تفسير قوله تعالى: {إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (1) وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ (2) وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ (3) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5) يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ (8)}
فضائل السورة
ققال النّسائيّ: أخبرنا محمّد بن قدامة، حدّثنا جريرٌ، عن الأعمش، عن محارب بن دثارٍ، عن جابرٍ قال: قام معاذٌ فصلّى العشاء الآخرة فطوّل فقال النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: ((أفتّانٌ يا معاذ؟ أفتّانٌ يا معاذ؟ أين كنت عن: {سبّح اسم ربّك الأعلى}، و {الضّحى}، و{إذا السّماء انفطرت}؟)).
وأصل الحديث مخرّجٌ في الصّحيحين، ولكنّ ذكر {إذا السّماء انفطرت} من أفراد النّسائيّ، وتقدّم من رواية عبد اللّه بن عمر، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال: ((من سرّه أن ينظر إلى القيامة رأي عينٍ فليقرأ: {إذا الشّمس كوّرت}، و{إذا السّماء انفطرت}، و{إذا السّماء انشقّت})) ). كما ذكره ابن كثير.
أسباب النزول:
قوله:{ما غرّك بربّك الكريم}
حكى البغويّ عن الكلبيّ ومقاتلٍ أنّهما قالا: نزلت هذه الآية في الأخنس بن شريقٍ ضرب النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم ولم يعاقب في الحالة الرّاهنة؛ فأنزل اللّه: {ما غرّك بربّك الكريم}). كما ذكره ابن كثير.
تفسير قوله تعالى: (إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (1) )
-معنى انفطرت ،مع التنظير لها من القرآن.
أي: انشقّت لِنُزُولِ الْمَلائِكَةِ مِنْهَا، كما قال: {السّماء منفطرٌ به} . كماذ كره السعدي وابن كثير والأشقر في تفاسيرهم.
تفسير قوله تعالى: (وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ (2) )
معنى الآية.
أي: تساقطت النجوم مُتَفَرِّقَةً،وزالَ جمالُهَا.كماذ كره السعدي وابن كثير والأشقر في تفاسيرهم.
تفسير قوله تعالى: (وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ (3) )
الأقوال في معنى تفجير البحار يوم القيامة.
1-قال عليّ بن أبي طلحة عن ابن عبّاسٍ: فجّر اللّه بعضها في بعضٍ ،فصارتْ بحراً واحداً، وَاخْتَلَطَ العَذْبُ مِنْهَا بالمالحِ، وَهَذِهِ الأَشْيَاءُ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي السُّورَةِ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ .كما ذكره ابن كثير والسعدي والأشقر.
2-وقال الحسن: فجّر اللّه بعضها في بعضٍ، فذهب ماؤها.كما ذكره ابن كثير.
3-وقال قتادة: اختلط مالحها بعذبها.كما ذكره ابن كثير.
4-وقال الكلبيّ: ملئت.كما ذكره ابن كثير.
تفسير قوله تعالى: (وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4) )
الأقوال في بعثرت .
1-قال ابن عبّاسٍ: بحثت. كما ذكره ابن كثير.
2-وقال السّدّيّ: تبعثر: تحرّك فيخرج من فيها كما ذكره ابن كثير وزاد السعدي والأشقر أخرجت من فيها من الأمواتِ ، وحشرُوا للموقفِ بينَ يديِ اللهِ للجزاءِ على الأعمالِ..
تفسير قوله تعالى: (عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5) )
- معنى الآية مع التمثيل.
عَلِمَتْ عِنْدَ نَشْرِ الصُّحُفِ مَا قَدَّمَتْ منْ عَمَلِ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ،وَمَا أَخَّرَتْ مِنْ سُنَّةٍ حَسَنَةٍ أَوْ سَيِّئَةٍ،فحينئذٍ ينكشفُ الغطاءُ، ويزولُ ما كانَ خفيّاً، وتعلمُ كلُّ نفسٍ ما معهَا منَ الأرباحِ والخسرانِ، هنالكَ يعضُّ الظالمُ على يديهِ إذا رأى أعمالهُ باطلةً، وميزانهُ قدْ خفَّ، والمظالمُ قدْ تداعتْ إليهِ، والسيئاتُ قدْ حضرتْ لديهِ، وأيقنَ بالشقاءِ الأبديِّ والعذابِ السرمديِّ.
ويفوزُ المتقونَ، المقدِّمونَ لصالحِ الأعمالِ بالفوزِ العظيمِ، والنعيمِ المقيمِ، والسلامةِ منْ عذابِ الجحيمِ. كماذكره السعدي والأشقر.
