بسم الله الرحمن الرحيم
مجلس مذاكرة القسم الرابع عشر من تفسير سورة البقرة
الآيات (189 - 203)
المجموعة الأولى:
1.فسّر بإيجاز قول الله تعالى:
{لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198)}.
- روي في سبب نزول الآية أن الناس بعد الإسلام كانوا يتحرجون من التجارة في موسم الحج حيث كانت تقام أسواق في الجاهلية كعكاظ ومجنة وذي المجاز، وقيل أن الناس تحرجوا من ذلك وقالوا هى أيام ذكر الله، وقيل أن أناس كانوا يتاجرون في موسم الحج أثناء حجهم فقيل لهم: ليس لكم حج، -وكذلك من كان يعمل في موسم الحج ويبتغي رزقا حلالا وأجرا- فسألوا واستفتوا فقيل لهم: أنتم حجاج ما دمتم تقومون بالمناسك كما شرع الله عز وجل.
فرفع الله الحرج عن أولئك جميعا- والآية يدخل فيها غيرهم ممن شابه حاله حالهم-، وأنزل قوله تعالى: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ ) أي: لاحرج عليكم ولا إثم، (أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ )رزقا حلالا وأجرا مقابل أعمالكم وتجارتكم، وقد وروي عن بعض السلف أنه قال: (ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم في مواسم الحج)، (فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ) أي: دفعتم من عرفة وهو ركن لا يتم الحج إلا به، والوقوف بعرفة يكون من زوال يوم التاسع من ذي الحجة إلى طلوع الفجر الثاني من يوم النحر، وهذا هو الكمال في الأمر، فإذا تدفقتم من عرفة إلى مزدلفة وهى المشعر الحرام، (فَاذْكُرُوا اللَّهَ) عنده ذكرا يليق به، ويشمل ذلك، الذكر باللسان من تحميد وتسبيح وتهليل، وإقامة الفرائض فيصلي الحاج المغرب والعشاء جمعا لفعل النبي صلى الله عليه وسلم، (وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ) أي: واذكروا الله شكرا لما امتن به عليكم من الهداية والبيان والإرشاد إلى مشاعر الحج على ما كان عليه أبيكم إبراهيم عليه السلام، ويشمل ذلك الهداية الأكبر للإسلام، (وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ) أي: من قبل هدايته لكم بإنزال القرآن و إرسال الرسول صلى الله عليه وسلم (لَمِنَ الضَّالِّينَ) الذين يتخبطون في ظلمات الجاهلية، فلولا هدايته لكم لظللتم على ضلالكم وجهلكم.
2.حرّر القول في المسائل التالية:
أ: معنى الإحصار وحكمه في قوله تعالى: {فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي}.
معنى الحصر: الحبس والمنع.
ومعنى أحصر: جعل الشيء ذا حصر، ويقال للرجل الذي يمنعه الخوف أو المرض من التصرف.
ويقال أحصر وحصر، وقد تكلم أهل اللغة في الفرق بين استعمال كل منهما،
والمشهور لغة: أحصر بالمرض، وحصر بالعدو،
وقال ابن فارس: حصر بالمرض، وأحصر بالعدو.
وقال الفراء لا فرق وهما بمعنى واحد في المرض والعدو، فالذي يمنعه الخوف والمرض يقال له : أحصر.
وقال ابن عطية: والصحيح: أن (حصر) فيما حاط وجاور، فقد يحصر العدو والماء ونحوه، ولا يحصر المرض.
-والظاهر أن الأصل في استعمال (أحصر) أنها مع العدو، لأن المانع الذي حبس المرء وقع من غيره، فإنه أحصر بالعدو، وتوسع في استعمالها فصارت مع المرض ونحوه، لأن المرض منع صاحبه من التصرف فحبسه، وسيظهر وجه ذلك مع بيان القول الثاني في المسألة.
