
لا يَأْمَنُ الدَّهْرَ ذُو بَغْيٍ ولو مَلِكاً = جُنُودُهُ ضَاقَ عَنْهَا السَّهْلُ والجَبَلُ
أصلُ الكلامِ: ولو كانَ الباغِي مَلِكاً، فحَذَفَ كانَ واسمَها وأبقَى خَبَرَها.
([9]) ومِن ذلكَ ما وَرَدَ في الحديثِ مِن قولِ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((الْتَمِسْ وَلَوْ خَاتَماً مِنْ حَدِيدٍ)). التقديرُ: ولو كانَ مُلْتَمَسُكَ خاتماً من حديدٍ، والبيتُ الذي أَنْشَدْنَاهُ في آخِرِ شرحِ الشاهدِ رَقْمِ 72.
([10]) هذا كلامٌ تَقَولُهُ العربُ، ويَجْرِي بينَها مَجْرَى المَثَلِ، وهو يُوَافِقُ بَيْتاً مِن مَشْطُورِ الرَّجَزِ، وهو من شواهدِ سِيبَوَيْهِ [1/ 134] ولم يَتَعَرَّضْ أحدٌ مِن شُرَّاحِهِ إلى نِسْبَتِه لقائلِه بشيءٍ.
اللغةُ: (شَوْلاً) قيلَ: هو مصدرُ (شَالَتِ الناقةُ بذَنَبِها)؛ أي: رَفَعَتْهُ للضربِ، وقيلَ: هو اسمُ جمعٍ لشائِلَةٍ، على غيرِ قياسٍ، والشائلةُ: الناقةُ التي خَفَّ لَبَنُها وارْتَفَعَ ضَرْعُها، (إِتْلائِهَا) مصدرُ (أَتْلَتِ الناقةُ) إذا تَبِعَها وَلَدُها.
الإعرابُ: (مِن لَدُ) جارٌّ ومجرورٌ مُتَعَلِّقٌ بمحذوفٍ، والتقديرُ: رَبَّيْتُها مِن لَدُ، مثلاً، (شَوْلاً) خبرٌ لكانَ المحذوفةِ معَ اسمِها، والتقديرُ: (مِن لَدُ أنْ كانَتِ الناقةُ شَوْلاً)، (فإلى) الفاءُ حرفُ عطفٍ، وإلى: حرفُ جرٍّ، (إِتْلائِهَا) إتلاءِ: مجرورٌ بإلَى، وإتلاءِ مضافٌ وها مضافٌ إليه، والجارُّ والمجرورُ متعلِّقٌ بمحذوفٍ معطوفٍ بالفاءِ على متعلِّقِ الجارِّ والمجرورِ الأوَّلِ، وتقديرُ الكلامِ: رَبَّيْتُ هذه الناقةَ مِن لَدُ كانَتْ شَوْلاً، فاسْتَمَرَّ ذلك إلى إِتلائِها.
الشاهدُ فيه: قولُه: (مِنْ لَدُ شَوْلاً)؛ حيثُ حَذَفَ (كانَ) واسمَها وأَبْقَى خَبَرَها وهو (شَوْلاً) بعدَ لَدُ، وهذا شاذٌّ؛ لأنَّه إنما يَكْثُرُ هذا الحذفُ بعدَ (إنْ ولو) كما سبَقَ، هذا بيانُ كلامِ الشارِحِ العلاَّمَةِ وأكثرِ النَّحْوِيِّينَ، وهو المستفادُ من ظاهرِ كلامِ سِيبَوَيْهِ.
وفي الكلامِ توجيهٌ آخَرُ، وهو أنْ يكونَ قولُهم: (شَوْلاً) مفعولاً مُطْلَقاً لفعلٍ محذوفٍ، والتقديرُ: (مِن لَدُ شَالَتِ الناقةُ شَوْلاً)، وبعضُ النحويينَ يَذْكُرُ فيه إعراباً ثالثاً، وهو أنْ يكونَ نَصْبُ (شَوْلاً) على التمييزِ أو التشبيهِ بالمفعولِ به، كما يَنْتَصِبُ لفظُ (غُدْوَةً) بعدَ (لَدُنْ)
وعلى هذين التوجيهيْنِ لا يكونُ في الكلامِ شاهدٌ لِمَا نحنُ فيه، وراجِعْ هذه المسألةَ وشرحَ هذا الشاهدِ في شرحِنا على شرحِ أبي الحسنِ الأَشْمُونِيِّ في [ج1 ص 386 الشاهد رقم 206] تَظْفَرْ ببَحْثٍ ضافٍ وافٍ.
