مطلب
: فِي مَعْنَى الْخَوْفِ وَمَرَاتِبِهِ
وَرَجِّحْ عَلَى الْخَوْفِ الرَّجَا عِنْدَ بَأْسِهِ وَلَاقِ بِحُسْنِ الظَّنِّ رَبَّك تسعد (وَرَجِّحْ) أَيْ غَلِّبْ وَمَيِّزْ , مِنْ رَجَحَ الْمِيزَانُ يَرْجَحُ مُثَلَّثَةٌ رُجُوحًا وَرُجْحَانًا مَالَ (عَلَى الْخَوْفِ) ضِدُّ الْأَمْنِ وَهُوَ فِي اللُّغَةِ الْفَزَعُ .
قَالَ الْإِمَامُ الْمُحَقِّقُ فِي شَرْحِ مَنَازِلِ السَّائِرِينَ: الْوَجَلُ وَالْخَوْفُ وَالْخَشْيَةُ وَالرَّهْبَةُ أَلْفَاظٌ مُتَقَارِبَةٌ غَيْرُ مُتَرَادِفَةٍ .
قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الْجُنَيْدُ رضي الله عنه: الْخَوْفُ تَوَقُّعُ الْعُقُوبَةِ عَلَى مَجَارِي الْأَنْفَاسِ .
وَقِيلَ الْخَوْفُ اضْطِرَابُ الْقَلْبِ وَحَرَكَتُهُ مِنْ تَذَكُّرِ الْمَخُوفِ .
وَقِيلَ الْخَوْفُ قُوَّةُ الْعِلْمِ بِمَجَارِي الْأَحْكَامِ .
قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: هَذَا سَبَبُ الْخَوْفِ لَا نَفْسُهُ .
وَقِيلَ الْخَوْفُ هَرَبُ الْقَلْبِ مِنْ حُلُولِ الْمَكْرُوهِ عِنْدَ اسْتِشْعَارِهِ .
وَفِي مَتْنِ مَنَازِلِ السَّائِرِينَ: الْخَوْفُ الِانْخِلَاعُ عَنْ طُمَأْنِينَةِ الْأَمْنِ بِمُطَالَعَةِ الْجَزَاءِ .
قَالَ الْمُحَقِّقُ: وَالْخَشْيَةُ أَخَصُّ مِنْ الْخَوْفِ فَإِنَّهَا لِلْعُلَمَاءِ بِاَللَّهِ .
قَالَ تَعَالَى {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء} فَهِيَ خَوْفٌ مَقْرُونٌ بِمَعْرِفَةٍ .
وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم " إنِّي أَتْقَاكُمْ لِلَّهِ وَأَشَدُّكُمْ لَهُ خَشْيَةً " فَالْخَوْفُ حَرَكَةٌ , وَالْخَشْيَةُ انجماع وَانْقِبَاضٌ وَسُكُونٌ .
فَإِنَّ الَّذِي يَرَى الْعَدُوَّ وَالسَّيْلَ وَنَحْوَ ذَلِكَ لَهُ حَالَتَانِ: إحْدَاهُمَا حَرَكَتُهُ لِلْهَرَبِ مِنْهُ وَهِيَ حَالَةُ الْخَوْفِ , وَالثَّانِيَةُ سُكُونُهُ وَقَرَارُهُ فِي مَكَانٍ لَا يَصِلُ إلَيْهِ وَهِيَ الْخَشْيَةُ .
قَالَ وَأَمَّا الرَّهْبَةُ فَهِيَ الْإِمْعَانُ فِي الْهَرَبِ مِنْ الْمَكْرُوهِ , وَهِيَ ضِدُّ الرَّغْبَةِ الَّتِي هِيَ سَفَرُ الْقَلْبِ فِي طَلَبِ الْمَرْغُوبِ فِيهِ .
وَبَيْنَ الرَّهَبِ وَالْهَرَبِ تَنَاسُبٌ فِي اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى يَجْمَعُهُمَا الِاشْتِقَاقُ الْأَوْسَطُ الَّذِي هُوَ عَقْدُ تَقَالِيبِ الْكَلِمَةِ عَلَى مَعْنًى جَامِعٍ .
وَأَمَّا الْوَجَلُ فَرَجَفَانُ الْقَلْبِ وَانْصِدَاعُهُ لِذِكْرِ مَنْ يَخَافُ سُلْطَانَهُ وَعُقُوبَتَهُ أَوْ لِرُؤْيَتِهِ .
وَأَمَّا الْهَيْبَةُ فَخَوْفٌ مُقَارِنٌ لِلتَّعْظِيمِ وَالْإِجْلَالِ وَأَكْثَرُهَا تَكُونُ مَعَ الْمَعْرِفَةِ وَالْمَحَبَّةِ .
وَالْإِجْلَالُ تَعْظِيمٌ مَقْرُونٌ بِالْحُبِّ .
فَالْخَوْفُ لِعَامَّةِ الْمُؤْمِنِينَ , وَالْخَشْيَةُ لِلْعُلَمَاءِ الْعَارِفِينَ , وَالْهَيْبَةُ لِلْمُحِبِّينَ , وَالْإِجْلَالُ لِلْمُقَرَّبِينَ , وَعَلَى قَدْرِ الْعِلْمِ يَكُونُ الْخَوْفُ وَالْخَشْيَةُ كَمَا قَالَ صلى الله عليه وسلم " إنِّي لَأَعْلَمُكُمْ بِاَللَّهِ وَأَشَدُّكُمْ لَهُ خَشْيَةً " وَقَالَ " لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا , وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا , وَلَمَا تَلَذَّذْتُمْ بِالنِّسَاءِ عَلَى الْفُرُشِ , وَلَخَرَجْتُمْ إلَى الصُّعُدَاتِ تَجْأَرُونَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى " انْتَهَى .
فَالْخَوْفُ سَوْطٌ يَسُوقُ الْمُتَمَادِيَ , وَيُقَوِّمُ الْأَعْوَجَ , وَيُلَيَّنُ الْقَاسِيَ , وَيُطَوِّعُ الْمُسْتَصْعِبَ .
وَلَيْسَ هُوَ مَقْصُودًا لِذَاتِهِ بِخِلَافِ الرَّجَاءِ , فَمِنْ ثَمَّ يَنْبَغِي أَنْ يُرَجَّحَ عَلَى الْخَوْفِ .
