الدرس الثالث: معالم العلوم في زمن التابعين رحمهم الله
الدرس الثالث: معالم العلوم في زمن التابعين عناصر الدرس: 1. فضل التابعين 2. مشاهير علماء التابعين 3. طرق التابعين في تعلّم العلم وتعليمه 4. أصناف أهل العلم من التابعين 5. التعريف ببعض ما حدث في عصر التابعين 6. العلوم المعتنى بها في زمن التابعين |
فضل التابعين
التابعي هو من رأى أحد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مؤمن، ومات على الإسلام، وسمّوا بالتابعين لقول الله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100)} وهذه الآية فيها تنبيه على فضل التابعين، وشرط هذا الفضل هو أن يكون الاتباع بإحسان. والتابعون هم خير الناس بعد الصحابة رضي الله عنهم، وقد ورد في فضلهم أحاديث منها ما تقدّم ذكره من حديث ابن مسعود وعمران بن الحصين وعائشة وأبي سعيد الخدري وواثلة بن الأسقع، وغيرها من الأحاديث. وقد خرج منهم علماء كبار وعبّاد صالحون ومجاهدون أبطال؛ فقاموا بما يُحتاج إليه من حمل العلم ورعايته وتبليغه، ونصرة الدين وحماية ثغور بلاد المسلمين، واستكمال مسيرة الصحابة رضي الله عنهم في فتح البلدان. |
مشاهير علماء التابعين
سبق التعريف بأنّ الصحابة رضي الله عنهم انتشروا في البلدان، وأن الخلفاء الراشدين بثّوا المعلّمين في الأمصار لتعليم الناس القرآن وتفقيههم في الدين، فكان لكلّ معلّم أصحابه الذين قرأوا عليه وتعلموا منه وتفقهوا به؛ حتى برز جماعة منهم: ففي المدينة: سعيد بن المسيب، والقاسم بن محمد بن أبي بكر، وسالم بن عبد الله بن عمر، وعروة بن الزبير، وسليمان بن يسار، وعطاء بن يسار، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، وخارجة بن زيد بن ثابت، وعمر بن عبد العزيز بن مروان، وأبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، وعمرة بنت عبد الرحمن بن سعد بن زرارة، ومسلم بن جندب الهذلي، ومحمد بن كعب القرظي، وعبد الرحمن بن هرمز الأعرج، ونافع مولى ابن عمر، وأبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري، وعاصم بن عمر بن قتادة الأنصاري، ويزيد بن رومان، وأبو جعفر يزيد بن القعقاع، وشيبة بن نصاح، ومحمد بن المنكدر، وربيعة بن أبي عبد الرحمن، وزيد بن أسلم، ويحيى بن سعيد الأنصاري، ومحمد بن إسحاق ابن يسار، وغيرهم. وفي مكة: عبيد بن عمير الليثي، وعبّاد بن عبد الله بن الزبير، ومجاهد بن جبر، وعكرمة مولى ابن عباس، وطاووس بن كيسان، ويوسف بن ماهك، وعطاء بن أبي رباح، وعكرمة بن خالد المخزومي، وعبد الله ابن أبي مليكة التيمي، وعبد الرحمن بن سابط الجمحي، وقيس بن سعد الحبشي، وعبد الله بن كثير الداري، ومحمد بن عبد الرحمن ابن محيصن السهمي، وعمرو بن دينار المكي، والقاسم بن أبي بزة، وحميد بن قيس الأعرج، وأيوب بن موسى الأشدق، وشبل بن عباد المكي، وغيرهم. وفي الطائف وما جاورها: محمد بن الحنفية، ووكيع بن عدس العُقيلي، وعمرو بن أوس الثقفي، وعمرو بن الشريد