- وجاء في سبب نزول الآية كما ذكره ابن كثير، قال: (ذكروا أنّ هذه الآية نزلت في سنة ستٍّ، أي عام الحديبية، حين حال المشركون بين رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وبين الوصول إلى البيت، وأنزل اللّه في ذلك سورة الفتح بكمالها، وأنزل لهم رخصةً: أن يذبحوا ما معهم من الهدي وكان سبعين بدنةً، وأن يتحللوا من إحرامهم، فعند ذلك أمرهم عليه السّلام بأن يحلقوا رؤوسهم ويتحلّلوا).
- فإن اعتمدنا مذهب من جعل الإحصار مع العدو من جهة اللغة في الأصل، وما ذُكر كونه سبب النزول في الآية وأنها كانت بسبب حصر العدو، وأن المراد بقوله تعالى: (أحصرتم) أي:أحصرتم بعدو، فإن صح سبب النزول فهو قطعي الدخول في التفسير.
وقد وقع الخلاف بين العلماء في اختصاص الحصر بالعدو أو شموله لغيره كالمرض ونحوه، وسنذكر الأقوال في المسألة:
القول الأول: الإحصار هو الحبس والمنع بسبب العدو:
- أنها نزلت في عام الحديبية حين حال المشركون بين الرسول صلى الله عليه وسلم ومن معه وبين الوصول إلى البيت، وكان منزلهم خارج الحرم، - وقيل: كانوا على أطرافه-، فأنزل الله عز وجل رخصة لهم: أن يذبحوا الهدي ويتحللوا من إحرامهم بالحلق أو التقصير.
- وجاء في سبب نزول الآية كما ذكره ابن كثير، قال: (ذكروا أنّ هذه الآية نزلت في سنة ستٍّ، أي عام الحديبية، حين حال المشركون بين رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وبين الوصول إلى البيت، وأنزل اللّه في ذلك سورة الفتح بكمالها، وأنزل لهم رخصةً: أن يذبحوا ما معهم من الهدي وكان سبعين بدنةً، وأن يتحللوا من إحرامهم، فعند ذلك أمرهم عليه السّلام بأن يحلقوا رؤوسهم ويتحلّلوا).
- وعند جمهور أهل التأويل أن الآية نزلت في حصر العدو.ذكره ابن عطية.
- عن ابن عباس، أنه قال: لا حصر إلّا حصر العدوّ، فأمّا من أصابه مرضٌ أو وجعٌ أو ضلالٌ فليس عليه شيءٌ، إنّما قال اللّه تعالى: {فإذا أمنتم} فليس الأمن حصرًا. رواه ابن أبي حاتم.
قال: وروي عن ابن عمر، وطاوسٍ، والزّهريّ، وزيد بن أسلم، نحو ذلك.
القول الثاني: الإحصار أعم من أن يكون بعدو أو مرض أو ضلال عن الطريق أو نحو ذلك.
- ويمكن أن يستدل لهذا بحديث عائشة في الصحيحين: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم دخل على ضباعة بنت الزّبير بن عبد المطّلب، فقالت: يا رسول اللّه، إنّي أريد الحجّ وأنا شاكيةٌ. فقال: "حجّي واشترطي: أنّ محلّي حيث حبستني". ورواه مسلمٌ عن ابن عبّاسٍ بمثله.
والشاهد قولها ( شاكية) أي: بها مرض أو ألم.
- الإحصار من كل شيء آذاه. قاله سفيان الثوري. ذكره ابن كثير.
- الإحصار من عدو أو مرض أو كسر، قال ابن ابي حاتم أنه مروي عن ابن مسعود وابن الزبير، وعلقمة، وسعيد بن المسيب، و عروة بن الزبير، ومجاهد، والنخعي، وعطاء، ومقاتل، ذكره ابن كثير.
- المحصر بالمرض كالمحصر بالعدو. قاله عطاء وغيره.
القول الثالث: الإحصار هو الحبس والمنع بسبب المرض لا العدو.
- (الآية فيمن أحصر بالمرض لا بالعدو).
قاله علقمة وعروة بن الزبير وغيرهما.ذكره ابن عطية.
- وهذا القول يرده سبب النزول في الآية، لكن لا يمنع أن يكون الإحصار بسبب المرض لكنه لا يُخرج الإحصار بالعدو من المراد بالإحصار في الآية.
