المجموعة الأولى:
1. فصّل القول في تفسير قول الله تعالى:
{ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألدّ الخصام}.
يتحدث الله عن أحد أنواع المنافقين فيقول: (ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا) أي أن حديثه كالشهد عذب, وقيل: أن الآية نزلت في الأخنس بن شريق, وقيل: رجل من ثقيف,
وقيل: في جماعة من المنافقين, ولكن المهم هو أن معناها يشمل من استخدم الدين في نفاقه, وزين به مبتغاه من الحياة الدنيا, قال سعيدٌ: إنّ في بعض الكتب: إنّ [لله] عبادًا ألسنتهم أحلى من العسل، وقلوبهم أمرّ من الصّبر، لبسوا للنّاس مسوك الضّأن من اللّين، يجترّون الدّنيا بالدّين. قال اللّه تعالى: عليّ تجترئون! وبي تغترّون!. وعزّتي لأبعثنّ عليهم فتنةً تترك الحليم منهم حيران. فقال محمّد بن كعبٍ: هذا في كتاب اللّه. فقال سعيدٌ: وأين هو من كتاب اللّه؟ قال: قول اللّه: {ومن النّاس من يعجبك قوله في الحياة الدّنيا} الآية. (ويشهد الله على ما في قلبه) أي أنه إما بلسان الحال أو المقال, فيقول كلمات مثل: الله يعلم أني مؤمن, أو:
الله يشهد أني لمؤمن, وهو غير ذلك والعياذ بالله, فيكون الإشهاد إما بلسانه أو بما ظهر من عمله, (وهو ألد الخصام) أي: أنه كاذب, بل هو من أشد الخصوم عداوة, وذلك لتلونه ونفاقه وخداعه, فليس هو بالبين الواضح في عداوته, ولا هو بالمسلم المخلص حقا, روى البخاري عن عائشة ترفعه قال: "أبغض الرّجال إلى اللّه الألدّ الخصم". والألد: هو الشديد الخصومة. فنعوذ بالله من أن نكون منهم.
2. حرّر القول في تفسير قوله تعالى:
{كان الناس أمّة واحدة}.
المراد بالأمة في الآية:
معنى الأمة في اللغة:
1- القامة. ذكره الزجاج.
2- القرن من الناس. ذكره الزجاج.
3- الرجل الذي لا نظير له. ذكره الزجاج.
4- الإمام. ذكره الزجاج.
5- النعمة والخير. ذكره الزجاج.
6-الدين. ذكره الزجاج.
7-الجماعة. ذكره ابن عطية.
وأصل هذا كله: القصد, فيقال: أممت الشيء, أي: قصدته.
والمعنى المراد في هذه الآية: الدين, أي: كان الناس على دين واحد وملة واحدة.
وقيل في المراد بالناس, وبكونهم أمة واحدة:
1- الناس حين أخرجهم الله من ظهر آدم, أي: حين كانوا على الفطرة. قاله أبي بن كعب, وابن زيد, وذكره ابن عطية.
2- آدم. قاله مجاهد, وذكره ابن عطية.
3- آدم وحواء. ذكره ابن عطية.
4- نوح ومن في سفينته كانوا مسلمين فاختلفوا. قاله ابن عباس, ومجاهد, وذكره ابن عطية, وابن كثير.
5- الناس فيما بين آدم ونوح -عليهما السلام - كانوا كفارا، فبعث الله النبيين يبشرون من أطاع بالجنة، وينذرون من عصي بالنار. قاله ابن عباس, وقتادة, وذكره الزجاج, وابن عطية, وابن كثير.
6- كل من بعث إليه الأنبياء كانوا كفارا: {فبعث اللّه النّبيّين مبشّرين ومنذرين}فالمعنى أن أمم الأنبياء الذين بعث إليهم الأنبياء كانوا كفارا - كما كانت هذه الأمة قبل مبعث النبي - صلى الله عليه وسلم. ذكره الزجاج, وابن كثير.
7- الناس في مدة نوح -عليه السلام- كانوا كفارا. قاله ابن عباس, وذكره ابن عطية, وابن كثير.