الثقفي، ويعقوب بن عاصم بن عروة بن مسعود الثقفي، وعمرو بن شعيب السهمي، وغيرهم. وفي الكوفة: أويس بن عامر القرني، والربيع بن خثيم الثوري، وعلقمة بن قيس النخعي، ومسروق بن الأجدع الهمداني، وأبو ميسرة عمرو بن شرحبيل الهمداني، وعبيدة بن عمرو السلماني، وصلة بن زفر العبسي، وعمرو بن ميمون الأودي، وأبو عبد الرحمن السلمي، وعبيد بن نضلة الخزاعي، والأسود بن يزيد النخعي، ومرة بن شراحيل الهمداني، وشريح بن الحارث القاضي، وأبو عثمان النهدي، وزرّ بن حبيش الأسدي، وأبو وائل شقيق بن سلمة الأسدي، وعبد الرحمن بن أبي ليلى الأنصاري، وأبو الأحوص عوف بن مالك بن نضلة الجشمي، وسعيد بن جبير الأسدي، ويحيى بن وثاب الأسدي، وإبراهيم بن يزيد النخعي، وقيس بن أبي حازم البجلي، وعامر بن شراحيل الشعبي، وأبو بردة بن أبي موسى الأشعري، وطلحة بن مصرف اليامي، والحكم بن عتيبة الكندي، وحماد بن أبي سليمان الكوفي، وأبو إسحاق السبيعي، وإسماعيل بن عبد الرحمن بن أبي كريمة المعروف بالسدّي، وعاصم بن أبي النجود، ومنصور بن المعتمر السلمي، وسليمان بن مهران الأعمش، وعبد الله بن شبرمة قاضي الكوفة زمن أبي جعفر المنصور، وأبو حنيفة النعمان بن ثابت، وغيرهم كثير. وفي البصرة: كعب بن سور الأزدي، وأبو رجاء العطاردي، وعامر بن عبد الله عبد قيس العنبري، وصلة بن أشيم العدوي، وأبو الأسود الدؤلي، وحطان بن عبد الله الرقاشي، وهرم بن حيان العبدي، وحميد بن عبد الرحمن الحميري، وأبو عثمان النهدي وكان من أهل الكوفة ثم انتقل إلى البصرة بعد مقتل الحسين بن علي رضي الله عنهما، وأبو الجوزاء الربعي، وعمرو بن سلمة الجرمي، ومطرف بن عبد الله بن الشخير، ويحيى بن يعمر العدواني، ونصر بن عاصم الليثي، وزرارة بن أوفى العامري، وأبو الشعثاء جابر بن زيد الأزدي، وأبو العالية الرياحي، ومسلم بن يسار البصري، وأبو قلابة الجرمي، وأبو مجلز لاحق بن حميد السدوسي، وبكر بن عبد الله المزني، والحسن البصري، ومحمد بن سيرين، وقتادة بن دعامة السدوسي، وحميد بن هلال العدوي، وثابت بن أسلم البناني، ومالك بن دينار البصري، ومحمد بن واسع الأزدي، وأيوب بن أبي تميمة السختياني، ويونس بن عبيد البصري، وداوود بن أبي هند البصري، وسليمان بن طرخان التيمي، وعبد الله بن عون المزني، وغيرهم كثير. وفي المدائن: سعد بن حذيفة بن اليمان العبسي، وعبد الرحمن بن الأسود بن يزيد النخعي، وعاصم بن سليمان الأحول، وهلال بن خباب العبدي، وغيرهم. وفي واسط: يعلى بن عطاء العامري، أبو هاشم يحيى بن دينار الرماني، وأبو الحكم سيّار بن دينار العنزي، والقاسم بن أبي أيوب الواسطي، وأبو بشر جعفر بن إياس بن أبي وحشية اليشكري، ومنصور بن زاذان الواسطي، وأبو عقيل هاشم بن بلال الواسطي، وحسين بن حسن الواسطي، وغيرهم. وفي الشام وأطرافها: كعب الأحبار وكان قد انتقل إلى الشام في آخر حياته، وأبو مسلم الخولاني، وعمرو بن الأسود العنسي، ومالك بن يخامر السكسكي، ونوف بن