بسم الله الرحمن الرحيم
تلخيص التكليف الثالث (سورة الجن)
(١١)-(١٨)
المسائل التفسيرية:
المتكلم والمخاطَب في قوله تعالى : (وأنا منا الصالحون ومنا دون ذلك كنا طرائق قدداً):
المتكلم هم الجن مخبرين عن أنفسهم
والمخاطَب هم الجن أيضاً فقد خاطب بعض الجن أصحابهم يدعونهم إلى الإيمان.
معنى قوله تعالى : (وأنا منا الصالحون ومنا دون ذلك):
أي قبل استماع القرآن كان منا الموصوفون بالصلاح ومنا غير ذلك من الفساق والفجار والكفار.
الأقوال في معنى قوله (طرائق قدداً):
اختلف في المراد بذلك:
قيل : طرائق متعدّدةً مختلفةً وآراء متفرّقةً وأهواء متباينة. قاله ابن كثير والسعدي والأشقر.
وقال ابن عباس ومجاهد وغير واحد : أي منا المؤمن ومنا الكافر.
وقال سعيد: كانوا مسلمين ويهوداً ونصارى ومجوساً. قاله الأشقر.
]أثر الأعمش في تفسير هذه الآية:
وقال أحمد بن سليمان النّجاد في أماليه، حدّثنا أسلم بن سهلٍ بحشل، حدّثنا عليّ بن الحسن بن سليمان -هو أبو الشّعثاء الحضرميّ، شيخ مسلمٍ-حدّثنا أبو معاوية قال: سمعت الأعمش يقول: تروّح إلينا جنّيٌّ، فقلت له: ما أحبّ الطّعام إليكم؟ فقال الأرز. قال: فأتيناهم به، فجعلت أرى اللّقم ترفع ولا أرى أحدًا. فقلت: فيكم من هذه الأهواء الّتي فينا؟ قال: نعم. قلت: فما الرّافضة فيكم ؟ قال شرّنا. عرضت هذا الإسناد على شيخنا الحافظ أبي الحجّاج المزّي فقال: هذا إسنادٌ صحيحٌ إلى الأعمش.)
وقال أحدهم في بيان هذا المعنى :
سمعت بعض الجنّ وأنا في منزلٍ لي باللّيل ينشد:
قلوبٌ براها الحبّ حتى تعلّقت = مذاهبها في كلّ غرب وشارق
تهيم بحبّ اللّه، والله ربّها = معلّقةٌ باللّه دون الخلائق.
معنى قوله (ظننا) :
أي نعلم
]معنى قوله (لن نعجز الله ) :
أي لن نفوته
معنى قوله تعالى : (وأنا ظننا أن لن نعجز الله في الأرض ولن نعجزه هرباً):
أي: أننا نعلم كمال قدرة الله تعالى وكمال عجزنا وضعفنا وتبين لنا ذلك ، فلن نعجز الله تعالى في الأرض ولن نفوته إذا أراد بنا أمراً فإنه سيقع علينا وإن سعينا بأسباب الفرار والهرب فلن نفلت ، فلاملجأ من الله إلا إليه.
مناسبة هذا القول:
معرفتهم حق المعرفة أن الله محيط بهم قادر عليهم، وإيمانهم بذلك.
معنى قوله تعالى (الهدى):
هو القرآن الكريم.
سبب تسمية القرآن بالهدى :
لأنه هو الهادي إلى الصراط المستقيم وكان سبب إيمانهم وهدايتهم.
سماع القرآن سبب للهداية:
ولما كان سبب هداية الجن هو القرآن كان الأحرى بكل من سمع القرآن ووقر في قلبه أن يهتدي ويستقيم على طريق الحق والصواب ويكون القرآن سبباً في زيادة إيمانه وقوته.
معنى قوله تعالى : (آمنا به):
أي صدقنا أنه من عندالله ولم نكذب به كما كذبت كفرة الإنس.
معنى قوله تعالى : (فلايخاف بخساً ولارهقاً):
ذكروا في ذلك عدة معاني:
قال ابن عباس وقتادة وغيرهما: فلايخاف أن ينقص من حسناته أويحمل عليه غير سيئاته.
واستدل ابن كثير لذلك بقوله : (فلايخاف ظلماً ولاهضماً) وهذا من تفسير القرآن بالقرآن.
وقيل: البخس هو النقص والرهق هو العدوان والطغيان والأذى ذكرا ذلك السعدي والأشقر رحمهما الله.