حكم الإحصار بسبب العدو:
- يحل حيث أحصر، وينحر هديه إن كان ثم هدى ويحلق رأسه. ذكره ابن عطية.
ويستدل لذلك بما ورد في سبب النزول: وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بذبح الهدي والحلق تحللا من الإحرام، ومن الناس من حلق ومنهم من قصر، كما ذكر.
- يبعث بهديه إن أمكنه فإذا بلغ محله صار حلالا ولا قضاء عليه عند الجميع إلا أن يكون صرورة فعليه حجة الإسلام. قاله قتادة وإبراهيم. ذكره ابن عطية.
-ليست عليه حجة الإسلام وقد قضاها حين أحصر، قاله ابن الماجشون. وضعفه ابن عطية.
- يهدي المحصر بعدو هديا من أجل الحصر، قاله أشهب، ذكره ابن عطية.
- لا يهدي شيئا إلا إن كان معه هدي فأراد نحره، قاله ابن القاسم، فيما ذكره ابن أبي زيد. ذكره ابن عطية.
حكم الإحصار بسبب المرض:
- روي عن الحجاج بن عمرو الأنصاري، قال: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقول: "من كسر أو عرج فقد حلّ، وعليه حجّةٌ أخرى". رواه الإمام أحمد، ووافق على هذا القول ابن عباس وأبو هريرة.
- وأخرجه أصحاب الكتب الأربعة من حديث يحيى بن أبي كثيرٍ، به.
وفي روايةٍ لأبي داود وابن ماجه: من عرج أو كسر أو مرض - فذكر معناه.
ورواه ابن أبي حاتمٍ، عن الحسن بن عرفة، عن إسماعيل بن عليّة، عن الحجّاج بن أبي عثمان الصّوّاف، به. ذكره ابن كثير.
- المحصر بالمرض لا يحله إلا البيت، ويقيم حتى يفيق، وإن أقام سنين، فإذا وصل البيت بعد فوت الحج قطع التلبية في أوائل الحرم وحل بعمرة، ثم تكون عليه حجة قضاء وفيها يكون الهدي، قاله مالك وجمهور العلماء. ذكره ابن عطية.
- وقيل: إن الهدي يجب في وقت الحصر أولا. ذكره ابن عطية.
- إن المريض إن لم يكن معه هدي حل حيث حبس، وإن كان معه هدي لم يحل حتى يبلغ الهدي محله ثم لا قضاء عليه.قاله ابن عباس.
- من أصابه مرضٌ أو وجعٌ أو ضلالٌ فليس عليه شيءٌ. قاله ابن عباس، رواه ابن أبي حاتم.
وقال- ابن أبي حاتم-: وروي عن ابن عمر، وطاوسٍ، والزّهريّ، وزيد بن أسلم، نحو ذلك.ذكره ابن كثير.
والأولى للمحرم أن يشترط عند إحرامه، فإن حبسه حابس أو منعه مانع فله أن يتحلل وليس عليه شيء، ودليله ما ثبت في الصّحيحين عن عائشة: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم دخل على ضباعة بنت الزّبير بن عبد المطّلب، فقالت: يا رسول اللّه، إنّي أريد الحجّ وأنا شاكيةٌ. فقال: "حجّي واشترطي: أنّ محلّي حيث حبستني". ورواه مسلمٌ عن ابن عبّاسٍ بمثله.
ب: معنى قوله تعالى: {ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس}.
تنوعت أقوال المفسرين في قول الله تعالى: {ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس} في ثلاثة أمور:
- المخاطب بالآية.
- الأمر بالإفاضة من أي مشعر.
- المراد بالناس.
- قيل أن المخاطب هم الحمس، وهم قوم من قريش، وكان الحمس لا يفيضون مع الناس في عرفة ترفعا وتعاليا عليهم، وكانت الناس تقف بعرفة، وكان الحمس رغم معرفتهم بأن عرفة موقف إبراهيم عليه السلام لا يقفون به، بل يلزمون الحرم تعظيما له ويقفون في جمع- قيل: يقفون في المزدلفة-، فإذا أفاض الناس من عرفة، أفاضوا هم من جمعهم، ولما جاء الإسلام أمر الله نبيه صلى لله عليه وسلم أن يفيض من عرفة، والناس جميعا عليها أن تتبعه في ذلك.