8- أن الناس كانوا على الهدى جميعًا، "فاختلفوا فبعث اللّه النّبيّين مبشّرين منذرين" فكان أوّل نبي بعث نوحًا. قاله ابن عباس, ومجاهد, وذكره ابن كثير.
9- وقيل بالعكس أنهم كانوا كفارا, فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين. قاله ابن عباس, وذكره ابن كثير.
10- وتحتمل الآية معنى عاشرا وهو أن يخبر عن الناس الذين هم الجنس كله أنهم أمة واحدة في خلوهم عن الشرائع وجهلهم بالحقائق, لولا منّ الله عليهم وتفضله بالرسل إليهم. ذكره ابن عطية.
والقول الثامن عن ابن عبّاسٍ رجحه ابن كثير, لأنه أصحّ سندًا ومعنًى؛ ولأنّ النّاس كانوا على ملّة آدم، عليه السّلام، حتّى عبدوا الأصنام، فبعث اللّه إليهم نوحًا، عليه السّلام، فكان أوّل رسولٍ بعثه اللّه إلى أهل الأرض.
3. اكتب رسالة مختصرة بالأسلوب الوعظي في تفسير قوله تعالى:
{زيّن للذين كفروا الحياة الدنيا ويسخرون من الذين آمنوا والذين اتّقوا فوقهم يوم القيامة والله يرزق من يشاء بغير حساب}.
بسم الله, والصلاة والسلام على رسول الله, محمد بن عبدالله, إمام الزاهدين, الذي اختار الفقر على الغنى, والزهد على الترف, الذي علم حقيقة الدنيا وأخبرنا بحقيقتها, وحذرنا من شهواتها, ودعانا للجنة وإن كثرت المكاره في طريقها, وبعد:
فاعلم يا رعاك الله أن هذه الدنيا معبر, وأن الخاسر من أضاع الزاد في طريق السفر, لقلة صبره, ولم يجمع لدار المقر زادا ينفعه ويمتعه, واعلم أن الاختبار في هذه الحياة الدنيا اختبار طول نفس, فالفرق بين المؤمن والكافر لا في عدم حب الشهوات, بل في تقديم المؤمن للشهوة طويلة المدى, حسنة الجودة, وإن كانت بعد حين, على الاستمتاع بما حرم منها في الحياة الحالية كما فعل ذلك الكافر, لقلة صبره, وانعدام يقينه, وإن هذا مما يذكرني بالطفل الذي لا يملك نفسه أمام حلوى وضعت أمامه, وإن وعد بأضعافها وأحسن منها في الغد, فاصبر واصطبر على شهوات هذه الدنيا, وأعد الزاد لأخراك, فوالله لا خاسر إلا من أضاع الفوز بالدائمة, وقدم عليها الفانية.
في آيتنا التي سنتناولها بإذن الله بيان لحال الكفار مع هذه الحياة الدنيا, وتوضيح لتعامل المؤمنين معها, فاعتبر يا رعاك الله, وخذ باللطائف التي في هذه الآية, فإن في حسن الفهم, والعمل بالعلم, عونا في طريق المؤمن إلى الله بعون الله.
قال تعالى :(زين للذين كفروا الحياة الدنيا ويسخرون من الذين ءامنوا والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة والله يرزق من يشاء بغير حساب):
أولا: في تزيين هذه الحياة الدنيا:
اعلم أن هذه الحياة لمن علم حقيقتها, واختبرها حقا, فإنها شنيعة قبيحة لا تزن عند الله جناح بعوضة, وإنها ملعونة -كما ورد في الحديث- ملعون ما فيها إلا ذكر الله, ولكن الله اختبرنا بتزيينها, فهي عجوز شمطاء, لكنها تلبس لباس الفتاة البكر, لتخدع وتضل, وإن مما يزينها:
1- الشيطان, فإنه يزين الشهوة في النفس, وذلك لأنه يجري من ابن آدم مجرى الدم -كما ورد في الحديث-, فيزين للمرء الشهوات, ويوقعه عن طريقها في وحل الشبهات, فيضيع الإنسان ويخسر.