تفسير قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) )
- الغرض من الاستفهام في الآية.
هذا تهديدٌ ، أَيْ: مَا الَّذِي غَرَّكَ وَخَدَعَكَ حَتَّى كَفَرْتَ بِرَبِّكَ الكريمِ الَّذِي تَفَضَّلَ عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا بإكمالِ خَلْقِكَ وَحَوَاسِّكَ، وَجَعَلَكَ عَاقِلاً فَاهِماً وَرَزَقَكَ وَأَنْعَمَ عَلَيْكَ بِنِعَمِهِ الَّتِي لا تَقْدِرُ عَلَى جَحْدِ شَيْءٍ مِنْهَ. كماذكره ابن كثير والأشقر.
- الأقوال في معنى (غرك)في الآية.
1- أنّه إرشادٌ إلى الجواب حيث قال: {الكريم}. حتّى يقول قائلهم: غرّه كرمه، بل المعنى في هذه الآية: ما غرّك يابن آدم بربّك الكريم، أي: العظيم، حتّى أقدمت على معصيته وقابلته بما لا يليق؟! كما جاء في الحديث: ((يقول اللّه تعالى يوم القيامة: ابن آدم ما غرّك بي؟ ماذا أجبت المرسلين؟)). قال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبي، حدّثنا ابن أبي عمر، حدّثنا سفيان، سمع عمر رجلاً يقرأ: {يا أيّها الإنسان ما غرّك بربّك الكريم}. فقال عمر: الجهل.
وقال أيضاً: حدّثنا عمر بن شبّة، حدّثنا أبو خلفٍ، حدّثنا يحيى البكّاء، سمعت ابن عمر يقول وقرأ هذه الآية: {يا أيّها الإنسان ما غرّك بربّك الكريم}. قال ابن عمر: غرّه -واللّه- جهله.
2-قال: وروي عن ابن عبّاسٍ والرّبيع بن خثيمٍ والحسن مثل ذلك، وقال قتادة: {ما غرّك بربّك الكريم}: شيءٌ ما غرّ ابن آدم، وهذا العدوّ الشّيطان. وقال الفضيل بن عياضٍ: لو قال لي ما غرّك بي؟ لقلت: ستورك المرخاة.
وقال أبو بكرٍ الورّاق: لو قال لي: ما غرّك بربّك الكريم؟ لقلت: غرّني كرم الكريم.كما ذكره ابن كثير.
لما خص اسم الكريم دون سائر الأسماء؟
وقال بعض أهل الإشارة: إنّما قال: {بربّك الكريم}. دون سائر أسمائه وصفاته، كأنّه لقّنه الإجابة. وهذا الّذي تخيّله هذا القائل ليس بطائلٍ؛ لأنّه إنّما أتى باسمه {الكريم}؛ لينبّه على أنّه لا ينبغي أن يقابل الكريم بالأفعال القبيحة وأعمال السّوء.كما ذكره ابن كثير.
3-قِيلَ: غَرَّهُ عَفْوُ اللَّهِ إِذْ لَمْ يُعَاجِلْهُ بِالْعُقُوبَةِ أَوَّلَ مَرَّةٍ. كما ذكره الأشقر.
-ما الذي يحمل الإنسان على التقصير في حق الله؟
التهاون في الحقوق، احتقاراً لعذابهِ، عدمَ الإيمانٍ بجزائهِ. كما ذكره السعدي.
تفسير قوله تعالى: (الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) )
-معنى الآية مجملا ومفصلا مع الاستدلال.
مجملا:
أي: جعلك سويًّا مستقيماً معتدل القامة منتصبها في أحسن الهيئات والأشكال.
قال الإمام أحمد: حدّثنا أبو المغيرة، حدّثنا حريزٌ، حدّثني عبد الرّحمن بن ميسرة، عن جبير بن نفيرٍ، عن بسر بن جحاشٍ القرشيّ أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بصق يوماً في كفّه فوضع عليها أصبعه ثمّ قال: ((قال اللّه عزّ وجلّ: ابن آدم أنّى تعجزني وقد خلقتك من مثل هذه، حتّى إذا سوّيتك وعدلتك مشيت بين بردين، وللأرض منك وئيدٌ، فجمعت ومنعت، حتّى إذا بلغت التّراقي قلت: أتصدّق وأنّى أوان الصّدقة)). وكذا رواه ابن ماجه عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن يزيد بن هارون، عن حريز بن عثمان به، قال شيخنا الحافظ أبو الحجّاج المزّيّ، وتابعه يحيى بن حمزة، عن ثور بن يزيد، عن عبد الرّحمن بن ميسرة). كما ذكره ابن كثير.