([11]) (وبعدَ) ظرفٌ متعلِّقٌ بقولِه: (ارْتُكِب) الآتي، وبعدَ مضافٌ و(أنْ) قُصِدَ لفظُه: مضافٌ إليه، (تَعْوِيضُ) مبتدأٌ، وتعويضُ مضافٌ و(ما) قُصِدَ لفظُه مضافٌ إليه، (عنها) جارٌّ ومجرورٌ مُتَعَلِّقٌ بتعويضُ، (ارْتُكِب) فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ للمجهولِ، ونائبُ الفاعلِ ضميرٌ مستَتِرٌ فيه جوازاً تَقْدِيرُهُ هو يعودُ إلى تَعْوِيضُ، والجملةُ مِن ارْتُكِب ونائبِ فاعلِه في محلِّ رفعِ خبرِ المبتدأِ، (كمِثْلِ) الكافُ زائدةٌ، مثلِ: خبرٌ لمبتدأٍ محذوفٍ، (أمَّا) هي أنِ المصدريَّةُ المُدْغَمَةُ في ما الزائدةِ المعوَّضِ بها عن كانَ المحذوفةِ، (أنتَ) اسمُ كانَ المحذوفةِ، (بَرًّا) خبرُ كانَ المحذوفةِ، (فاقْتَرِبْ) فعلُ أمرٍ، وفاعلُه ضميرٌ مستَتِرٌ فيه وُجُوباً تَقْدِيرُهُ أنتَ.
([12]) البيتُ للعبَّاسِ بنِ مِرْدَاسٍ يُخَاطِبُ خُفَافَ ابنَ نَُدْبَةَ أبا خُرَاشَةَ، وهو من شواهدِ سِيبَوَيْهِ [ج1 ص 148] وخُفَافُ ـ بزنةِ غُرَابٍ ـ شاعرٌ مشهورٌ، وفارسٌ مذكورٌ، من فُرسانِ قَيْسٍ، وهو ابنُ عمِّ صَخْرٍ ومعاويةَ وأُخْتِهِما الخَنْسَاءِ الشاعرةِ المشهورةِ، ونُدْبَةُ ـ بضمِّ النونِ أو فتحِها ـ أُمُّهُ، واسمُ أبيه عُمَيْرٌ.
اللغةُ: (ذا نَفَرٍ) يريدُ ذا قَوْمٍ تَعْتَزُّ بهم وجماعةٍ تَمْتَلِئُ بهم فَخْراً، (الضَّبُعُ) أصلُه الحيوانُ المعروفُ، ثُمَّ اسْتَعْمَلُوه في السنَةِ الشديدةِ المُجْدِبَةِ، قالَ حَمْزَةُ الأَصْفَهانِيُّ: إنَّ الضَّبُعَ إذا وَقَعَتْ في غَنَمٍ عَاثَتْ، ولم تَكْتَفِ من الفسادِ بما يَكْتَفِي به الذئبُ، ومن إفسادِها وإسرافِها فيه اسْتَعَارَتِ العربُ اسمَها للسنَةِ المُجْدِبَةِ، فقالوا: أَكَلَتْنَا الضَّبُعُ.
المعنى: يا أبا خُراشةَ، إنْ كُنْتَ كثيرَ القومِ، وكنتَ تعتَزُّ بجماعتِكَ، فإنَّ قومِي مَوْفُورُونَ، كَثِيرو العددِ، لم تَأْكُلْهم السنَةُ الشديدةُ المُجْدِبَةُ، ولم تُضْعِفْهُمُ الحربُ، ولم تَنَلْ منهم الأَزَمَاتُ.