(الرَّجَا) بِالْمَدِّ وَقَصْرُهُ لِضَرُورَةِ الْوَزْنِ ضِدُّ الْيَأْسِ .
قَالَ فِي الْمَطَالِعِ وَالْجَمْهَرَةِ: فَعَلْت رَجَاءَ كَذَا وَرَجَاءَ كَذَا بِمَعْنَى طَمَعِي فِيهِ وَأَمَلِي .
قَالَ وَيَكُونُ أَيْضًا الرَّجَاءُ كَذَلِكَ مَمْدُودًا بِمَعْنَى الْخَوْفِ , وَمِنْهُ الْحَدِيثُ " إنَّا لَنَرْجُو وَنَخَافُ أَنْ نَلْقَى الْعَدُوَّ غَدًا " قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {مَّا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} أَيْ لَا تَخَافُونَ عَظَمَةً .
وَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ أَيْ يَخَافُ .
يُقَالُ فِي الْأَمَلِ رَجَوْت ورجيت , وَفِي الْخَوْفِ بِالْوَاوِ لَا غَيْرُ .
قَالَ بَعْضُهُمْ: إذَا اسْتَعْمَلَتْهُ الْعَرَبُ فِي الْخَوْفِ أَلْزَمَتْهُ لِأَحْرُفِ النَّفْيِ وَلَمْ تَسْتَعْمِلْهُ مُفْرَدًا إلَّا فِي الْأَمَلِ وَالطَّمَعِ وَفِي ضِمْنِهِ الْخَوْفُ , إلَّا أَنْ يَكُونَ مَا يُؤَمِّلُهُ .
قَالَ فِي الْمَطَالِعِ: وَهَذَا الْحَدِيثُ يَرُدُّ قَوْلَ هَذَا فَقَدْ اسْتَعْمَلَتْهُ بِغَيْرِ لَا .
انْتَهَى .
وَقَالَ الْإِمَامُ الْمُحَقِّقُ فِي شَرْحِ مَنَازِلِ السَّائِرِينَ: الْخَوْفُ مُسْتَلْزِمٌ لِلرَّجَاءِ , وَالرَّجَاءُ مُسْتَلْزِمٌ لِلْخَوْفِ , فَكُلُّ رَاجٍ خَائِفٌ , وَكُلُّ خَائِفٍ رَاجٍ , وَلِأَجْلِ هَذَا حَسُنَ وُقُوعُ الرَّجَاءِ فِي مَوْضِعٍ يَحْسُنُ فِيهِ وُقُوعُ الْخَوْفِ .
قَالَ تَعَالَى {مَّا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} قَالَ كَثِيرٌ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ: الْمَعْنَى مَا لَكُمْ لَا تَخَافُونَ لِلَّهِ عَظَمَةً .
قَالُوا: وَالرَّجَاءُ بِمَعْنَى الْخَوْفِ .
قَالَ: وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهُ مُلَازِمٌ لَهُ , فَكُلُّ رَاجٍ خَائِفٌ مِنْ فَوَاتِ مَرْجُوِّهِ , وَالْخَوْفُ بِلَا رَجَاءٍ يَأْسٌ وَقُنُوطٌ .
وَقَالَ تَعَالَى {قُل لِّلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُون أَيَّامَ اللَّهِ} قَالُوا فِي تَفْسِيرِهَا لَا يَخَافُونَ وَقَائِعَ اللَّهِ بِهِمْ كَوَقَائِعِهِ بِمَنْ قَبْلَهُمْ مِنْ الْأُمَمِ .
انْتَهَى .
وَاعْلَمْ أَنَّ الْعَبْدَ الْمُؤْمِنَ لَا بُدَّ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الرَّجَاءِ وَالْخَوْفِ , وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَا مُتَعَادِلَيْنِ كَجَنَاحَيْ الطَّائِرِ .
وَذَكَرَ جَمَاعَةٌ أَنَّهُ يُغَلَّبُ الْخَوْفُ مُطْلَقًا , وَقِيلَ يُغَلَّبُ الرَّجَاءُ مُطْلَقًا , وَقِيلَ يُغَلَّبُ الْخَوْفُ فِي الصِّحَّةِ وَالرَّجَاءُ فِي الْمَرَضِ , وَاخْتَارَهُ النَّاظِمُ وَإِلَيْهِ أَشَارَ بِقَوْلِهِ (عِنْدَ بَأْسِهِ) أَيْ سَقَمِهِ وَمَرَضِهِ .
وَالْبَأْسُ الْعَذَابُ وَالشِّدَّةُ فِي الْحَرْبِ .
وَبَئِسَ كَسَمِعَ بُؤْسًا اشْتَدَّتْ حَاجَتُهُ .
وَالْبَأْسَاءُ الدَّاهِيَةُ .
وَالْمُرَادُ هُنَا عِنْدَ ضَعْفِهِ .
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يُغَلِّبُ الشَّابُّ الرَّجَاءَ وَالشَّيْخُ الْخَوْفَ .
قَالَ فِي الْفُرُوعِ: وَيُغَلِّبُ يَعْنِي الْمَرِيضَ رَجَاءَهُ , وَفِي الصِّحَّةِ يُغَلِّبُ الْخَوْفَ لِحَمْلِهِ عَلَى الْعَمَلِ وِفَاقًا لِلشَّافِعِيَّةِ , وَقَالَهُ الفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ رضي الله عنه وَغَيْرُهُ .
وَنَصُّ الْإِمَامِ رضي الله عنه: يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يَكُونَ رَجَاؤُهُ وَخَوْفُهُ وَاحِدًا .
زَادَ فِي رِوَايَةٍ فَأَيُّهُمَا غَلَبَ صَاحِبَهُ هَلَكَ .
قَالَ شَيْخُنَا .
وَهَذَا هُوَ الْعَدْلُ , وَلِهَذَا مَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ حَالُ الْخَوْفِ أَوْقَعَهُ فِي نَوْعٍ مِنْ الْيَأْسِ وَالْقُنُوطِ , إمَّا فِي نَفْسِهِ , وَإِمَّا فِي أُمُورِ النَّاسِ , وَمَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ حَالُ الرَّجَاءِ بِلَا خَوْفٍ أَوْقَعَهُ فِي نَوْعٍ مِنْ الْأَمْنِ لِمَكْرِ اللَّهِ , إمَّا فِي نَفْسِهِ وَإِمَّا فِي النَّاسِ .
