45 - نَحْنُ الَّذُونَ صَبَّحُوا الصَّبَاحَا = يَوْمَ النُّخِيلِ غَارَةً مِلْحَاحَا
ولجمعِ المُؤَنَّثِ: (اللاَّتِي) و(اللاَّئِي)، وقد تُحْذَفُ يَاؤُهُما، وقَدْ يَتَقارَضُ الأُلَى واللاَّئِي، قالَ:
46 - مَحَا حُبُّها حُبَّ الأُلَى كُنَّ قَبْلَهَا
أي: حُبَّ اللاَّتِي، وقالَ:
47 - فَمَا آبَاؤُنَا بِأَمَنَّ مِنْهُ = عَلَيْنَا اللاَّءِ قَدْ مَهَدُوا الحُجُورَا
أي: الَّذِينَ.
([1]) سورة العنكبوت، الآية: 51.
([2]) سورة البقرة، الآية: 184.
([3]) سورة ص، الآية: 26.
([4]) سورة الأحزاب، الآية: 37.
([5]) سورة البقرة، الآية: 96.
([6]) سورة التوبة، الآية: 69.
ومِمَّا يَجِبُ أنْ تَعْلَمَه أنَّ (أَنَّ) المفتوحةَ الهمزةِ المُشَدَّدَةَ النونِ تُوصَلُ بجملةٍ اسمِيَّةٍ، وتُؤَوَّلُ معَ مَعْمُولَيْهَا بمصدرٍ، ثُمَّ إِنْ كانَ خبرُها مُشْتَقًّا نحوُ: (عَلِمْتُ أنَّ زَيْداً نائمٌ)، كانَ المصدرُ مِن لفظِه؛ أي: عَلِمْتُ قيامَ زيدٍ، وإنْ كانَ خبرُ (أنَّ) جامداً، نحوُ: (عَلِمْتُ أنَّ زَيداً أخُوكَ)، كانَ المصدرُ مِن لفظِ الكَوْنِ مُضافاً إلى اسمِها؛ أي: عَلِمْتُ كَوْنَ زَيْدٍ أخَاكَ، وإن كانَ خبرُها ظرفاً نحوُ: (عَلِمْتُ أنَّ زَيْداً عندَك) أو جَارًّا ومَجرُوراً نحوُ: (عَلِمْتُ أنَّ زَيْداً في الدارِ) كانَ المصدرُ لفظَ الاستقرارِ أو ما في معنَاهُ مُضَافاً إلى الاسمِ؛ أي: عَلِمْتُ استقرارَ زيدٍ في الدارِ، أو عندَك.
وأمَّا (أنْ) المفتوحةُ الهمزةِ الساكنةُ النونِ أصالةً، فتُوصَلُ بالجُمَلِ الفعلِيَّةِ، التي فِعْلُها مضارعٌ إجماعاً، نحوُ قولِه تعَالَى: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ}، والتي فعلُها ماضٍ نحوُ: (رَضِيتُ أَنْ صَاحَبْتُ زَيْداً)، والتي فِعْلُها أمرٌ نحوُ: (أَرْسَلْتُ إلى زيدٍ أَنِ اصنَعْ ما كَلَّفْتُكَ) على خلافٍ في الأخيرَيْنِ.
وأمَّا (ما) المصدريَّةُ، فتُوصَلُ بالجملةِ الاسمِيَّةِ نحوُ: (لا أَصْحَبُكَ مَا زَيْدٌ صَدِيقُكَ)، وبالجُمَلِ الفعليَّةِ التي فِعْلُها مُتَصَرِّفٌ غيرُ أمرٍ، نحوُ: (لا أَرْضَى عَنْكَ مَا صَاحَبْتَ زَيْداً).
وأمَّا (لو) فتُوصَلُ بالجملِ الفعليَّةِ بشرطِ أن يَكُونَ فِعْلُها مُتَصَرِّفاً غيرَ أَمْرٍ، نحوُ قولِه تعَالَى: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ}. وأمَّا مَجِيءُ (الذي) مَوصولاً حرفيًّا، فهو وجهٌ حكَاهُ أَبُو عَلِيٍّ الفَارِسِيُّ عَن يُونُسَ بنِ حَبِيبٍ، وقد مَثَّلُوا له بقولِه تعَالَى: {وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا}، وسَبَبُ ذلك عندَهم أنَّ (الذي) مُفردٌ، وما بعدَه جمعٌ، فلو كانَ مَوصُولاً اسمِيًّا لقيلَ: (كالذي خَاضَ)، أو لقيلَ: (كالذينَ خاضُوا)، وقد يُجَابُ عن ذلك بأحَدِ جوابَيْنِ:
الأوَّلُ: أنَّ (الذي) اسمٌ موصولٌ صِفَةٌ لموصوفٍ محذوفٍ، وتقديرُ الكلامِ: خُضْتُمْ خَوْضاً كالخَوْضِ الذي خَاضُوا، والعائدُ ضميرٌ محذوفٌ منصوبٌ بخاضُوا؛ أي: خَاضُوه.