- وعليه فالأمر بالإفاضة يكون من عرفة إلى مزدلفة. (و(ثم) هنا ليست للترتيب).
- والمراد بالناس: سائر العرب – غير الحمس ومن كان معهم- التي كانت تفيض من عرفة.
- قاله ابن عباس، وعطاء، ومجاهد، وقتادة، والسدي، وعائشة، وغيرهم.فيما ذكره ابن عطية، وابن كثير، واختاره ابن جرير.
-وروى عن أبي مطعم بن جبير أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقف مع الناس ويلزمهم وهو من الحمس- وكان ذلك هداية من الله- والأثر في الصحيحين ورواه أحمد.
والمعنى: أن الله عز وجل خاطب الحمس وأمرهم بأن يلتزموا ما عليه الناس في الشعائر والإفاضة، فبعدما قال تعالى : (فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام) خص من خالف ذلك وهم الحمس فأمرهم أن يتركوا ما كان منهم في الجاهلية، ويتبعوا ما كان عليه الناس، وما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم.
- وقيل أن المخاطب هنا الأمة. قاله الضحاك، فيما ذكره ابن عطية.
- ويحتمل أن يكون الأمر لهم بالإفاضة من عرفة إلى المزدلفة، وعلى هذا القول فإن (ثم) تفيد عطف خبر على خبر منقطع عن الخبر الأول، ولا تفيد الترتيب في الأفعال.
-ويحتمل أن يكون الأمر بالإفاضة من المزدلفة لرمي لجمار، و(ثم) هنا تفيد الترتيب، وهذا ما ذهب إليه الطبري.
- والمراد بالناس إبراهيم عليه السلام، وقيل آدم عليه السلام، وقيل الإمام.
والمعنى: أمر الله عز وجل الأمة بأن تفيض جميعا من من حيث أفاض أباهم إبراهيم عليه السلام، وأن يمتثلوا هديه في مناسك الحج وشعائره.
2. بيّن ما يلي:
أ: المراد بالتهلكة في قوله تعالى: {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة}.
- معنى التهلكة: الهلاك، يقال هلك الرجل يهلك، هلاكا وهلكا وتهلكة. فيما ذكره الزجاج.
والمراد بإلقاء المرء نفسه إلى التهلكة أن يُعرض نفسه لما يُهلكه أو يكون سببا في هلاكه، وجاءت عبارات السلف في أسباب نزول الآية متباينة في المراد بالتهلكة، فسأوردها مع أدلتها لبيان المسألة، وتمام الفائدة:
قيل أن المراد بالتهلكة:
1. ترك الجهاد، والإقامة في الأهل والمال.
- روي عن أبي الأيوب الأنصاري أنه قال: (نحن أعلم بهذه الآية إنّما نزلت فينا، صحبنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وشهدنا معه المشاهد ونصرناه، فلمّا فشا الإسلام وظهر، اجتمعنا معشر الأنصار نجيا، فقلنا: قد أكرمنا اللّه بصحبة نبيّه صلّى اللّه عليه وسلّم ونصره، حتّى فشا الإسلام وكثر أهله، وكنّا قد آثرناه على الأهلين والأموال والأولاد، وقد وضعت الحرب أوزارها، فنرجع إلى أهلينا وأولادنا فنقيم فيهما. فنزل فينا: {وأنفقوا في سبيل اللّه ولا تلقوا بأيديكم إلى التّهلكة} فكانت التّهلكة [في] الإقامة في الأهل والمال وترك الجهاد.) رواه أبو داود بغير لفظ، ورواه الترمذي والنسائي وعبد بن حميد وابن أبي حاتم، وابن جرير وغيرهم. فيما ذكره ابن عطية وابن كثير.
2. ترك النفقة مخافة العيلة، ويشمل ترك الإنفاق في سبيل الله.
وهذا مأخوذ مما روي عن حذيفة بن اليمان، وابن عباس، والحسن، وعطاء، وعكرمة ، وجمهور الناس، فيما ذكره ابن عطية.