قَالَ: وَالرَّجَاءُ بِحَسَبِ رَحْمَةِ اللَّهِ الَّتِي سَبَقَتْ غَضَبَهُ يَجِبُ تَرْجِيحُهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى " أَنَا عِنْدَ حُسْنِ ظَنِّ عَبْدِي بِي فَلْيَظُنَّ بِي خَيْرًا " وَأَمَّا الْخَوْفُ فَيَكُونُ بِالنَّظَرِ إلَى تَفْرِيطِ الْعَبْدِ وَتَعَدِّيهِ , فَإِنَّ اللَّهَ عَدْلٌ لَا يَأْخُذُ إلَّا بِالذَّنْبِ , انْتَهَى كَلَامُهُ فِي الْفُرُوعِ .
مطلب
: فِي فَضَائِلِ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ
وَاعْلَمْ أَنَّ لِكُلٍّ مِنْ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ فَضَائِلَ جَمَّةً , وَرَدَتْ عَنْ نَبِيِّ الرَّحْمَةِ .
فَمِمَّا وَرَدَ عَنْهُ فِي فَضَائِلِ الْخَوْفِ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمْ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إلَّا ظِلُّهُ , الْإِمَامُ الْعَادِلُ , وَشَابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ , وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ بِالْمَسَاجِدِ , وَرَجُلَانِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ اجْتَمَعَا عَلَى ذَلِكَ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ , وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ فَقَالَ إنِّي أَخَافُ اللَّهَ , وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لَا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ , وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ " .
وَفِيهِمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَيْضًا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ " كَانَ رَجُلٌ يُسْرِفُ عَلَى نَفْسِهِ , لَمَّا حَضَرَهُ الْمَوْتُ قَالَ لِبَنِيهِ إذَا أَنَا مُتّ فَأَحْرِقُونِي ثُمَّ اطْحَنُونِي ثُمَّ ذروني فِي الرِّيحِ , وَاَللَّهِ لَئِنْ قَدَرَ اللَّهُ عَلَيَّ لَيُعَذِّبَنِّي عَذَابًا مَا عَذَّبَهُ أَحَدًا , فَلَمَّا مَاتَ فُعِلَ بِهِ ذَلِكَ , فَأَمَرَ اللَّهُ الْأَرْضَ فَقَالَ اجْمَعِي مَا فِيك فَفَعَلَتْ فَإِذَا هُوَ قَائِمٌ , فَقَالَ مَا حَمَلَك عَلَى مَا صَنَعْت؟ قَالَ خَشْيَتُك يَا رَبِّ أَوْ قَالَ مَخَافَتَك فَغَفَرَ لَهُ " .
وَفِي رِوَايَةٍ لَهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " قَالَ رَجُلٌ لَمْ يَعْمَلْ حَسَنَةً قَطُّ لِأَهْلِهِ: إذَا أَنَا مُتُّ فَحَرِّقُوهُ ثُمَّ ذُرُّوهُ نِصْفَهُ فِي الْبِرِّ وَنِصْفَهُ فِي الْبَحْرِ , فَوَاَللَّهِ لَئِنْ قَدَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ لِيُعَذِّبَهُ عَذَابًا لَا يُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنْ الْعَالَمِينَ .
فَلَمَّا مَاتَ الرَّجُلُ فَعَلُوا بِهِ مَا أَمَرَهُمْ , فَأَمَرَ اللَّهُ الْبَرَّ فَجَمَعَ مَا فِيهِ , وَأَمَرَ الْبَحْرَ أَنْ يَجْمَعَ مَا فِيهِ , ثُمَّ قَالَ لِمَ فَعَلْت هَذَا؟ قَالَ مِنْ خَشْيَتِك يَا رَبِّ وَأَنْتَ أَعْلَمُ , فَغَفَرَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ " .
وَفِي رِوَايَةٍ لَهُمَا عَنْ أَبِي سَعِيدٍ مَرْفُوعًا " أَنَّ رَجُلًا كَانَ قَبْلَكُمْ رغشه اللَّهُ مَالًا , فَقَالَ لِبَنِيهِ لَمَّا حُضِرَ أَيَّ أَبٍ كُنْت لَكُمْ؟ قَالُوا خَيْرَ أَبٍ , قَالَ إنِّي لَمْ أَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ , فَإِذَا مُتّ فَأَحْرِقُونِي ثُمَّ اسْحَقُونِي ثُمَّ ذروني فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ , فَفَعَلُوا , فَجَمَعَهُ اللَّهُ فَقَالَ مَا حَمَلَك؟ فَقَالَ مَخَافَتُك , فَتَلَقَّاهُ بِرَحْمَتِهِ " قَوْلُهُ رغشه بِفَتْحِ الرَّاءِ وَالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ بَعْدَهُمَا شِينٌ مُعْجَمَةٌ .
قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْنَاهُ أَكْثَرَ لَهُ مِنْهُ وَبَارَكَ لَهُ فِيهِ .
وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه مَرْفُوعًا " يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَخْرِجُوا مِنْ النَّارِ مَنْ ذَكَرَنِي يَوْمًا أَوْ خَافَنِي فِي مَقَامٍ " .
وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِيمَا يَرْوِي عَنْ رَبِّهِ جَلَّ وَعَلَا أَنَّهُ قَالَ " وَعِزَّتِي وَجَلَالِي لَا أَجْمَعُ عَلَى عَبْدِي خَوْفَيْنِ وَأَمْنَيْنَ , إذَا خَافَنِي فِي الدُّنْيَا أَمَّنْتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ , وَإِذَا أَمِنَنِي فِي الدُّنْيَا أَخَفْتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ " .
وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَيْضًا رضي الله عنه قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ " مَنْ خَافَ أَدْلَجَ , وَمَنْ أَدْلَجَ بَلَغَ الْمَنْزِلَ , أَلَا إنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ غَالِيَةٌ , أَلَا إنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ الْجَنَّةُ " قَوْلُهُ أَدْلَجَ بِسُكُونِ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ إذَا سَارَ مِنْ أَوَّلِ اللَّيْلِ .
وَمَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّ مَنْ خَافَ أَلْزَمَهُ الْخَوْفُ السُّلُوكَ إلَى الْآخِرَةِ , وَالْمُبَادَرَةَ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ , خَوْفًا مِنْ الْقَوَاطِعِ وَالْعَوَائِقِ .
وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِيُّ وَقَالَ الْحَاكِمُ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رضي الله عنه " أَنَّ فَتًى مِنْ الْأَنْصَارِ دَخَلَتْهُ خَشْيَةُ اللَّهِ فَكَانَ يَبْكِي عِنْدَ ذِكْرِ النَّارِ حَتَّى حَبَسَهُ ذَلِكَ فِي الْبَيْتِ , فَذُكِرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَجَاءَهُ فِي الْبَيْتِ , فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ اعْتَنَقَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَخَرَّ مَيِّتًا .
فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم جَهِّزُوا صَاحِبَكُمْ فَإِنَّ الْفَرَقَ فَلَذَ كَبِدَهُ " .
قَوْلُهُ فَإِنَّ الْفَرَقَ إلَخْ الْفَرَقُ بِفَتْحِ الْفَاءِ وَالرَّاءِ هُوَ الْخَوْفُ .
وَفَلَذَ كَبِدَهُ بِفَتْحِ الْفَاءِ وَاللَّامِ وَبِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ قَطَعَهُ .
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ " لَوْ يَعْلَمُ الْمُؤْمِنُ مَا عِنْدَ اللَّهِ مِنْ الْعُقُوبَةِ مَا طَمِعَ بِجَنَّتِهِ أَحَدٌ , وَلَوْ يَعْلَمُ الْكَافِرُ مَا عِنْدَ اللَّهِ مِنْ الرَّحْمَةِ مَا قَنِطَ مِنْ رَحْمَتِهِ أَحَدٌ " .
وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ وَقَالَ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ " لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا , وَلَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا , وَلَخَرَجْتُمْ إلَى الصُّعُدَاتِ تَجْأَرُونَ إلَى اللَّهِ لَا تَدْرُونَ تَنْجُونَ أَوْ لَا تَنْجُونَ " قَوْلُهُ تَجْأَرُونَ بِفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ فَوْقَ وَإِسْكَانِ الْجِيمِ بَعْدَهَا هَمْزَةٌ مَفْتُوحَةٌ أَيْ تَضِجُّونَ وَتَسْتَغِيثُونَ .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ " خَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خُطْبَةً مَا سَمِعْت مِثْلَهَا قَطُّ فَقَالَ لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا .
فَغَطَّى أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وُجُوهَهُمْ لَهُمْ خَنِينٌ " وَفِي رِوَايَةٍ " بَلَغَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ أَصْحَابِهِ شَيْءٌ فَخَطَبَ فَقَالَ عُرِضَتْ عَلَيَّ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ فَلَمْ أَرَ كَالْيَوْمِ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ , وَلَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا .
فَمَا أَتَى عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمٌ أَشَدَّ مِنْهُ غَطَّوْا رُؤْسَهُمْ وَلَهُمْ خَنِينٌ " قَوْلُهُ وَلَهُمْ خَنِينٌ هُوَ بِفَتْحِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ بَعْدَهَا نُونٌ الْبُكَاءُ مَعَ غُنَّةٍ بِاسْتِنْشَاقِ الصَّوْتِ مِنْ الْأَنْفِ .
مطلب
: فِي أَنَّ لِلْخَوْفِ أَسْبَابًا
وَأَنَّهُ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ قَالَ الْإِمَامُ الْحَافِظُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي تَبْصِرَتِهِ فِي قوله تعالى " وَخَافُونِ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ": الْخَوْفُ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ , وَهُوَ وَاقِعٌ بِأَسْبَابٍ .
فَمِنْهَا الْخَوْفُ بِسَابِقِ الذَّنْبِ , وَمِنْهَا حَذَرُ التَّقْصِيرِ فِي الْوَاجِبَاتِ , وَمِنْهَا الْخَوْفُ مِنْ السَّابِقَةِ أَنْ تَكُونَ عَلَى مَا يُكْرَهُ , وَمِنْهَا خَوْفُ الْإِجْلَالِ وَالتَّعْظِيمِ كَمَا قَالَ تَعَالَى {يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ
وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ
} وَمَنْ تَفَكَّرَ فِيمَا عَلَيْهِ فِي السَّابِقِ لَمْ يَزَلْ مُنْزَعِجًا خَائِفًا خَوْفًا لَا يَمْلِكُ رَدَّهُ .
وَاعْلَمْ أَنَّ الْخَوْفَ إذَا أَفْرَطَ قَتَلَ , وَالْمَحْمُودُ مِنْهُ الْمُتَوَسِّطُ وَهُوَ الَّذِي يَقْمَعُ الشَّهَوَاتِ , وَيُكَدِّرُ اللَّذَّاتِ , وَيَكُفُّ الْجَوَارِحَ عَنْ الْمَعَاصِي وَيُلْزِمُهَا الطَّاعَةَ .
وَقَدْ يَنْحُلُ الْبَدَنَ , وَيُذْهِبُ الْوَسَنَ , وَيَزِيدُ بِهِ الْبُكَاءُ , وَلِذَلِكَ قِيلَ: لَيْسَ الْخَائِفُ مَنْ بَكَى وَعَصَرَ عَيْنَيْهِ , وَإِنَّمَا الْخَائِفُ مَنْ تَرَكَ مَا يُعَذَّبُ عَلَيْهِ .
وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ فِي كِتَابِ الثَّوَابِ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ المطلب رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " إذَا اقْشَعَرَّ جِلْدُ الْعَبْدِ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ تَحَاتَّتْ عَنْهُ ذُنُوبُهُ كَمَا يَتَحَاتُّ عَنْ الشَّجَرَةِ الْيَابِسَةِ وَرَقُهَا " .
وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ وَقَالَ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ " لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم هَذِهِ الْآيَةَ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ
نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ
} تَلَاهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَوْمٍ عَلَى أَصْحَابِهِ , فَخَرَّ فَتًى مَغْشِيًّا عَلَيْهِ , فَوَضَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَدَهُ عَلَى فُؤَادِهِ فَإِذَا هُوَ يَتَحَرَّكُ , فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: يَا فَتَى قُلْ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ فَقَالَهَا فَبَشَّرَهُ بِالْجَنَّةِ .
فَقَالَ أَصْحَابُهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمِنْ بَيْنَنَا , فَقَالَ أَوْ مَا سَمِعْتُمْ قوله تعالى {لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ} " وَلِلْخَوْفِ مَنَاقِبُ وَمَآثِرُ كَثِيرَةٌ جِدًّا , وَهُوَ سَوْطٌ يَسُوقُ الْمُتَوَانِيَ , وَيُقَوِّمُ الْأَعْوَجَ , وَيَرُدُّ الشَّارِدَ , وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ .
مطلب
: فِي حُسْنِ الظَّنِّ فَهَذَا حَالُ السَّلَفِ رَجَاءٌ بِلَا إهْمَالٍ
, وَخَوْفٌ بِلَا قُنُوطٍ .
وَلَا بُدَّ مِنْ حُسْنِ الظَّنِّ بِاَللَّهِ تَعَالَى فَمِنْ ثَمَّ قَالَ النَّاظِمُ (وَلَاقِ) أَيُّهَا الْعَبْدُ الْمُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ (بِحُسْنِ الظَّنِّ) بِاَللَّهِ تَعَالَى (رَبَّك) جَلَّ شَأْنُهُ وَتَعَالَى سُلْطَانُهُ , فَإِنَّهُ عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِهِ بِهِ , فَإِنْ لَقِيته وَأَنْتَ حَسَنُ الظَّنِّ بِهِ (تسعد) السَّعَادَةَ الْأَبَدِيَّةَ , وَتَسْلَمْ السَّلَامَةَ السَّرْمَدِيَّةَ .
وَمَفْهُومُهُ أَنَّك إنْ لَمْ تُلَاقِيهِ بِحُسْنِ الظَّنِّ تَشْقَ شَقَاوَةَ الْأَبَدِ , وَتَعْطَبُ عَطَبًا مَا عطبه غَيْرُك أَنْتَ وَأَمْثَالُك , فَقَدْ قَالَ عليه الصلاة والسلام قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ " أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي وَأَنَا مَعَهُ حَيْثُ ذَكَرَنِي " الْحَدِيثُ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ .
وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ واِبْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم " مِنْ حُسْنِ الظَّنِّ الْعِبَادَةُ " وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالْحَاكِمُ بِلَفْظِ " إنَّ حُسْنَ الظَّنِّ بِاَللَّهِ مِنْ حُسْنِ عِبَادَةِ اللَّهِ " .
وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَبْلَ مَوْتِهِ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ يَقُولُ " لَا يَمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ إلَّا وَهُوَ يُحْسِنُ الظَّنَّ بِاَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ " .
وَأَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ واِبْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ حَيَّانَ أَبِي النَّضْرِ قَالَ خَرَجْت عَائِدًا لِيَزِيدَ بْنِ الْأَسْوَدِ فَلَقِيت وَاثِلَةَ بْنَ الْأَسْقَعِ وَهُوَ يُرِيدُ عِيَادَتَهُ , فَدَخَلْنَا عَلَيْهِ , فَلَمَّا رَأَى وَاثِلَةَ بَسَطَ يَدَهُ وَجَعَلَ يُشِيرُ إلَيْهِ , فَأَقْبَلَ وَاثِلَةُ حَتَّى جَلَسَ فَأَخَذَ يَزِيدُ بِكَفَّيْ وَاثِلَةَ فَجَعَلَهُمَا عَلَى وَجْهِهِ , فَقَالَ لَهُ وَاثِلَةُ كَيْفَ ظَنُّك بِاَللَّهِ؟ قَالَ ظَنِّي بِاَللَّهِ وَاَللَّهِ حَسَنٌ , قَالَ فَأَبْشِرْ فَإِنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ " قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي , إنْ ظَنَّ خَيْرًا فَلَهُ وَإِنْ ظَنَّ شَرًّا فَلَهُ " .
وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ " وَاَلَّذِي لَا إلَهَ غَيْرُهُ لَا يُحْسِنُ عَبْدٌ بِاَللَّهِ الظَّنَّ إلَّا أَعْطَاهُ ظَنَّهُ وَذَلِكَ بِأَنَّ الْخَيْرَ فِي يَدِهِ " .
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه مَرْفُوعًا " أَمَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِعَبْدٍ إلَى النَّارِ , فَلَمَّا وَقَفَ عَلَى شَفَتِهَا الْتَفَتَ فَقَالَ: أَمَا وَاَللَّهِ يَا رَبِّ إنْ كَانَ ظَنِّي بِك لَحَسَنٌ , فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ رُدُّوهُ أَنَا عِنْدَ حُسْنِ ظَنِّ عَبْدِي بِي " .
(تَنْبِيهَاتٌ: الْأَوَّلُ) رَوَى ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا عَنْ عَلِيِّ بْنِ بَكَّارٍ رحمه الله تعالى أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ حُسْنِ الظَّنِّ بِاَللَّهِ تَعَالَى قَالَ: أَنْ لَا تَجْمَعَك وَالْفُجَّارَ دَارٌ وَاحِدَةٌ .
وَدَعَا رَجُلٌ بِعَرَفَاتٍ فَقَالَ: لَا تُعَذِّبْنَا بِالنَّارِ بَعْدَ أَنْ أَسْكَنْت تَوْحِيدَك قُلُوبَنَا , ثُمَّ بَكَى وَقَالَ مَا إخَالُك تَفْعَلُ بِعَفْوِك , ثُمَّ بَكَى وَقَالَ وَلَئِنْ عَذَّبْتنَا بِذُنُوبِنَا لتجمعن بَيْنَنَا وَبَيْنَ أَقْوَامٍ طَالَ مَا عَادَيْنَاهُمْ فِيك .
وَقَالَ سَيِّدُنَا إبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ عليه الصلاة والسلام: اللَّهُمَّ لَا تُشْمِتْ مَنْ كَانَ يُشْرِكُ بِك بِمَنْ كَانَ لَا يُشْرِكُ بِك " .