والجوابُ الثانِي: أنَّ (الذي) اسمٌ موصولٌ للجميعِ، وأصلُه (الذين) فحُذِفَت النونُ، كما حُذِفَت في قولِ الأَشْهَبِ بنِ رُمَيْلَةَ:
وَإِنَّ الَّذِي حَانَتْ بِفَلْجٍ دِمَاؤُهُمْ = هُمُ القَوْمُ كُلُّ القَوْمِ يَا أُمَّ خَالِدِ
فإنَّ الكلامَ يَدُلُّ على أنَّه أرادَ: (وَإِنَّ الذِينَ حَانَتْ بفَلْجٍ دِمَاؤُهُمْ) فحَذَفَ النونَ، ونظيرُه قولُ الراجزِ:
يَا رَبَّ عَبْسٍ لاَ تُبَارِكْ فِي أَحَدْ = فِي قَائِمٍ مِنْهُمْ وَلاَ فِيمَنْ قَعَدْ
إِلاَّ الَّذِي قَامُوا بِأَطْرَافِ المَسَدْ = ...
فإنَّ الكلامَ يَدُلُّ على أنَّه أرادَ: (إلاَّ الذينَ قَامُوا)، والنونُ تُحْذَفُ مِن المُثَنَّى والجمعِ في الموصولاتِ كالشاهدَيْنِ 43و 44 الآتيَيْنِ لطُولِ الاسمِ الموصولِ بالصلَةِ والعائِدِ، وسيَأْتِي هذا الكلامُ مُوَضَّحاً.
([7]) سورة الزمر، الآية: 74.
([8]) سورة الأنبياء، الآية: 103.
([9]) سورة المجادلة، الآية: 1.
([10]) سورة البقرة، الآية: 142.
43 - هذا صدرُ بيتٍ مِن الكامِلِ، وهو للأخْطَلِ التَّغْلِبِيِّ النَّصْرَانِيِّ، واسمُه غِيَاثُ بنُ غَوْثٍ، مِن كَلِمَةٍ يَهْجُو فيها جَرِيراً، وعَجُزُه قولُه:
قَتَلاَ المُلُوكَ وَفَكَّكَا الأَغْلاَلاَ
اللغةُ: (بَنِي كُلَيْبٍ) أرادَ بهم قَوْمَ جَرِيرٍ، وأَبُوهُم كُلَيْبُ بنُ يَرْبُوعٍ، (عَمَّيَّ) مُثَنَّى عَمٍّ مُضافٌ إلى ياءِ المتكَلِّمِ، والعَمُّ أخُو الأبِ، وأرَادَ بعَمَّيْهِ أَبَا حَنَشٍ عُصْمَ بنَ النُّعْمَانِ، قَاتِلُ شُرَحْبِيلِ بنِ الحَارِثِ بن عُمَرَو آكِلِ المُرَارِ يَوْمَ الكِلابِ الأوَّلِ، ودَوْكَسَ بنَ الفَدَوْكَسِ، وقيلَ: عَمُّه الآخَرُ هو عَمْرُو بنُ كُلْثُومٍ التَّغْلِبِيُّ قاتِلُ عَمْرِو بنِ هِنْدٍ. (الأغلالُ) جمعُ غُلٍّ - بضَمِّ الغينِ المُعْجَمةِ، بزِنَةِ قُفْلٍ وأَقْفَالٍ - والغُلُّ: حديدةٌ تُجْعَلُ في عُنُقِ الأسيرِ. ونَسَبَ الشيخُ خَالِدٌ البيتَ الشاهِدَ إلى الفَرَزْدَقِ، وقالَ: (وعَمَّيَّ - بالتثنِيَةِ - هُمَا هُذَيْلُ بنُ هُبَيْرَةَ وهُذَيْلُ بن عُمَرَانَ الأصغَرُ). وهو كلامٌ خالٍ عَن التحقيقِ والرجوعِ إلى الروايَةِ.
