(1) تعليم القرآن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم
كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرئ أصحابه ويعلّمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم، كما قال الله تعالى: { لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (164)}
وكان تعليم النبي صلى الله عليه وسلم القرآنَ لأصحابه أحسنَ التعليم وأبينه، وأعظمه بركة، وأقومَه طريقةً، وأحسنَه أثراً في قلوبهم ونفوسهم:
- فكان يتلو عليهم القرآن تلاوة بيّنة بلسان عربي مبين فيعرفون دلائل خطابه، ويتدبرون معانيه، ويتبصرون ببصائره، ويعقلون أمثاله، ويعملون ما فيه من البينات والهدى.
- وكان يقرئهم القرآن فيفرحون بما يتلقونه من فِيه صلى الله عليه وسلم، ويعظّمونه حقّ تعظيمه، ويأخذونه أحسن الأخذ، فتعيه القلوب، وتعمل به الجوارح.
- وكانوا يرون في عمل النبي صلى الله عليه وسلم في عباداته ومعاملاته أسوة حسنة ماثلة أمام أعينهم؛ فيحصل لهم من اليقين وحسن التأسي في أبواب كثيرة من الدين ما لا تحيط به العبارة.
- وكان النبي صلى الله عليه وسلم ربما فسّر لهم آيات من القرآن، وبيّن المراد بها تذكيراً وتبصيراً ليزدادوا إيمانا ويقينا، وَلِيَعُوا ما فيها من العلم والعمل، ولا سيما ما كان مما لا يُدرك بالاجتهاد من البيان الذي لا يُعلم إلا بوحي من الله تعالى، كما في الصحيحين من حديث علقمة بن مرثد، عن سعد بن عبيدة، عن البراء بن عازب رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( إذا أُقعد المؤمن في قبره أتي، ثم شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فذلك قوله: {يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت} )).
- وكان يجيب على ما يسألون عنه مما يشكل عليهم، أو يسبق إلى بعض أذهانهم ما يستعظمونه؛ فيبيّن لهم ما يزول به الإشكالُ ويحصلُ به اليقين الذين تطمئنّ به القلوب.
- وكانوا مناصرين له في دعوته لأنواع من المخالفين من المشركين وأهل الكتاب والمنافقين على اختلاف أحوالهم في السلم والحرب، والبعد والقرب، واختلاف مراتبهم من عظمائهم وكبرائهم إلى مواليهم وذراريهم، ويشاهدون من تنزّل الآيات في كثير من تلك الأحوال ما يرسّخ معرفة معانيها، وفهم دلائلها.
- وكانوا يرون سياسته لأمور أمّته كبيرها وصغيرها وذكرها وأنثاها على اختلاف ما يعرض لهم من أحوال الأمن والخوف والسراء والضراء واشتداد البأس، فيجدون من إرشاده إياهم لما ينفعهم، وتحذيره إياهم مما يضرّهم في دينهم ودنياهم، والحكم فيهم بما أنزل الله، ويشاهدون من تنزّل القرآن في كثير من تلك الأحوال ما له أبلغ الأثر في قلوبهم وأعمالهم، فيحصل به من أنواع البينات والهدى ما تكتمل به أبواب الدين:
- كما في حديث سفيان بن عيينة، عن فطر بن خليفة، عن أبي الطفيل، عن أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما بقي شيء يقرب من الجنة ويباعد من النار إلا وقد بُيّن لكم» رواه الطبراني في المعجم الكبير، وابن حبان في صحيحه.
- وقال أبو ذر رضي الله عنه:(تركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما طائر يقلب جناحيه في الهواء إلا وهو يذكّرنا منه علما). رواه الطبراني بهذا اللفظ، وابن حبان ولفظه: (إلا عندنا منه علم).
قال ابن حبان: (معنى "عندنا منه" يعني بأوامره ونواهيه وأخباره وأفعاله وإباحاته صلى الله عليه وسلم).
قلت: يريد العلمَ الذي له تعلّق بالأحكام الشرعية، وهذا معنى أخصّ من العلوم والمعارف الواسعة في الخلق والأمر، وفي كلا النوعين نصوص من الكتاب والسنة إلا أنّ ما له تعلّق بالعمل قد تمّ به البيان، وما لا يتعلّق به العمل قد ذكر منه ما تحصل به الكفاية في التبصر والاستدلال بالمعلوم على ما وراءه، وقد قال الله تعالى: {وما أوتيتم من العلم إلا قليلا}.
والمقصود أن تعليمَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم القرآنَ لأصحابه شامل لتعليم حروفه ومعانيه وهداياته، وقد حصل البيان النبوي للقرآن بطرق متنوّعة يكتمل بها البيان، وتتمّ بها النعمة.
وكان لهذا التعليم النبوي للقرآن أثر عظيم في نفوس الصحابة رضي الله عنهم وقلوبهم، فتعلّموا العلم والإيمان جميعاً، وحملوا القرآن أحسن الحمل، وعملوا به أحسن العمل، وأدوه أحسن الأداء.
وأخذ كلّ واحد منهم بحظّه من هذا الإرث النبوي العظيم، وتفاضلوا فيه، وتنوّعت أوجه عناياتهم بما جعل الله بينهم من التفاضل في القُدُرات والمَلَكَات، وما فتح لهم من أبواب فضله ورحمته، وظهر أثر هذا الإرث والتفاضل على من بعدهم.
وحصل بمجموع ما تحصّل لهم من العلم وبلّغوه ما تقوم به الحجة وتحصل به الكفاية في تبليغ الدين، واتّصال كماله.