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا عَنْ أَمِيرِ المؤمنين عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه أَنَّهُ كَانَ إذَا تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ {وَأَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ اللّهُ مَن يَمُوتُ} قَالَ: وَنَحْنُ نُقْسِمُ بِاَللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِنَا لَيَبْعَثَنَّ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ أَتُرَاك تَجْمَعُ بَيْنَ أَهْلِ الْقِسْمَيْنِ فِي دَارٍ وَاحِدَةٍ .
ثُمَّ بَكَى أَبُو حَفْصٍ الصَّيْرَفِيُّ بُكَاءً شَدِيدًا .
(الثَّانِي) ظَنَّ كَثِيرٌ مِنْ الْجُهَّالِ أَنَّ حُسْنَ الظَّنِّ بِاَللَّهِ وَالِاعْتِمَادَ عَلَى سَعَةِ عَفْوِهِ وَرَحْمَتِهِ مَعَ تَعْطِيلِ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي كَافٍ , وَهَذَا خَطَأٌ قَبِيحٌ وَجَهْلٌ فَضَيْحٌ , فَإِنَّ رَجَاءَك لِمَرْحَمَةِ مَنْ لَا تُطِيعُهُ مِنْ الْخِذْلَانِ وَالْحُمْقِ كَمَا قَالَهُ مَعْرُوفٌ رحمه الله وَرَضِيَ عَنْهُ .
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: مَنْ قَطَعَ عُضْوًا مِنْك فِي الدُّنْيَا بِسَرِقَةِ رُبْعِ دِينَارٍ لَا تَأْمَنْ أَنْ تَكُونَ عُقُوبَتُهُ فِي الْآخِرَةِ عَلَى نَحْوِ هَذَا .
وَلَمْ يُفَرِّقْ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ بَيْنَ الرَّجَاءِ وَالتَّمَنِّي .
وَالْفَرْقُ أَنَّ الرَّجَاءَ يَكُونُ مَعَ بَذْلِ الْجَهْدِ وَاسْتِفْرَاغِ الْوُسْعِ وَالطَّاقَةِ فِي الْإِتْيَانِ بِأَسْبَابِ الظَّفَرِ وَالْفَوْزِ .
وَالتَّمَنِّي حَدِيثُ النَّفْسِ بِحُصُولِ ذَلِكَ مَعَ تَعْطِيلِ الْأَسْبَابِ الْمُوَصِّلَةِ إلَيْهِ .
قَالَ تَعَالَى {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أُوْلَـئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللّهِ} فَطَوَى سُبْحَانَهُ بِسَاطَ الرَّجَاءِ إلَّا عَنْ هَؤُلَاءِ وَأَمْثَالِهِمْ .
قَالَ الْإِمَامُ الْمُحَقِّقُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي كِتَابِهِ الرُّوحُ الْكُبْرَى: الرَّجَاءُ لِعَبْدٍ قَدْ امْتَلَأَ قَلْبُهُ مِنْ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ , فَمَثُلَ بَيْنَ عَيْنَيْهِ مَا وَعَدَهُ اللَّهُ مِنْ كَرَامَتِهِ وَجَنَّتِهِ , فَامْتَدَّ الْقَلْبُ مَائِلًا إلَى ذَلِكَ شَوْقًا إلَيْهِ وَحِرْصًا عَلَيْهِ , فَهُوَ شَبِيهٌ بِالْمَادِّ عُنُقَهُ إلَى مَطْلُوبٍ قَدْ صَارَ نُصْبَ عَيْنَيْهِ .
قَالَ وَعَلَامَةُ الرَّجَاءِ الصَّحِيحِ أَنَّ الرَّاجِيَ لِخَوْفِ فَوْتِ الْجَنَّةِ وَذَهَابِ حَظِّهِ مِنْهَا يَتْرُكُ مَا يَخَافُ أَنْ يَحُولَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ دُخُولِهَا .
وَأَمَّا الْأَمَانِيُّ فَإِنَّهَا رُءُوسُ أَمْوَالِ الْمَفَالِيسِ , أَخْرَجُوهَا فِي قَالَبِ الرَّجَاءِ , وَتِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ , وَهِيَ تَصْدُرُ مِنْ قَلْبٍ تَزَاحَمَتْ عَلَيْهِ وَسَاوِسُ النَّفْسِ فَأَظْلَمَ مِنْ دُخَانِهَا , فَهُوَ يَسْتَعْمِلُ قَلْبَهُ فِي شَهَوَاتِهَا , وَكُلَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ مَنَّتْهُ حُسْنَ الْعَاقِبَةِ وَالنَّجَاةَ , وَأَحَالَتْهُ عَلَى الْعَفْوِ وَالْمَغْفِرَةِ , وَالْفَضْلِ , وَأَنَّ الْكَرِيمَ لَا يَسْتَوْفِي حَقَّهُ وَلَا تَضُرُّهُ الذُّنُوبُ وَلَا تُنْقِصُهُ الْمَغْفِرَةُ وَيُسَمِّي ذَلِكَ رَجَاءً , وَإِنَّمَا هُوَ وَسَاوِسُ وَأَمَانِيُّ بَاطِلَةٌ تَقْذِفُ بِهَا النَّفْسُ إلَى الْقَلْبِ الْجَاهِلِ فَيَسْتَرْوِحُ إلَيْهَا قَالَ تَعَالَى {لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا} فَإِذَا قَالَتْ لَك النَّفْسُ أَنَا فِي مَقَامِ الرَّجَاءِ فَطَالِبْهَا بِالْبُرْهَانِ , وَقُلْ هَذِهِ أُمْنِيَّةٌ فَهَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ . فَالْكَيِّسُ يَعْمَلُ أَعْمَالَ الْبِرِّ عَلَى الطَّمَعِ وَالرَّجَاءِ .وَالْأَحْمَقُ الْعَاجِزُ يُعَطِّلُ أَعْمَالَ الْبِرِّ وَيَتَّكِلُ عَلَى الْأَمَانِيِّ الَّتِي يُسَمِّيهَا رَجَاءً .