المَعْنَى: يَفْتَخِرُ على جَرِيرٍ بأنَّ قومَه فوَارِسُ شُجْعَانٌ صناديدُ، وأنَّ منهم اللذَيْنِ قَتَلاَ مَلِكَيْنِ عظيمَيْنِ واستَنْقَذَا منهما الأُسَارَى.
الإعرابُ: (أَبَنِي) الهمزةُ حرفٌ لنداءِ القريبِ، بَنِي مُنَادَى منصوبٌ بالياءِ نيابةً عن الكسرةِ؛ لأنَّه مُلحَقٌ بجمعِ المُذَكَّرِ السالمِ، وبَنِي مضافٌ، و(كُلَيْبٍ) مضافٌ إليه. (إنَّ) حرفُ توكيدٍ ونصبٍ. (عَمَّيَّ) اسمُ إنَّ منصوبٌ بالياءِ المفتوحُ ما قبلَها تحقيقاً المكسورُ ما بعدَها تقديراً؛ لأنَّه مُثَنًّى، وياءُ المتكَلِّمِ المُدغَمَةُ في ياءِ التثنيةِ مضافٌ إليه. (اللَّذَا) خبرُ إنَّ. (قَتَلاَ) قَتَلَ فِعْلٌ ماضٍ، وألِفُ الاثنَيْنِ فاعلٌ. (المُلُوكَ) مفعولٌ به، والجملةُ لا مَحَلَّ لها صِلَةٌ. (وَفَكَّكَا) الواوُ عاطفةٌ، فَكَّكَ فِعْلٌ ماضٍ، وألِفُ الاثنَيْنِ فاعِلُه مبنيٌّ على السكونِ في مَحَلِّ رفعٍ. (الأَغْلالَ) مفعولٌ به، والألِفُ للإطلاقِ، والجملةُ لا مَحَلَّ لها عَطفٌ على جملةِ الصلَةِ.
الشاهدُ فيه: قولهُ: (اللَّذَا) حيثُ حذَفَ النونَ مِن مُثَنَّى الذي المرفوعِ، وقد عَرَفْتَ في إعرابِ البيتِ أنَّ قولَه: (اللَّذَا) خَبَرُ إِنَّ.
وإنَّما استجَازَ بَلْحَرْثِ بنُ كَعْبٍ أَجْمَعُونَ وبعضُ بنِي رَبِيعَةَ حَذْفَ نونِ (اللذانِ) وحذفَ نُونِ (اللتان)؛ لأنَّ الموصولَ لمَّا طالَ بالصلَةِ والعائدِ أرَادُوا تَقْصِيرَه؛ لكونِ الصلَةِ والموصولِ كالشيءِ الواحدِ. واعْلَمْ أنَّهُ لم يَرِدْ عنهم هذا الحذفُ في هاتَيْنِ الكلمتَيْنِ إلا في حالةِ الرفعِ، وقد وَرَدَ عن بعضِ العربِ حذفُ نونِ (الذينَ) جمعُ الذي في لُغَةِ مَن جَاءَ به بالياءِ، وفي لُغَةِ مَن جَاءَ به بالواوِ، فأمَّا الأوَّلُ فمِنه قولُ الشاعرِ في بعضِ تخرِيجَاتِه، وقد أَنْشَدْنَاه مِن قبلُ:
وَإِنَّ الَّذِي حَانَتْ بِفَلْجٍ دِمَاؤُهُمْ = هُمُ القَوْمُ كُلُّ القَوْمِ يَا أُمَّ خَالِدِ
وخَرَّجَ عليه بَعْضُ العلماءِ قولَ اللَّهِ تعالَى: {وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا}، فقَد زَعَمُوا أنَّ التقديرَ: وَخُضْتُمْ كالذينَ خَاضُوا، وأمَّا الثانِي فمِنه قولُ الشاعرِ:
نَحْنُ الَّذُو بِعُكَاظٍ طَيَّرُوا شَرَراً = مِنْ رُوسِ قَوْمِكَ ضَرْباً بِالمَصَاقِيلِ
قالُوا: أرَادَ: (نَحْنُ الَّذُونَ) على لُغَةِ مَن جاءَ به بالواوِ في حالِ الرفعِ - وستَأْتِي مَشْرُوحةً - فحذفَ النونَ تخفيفاً.