الترغيب في الإيمان والحرص على زيادته :
الإيمان فخر لصاحبه كما قال تعالى مخبراً عن الجن قولهم : (وأنه لماسمعنا الهدى آمنا به ..) قالوها افتخاراً واعتزازاً.
والمؤمن لايخاف نقصاً في حسناته ولاأذى يلحقه وعدوان وطغيان، إذ الإيمان سبب لحصول كل خير وانتفاء كل شر.
من وسائل شكر النعمة:
التحدث بنعمة الله تعالى على صاحبها وأعظم النعم هي الإيمان بالله تعالى
]معنى قوله تعالى : (القاسط):
هو الجائر الظالم الذي حاد عن طريق الحق والصواب.
معنى قوله تعالى : (تحروا رشداً):
أي طلبوا لأنفسهم النجاة وقصدوا طريق الحق واجتهدوا بالبحث عنه.
بيان طريق السلامة والنجاة:
فقد بيّنت الآيات أن تحري الحق والبحث عنه يوصل إليه.
المراد بقوله تعالى :"فكانوا لجهنم حطباً":
أي وقوداً تسعّر بهم.
سبب استحقاقهم لهذه العقوبة:
جزاء أعمالهم ولم يظلمهم الله تعالى بل أنفسهم يظلمون.
سبب نزول قوله تعالى :"وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقاً"
قال مقاتل: نزلت في كفار قريش حين منعوا المطر سبع سنين.
مرجع الضمير في قوله تعالى : "استقاموا":
أي لواستقام القاسطون المائلون عن طريق الحق.
االمراد بالطريقة:
اختلف في المراد بها على أقوال:
قيل طريقة الإسلام قاله مجاهد ومحمد بن كعب والسدي وعطاء وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير.
قيل الطاعة قاله ابن عباس.
قيل الإيمان قاله قتادة
قيل طريقة الحق قاله مجاهد والضحاك
وقيل الطريقة المثلى ذكره ابن سعدي
وكل هذه الأقوال ترجع إلى معنى واحد وهوطريق الحق.
وقيل الطريقة هي الضلالة قاله أبي مجلز ورواه ابن جرير وابن أبي حاتم وحكاه البغوي عن الربيع بن أنس وزيد بن أسلم والكلبي وابن كيسان واستدل لهذا القول بقوله تعالى : (لنفتنهم فيه) والفتنة تكون بالضلالة.
الأقوال في المراد بقوله (غدقاً) :
اختلف فيه:
قيل : كثيراً ذكره ابن كثير والأشقر
وقيل: هنيئاًمريئاً ذكره ابن سعدي
ويراد به سعة الرزق.
الأقوال في المراد بقوله تعالى : "وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقاً * لنفتنهم فيه ":
اختلف المفسرون فيها على قولين:
الأول: وأن لواستقام القاسطون على طريقة الإسلام وعدلوا إليها واستمروا عليها لوسع الله عليهم في الرزق ومن ذلك قوله تعالى : (ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم) وقوله (ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض) ومعنى لنفتنهم هنا: لنختبرهم ولنبتليهم فالفتنة هنا اختبار وابتلاء لمن يستمر على الهداية ممن يرتد إلى الغواية وهوقول ابن عباس وأكثر السلف واختيار ابن سعدي والأشقر.
الثاني: وأن لو استقاموا على طريقة الضلالة لأوسعنا عليهم الرزق استدراجاً ومن ذلك قوله (فلما نسوا ماذكّروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بماأوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون) وقوله (أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات بل لايشعرون) وهوقول أبي مجلز ورواه ابن جرير وحكاه البغوي عن الربيع بن أنس وزيد بن أسلم والكلبي وابن كيسان والمراد بالفتنة هنا الابتلاء والاختبار بسعة الرزق استدراجاً وإمهالاً.
سبب فتنتهم وابتلائهم:
ليعرف من يثبت على الحق ويستمر عليه ومن يرتد إلى طريق الضلالة .
المراد بالذكر في قوله تعالى :"ومن يعرض عن ذكر ربه":
قيل: كتاب الله تعالى وهو القرآن. ذكره ابن كثير والسعدي والأشقر.
وقيل: الموعظة ذكره الأشقر.
المراد بالإعراض الذي يستحق صاحبه العذاب:
هو عدم الاتباع والانقياد للذكر بل الغفلة واللهو عنه.
المراد بقوله تعالى : "يسلكه عذاباً صعداً":
اختلف في ذلك :
قيل : عذاباً شاقاً شديداًموجعاً مؤلماً.قاله ابن كثيروالسعدي والأشقر.