فضالة البكالي، ويزيد بن عَميرة الزبيدي، وعبد الرحمن بن عُسيلة المرادي، وعبد الرحمن بن غنم الأشعري، وجبير بن نفير الحضرمي، وأبو إدريس الخولاني، ويعلى بن شداد بن أوس الأنصاري، وأمّ الدرداء الصغرى جُهيمة بنت حُييّ الوصابية، وخليد بن سعد السلاماني صاحب أبي الدرداء، وبلال بن أبي الدرداء الأنصاري، وعبد الله بن محيريز الجمحي، وعمر بن عبد العزيز الأموي، وتبيع بن عامر الكلاعي، وخالد بن معدان الكلاعي، وأبو سلّام ممطور الحبشي، ورجاء بن حيوة الكندي، ومكحول الشامي،وسليمان بن موسى الدمشقي، وبلال بن سعد السكوني، وميمون بن مهران الجزري، وعبد الله بن أبي زكريا الخزاعي، وعبد الله بن عامر اليحصبي مقرئ أهل الشام، وعبادة بن نسي الكندي، وعطية بن قيس الكلابي، ونمير بن أوس الأشعري، ومحمد ابن شهاب الزهري، وحسان بن عطية المحاربي، وعروة بن رويم اللخمي، ويحيى بن الحارث الذماري، وعطاء الخراساني انتقل إلى الشام وكان من أهل خراسان، وحريز بن عثمان الرحبي، وغيرهم. وفي اليمن:كعب الأحبار (ت:32 هـ) ثم انتقل إلى الشام، وحُجر بن قيس المدَري(ت:85هـ تقريباً)، وشهاب بن عبد الله الخولاني، وسعيد بن أبيض بن حمّال المأربى، وعروة بن محمد بن عطية السعدي(ت: 105 ه تقريباً) أمير اليمن في خلافة عمر بن عبد العزيز، وطاووس بن كيسان اليماني(ت:106هـ)، ووهب بن منبّه ابن ذي كبار اليماني(ت:114هـ)، والمغيرة بن حكيم الأبناوي الصنعاني(ت: 115هـ تقريباً)، وعثمان بن حاضر الحميري(ت:115هـ تقريباً)، وعبد الرحمن بن يزيد الأبناوي الصنعاني(ت: 115هـ)، وهمام بن منبّه بن كامل ابن ذي كبار اليماني(ت:132هـ)، وثمامة بن شراحيل اليماني، وعثمان بن يزدويه الصنعاني، ويحيى بن قيس المأربي الحميري، وغيرهم. وكثير من أهل العلم باليمن ارتحلوا عنها فلحقوا بالثغور للجهاد ومنهم من نزل بعض الأمصار. وفي اليمامة: قيس بن طلق الحنفي، ومحمد بن عبد الرحمن بن سعد بن زرارة الأنصاري، ابن أخي عمرة بنت عبد الرحمن، وكان والي اليمامة في زمان عمر بن عبد العزيز، وأبو كثير السحيمي اليمامي الأعمى صاحب أبي هريرة، وهلال بن سراج الحنفي، ويحيى بن أبي كثير اليمامي، وأبو النجاشي عطاء بن صهيب مولى رافع بن خديج، وعكرمة بن عمار العجلي، وغيرهم. وفي مصر: أبو عبد الرحمن الحبُلّي صاحب معاذ بن جبل، وأبو سعيد الرعيني صاحب عقبة بن عامر، وأبو الهيثم سليمان بن عمرو العتواري صاحب أبي سعيد الخدري، وثمامة بن شفي الأصبحي، وأبو قبيل المعافري، وعبد الرحمن بن وعلة ممن صحب ابن عباس، وأبو يونس الدوسي مولى أبي هريرة، وعلي بن رباح اللخمي، وبكير بن عبد الله بن الأشجّ، ويزيد بن أبي حبيب الأزدي، وعطاء بن يسار المدني انتقل إلى الإسكندرية في آخر حياته ومات بها، ونافع مولى ابن عمر بعثه عمر بن عبد العزيز إلى مصر ليفقّه أهلها، وغيرهم. وفي فارس وخراسان: عبد الله بن بريدة بن الحصيب، وعبد الرحمن بن سمرة بن جندب، والربيع بن زياد ممن سمع أبيّ بن