44 - هذا بيتٌ مِن الرَّجَزِ المَشْطُورِ، يُنْسَبُ إلى الأَخْطَلِ التَّغْلِبِيِّ صاحِبِ الشاهدِ السابِقِ، وبعدَه قولُه:
لَقِيلَ فَخْرٌ لَهُمْ صَمِيمُ
اللغةُ: (تَمِيمُ) اسمُ قبيلةٍ، وأَبُوها تَمِيمُ بنُ مُرِّ بنِ أَدِّ بنِ طَابِخَةَ، ويجُوزُ فيها التأنيثُ باعتبارِ القبيلَةِ والتذكيرُ باعتبارِ الأبِ. (فَخْرٌ) الفَخْرُ بفَتْحٍ فسكونٍ هنا، وقد تُحَرَّكُ خَاؤُه، ومِثْلُه الفَخَارُ والفَخَارَةُ - بفتحِ فائِهِما - هو التمَدُّحُ بالخِصَالِ، وأرَادَ هنا الشَّرَفَ وعَظِيمَ المنزلَةِ. (صَمِيمُ) خَالِصٌ لا شَائِنَةَ تَشُوبُه أَصْلاً.
المَعْنَى: يَمْدَحُ امرأتَيْنِ بأنَّه لو وَلَدَتْهُما تَمِيمٌ لكانَ لتَمِيمٍ بهذه الوِلادَةِ الفَخْرُ الذي لا يَشُوبُهُ شَيءٌ.
الإعرابُ: (هما) ضميرٌ مُنْفَصِلٌ مُبتدأٌ. (اللَّتَا) اسمٌ موصولٌ خبرُ المبتدأِ. (لَوْ) حَرفٌ شرطٍ غيرُ جازمٍ مبنيٌّ على السكونِ لا مَحَلَّ له مِن الإعرابِ. (وَلَدَتْ) وَلَدَ فِعْلٌ ماضٍ، والتاءُ دَالَّةٌ على تأنيثِ الفاعِلِ، (تَمِيمُ) فاعِلُ وَلَدَ مرفوعٌ بالضمَّةِ الظاهرةِ. (لَقِيلَ) اللامُ واقعةٌ في جوابِ لَوْ، قِيلَ: فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ للمجهولِ. (فَخْرٌ) خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ، وتقديرُ الكلامِ: هذا فَخْرٌ. (لَهُمْ) جارٌّ ومجرورٌ مُتَعَلِّقٌ بفَخْرٍ أو بمحذوفٍ صِفَةٍ له. (صَمِيمُ) صفةٌ لفَخْرٍ، ويَجُوزُ أن يَكُونَ قَوْلُه: (فَخْرٌ) مُبتدأً، والجارُّ والمجرورُ بعدَه مُتَعَلِّقاً بمحذوفٍ خبرٍ، والذي سَوَّغَ الابتداءَ به معَ كَوْنِه نكرةً شيئانِ:
أحدُهما: وَصْفُه بصميمٍ.
وثانيهُما: كَوْنُه في مَعْنَى الفِعْلِ، نَحْوُ: (سَلاَمٌ عَلَى آلِ يَاسِينَ)، ونحوُ: (عَجَبٌ لك)، وعلى أيَّةِ حَالٍ تَكُونُ جملةُ المبتدأِ وخبرِه في مَحَلِّ رفعٍ نَائِبُ فاعلٍ لقِيلَ، وجملةُ الشرطِ وجوابُه لا مَحَلَّ لها صلةُ الموصولِ.
الشاهدُ فيه: قولهُ: (اللَّتَا) حيثُ حَذَفَ النونَ مِن مُثَنَّى التي المرفوعِ، فقد عَرَفْتَ أنَّهُ خبرُ المبتدأِ الذي هو الضميرُ المُنْفَصِلِ، وقد أَخْبَرْنَاكَ في شَرْحِ الشاهِدِ السابقِ أنَّ هذا الحَذْفَ ممَّا يَجُوزُ في لُغَةِ بَلْحَرْثِ بنِ كَعْبٍ أَجْمَعِينَ وبعضِ بَنِي رَبِيعَةَ، وأنَّ الذي حَفِظَهُ العُلماءُ عنهم حذفُ النونِ مِن المُثَنَّى المرفوعِ، ولم يُحْفَظْ عنهم حذفُ النونِ مِن المُثَنَّى المنصوبِ والمَخْفُوضِ.