وَالْحَاصِلُ أَنَّ حُسْنَ الظَّنِّ وَالرَّجَاءِ إنْ حَمَلَ عَلَى الْعَمَلِ وَحَثَّ عَلَيْهِ وَسَاقَ إلَيْهِ فَهُوَ صَحِيحٌ وَنَافِعٌ , وَهُوَ مِنْ أَجَلِّ الْمَقَامَاتِ وَرُءُوسِ الْمُعَامَلَاتِ وَإِنْ دَعَا إلَى الْبَطَالَةِ وَالْتَوَانِي وَالِانْهِمَاكِ فِي الْمَعَاصِي وَالْأَمَانِيِّ وَالِانْكِبَابِ عَلَى الضَّلَالَةِ وَالْأَغَانِي فَهُوَ غُرُورٌ ضَارٌّ مُهْلِكٌ لِصَاحِبِهِ , وَقَاطِعٌ لَهُ عَنْ رَبِّهِ , وَقَامِعٌ لِهِمَّتِهِ عَنْ حُبِّهِ .
وَحُسْنُ الظَّنِّ هُوَ الرَّجَاءُ , فَمَنْ كَانَ رَجَاؤُهُ حَادِيًا لَهُ عَلَى الطَّاعَةِ زَاجِرًا لَهُ عَنْ الْمَعْصِيَةِ فَهُوَ رَجَاءٌ صَحِيحٌ , وَمَنْ كَانَتْ بَطَالَتُهُ رَجَاءً , وَرَجَاؤُهُ بِطَالَةً وَتَفْرِيطًا فَهُوَ الْمَغْرُورُ , وَاَللَّهُ وَلِيُّ الْأُمُورِ .
وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا لَهُ أَرْضٌ يُؤَمِّلُ أَنْ يَعُودَ عَلَيْهِ مِنْ مغلها مَا يَنْفَعُهُ , فَأَهْمَلَهَا بِلَا حَرْثٍ وَلَمْ يَبْذُرْهَا وَحَسُنَ ظَنُّهُ بِأَنَّهُ يَأْتِي مِنْ مغلها مِثْلُ مَا أَتَى مَنْ حَرَثَ وَبَذَرَ وَسَقَى وَتَعَاهَدَ الْأَرْضَ لَعَدَّهُ النَّاسُ مِنْ أَسْفَهِ السُّفَهَاءِ , وَكَذَا لَوْ حَسُنَ ظَنُّهُ وَقَوِيَ رَجَاؤُهُ أَنْ يَأْتِيَهُ وَلَدٌ مِنْ غَيْرِ جِمَاعٍ , أَوْ يَصِيرَ أَعْلَمَ زَمَانِهِ مِنْ غَيْرِ طَلَبٍ لِلْعِلْمِ , وَبَذْلِ مَجْهُودِهِ فِي تَحْصِيلِهِ وَتَقْيِيدِ شَوَارِدِهِ وَتَحْقِيقِ فَوَائِدِهِ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ , وَكَذَا مَنْ حَسُنَ ظَنُّهُ , وَقَوِيَ رَجَاؤُهُ فِي الْفَوْزِ بِالدَّرَجَاتِ الْعُلَى وَالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ , مِنْ غَيْرِ عَمَلٍ وَلَا طَاعَةٍ وَلَا امْتِثَالٍ لِمَا أَمَرَ تَعَالَى بِهِ وَاجْتِنَابِ مَا نَهَى عَنْهُ , فَإِنَّهُ يَكُونُ مِنْ أَسْفَهِ السُّفَهَاءِ وَيُعَدُّ مِنْ أَحْمَقِ الحمقاء .
وَمِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ مَنْ رَجَا شَيْئًا اسْتَلْزَمَ رَجَاؤُهُ أُمُورًا .
أَحَدُهَا مَحَبَّةُ مَا يَرْجُوهُ .
الثَّانِي خَوْفُهُ مِنْ فَوَاتِهِ .
الثَّالِثُ سَعْيُهُ فِي تَحْصِيلِهِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ .
وَأَمَّا رَجَاءٌ لَا يُقَارِنُهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ مِنْ بَابِ الْأَمَانِيِّ , وَالرَّجَاءُ شَيْءٌ وَالْأَمَانِيُّ شَيْءٌ فَكُلُّ رَاجٍ خَائِفٌ , وَالسَّائِرُ عَلَى الطَّرِيقِ إذَا خَافَ أَسْرَعَ مَخَافَةَ الْفَوَاتِ كَمَا ذَكَرَ الْمُصْطَفَى صلى الله عليه وسلم " مَنْ خَافَ أَدْلَجَ , وَمَنْ أَدْلَجَ بَلَغَ الْمَنْزِلَ " وَهُوَ جَلَّ شَأْنُهُ إنَّمَا جَعَلَ الرَّجَاءَ لِأَهْلِ الْأَعْمَالِ .
فَعُلِمَ أَنَّ الرَّجَاءَ إنَّمَا يَنْفَعُ إذَا حَثَّ صَاحِبَهُ عَلَى طَاعَةِ مَوْلَاهُ .
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ حَسُنَ ظَنُّهُ بِاَللَّهِ مَعَ انْهِمَاكِهِ فِي اللَّذَّاتِ وَانْكِبَابِهِ عَلَى الْمَعَاصِي وَالشُّبُهَاتِ وَإِعْرَاضِهِ عَنْ الْأَوَامِرِ وَالطَّاعَاتِ فَهُوَ مِنْ الْحُمْقِ عَلَى جَانِبٍ عَظِيمٍ , وَإِنَّمَا الَّذِي عَلَيْهِ أماني وَغُرُورٌ .
وَاَللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ , وَقَدْ ذَكَرْت فِي كِتَابِي الْبُحُورِ الزَّاخِرَةِ مِنْ ذَلِكَ طَرَفًا صَالِحًا فَإِنْ رَاجَعْته ظَفِرْت بِمُرَادِك وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
(الثَّالِثُ) الْفَرْقُ بَيْنَ الرَّجَاءِ وَالرَّغْبَةِ أَنَّ الرَّجَاءَ طَمَعٌ , وَالرَّغْبَةَ طَلَبٌ , فَهِيَ ثَمَرَةُ الرَّجَاءِ .