الإعرابُ: (أبا) مُنادًى حُذِفَتْ منه ياءُ النداءِ، وأبا مُضافٌ، و(خُراشةَ) مضافٌ إليه، (أَمَّا) هي عِبارةٌ عن أنِ المصدريَّةِ المُدْغَمَةِ في (ما) الزائدةِ النائبةِ عن (كانَ) المحذوفةِ، (أَنْتَ) اسمٌ لكانَ المحذوفةِ، (ذا) خبرُ كانَ المحذوفةِ، وذا مضافٌ و(نَفَرٍ) مضافٌ إليه، (فإنَّ) الفاءُ تعليليَّةٌ، إنَّ: حرفُ توكيدٍ ونصبٍ، (قَوْمِي) قومِ: اسمُ إنَّ، وقومِ مضافٌ والياءُ ضميرُ المتكلِّمِ مضافٌ إليه، (لم) حرفُ نفيٍ وجَزْمٍ وقلبٍ، (تَأْكُلْهُمْ) تَأْكُلْ: فعلٌ مضارِعٌ مجزومٌ بلم، والضميرُ مفعولٌ به لتَأْكُل، (الضَّبُعُ) فاعلُ تَأْكُلْ، والجملةُ من الفعلِ والفاعلِ في محلِّ رفعِ خبرِ (إنَّ).
الشاهدُ فيه: قولُه: (أَمَّا أنتَ ذا نَفَرٍ) حيثُ حَذَفَ (كانَ) التي تَرْفَعُ الاسمَ وتَنْصِبُ الخبرَ، وعَوَّضَ عنها (ما) الزائدةَ، وأَدْغَمَها في نونِ أنِ المصدريَّةِ، وأَبْقَى اسمَ (كانَ)، وهو الضميرُ البارِزُ المنفصِلُ، وخبرَها وهو قولُه: (ذا نَفَرٍ).
وأصلُ الكلامِ عندَ البَصْرِيِّينَ: فخَرْتَ عليَّ لأنْ كُنْتَ ذا نَفَرٍ، فحُذِفَتْ لامُ التعليلِ ومتعَلِّقُها، فصارَ الكلامُ: أنْ كُنْتَ ذا نَفَرٍ، ثُمَّ حُذِفَتْ كانَ لكثرةِ الاستعمالِ؛ قَصداً إلى التخفيفِ، فانفَصَلَ الضميرُ الذي كانَ مُتَّصِلاً بكانَ؛ لأنَّه لم يَبْقَ في الكلامِ عاملٌ يَتَّصِلُ به هذا الضميرُ، ثمَّ عُوِّضَ مِن كانَ بما الزائدةِ، فالْتَقَى حرفانِ متقاربانِ ـ وهما نونُ أنِ المصدريَّةِ وميمُ ما الزائدةِ ـ فأَدْغَمَهُما فصارَ الكلامُ: أمَّا أنتَ ذا نَفَرٍ.
هذا، وقد رَوَى ابنُ دُرَيْدٍ وأبو حَنِيفَةَ الدِّينَوَرِيُّ في مكانِ هذه العبارةِ: (إِمَّا كنتَ ذا نَفَرٍ) وعلى رِوَايَتِهما لا يكونُ في البيتِ شاهدٌ لِمَا نحنُ فيه الآنَ.
ومن شواهدِ المسألةِ قولُ الشاعِرِ:
إمَّا أَقَمْتَ وأَمَّا أنتَ مُرْتَحِلاً = فاللهُ يَكْلأُ مَا تَأْتِي وما تَذَرُ
([13]) ادِّعَاءُ أنه لا يجوزُ الجمعُ بينَ العِوَضِ والمُعَوَّضِ منه لا يَتِمُّ على الإطلاقِ، بل قد جَمَعُوا بينَهما في بعضِ الأحايينِ، فهذا الحكمُ أغلبيٌّ؛ ولهذا أجازَ المبرِّدُ أنْ يقالَ: (أمَّا كنتَ مُنْطَلِقاً انْطَلَقْتُ).
([14]) (ومِن مضارعٍ) جارٌّ ومجرورٌ مُتَعَلِّقٌ بقولِه: (تُحْذَفُ) الآتي، (لِكَانَ) جارٌّ ومجرورٌ مُتَعَلِّقٌ بمحذوفٍ صفةٍ لمضارِعٍ، (مُنْجَزِمْ) صفةٌ ثانيةٌ لمضارِعٍ، (تُحْذَفُ) فعلٌ مضارعٌ مبنيٌّ للمجهولِ، (نونٌ) نائبُ فاعلِ تُحْذَفُ، (وَهْوَ) مبتدأٌ، (حَذْفٌ) خبرُ المبتدأِ، (ما) نافيةٌ، (الْتُزِمْ) فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ للمجهولِ، ونائبُ فاعلِه ضميرٌ مستَتِرٌ فيه جَوَازاً تَقْدِيرُهُ هو يعودُ إلى حَذْفٌ، والجملةُ من الْتُزِم المنفيِّ ونائبِ الفاعلِ في محَلِّ رفعِ صفةٍ لحَذْفٌ، وتقديرُ البيتِ: وتُحْذَفُ نونٌ مِن مضارعٍ منجَزِمٍ آتٍ مِن مصدرِ كانَ، وهو حذفٌ لم تَلْتَزِمْه العربُ، ويريدُ أنه جائزٌ لا واجبٌ.