فإن قُلْتَ: فمَا عَسَى أنْ يَكُونَ السرُّ في تَجْوِيزِهم الحذفَ مِن المُثَنَّى في حالةِ الرفعِ دُونَ حالَتَيِ النصبِ والخفضِ؟
فالجوابُ عن ذلك أنْ نَقُولَ لك: إِنَّ امتناعَ التِبَاسِ المُثَنَّى بالمُفردِ في حالةِ الرفعِ قد أبَاحَت لهم الحذفَ، وإنَّ جَوَازَ التِبَاسِ المُفْرَدِ بالمُثَنَّى في حالَتَيِ النصبِ والجَرِّ هو الذي مَنَعَهُم مِن الحَذْفِ، ألا تَرَى أنَّكَ لو قُلْتَ: (إِنَّ الَّتِي لو وَلَدَتْ تَمِيمٌ لَكَانَ لتَمِيمٍ بذلك الفَخْرُ كُلَّ الفَخْرِ) لم يُدْرَ أَرَدْتَ المُفْرَدَ فلا حَذْفَ، أم أَرَدْتَ المُثَنَّى فحَذَفْتَ النونَ؟ ولهذا تَجِدُهم لم يَجِيئُوا في (ذَانِ) و(تَانِ) بحذفِ النونِ؛ لأنَّ حَذْفَها في حالِ الرفعِ يُوقِعُ في اللَّبْسِ فلا يُدْرَى أَمُثَنًّى أرَادَ المُتَكَلِّمُ أم مُفْرَداً.
فإن قُلْتَ: فكيفَ يُمْكِنُ الالتباسُ وقد عَلِمْنَا أنَّ صلةَ الموصولِ لا بُدَّ أن تَشْتَمِلَ على ضميرٍ يَرْبِطُ الموصولَ بالصلةِ، وهذا الضميرُ يَجِبُ أن يكُونَ مُطابقاً للموصولِ في إفرادِه وتثنِيَتِه وجَمْعِه، فأنا آمَنُ - بوجودِ هذا العائِدِ - مِن التباسِ المُفردِ بالمُثَنَّى؟
فالجوابُ عن هذا أن نَقُولَ لك: لقد حَفِظْتَ شَيْئاً وغَابَت عنك أَشْيَاءُ! فإنَّ هذا الضميرَ - وإن يَكُنْ مِمَّا لا بُدَّ منه - غَيْرُ واجبِ الذكرِ، بل قد يكُونُ مَذْكُوراً، وقد يكُونُ محذوفاً وهو مُرادٌ، فلو حُذِفَ هذا الضميرُ لالتبَسَ الكلامُ كما في المثالِ الذي ذَكَرْنَاه لك، ثُمَّ إِنَّ الصلةَ لا يَجِبُ أن تَكُونَ جُملةً يَظْهَرُ فيها الضميرُ أحياناً، بل قد تكُونُ الصلةُ ظَرْفاً نحوُ أن تَقُولَ: (إِنَّ الذي - أو التي - عندك مِن قَومٍ صَالحِينَ)، فلا يَدْرِي المُخاطَبُ أمُفرداً أَرَدْتَ أم جَمْعاً، فلَمَّا كانَ الالتباسُ حَادِثاً في كثيرٍ مِن صُوَرِ الكلامِ امتَنَعُوا مِن الحذفِ، فتَفَهَّمْ هذا القولَ، واللَّهُ يُرْشِدُكَ.
45 - هذا بيتٌ مِن الرَّجَزِ المشطورِ، وقد اختَلَفَت كَلِمَةُ العلماءِ في نِسْبَةِ هذا البيتِ إلى قائِلِه اختلافاً كثيراً، ونَسَبَهُ أبو زَيْدٍ (النَّوَادِرُ 47) إلى رجلٍ جَاهِلِيٍّ مِن بَنِي عَقِيلٍ سَمَّاهُ أَبَا حَرْبٍ الأعْلَمَ، ونَسَبَهُ الصَاغَانِيُّ في (العُبَابِ) إلى لَيْلَى الأَخْيَلِيَّةِ، ونَسَبَهُ جَمَاعةٌ إلى رُؤْبَةَ بنِ العَجَّاجِ، وهو غيرُ موجودٍ في ديوانِه.
وبعدَ الشاهدِ في روايةِ أَبِي زَيْدٍ:
نَحْنُ قَتَلْنَا المَلِكَ الجَحْجَاحَا = وَلَمْ نَدَعْ لِسَارِحٍ مُرَاحَا
إلاَّ دِيَاراً أَوْ دَماً مُفَاحَا = نَحْنُ بَنُو خُوَيْلِدٍ صُرَاحَا
لاَ كَذِبَ اليَوْمَ وَلاَ مِزَاحَا = ..