فَإِنَّهُ إذَا رَجَا الشَّيْءَ طَلَبَهُ , وَالرَّغْبَةُ مِنْ الرَّجَا كَالْهَرَبِ مِنْ الْخَوْفِ .
فَمَنْ رَجَا شَيْئًا طَلَبَهُ وَرَغِبَ فِيهِ , وَمَنْ خَافَ شَيْئًا هَرَبَ مِنْهُ .
قَالَ تَعَالَى {وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا} وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ , وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى سَيِّدِنَا وَمَوْلَانَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ (قَالَ الْمُؤَلِّفُ) رحمه الله تعالى وَنَفَعَنَا بِهِ آمِينَ: وَتُشْرَعُ لِلْمَرْضَى الْعِيَادَةُ فَأْتِهِمْ تَخُضْ رَحْمَةً تَغْمُرْ مَجَالِسَ عُوَّدِ (وَتُشْرَعُ) أَيْ: تُسَنُّ وَتُنْدَبُ كَمَا فِي الْمُنْتَهَى , وَالْإِقْنَاعِ (لِلْمَرْضَى): جَمْعُ مَرِيضٍ , وَهُوَ مَنْ اتَّصَفَ بِالْمَرَضِ , وَالْمَرَضُ حَالَةٌ خَارِجَةٌ عَنْ الطَّبْعِ ضَارَّةٌ بِالْفِعْلِ وَيُعْلَمُ مِنْ هَذَا أَنَّ الْآلَامَ , وَالْأَوْرَامَ أَعْرَاضٌ عَنْ الْمَرَضِ , وَقَالَ ابْنُ فَارِسٍ: الْمَرَضُ: كُلُّ مَا خَرَجَ بِهِ الْإِنْسَانُ عَنْ حَدِّ الصِّحَّةِ مِنْ عِلَّةٍ , أَوْ نِفَاقٍ أَوْ تَقْصِيرٍ فِي أَمْرٍ , وَالْفَاعِلُ مَرِيضٌ وَجَمْعُهُ مَرْضَى , وَفِي الْقَامُوسِ الْمَرَضُ: إظْلَامُ الطَّبِيعَةِ وَاضْطِرَابُهَا بَعْدَ صَفَائِهَا وَاعْتِدَالِهَا يُقَالُ: مَرِضَ كَفَرِحِ مَرَضًا وَمَرِضًا , فَهُوَ مَرِضٌ وَمَرِيضٌ ومارض , وَالْجَمْعُ مِرَاضٌ وَمَرْضَى وَمَرَاضَى , أَوْ الْمَرَضُ بِالْفَتْحِ لِلْقَلْبِ خَاصَّةً وَبِالتَّحْرِيكِ , أَوْ كِلَاهُمَا الشَّكُّ وَالنِّفَاقُ انْتَهَى (الْعِيَادَةُ) أَيْ: الزِّيَارَةُ وَالِافْتِقَادُ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: سُمِّيَتْ عِيَادَةً ; لِأَنَّ النَّاسَ يتكررون أَيْ يَرْجِعُونَ يُقَالُ: عُدْت الْمَرِيضَ عَوْدًا وَعِيَادَةً الْيَاءُ مُنْقَلِبَةٌ عَنْ وَاوٍ ذَكَرَهُ فِي الْمُطْلِعِ .
وَفِي الْإِقْنَاعِ عَنْ ابْنِ حِمْدَانَ عِيَادَةُ الْمَرِيضِ فَرْضُ كِفَايَةٍ .
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ رضي الله عنه: الَّذِي يَقْتَضِيه النَّصُّ وُجُوبَ ذَلِكَ وَاخْتَارَهُ جَمْعٌ , وَالْمُرَادُ مَرَّةٌ قَالَ: وَظَاهِرُهُ , وَلَوْ مِنْ وَجَعِ ضِرْسٍ وَرَمَدٍ وَدُمَّلٍ خِلَافًا لِأَبِي الْمَعَالِي بْنِ الْمُنَجَّا مِنْ أَئِمَّةِ الْمَذْهَبِ رحمه الله تعالى .
قَالَ فِي الْفُرُوعِ: يُسْتَحَبُّ ذِكْرُ الْمَوْتِ وَالِاسْتِعْدَادِ لَهُ , وَكَذَا عِيَادَةُ الْمَرِيضِ وِفَاقًا لِلْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ , وَقِيلَ: بَعْدَ أَيَّامٍ لِخَبَرٍ ضُعِّفَ , وَأَوْجَبَ أَبُو الْفَرَجِ وَبَعْضُ الْعُلَمَاءِ عِيَادَتَهُ , وَالْمُرَادُ مَرَّةً وَاخْتَارَهُ الْآجُرِّيُّ وَفِي أَوَاخِرِ الرِّعَايَةِ فَرْضُ كِفَايَةٍ كَوَجْهٍ فِي ابْتِدَاءِ السَّلَامِ ذَكَرَهُ شَيْخُنَا وَاخْتَارَهُ , وَقَالَ أَبُو حَفْصٍ الْعَكْبَرِيُّ: السُّنَّةُ مَرَّةً وَمَا زَادَ نَافِلَةٌ (فَأْتِهِمْ) أَيْ الْمَرْضَى يَعْنِي عُدْهُمْ (تَخُضْ) فِي حَالِ ذَهَابِك لِعِيَادَتِهِمْ وَإِيَابِك مِنْهَا (رَحْمَةً) أَيْ فِي رَحْمَةٍ مِنْ أَرْحَمِ الرَّاحِمِينَ (تَغْمُرُ) أَيْ تُغَطِّي لِكَثْرَتِهَا (مَجَالِسَ) جَمْعُ مَجْلِسٍ (عُوَّدِ) جَمْعُ عَائِدٍ يُشِيرُ إلَى مَا أَخْرَجَهُ الْإِمَامُ مَالِكٌ بَلَاغًا , وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ مُسْنَدًا , وَرُوَاتُهُ رُوَاةُ الصَّحِيحِ , وَالْبَزَّارُ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ عَادَ مَرِيضًا لَمْ يَزَلْ يَخُوضُ فِي الرَّحْمَةِ حَتَّى يَجْلِسَ فَإِذَا جَلَسَ اغْتَمَسَ فِيهَا وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ بِنَحْوِهِ , وَرُوَاتُهُ ثِقَاتٌ .