- عن حذيفة: {وأنفقوا في سبيل اللّه ولا تلقوا بأيديكم إلى التّهلكة} قال: نزلت في النّفقة. رواه البخاري.
- وعن ابن عبّاسٍ في قوله: {وأنفقوا في سبيل اللّه ولا تلقوا بأيديكم إلى التّهلكة} ليس ذلك في القتال، إنّما هو في النّفقة أن تمسك بيدك عن النّفقة في سبيل اللّه. ولا تلق بيدك إلى التّهلكة.
- وعن الضّحّاك بن أبي جبيرة قال: كانت الأنصار يتصدّقون وينفقون من أموالهم، فأصابتهم سنة، فأمسكوا عن النّفقة في سبيل اللّه فنزلت: {ولا تلقوا بأيديكم إلى التّهلكة}.
وقال الحسن البصريّ: {ولا تلقوا بأيديكم إلى التّهلكة} قال: هو البخل.
ورواه ابن أبي حاتمٍ، عن الحسن بن محمّد بن الصّبّاح، عن أبي معاوية عن الأعمش، به مثله.
قال: وروي عنمجاهدٍ، وعكرمة، وسعيد بن جبيرٍ، وعطاء، والحسن، وقتادة، والسدي، ومقاتل بن حيّان، نحو ذلك. ذكره ابن كثير.
- وروي أن رجلا قال للبراء بن عازبٍ: إن حملت على العدوّ وحدي فقتلوني أكنت ألقيت بيدي إلى التّهلكة؟ قال: لا قال اللّه لرسوله: {فقاتل في سبيل اللّه لا تكلّف إلا نفسك}،إنّما هذا في النّفقة.
رواه ابن مردويه وأخرجه الحاكم في مستدركه من حديث إسرائيل، عن أبي إسحاق، به. وقال: صحيحٌ على شرط الشّيخين، ولم يخرّجاه. ورواه الثّوريّ، وقيس بن الرّبيع، عن أبي إسحاق، عن البراء -فذكره.
ذكره ابن كثير.
3. ترك التوبة، والقنوط من مغفرة الله.
- روي عن البراء بن عازب، عبيدة السلماني: الآية في الرجل يقول بالغت في المعاصي فلا فائدة في التوبة، فينهمك في ذلك. ذكره ابن عطية.
- وعن النّعمان بن بشيرٍ في قوله: {ولا تلقوا بأيديكم إلى التّهلكة} أن يذنب الرّجل الذّنب، فيقول: لا يغفر لي، فأنزل اللّه: {ولا تلقوا بأيديكم إلى التّهلكة وأحسنوا إنّ اللّه يحبّ المحسنين} رواه ابن مردويه.
- وروي نحو ذلك عن الحسن، وابن سيرين، وأبي قلابة فيما قاله ابن أبي حاتم، وذكره ابن كثير.
- وروي عن ابن عباس: أن التهلكة: عذاب الله.ذكره ابن كثير.
تعليق: وهذا القول هو من قبيل التفسير بلازم المعنى، وبيان هذا أن العبد إن يأس من رحمة ربه وقنط من مغفرته فيكون هذا من سوء الظن بالله، فيكون يأسه وقنوطه هلاكا له لاستحقاقه لعذاب الله، وكذلك فإن قنوطه من المغفرة يدفعه للتمادي في الذنوب فيكون مستحقا لعذاب الله بسبب ذنوبه.
4. ترك الأخذ بالأسباب، كترك التزود في الجهاد.
- روي عن زيد بن أسلم أنه قال: أنّ رجالًا كانوا يخرجون في بعوثٍ يبعثها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، بغير نفقةٍ، فإمّا يقطع بهم، وإمّا كانوا عيالًا فأمرهم اللّه أن يستنفقوا ممّا رزقهم اللّه، ولا يلقوا بأيديهم إلى التّهلكة، والتّهلكة أن يهلك رجالٌ من الجوع أو العطش أو من المشي. رواه ابن وهب، فيما ذكره ابن كثير.
- والمعنى لا تسافروا في الجهاد – ويحتمل في أي سفر- بغير زاد، وقد كان فعل ذلك قوم فأداهم ذلك إلى الانقطاع في الطريق أو الكون عالة على الناس. ذكره ابن عطية.