اللغةُ: (نَحْنُ الَّذُونَ) هكذا وَقَعَ في روايةِ النَّحْوِيِّينَ لهذا البيتِ، والذي روَاهُ الثقةُ أَبُو زَيْدٍ في (نَوَادِرِه) على الوَجْهِ المشهورِ في لغةِ عَامَّةِ العربِ: (نَحْنُ الَّذِينَ)، وقولُه: (صَبَّحُوا) معنَاه جَاؤُوا بعَدَدِهِم وعِدَدِهِم في وَقْتِ الصباحِ مُبَاغِتِينَ للعَدُوِّ، وعلى هذا يَجْرِي قولُ اللَّهِ تعَالَى: {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ}. (النُّخَيْلِ) - بضَمِّ النونِ وفتحِ الخاءِ - اسمُ مكانٍ بعَيْنِه. (غَارَةً) اسمٌ مِن الإغارةِ على العَدُوِّ. (مِلْحَاحَا) هو مأخوذٌ مِن قولِهِم: (أَلَحَّ المَطَرُ) إذا دَامَ، وأرادَ أنَّها غارةٌ شديدةٌ تَدُومُ طَوِيلاً. (مُفَاحاً) - بضَمِّ الميمِ - قد أُرِيقَ حتَّى يَسِيلَ. (صُرَاحَا) يُرِيدُ أنَّ نَسَبَهم إليه صريحٌ خالصٌ لا شُبْهَةَ فيه ولا ظِنَّةَ، وهو بزِنَةِ غُرَابٍ، وجعَلَهُ العَيْنِيُّ وتَبِعَهُ البَغْدَادِيُّ بكَسْرِ الصادِ جمعُ صريحٍ، مثلُ كريمٍ وكِرَامٍ.
الإعرابُ: (نحنُ) ضميرٌ منفصلٌ مبتدأٌ. (الَّذُونَ) اسمٌ موصولٌ خبرُه، (صَبَّحُوا) فعلٌ وفاعلٌ، والجملةُ لا مَحَلَّ لها صلةٌ. (الصَّبَاحَا يَوْمَ) ظرفانِ يَتَعَلَّقَانِ بقَوْلِه: (صَبَّحُوا) ويومَ مضافٌ، و(النُّخَيْلِ) مضافٌ إليه. (غَارَةً) مفعولٌ لأجلِه، ويَجُوزُ أن يَكُونَ حَالاً بتأويلِ المُشْتَقِّ؛ أي: مُغِيرِينَ، وقولُه: (مِلْحَاحَا) نَعتٌ لغَارَةٍ.
الشاهدُ فيه: قولهُ: (الَّذُونَ) حيثُ جاءَ به بالواوِ في حالةِ الرفعِ كما لو كانَ جمعَ مُذَكَّرٍ سَالِماً، وبعضُ العلماءِ قد اغتَرَّ بمجيءِ (الَّذُونَ) في حالةِ الرفعِ ومجيءِ (الَّذِينَ) في حالَتَيِ النصبِ والجَرِّ، فزَعَمَ أنَّ هذه الكَلِمَةَ مُعْرَبَةٌ وأنَّها جمعُ مُذَكَّرٍ سالمٌ حقيقةً، وذلك بمَعْزِلٍ عن الصوابِ، والصحيحُ أنَّه مَبْنِيٌّ جِيءَ به على صورةِ المُعربِ، والظاهرُ أنه مبنيٌّ على الواوِ والياءِ.
46 - هذا صدرُ بيتٍ من الطويلِ، وعَجُزُه قَوْلُه:
وَحَلَّتْ مَكَاناً لَمْ يَكُنْ حُلَّ مِنْ قَبْلُ
وقد نَسَبُوا هذا البيتَ إلى مَجْنُونِ لَيْلَى قَيْسِ بنِ ملوح= العامِرِيِّ، ولم أَجِدْهُ في ديوانِ شِعْرِه، ووَجَدْتُ صَاحِبَ (تَزْيِينِ الأَسْوَاقِ) (1/65) قد نَسَبَه إليه ثَالِثَ ثلاثةِ أَبْيَاتٍ، والبيتانِ اللذانِ قبلَه هما قولُه:
أَظُنُّ هَوَاهَا تَارِكِي بِمَضَلَّةٍ = مِنَ الأَرْضِ لاَ مَالٌ لَدَيَّ وَلاَ أَهْلُ
وَلاَ أَحَدٌ أُفْضِي إِلَيْهِ وَصِيَّتِي = وَلاَ صَاحِبٌ إِلاَّ المَطِيَّةُ وَالرَّحْلُ
اللغةُ: (مَحَا) تَقُولُ: مَحَوْتُ الكتابةَ أَمْحُوهَا مَحْواً - مِن بابِ نَصَرَ - إذ أَزَلْتَهَا. (الأُلَى كُنَّ قَبْلَها) أرَادَ النساءَ اللاتِي عَرَفَهُنَّ وأَحَبَّهُنَّ مِن قبلِ أن يَتَعَرَّفَ إلى لَيْلَى. (وَحَلَّتْ مَكَاناً – إلخ) أرَادَ أنَّ حُبَّهَا لم يَكْتَفِ بأن أَزَالَ كُلَّ أَثَرٍ في قَلْبِه لمَن كانَ قَبْلَها، بل زَادَ على ذلك أنْ حَلَّ مَكَاناً كانَ فَارِغاً مِن الهَوَى.