2- وقد يتمثل ذلك في أعوان إبليس من الناس ممن يزينون الباطل ويحلونه في أعين الناس, فينافسون الشيطان -والعياذ بالله- في ذلك, بل قد تجدهم يقاتلون في سبيل إحياء شهوة أو الدعوة إليها بكل السبل والوسائل, بل وبإلباسها لباس الحق والخير والعياذ بالله, لذا نجد في الآية قوله تعالى :(ويسخرون من الذين ءامنوا) والله يعني في هذه الآية: الكفار, أي: أنهم يسخرون من قلة يد المؤمنين, ففي سخريتهم أذى للمؤمنين, وأسلوب لتضييق صدور المؤمنين على قلة عيشهم, ومحاولة للمقارنة بينهم, وإن المقارنة من أشد الأساليب التي تضيع على الإنسان دنياه وآخرته, فيخسر الدنيا لعدم شعوره الدائم بالرضا, فينغص حياته بنفسه, وخسارة في الآخرة لعدم عمله لأجلها ولهثه خلف هذه الدنيا ومن يملكونها, وهذه من الفتن العظيمة في التزيين, فإن المرء قد يرضى بعيشه, لكن أهل الشهوات والملذات لا يتركونه في حاله, وينغصون عيشه عن طريق سخريتهم, واستعراض ما يملكونه من نعم, وهذه قد تكون بين أمة وأمة, كالترف والتنعم بملذات الدنيا لدى الأمم الكافرة, واستعراضهم بذلك أمام الأمم المسلمة ومحاولة فتنتهم وإشغالهم بذلك, وقد يكون بأقل من ذلك, فقد يكون بين مسلمين, وقد يكون بوعي, وقد يكون بلا وعي, كما بلينا به من استعراضات في وسائل التواصل الاجتماعي دعت القانع الزاهد للمقارنة وإتعاب نفسه بمحاولة السير على خطى غيره في تتبع هذه الشهوات, والانخداع بهذا التزيين.
3- وقد يكون التزيين من قبل الله لعباده, ليختبرهم ويبتليهم, قال تعالى: {زيّن للنّاس حبّ الشّهوات من النّساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذّهب والفضّة}, فيكون فيما خلق الله من النعم شهوات للناس, والمحسن من شكر نعم الله وأحسن استخدامها باحترام الحدود التي وضعها الله, وبأداء زكاتها, والمسيء من انغمس فيها ونسي حقيقة هذه الدنيا, ومصيره الذي يستحق العمل لأجله.
وقد يتساءل المرء عن أسباب تزيين هذه الحياة في عيون الخلق, فنقول:
أولا: من باب الاختبار والابتلاء للخلق, فإن الدنيا لو ظهرت للناس على حقيقتها وبشاعتها, لما وقع في شهواتها أحد, ولما كان للمؤمن حقا مزية على المؤمن لعدم وجود ما يشده ويجذبه لهذه الدنيا, فبذلك يتبين المؤمن من الكافر, وكما قال تعالى :(ليمحص الله الذين ءامنوا), وقال: (أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا ءامنا وهم لا يفتنون)؟! فهذا توضيح وتبيين من الله لعباده عن أسباب وضعهم في بعض الاختبارات, كتزيين الباطل في أعين الناس, وحف النار بالشهوات, كما نص على ذلك رسول الله.
ثانيا: لعل في تذوق الناس لبعض الشهوات, ورؤيتهم لما في الدنيا من جنان وأنهار وأنعام ونساء وغيرها مما حبب للأنفس, تشويق ليوم المعاد, فكأن الله يخبرنا إن نحن أحسنا العمل, وأطعنا الأمر, أننا سنجد في الآخرة أضعاف ما في هذه الدنيا, أجود وأطول وأكثر خلودا مما استحسناه في هذه الحياة, فإذا رأى المؤمن جنة الدنيا, اشتاق لجنة الآخرة, وإن رأى وجها جميلا, تشوقت نفسه لرؤية وجهه تبارك وتعالى, وهكذا دواليك, وهذا الأسلوب معروف حتى في أبسط الأمور في الحياة كالبيع, فترى البائع يذيقك بعض ما عنده من طعام, كي تشتري منه بالأكيال, وهذا يكون من باب التشويق للحياة الآخرة وبث الحماس في الأنفس للعمل لها.