مفصلا:
{الَّذِي خَلَقَكَ} مِنْ نُطْفَةٍ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً،
{فَسَوَّاكَ} رَجُلاً تَسْمَعُ وَتُبْصِرُ وَتَعْقِلُ،
{فَعَدَلَكَ}: جَعَلَكَ مُعْتَدِلاً قَائِماً حَسَنَ الصُّورَةِ، وَجَعَلَ أَعْضَاءَكَ مُتَعَادِلَةً لا تَفَاوُتَ فِيهَا). كما ذكره الأشقر.
تفسير قوله تعالى: (فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ (8) )
- الأقوال في الآية.
1-قال مجاهدٌ: في أيّ شبه أبٍ أو أمٍّ أو خالٍ أو عمٍّ.
2- وقال ابن جريرٍ: حدّثني محمّد بن سنانٍ القزّاز، حدّثنا مطهّر بن الهيثم، حدّثنا موسى بن عليّ بن رباحٍ، حدّثني أبي عن جدّي: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال له: ((ما ولد لك؟)) قال: يا رسول اللّه ما عسى أن يولد لي! إمّا غلامٌ وإمّا جاريةٌ. قال: ((فمن يشبه؟)) قال: يا رسول اللّه من عسى أن يشبه؟ إمّا أباه وإمّا أمّه. فقال النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم عندها: ((مه، لا تقولنّ هكذا إنّ، النّطفة إذا استقرّت في الرّحم أحضرها اللّه تعالى كلّ نسبٍ بينها وبين آدم، أما قرأت هذه الآية في كتاب اللّه: {في أيّ صورةٍ ما شاء ركّبك}. قال: سلكك)).
وهكذا رواه ابن أبي حاتمٍ والطّبرانيّ من حديث مطهّر بن الهيثم به. وهذا الحديث لو صحّ لكان فيصلاً في هذه الآية، ولكنّ إسناده ليس بالثّابت؛ لأنّ مطهّر بن الهيثم قال فيه أبو سعيد بن يونس: كان متروك الحديث.
وقال ابن حبّان: يروي عن موسى بن عليٍّ وغيره ما لا يشبه حديث الأثبات.
ولكن في الصّحيحين عن أبي هريرة أنّ رجلاً قال: يا رسول اللّه، إنّ امرأتي ولدت غلاماً أسود، قال: ((هل لك من إبلٍ؟)). قال: نعم. قال: ((فما ألوانها؟)) قال: حمرٌ. قال: ((فهل فيها من أورق؟)) قال: نعم. قال: ((فأنّى أتاها ذلك؟)) قال: عسى أن يكون نزعه عرقٌ. قال: ((وهذا عسى أن يكون نزعه عرقٌ)). وقد قال عكرمة في قوله: {في أيّ صورةٍ ما شاء ركّبك}. إن شاء في صورة قردٍ، وإن شاء في صورة خنزيرٍ.
وكذا قال أبو صالحٍ: إن شاء في صورة كلبٍ، وإن شاء في صورة حمارٍ، وإن شاء في صورة خنزيرٍ.
وقال قتادة: {في أيّ صورةٍ ما شاء ركّبك}. قال: قادرٌ واللّه ربّنا على ذلك.
- معنى الأية بناء على الأقوال السابقة.
ومعنى هذا القول عند هؤلاء أنّ اللّه عزّ وجلّ قادرٌ على خلق النّطفة على شكلٍ قبيحٍ من الحيوانات المنكرة الخلق، ولكن بقدرته ولطفه وحلمه يخلقه على شكلٍ حسنٍ مستقيمٍ معتدلٍ تامٍّ حسن المنظر والهيئة رَكَّبَكَ فِي أَيِّ صُورَةٍ شَاءَهَا من الصُّوَرِ المختلفةِ، وَأَنْتَ لَمْ تَخْتَرْ صُورَةَ نَفْسِكَ.
فهلْ يليقُ بكَ أنْ تكفرَ نعمةَ المنعمِ، أو تجحدَ إحسانَ المحسنِ؟
إنْ هذا إلاَّ منْ جهلكَ وظلمكَ وعنادكَ وغشمكَ، فاحمد اللهَ أنْ لمْ يجعلْ صورتكَ صورة كلبٍ أو حمارٍ، أو نحوهمَا من الحيواناتِ . كما ذكره السعدي والأشقر وابن كثير.