المَعْنَى: أرادَ أنَّ حُبَّ هذه المَرْأَةِ قد مَلَكَ عليه كُلَّ قَلْبِه، وأنَّه غَطَّى على كُلِّ حُبٍّ كانَ قَبْلَها، وأنَّه لم يَتْرُكْ له مُتَصَرَّفاً.
الإعرابُ: (مَحَا) فِعْلٌ ماضٍ. (حُبُّها) حُبُّ فاعلُ مَحَا، وحُبُّ مُضَافٌ وضميرُ الغائبةِ مُضافٌ إليه. (حُبَّ) مفعولٌ به، وحُبَّ مضافٌ، و(الأُلَى) اسمٌ موصولٌ مضافٌ إليه. (كُنَّ) كانَ فِعْلٌ ماضٍ ناقصٌ، ونونُ النسوةِ العائدُ على الأُلَى اسمُها. (قَبْلَها) قبلَ ظرفٌ مُتَعَلِّقٌ بمحذوفٍ خبرُ كانَ، وقبلَ مُضافٌ وضميرُ الغائبةِ العائدُ إلى المحبوبةِ مضافٌ إليه، وجُملةُ كَانَ واسمِه وخبرِه لا مَحَلَّ لها صلةُ الموصولِ. (وَحَلَّتْ) الواوُ عاطفةٌ، حَلَّ فِعْلٌ ماضٍ، والتاءُ علامةٌ على تأنيثِ الفاعلِ، والفاعلُ ضميرٌ مستترٌ فيه جوازاً تقديرُه هي. (مَكَاناً) مفعولٌ به لحَلَّ. (لَمْ) نافيةٌ جازمةٌ. (يَكُنْ) فعلٌ مضارعٌ ناقصٌ، واسمُه ضميرٌ مستترٌ فيه جوازاً تقديرُه هو يَعُودُ إلى المكانِ. (حُلَّ) فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ للمجهولِ، ونائبُ فاعلِه ضميرٌ مستترٌ فيه جوازاً تقديرُه هو يعودُ إلى اسمِ يَكُنْ، وجملةُ الفعلِ ونائبِ فاعِلِه في مَحَلِّ نصبٍ خَبَرُ يَكُنْ، وجملةُ يَكُنْ واسمِهِ وخَبَرِه في مَحَلِّ نصبٍ صِفَةٌ لمكانٍ. (مِنْ) حرفُ جَرٍّ. (قَبْلُ) ظرفُ زمانٍ مبنيٌّ على الضمِّ في مَحَلِّ جَرٍّ بمِن، والجارُّ والمجرورُ مُتَعَلِّقٌ بحُلَّ المبنيِّ للمجهولِ.
الشاهدُ فيه: قولهُ: (الأُلَى كُنَّ قَبْلَها) حيثُ استَعْمَلَ لَفْظَ (الأُلَى) في جماعةِ الإناثِ العاقِلاتِ، والدليلُ على ذلك شَيْئَانِ:
أَوَّلُهما: المَعْنَى؛ فإنَّه يُرِيدُ أنَّ حُبَّ هذه المَرْأَةِ قد أَزَالَ حُبَّ النساءِ الأُلَى كُنَّ قَبْلَها.