كعب، والربيع بن أنس البكري سمع أنس بن مالك، وهو راوية أبي العالية الرياحي، ويحيى بن يعمر العدواني كان من أهل البصرة ثم انتقل إلى مرو وولي القضاء بها، والزبير بن عدي الهمداني قاضي الري، وعلباء بن أحمر اليشكري صاحب أبي زيد الأنصاري، ويحيى بن عقيل الحذاء، وغيرهم. وكان في خراسان زمن التابعين الضحاك بن مزاحم الهلالي، إلا أنه لا تعرف له رواية عن أحد من الصحابة وهو شيخ الزبير بن عدي قاضي الرّي في زمانه. وكان عامّة هؤلاء العلماء ممن جمع العلم بالقراءة والتفسير والحديث والفقه والسلوك؛ فكانوا هم القراء والمفتون والمعلّمون وهم أئمة أهل السنة وكبار المحدّثين؛ إذ كان التفقه في الدين عندهم شاملاً لجميع أنواعه وأبوابه. |
طرق التابعين في تعلّم العلم وتعليمه
من طرق التعلّم في زمان التابعين: 1. طريقة العرض، وهي أن يعرض التابعي القرآن أو الحديث على الصحابي، وربما سأله عن التفسير والأحكام؛ كما قال مجاهد: (لقد عرضت القرآن على ابن عباس ثلاث عرضات أقف عند كل آية أسأله فيم أنزلت، وفيم كانت؟ ). رواه الدارمي. وكما عرض بشير بن نهيك على أبي هريرة ما كتبه عنه من الحديث. - قال عمران بن حدير: حدثني أبو مجلز، عن بشير بن نهيك قال:(أتيت أبا هريرة بكتابي الذي كتبت عنه، فقرأت عليه، قلت: هذا سمعت منك؟ قال: نعم). رواه البيهقي في المدخل إلى السنن، ورواه الترمذي في سننه وأبو خيثمة في العلم وزادا: (فأرويه عنك؟ قال: نعم). 2. وطريقة المساءَلة، وقد رويت آثار تدل على كثرة مساءَلة التابعين للصحابة في التفسير والفقه والحديث وغيرها من مسائل العلم، ودواوين السنّة حافلة بمسائل التابعين للصحابة. وكان من التابعين من له عناية ببعض فروع العلم فيكثر من السؤال عنه: - قال أبيّ بن كعب رضي الله عنه لزرّ بن حبيش: (لا تريد أن تدع آية في كتاب الله تعالى إلا سألتني عنها!! ) رواه الإمام أحمد. - وقال الشعبي: (والله ما من آية إلا قد سألت عنها). رواه ابن جرير. بل كان منهم من يجمع المسائل حتى إذا لقي بعض علماء الصحابة سألهم، كما كان يفعل سعيد بن جبير وغيره. 3: وطريقة الملازمة وهي أن يلازم التابعي أحد علماء الصحابة حتى يحصّل ما قدّر له من علمه، فينتفع بمساءلته وما يسمعه من حديثه وفتاويه وهديه وسمته. وكانت الملازمة من الطرق الشائعة في التعلّم، بل كان منهم من تطول ملازمته للعالم من الصحابة سنوات طويلة. 4. وطريقة الكتابة والتقييد وقد كتب جماعة من التابعين ، وكانت كتابتهم على أنواع يأتي تفصيلها إن شاء الله، وكان لبعضهم صحف وكتب من كثرة ما كتبوا من مسائل العلم. 5: وطريقة المراسلة وهي أن يكتب التابعي بالسؤال إلى الصحابي فيجيبه كتابة أو مشافهة لمن أرسله. وقد كان ابن عباس رضي الله عنه ممن كثرت الكتابة إليه وهو في مكة، ولكنّه كان في أكثر أمره يجيب السائل مشافهة ويقول أخبره بكذا وكذا، ولا يكتب إلا لمن يتوثّق في حسن أخذهم ممن يعرفهم، وقد كان ابن أبي مليكة قاضيا في الطائف وكان يكتب إلى ابن عباس فيجيبه ابن عباس كتابة. 