- وعن القرظي: أنّه كان يقول في هذه الآية: {ولا تلقوا بأيديكم إلى التّهلكة} قال: كان القوم في سبيل اللّه، فيتزوّد الرّجل. فكان أفضل زادًا من الآخر، أنفق البائس من زاده، حتّى لا يبقى من زاده شيءٌ، أحبّ أن يواسي صاحبه، فأنزل اللّه: {وأنفقوا في سبيل اللّه ولا تلقوا بأيديكم إلى التّهلكة}.رواه ابن أبي حاتم، وابن جرير، ذكره ابن كثير.
5. مواجهة للعدو دون الاستعداد (وهذا يدخل تحت القول السابق إذ هو من قبيل ترك الأخذ بالأسباب).
-روي أنّ عبد الرّحمن بن الأسود بن عبد يغوث أخبر أبا بكر بن عبد الرّحمن بن الحارث بن هشامٍ: أنّهم- أي: عبد الرحمن بن الأسود- حاصروا دمشق، فانطلق رجلٌ من أزد شنوءة، فأسرع إلى العدوّ وحده ليستقبل، فعاب ذلك عليه المسلمون ورفعوا حديثه إلى عمرو بن العاص، فأرسل إليه عمرٌو فردّه، وقال عمرٌو: قال الله: {ولا تلقوا بأيديكم إلى التّهلكة}. رواه ابن أبي حاتم فيما ذكره ابن كثير.
- وهذا من باب التفسير بالمثال.
ويمكن إجمال ما سبق لبيان المراد بالتهلكة:
- ترك الجهاد، والإقامة في الأهل والمال، فذلك يعد تهلكة للأنفس من جهة تقوية العدو الذي لا يدخر وسعا ولا جهدا في الاستعداد لقتال المؤمنين والتربص بهم.
- ترك النفقة مخافة العيلة، ويشمل ترك الإنفاق في سبيل الله، ويعد ذلك تهلكة إذ أمر الله بالإنفاق في سبيله وفي كل وجه من وجوه الخير، ووعد بالثواب والفضل العظيم عللى ذلك، فترك الإنفاق معصية يُستحق بسببها الهلاك.
- ترك التوبة، والقنوط من مغفرة الله، فترك التوبة والاستمراء في الذنوب والمعاصي موجب لوعيد الله والهلاك، وكذلك القنوط من رحمة الله ومغفرته، سببا للهلاك إذ أنه فعل الضالين الكافرين.
- ترك الأخذ بالأسباب، كترك التزود في الجهاد، وهذا لا شك من أسباب تعرض النفس للهلاك، وهذا منهي عنه شرعا.
- مواجهة للعدو دون الاستعداد (وهذا يدخل تحت القول السابق إذ هو من قبيل ترك الأخذ بالأسباب).
وبعض ما ذكر في أسباب النزول هو من قبيل التفسير، وإن قوي سبب منها وترجح، فإن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فيصلح كل ما قيل أن يكون تهلكة يجرها المرء على نفسه ويستدعي أسباب حصولها.
والله تعالى أعلم.
ب: معنى الهلال واشتقاقه.
هل: أي رفع صوته، ويقول الناس: استهل الصبي إذا بكى أو صاح حين يولد.
والإهلال بالحج والعمرة، هو رفع الصوت بالتلبية.
وأتت تسمية الهلال، إذ يرفع الناس أصواتهم حين يرونه.
ويقال أهل الهلال، واستهل، وأهللنا إذ رأينا الهلال، وأهللنا شهر رمضان إذ دخلنا فيه.
والهلال إنما هو هلال واحد في الشهر، ويكون الجمع لأحواله من الهلالية، فيجمع على أهلة.
وذلك لأدنى العدد وأكثره، وكُره فيه التضعيف نحو: هلل.
واختلف الناس في تسمية الهلال هلالا، وكم ليلة يسمى:
- فقيل أن الهلال يسمى هلالا لليلتين وهذا ما ذهب إليه الزجاج، وجزم به ابن عطية.