([15]) لو قالَ: (للتخَلُّصِ من التقاءِ الساكنيْنِ) لكانَ أحسنَ.
([16]) قد جاءَ هذا الحذفُ كثيراً جِدًّا في كلامِ العربِ؛ نَثْرِه ونَظْمِه، فمِن ذلك قولُهم في المَثَلِ: (إنْ لم يَكُ لَحْمٌ فنَفَشٌ) والنَّفَشُ: الصوفُ، ويُرْوَى: (إنْ لم يَكُنْ)، وهذه الروايةُ تَدُلُّ على أنَّ الحذفَ جائزٌ لا واجِبٌ، ومن شواهدِ ذلك قولُ عَلْقَمَةَ الفَحْلِ:
ذَهَبْتَ مِنَ الهِجْرَانِ في كلِّ مَذْهَبِ = وَلَمْ يَكُ حَقًّا كُلُّ هَذَا التَّجَنُّبِ
وقولُ عُرْوَةَ بنِ الوَرْدِ العَبْسِيِّ:
ومَنْ يَكُ مِثْلِي ذَا عِيَالٍ ومُقْتِراً = يُغَرَّرْ ويَطْرَحْ نَفْسَهُ كُلَّ مَطْرَحِ
وقولُ مُهَلْهَلِ بنِ رَبِيعَةَ يَرْثِي أَخَاهُ كُلَيْبَ بنَ رَبِيعَةَ:
فإنْ يَكُ بالذَّنَائِبِ طَالَ لَيْلِي = فقدْ أَبْكِي مِن الليلِ القصيرِ
وقولُ عُمَيْرَةَ بنِ طَارِقٍ اليَرْبُوعِيِّ:
وإنْ أَكُ فِي نَجْدٍ - سَقَى اللهُ أَهْلَهُ = بِمَنَّانَةٍ مِنْهُ - فقَلْبِي على قُرْبِ
وقولُ الحُطَيْئَةِ العَبْسِيِّ:
أَلَمْ أَكُ جَارَكُمْ ويكونَ بينِي = وبَيْنَكُمُ المودَّةُ والإِخَاءُ
([17]) قدْ وَرَدَتْ عِدَّةُ أبياتٍ تَشْهَدُ لِمَا ذَهَبَ إليه يُونُسُ بنُ حَبِيبٍ مِن جوازِ حذفِ نونِ (يَكُنْ)، ولو كانَ بعدَها ساكنٌ، فمِن ذلكَ قولُ الحُسَيْلِ بنِ عُرْفُطَةَ:
لم يَكُ الحَقُّ سِوَى أنْ هَاجَهُ = رَسْمُ دَارٍ قَدْ تَعَفَّى بالسَّرَرْ
ومن ذلك قولُ الآخَرِ:
إذا لم تَكُ الحاجاتُ مِن هِمَّةِ الفَتَى = فليسَ بِمُغْنٍ عَنْكَ عَقْدُ الرَّتَائِمِ
([18])روَى هذا الحديثَ بهذه الألفاظِ الإمامُ مُسْلِمُ بنُ الحَجَّاجِ في بابِ ذكرِ ابنِ صَيَّادٍ مِن كتابِ الفِتَنِ وأشراطِ الساعةِ من صحيحِه، ورَوَاهُ الإمامُ الْبُخَارِيُّ في بابِ (كيفَ يُعْرَضُ الإسلامُ على الصبيِّ) مِن كتابِ الجهادِ من صحيحِه، ورَوَاهُ الإمامُ أحمدُ بنُ حَنْبَلٍ في مسنَدِهِ [رَقْم 636]بلفظِ: (إنْ يَكُنْ هو، وإنْ لا يَكُنْ هو).