وقد يتبدى للإنسان سؤال فيقول: وكيف أعرف حقيقة الدنيا؟
فإننا نقول: إن حقيقة الدنيا تستبين لمن أخلص حقا في معرفة الحق, لا من أغمض عينيه عن رؤية الحق لأنه ينغص عليه متعته, لذا فأول الطرق لمعرفة الحقيقة, هو بأن يفتح المرء عينيه, ويخلص في نيته.
ثانيا: إن حقيقة الدنيا تتبدى في مواطن كثر, فإن عدم دوام المتع دلالة على تفاهتها, وإن مقابلة اللذة بالألم دلالة على نقصها وعدم كمالها, فلا يوجد من عاش في هذه الدنيا سعادة مطلقة, لما فيها من منغصات وآلام وأوجاع, فحقيقتها تتبين للمتأمل حقا, لذا فإن التأمل في أحوال الدنيا والناس والأمم, مما يبصر المرء بحقيقتها ويعيد إليه وعيه بعد سكرة شهواتها.
وسائل للتصبير على شهوات الدنيا وزينتها:
أولا: أن يتذكر المرء ما ذكره الله في الآية, فقال: (والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة), فالكافرون وإن ذاقوا النصر والغلبة والفوقية في هذه الدنيا الفانية, فإن المؤمنين ينتظرهم جنات تجري من تحتها الأنهار, فلا علو ينافس علو المؤمنين, والفوقية هنا قد تعني أمرين, بل قد تشمل هذين المعنيين فلا اعتراض بينهما وهما:
الأول: علو بالتنعم والفوز بالرحمة فوق ما ذاقه هؤلاء الكفار في الدنيا.
والثاني: فوقية يراد بها المكان, أي أن المؤمنين في درجات الجنة العالية, والكفار في أسفل دركات النار.
وفي هذا تعزية لأنفس المؤمنين الصابرة, وفي تذكر هذا تسلية لمن أراد الله والدار الآخرة, وتصبير له.
ثانيا: تذكر حقيقة الدنيا, والمرور على كل ما يذكر بحقيقتها, كالقبور, وآثار الأمم الماضية, وقراءة الآيات التي تروي قصصهم, والتأمل في أحوالهم, فإن في ذلك تذكير للنفس بحقيقتها, وتبخيس لأمرها في نفس المرء, بل إن المرء قد يمر على من ابتلي بحبها فيعجب كيف يخدع هؤلاء بزينتها, ويحمد الله على أن بصره بذلك.
تأملات في قوله :(والله يزق من يشاء بغير حساب):
أولا: في هذه الآية رسائل لطيفة وذكية, متنوعة وشاملة وموجزة, ففيها رسالة للمؤمن الذي قد يناله الحزن على ما يعيشه الكافر من متع ورفاهية, وما يحيطه من زينة هذه الحياة, أن هذا رزق من الله, والله يرزق من يشاء بغير حساب, فلا أحد يحاسب الله في توزيعه للرزق, ومن رأى عدله ودقة حسابه -سبحانه- علم أن له حكمة في ذلك, كأن يكون هذا حظهم في الدنيا, كما أن حظ المؤمن في الآخرة الجنة, كما ذكر ذلك رسول الله, وكما قال تعالى عند تعداد نعم الكفار :(وزخرفا وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا) ثم قال بعد ذلك :(والآخرة عند ربك للمتقين), فإذن على المرء أن يرضا ويصبر ويحتسب.