- وقيل لثلاث ليال.
- وقيل يسمى هلالا إلى أن يستدير بخيط دقيق، على قول الأصمعي.
- وقيل هو هلال إلى أن يبهر ضؤوه سواد الليل ويكون ذلك ليلة سبع.
ج: المراد بالتمتّع بالعمرة إلى الحجّ، وشروطه، وسبب تسميته بذلك.
وردت أقوال في المراد بالمتمتع بالعمرة إلى الحج:
1. المحصر- بالحج- دون المخلي سبيله.
أن يحصر المحرم بالحج فيجعل حجته عمرة فيتمتع إلى العام المقبل ثم يحج ويهدي هديا.
قاله عبد الله بين الزبير وعلقمة وإبراهيم، ذكره ابن عطية.
2.المحصر وغيره ممن خلي سبيله.
من أحرم بالعمرة في أشهر الحج، ثم أقام بمكة حتى يحرم بالحج في نفس العام.
قاله ابن عباس وجماعة من العلماء.ذكره ابن عطية.
قال ابن كثير: التمتع بالعمرة إلى الحج يشمل من أحرم بهما، أو أحرم بالعمرة أولا فلما فرغ منها أحر بالحج ( وهو التمتع الخاص المعروف في كلام الفقهاء).
والتّمتّع العامّ يشمل القسمين، كما دلّت عليه الأحاديث الصّحاح، فإنّ من الرواة من يقول: تمتّع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم. وآخر يقول: قرن. ولا خلاف أنّه ساق الهدي.
قيل:
- المتمتع هو الذي يفسخ الحج في العمرة، وذلك لا يجوز عند مالك، وفي صحيح مسلم حديث سراقة بن مالك قال:قلت يا رسول الله: (فسخ الحج في العمرة ألنا خاصة أم للأبد؟ فقال: «بل لأبد أبد، بل لأبد أبد). قاله السدي، فيما ذكره ابن عطية.
- من اعتمر في غير أشهر الحج ثم أقام حتى حج من عامه فهو متمتع، قاله طاوس.
- من اعتمر بعد يوم النحر في بقية العام فهو متمتع. قاله الحسن.
فيما ذكرهما ابن عطية وقال: وهذان قولان شاذان لم يوافقهما أحد من العلماء.
وذكر ابن عطية في وصف المتمع وجهان:
1. أن يحصر الرجل حتى يفوته الحج ثم يصل إلى البيت فيحل بعمرة ويقضي الحج من قابل، فهذا قد تمتع بما بين العمرة إلى حج القضاء. قاله ابن الزبير، فيما ذكره ابن عطية.
2. المتمتع المحصر عند غيره أن يحصر فيحل دون عمرة ويؤخرها حتى يأتي من قابل فيعتمر في أشهر الحج ويحج من عامه. ذكره ابن عطية.
- وجل الأمة على جواز العمرة في أشهر الحج للمكي ولا دم عليه.
وقال ابن عباس : أنه لا متعة لأهل مكة، إن الله قد أحلها لأهل الآفاق وحرمها عليكم، إنما يقطع أحدكم واديا ثم يحرم بعمرة.
شروط التمتع: كما ذكرها مالك وأصحابه:
- أن يكون معتمرا في أشهر الحج.
- وهو من غير حاضري المسجد الحرام.
- ويحل وينشىء الحج من عامه ذلك دون رجوع إلى وطنه أو ما ساواه بعدا.
ومن الشروط أيضا أن يحل في أشهر الحج. وهو ما ذكره ابن عطية.
سبب تسمية المتمع بهذه التسمية:
1. لأنه تمتع بكل ما لا يجوز للمحرم فعله من وقت حله في العمرة إلى وقت إنشائه الحج،
قاله ابن القاسم، ذكره ابن عطية.
2. لأنه تمتع بإسقاط أحد السفرين، وذلك أن حق العمرة أن تقصد بسفرة وحق الحج كذلك، فلما تمتع بإسقاط أحدهما ألزمه الله هديا كالقارن الذي يجمع الحج والعمرة في سفر واحد.
وهو الذي رجحه ابن عطية.
الحمد لله رب العالمين