وقيل: مشقة لاراحة معها قاله ابن عباس ومجاهد وعكرمة وقتادة وابن زيد.
وقيل: جبل في جهنم. قاله ابن عباس.
وقيل: بئر فيها. قاله سعيد بن جبير.
عقوبة الإعراض عن ذكر الله تعالى:
هو العذاب الشديد الشاق المؤلم في قوله تعالى : (ومن يعرض عن ذكر ربه يسلكه عذاباً صعداً).
سبب نزول قوله ( وأن المساجد لله فلاتدعوا مع الله أحدا):
ذكر ابن كثير عدة أسباب لنزول هذه الآية:
الأول: كانت اليهود والنصارى إذا دخلوا كنائسهم وبيعهم أشركوا بالله فأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يوحدوا وحده.
الثاني: قال ابن عباس : لم يكن يوم نزلت هذه الآية في الأرض مسجد إلاالمسجد الحرام ومسجد إيليا: بيت المقدس.
الثالث: قال سعيد بن جبير: نزلت في أعضاء السجود وذكروا عند هذا القول حديث : "أمرت أن أسجد على سبعة أعظم:على الجبهة-أشار بيديه إلى أنفه-واليدين والركبتين وأطراف القدمين".
الرابع: قال سعيد: قالت الجن : كيف لنا أن نأتي المساجد ونشهد معك الصلاة ونحن ناؤون عنك؟ فنزلت ذكره ابن كثير والأشقر.
الخامس: قالت الجنّ: يا رسول اللّه، ائذن لنا نشهد معك الصّلوات في مسجدك. فأنزل اللّه: {وأنّ المساجد للّه فلا تدعوا مع اللّه أحدًا} يقول: صلّوا، لا تخالطوا النّاس.
السادس: عن عكرمة: نزلت في المساجد كلّها.
المراد بالمساجد :
اختلف في ذلك :
قيل : المساجد كل البقاع لأن الأرض كلها مسجد ذكره ابن كثير والأشقر.
وقيل: أعضاء السجود ذكره ابن كثير.
وقيل المساجد المعروفة التي هي بيوت الصلوات.
معنى قوله تعالى : "فلاتدعوا مع الله أحداً":
أي لايدعى مع الله تعالى ولايشرك به فلادعاء عبادة ولادعاء مسألة فيها ، إذ لايطلب العون فيما لايقدر عليه إلا الله من أحد من الخلق كائناً من كان لأن الدعاء عبادة فلايصرف إلا لله وحده.
فوائد سلوكية:
أثر الإيمان في القلوب:
أن الإيمان سبب داع إلى حصول كل خير وانتفاء كل شر ثم إنه يهدي ويرشد إلى الطريق المستقيم.
ويجعل صاحبه محباً لغيره ما أحبه لنفسه فهو يدعو غيره لسلوك الطريق المستقيم ولحصول النجاة مثل ماحصل عليها.
طريق الوصول إلى الحق:
أن البحث عنه والتحري مع صدق الطلب والالتجاء إلى الله تعالى يوصل إلى طريق الهدى والرشاد.
من الأدب مع المنعم التحدث بنعمته :
فالإيمان من أعظم النعم ومن شكر الله تعالى التحدث بها والفخر والاعتزاز.
فوائد عقدية:
أهمية التوحيد وإخلاص العبادة لله:
فالدعاء من العبادة والعبادة لاتتم إلا بالتوحيد والبعد عن الشرك فلايدعى مع الله تعالى غيره.
استواء الجن والإنس في التكليف والجزاء :
فالله تعالى أرسل رسوله وأنزل كتابه للثقلين فهو ليس للإنس فقط بل الجن كذلك بدليل استواء الجزاء لهم.
فائدة شعرية:
عند بيان المراد بقوله تعالى : (طرائق قدداً).
ذكر الحافظ ابن عساكر في ترجمة العبّاس بن أحمد الدّمشقيّ قال سمعت بعض الجنّ وأنا في منزلٍ لي باللّيل ينشد:
قلوبٌ براها الحبّ حتى تعلّقت = مذاهبها في كلّ غرب وشارق
تهيم بحبّ اللّه، والله ربّها = معلّقةٌ باللّه دون الخلائق.
هذا والله أعلم فماكان فيه من صواب فمن الله وماكان فيه من خطأ فمن نفسي والشيطان والحمدلله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.