ثانيا: في هذه الآية رسالة كذلك للكافر, فإن الله له المشيئة في تنعيمه للمؤمن بالجنة, ووضعه للكافر بالنار, فلا محاسب له -سبحانه-, وإن في إدخال المؤمن الجنة دلالة على سعة رحمته -سبحانه- وأنه يرزق بغير حساب, وإلا لما استحق مؤمن الجنة بعمله, ففيه رسالة للكافر أن الله له حرية التصرف في وضع من يشاء في الجنة والنار, ولا يحق لكافر أن يتساءل, لم الكافر وإن أحسن في معاملته للناس يدخل النار مثلا, والمؤمن يدخل الجنة وإن أساء؟ فنقول: لأن الله يرزق من يشاء بغير حساب, فلا محاسب لله, لأنه لا ند له سبحانه, وإن كان هذا لا يلغي الحكمة والعلة من ذلك, لكنه يذكرنا بعظمة الله وحقارتنا أمامه فكيف نسائله سبحانه؟!.
ثالثا: في هذه الآية عزاء للناس عموما, وأرى أنها من أكثر الآيات قتلا للحسد في نفس المرء, فإذا علم المرء أن الرزق بيد الله. وأنه سبحانه له الإرادة في رزق من يشاء, وأن له حكما قد يعلم بعضها وقد يخفى عنه البعض, استراح وأراح.
رابعا: في هذه الآية دعوة خفية للإنفاق في سبيل الله, فبعلمك أن الرزق بيده سبحانه, تتيقن أن إمساكك للمال لن يغني عنك من الله شيئا, وكذلك إنفاقك المال في سبيل الله لن يضيعك ما دام الرزق بيد الله, فأنفق في سبيل الله على المنهج الذي وضحه رسول الله, وأبشر بالعوض في الدنيا والآخرة, كما جاء في الحديث: "ابن آدم، أنفق أنفق عليك"، وقال النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: "أنفق بلال ولا تخش من ذي العرش إقلالا". وقال تعالى: {وما أنفقتم من شيءٍ فهو يخلفه} [سبأٍ: 39]، وفي الصّحيح أنّ ملكين ينزلان من السّماء صبيحة كلّ يومٍ، يقول أحدهما: اللّهمّ أعط منفقًا خلفًا. ويقول الآخر: اللّهمّ أعط ممسكا تلفًا. وفي الصحيح "يقول ابن آدم: مالي، مالي! وهل لك من مالك إلّا ما أكلت فأفنيت، وما لبست فأبليت، وما تصدّقت فأمضيت ؟ وما سوى ذلك فذاهبٌ وتاركه للنّاس". وفي مسند الإمام أحمد عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم أنّه قال: "الدّنيا دار من لا دار له، ومال من لا مال له، ولها يجمع من لا عقل له".
خامسا: هذه الآية من الآيات التي يتأمل بها المرء عظمة الله وملكه, فإذا تأملت أن الله يرزق بغير حساب, سواء كان المقصد بغير أن يحسب كم أنفق لكثرة ما يملك ولا نهائيته, أو بغير احتساب من المرزوقين, ففي كل الأحوال دلالة على سعة رزقه, وعظيم ملكه, فإن ملوك الدنيا مهما بلغوا فإن لأموالهم حاسبا, ولما يملكون ميزانا, فملكهم محدود محسوب, على غير ملك الله, كما أنهم محاسبون من قبل من فوقهم من العباد أو من فوق العباد, وهو رب العباد, أما الخالق سبحانه فلا محاسب له سبحانه, بل هو المحاسِب والمراقب والمعطي والمانع, فسبحانه, وما ضاع من وكل رزقه إليه, وأحسن التوكل عليه.
ختاما: فإن المتأمل في هذه الآية, يتبين له أن هذه الدنيا ممر ومعبر, وأن الجهاد فيها يكون بإزالة غشاوة تزيينها, فإن المرء لا يزال يجاهد نفسه في محاولة تذكيرها بحقيقة الدنيا وبشاعتها, وإن الفائز والله من عرف حقيقتها, فعمل لآخرته, وإن الخاسر من سمح لها بخداعه, وأخذت بلبه, فركض خلف شهواتها, وتملكته بدل أن يتملكها, وتذكر دائما :(والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة), فإن في تذكر ذلك عزاء وتصبير, جعلنا الله من أهل الجنة وسكانها, ورزقنا الصبر على مكاره طريقها, والحمدلله رب العالمين.