وثَانِيَتُهما: الضميرُ الموضوعُ لجماعةِ الإناثِ في قولِه: (كُنَّ قَبْلَها)؛ فإنَّه يَدُلُّ على ما ذَكَرْنَاهُ مِن أَنَّ المُرادَ بالأُلَى جَمَاعَةُ الإناثِ، ومثلُ هذا الشاهدِ قولُ الآخَرِ:
فَأَمَّا الأُولَى يَسْكُنَّ غَوْرَ تِهَامَةٍ = فَكُلُّ فَتَاةٍ تَتْرُكُ الحِجْلَ أَقْصَمَا
والأصلُ في (الأُولَى) أن يُسْتَعَمَلَ في جمعِ الذكورِ، نحوُ قولِ الشاعرِ:
رَأَيْتُ بَنِي عَمِّي الأُولَى يَخْذُلُونَنِي = عَلَى حَدَثَانِ الدَّهْرِ إِذْ يَتَقَلَّبُ
وسنَذْكُرُ له شاهداً آخَرَ - كما سنَذْكُرُ للمَمْدُودِ شوَاهِدَ - معَ شَرْحِ الشاهدِ التالِي.
47 - هذا البيتُ مِن الوافرِ، وهو لرجلٍ مِن بَنِي سُلَيْمٍ لم يُعَيِّنْهُ العلماءُ.
اللغةُ: (أَمَنَّ) أفعلُ تفضيلٍ مِن قولِهم: (مَنَّ عليه) إذا أَنْعَمَ عليه. (مَهَدُوا) - بفتحِ الهاءِ مُخَفَّفَةً - مِن قولِكَ: (مَهَدْتُ الفِرَاشَ مَهْداً) إذا بَسَطْتَه ووَطَّأْتَه وهَيَّأْتَه، ومِن هنا سُمِّيَ الفِرَاشُ مَهْداً لوَثَارَتِه وبَسْطِه، وقالَ اللَّهُ تعَالَى: {فَلأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ}؛ أي: يُوَطِّئُونَ، ومِن ذلك تَمْهِيدُ الأمورِ؛ أي: تَسْوِيتُها وإصلاحُها. (الحُجُورَ) جمعُ حِجْرٍ - بفتحِ الحاءِ أو كسرِها أو ضَمِّها - وهو حُضْنُ الإنسانِ، ويُقَالُ: (نَشَأَ فُلانٌ في حِجْرِ فُلانٍ) - بكسرِ الحاءِ أو فَتْحِها - يُرِيدُونَ في حِفْظِه وسِتْرِه ورِعَايَتِه.
المَعْنَى: ليسَ آباؤُنا - وهم الذين أَصْلَحُوا شَأْنَنَا ومَهَدُوا أَمْرَنا وجَعَلُوا حُجُورَهم لنا كالمَهْدِ - أَكْثَرَ نِعْمَةٍ علينا وفضلاً مِن هذا الممدوحِ.
الإعرابُ: (ما) نافيةٌ بمَعْنَى ليسَ. (آبَاؤُنا) آباءُ اسمُ ما، وآباءُ مُضافٌ والضميرُ مضافٌ إليه. (بأَمَنَّ) الباءُ زائدةٌ، وأَمَنَّ خبرُ ما. (منه عَلَيْنَا) كلاهما جارٌّ ومجرورٌ مُتَعلِّقٌ بأَمَنَّ، وقولُه: (اللاءِ) اسمٌ موصولٌ صفةٌ لآباءِ. (قَدْ) حرفُ تحقيقٍ. (مَهَدُوا) فعلٌ وفاعلٌ، والجملةُ لا مَحَلَّ لها صلةُ الموصولِ. (الحُجُورَا) مفعولٌ به لقولِه: مَهَدُوا، والألفُ للإطلاقِ.
الشاهدُ فيه: قولهُ: (اللاءِ) حيثُ أَطْلَقَه على جماعةِ الذكورِ العقلاءِ، فجاءَ به وَصْفاً لآباءٍ، وهو قليلٌ، وإنَّما يُطْلَقُ عليهم أَصَالَةً (الأُلَى) مَقصوراً أو ممدوداً، فمِن الأوَّلِ قولُ أَبِي ذُؤَيْبٍ الهُذَلِيِّ:
وَتُبْلِي الأُلَى يَسْتَلْئِمُونَ عَلَى الأُلَى = تَرَاهُنَّ يَوْمَ الرَّوْعِ كَالحِدَإِ القُبْلِ
والاستشهادُ هنا في قولِه: (يَسْتَلْئِمُونَ). ومِن الثانِي قولُ خَلَفِ بنِ حَازِمٍ:
إِلَى النَّفَرِ البِيضِ الأَلاَءِ كَأَنَّهُمْ = صَفَائِحُ يَوْمَ الرَّوْعِ أَخْلَصَهَا الصَّقْلُ