6: وطريقة التدارس والمذاكرة وهي أن يجتمع جماعة من التابعين فيتذاكرون باباً من العلم أو تفسير آية أو مسألة فقهية أو غيرها؛ فيذكر كل واحد منهم ما فهمه وما بلغه من العلم فيها، وربما إذا اختلفوا عرضوا خلافهم على عالم من الصحابة أو على أعلمهم، ولذلك أمثلة كثيرة - منها ما رواه ابن أبي شيبة من طريق هشام بن حسان عن ابن سيرين عن الأحنف بن قيس قال: كنا جلوسا بباب عمر فخرجت جارية فقلنا: سرية عمر " فقالت: إنها ليست سرية لعمر، إني لا أحلّ لعمر، إني من مال الله. فتذاكرنا بيننا ما يحل له من مال الله، قال: فرقى ذلك إليه، فأرسل إلينا فقال: «ما كنتم تذاكرون؟» فقلنا: خرجت علينا جارية، فقلنا: هذه سرية عمر، فقالت: إنها ليست بسرية عمر، إنها لا تحل لعمر، إنها من مال الله، فتذاكرنا ما بيننا ما يحل لك من مال الله. فقال: (( أنا أخبركم بما أستحلّ من مال الله: حلّة الشتاء والقيظ، وما أحجّ عليه وما أعتمر من الظهر، وقوت أهلي كرجل من قريش، ليس بأغناهم ولا بأفقرهم، أنا رجل من المسلمين يصيبني ما أصابهم )). - ومنها ما أخرجه سعيد بن منصور وابن جرير من طريق أبي بشر اليشكري، عن سعيد بن جبير قال: كنا في حجرة ابن عباس، ومعنا عطاء بن أبي رباح ونفر من الموالي، وعبيد بن عمير، ونفر من العرب؛ فتذاكرنا اللماس [ يريد مغنى قول الله تعالى: {أو لامستم النساء} فقلت أنا وعطاء: اللمس باليد. وقال عبيد بن عمير والعرب: هو الجماع. فقلت: إن عندكم من هذا لفصلٌ قريب، فدخلت على ابن عباس وهو قاعد على سرير، فقال لي: مَهْيَم؟ فقلت: تذاكرنا اللمس، فقال بعضنا: هو اللمس باليد، وقال بعضنا: هو الجماع. قال: من قال: هو الجماع؟ قلت: العرب. قال: فمن قال: هو اللمس باليد؟ قلت: الموالي. قال: فمن أي الفريقين كنت؟ قلت: مع الموالي. فضحك، وقال: غُلبت الموالي، غُلبت الموالي - ثلاث مرات - ثم قال: إن اللمس، والمس، والمباشرة إلى الجماع ما هو، ولكن الله عز وجل يكني ما شاء بما شاء]. 7. وطريقة الإشراف على التحديث والإفتاء وهي أن يجيز العالمُ من الصحابة تلميذه التابعي بالتحديث والإفتاء وهو شاهد؛ فإذا أخطأ علَّمه الصواب، وإذا أشكل على التابعيّ شيء سأل الصحابي. - قال مجاهد: قال ابن عباس لسعيد بن جبير: حدّث. فقال: أُحدِّث وأنت ها هنا !! فقال: (أوليس من نعمة الله عليك أن تحدّث وأنا شاهد؛ فإن أصبتَ فذاك، وإن أخطأتَ علَّمتُك؟!!). رواه ابن سعد وابن أبي حاتم والبيهقي في المدخل. وكان عمر سعيد بن جبير عند موت ابن عباس اثنان وعشرون عاماً. وكما أجاز ابن عباس عكرمة بالفتوى. 8: الإملاء والتلقين فكان من التابعين من يحرص على نشر العلم ويتعاهد الناشئة به لمظنّة حفظهم وطول أعمارهم بعده - قال محمد بن إسحاق: (رأيت أبا سلمة بن عبد الرحمن يأخذ بيد الصبي من الكُتَّاب؛ فيذهب به إلى البيت فيملي عليه الحديث ويكتب له). رواه الخطيب البغدادي وابن عساكر في تاريخيهما. 9: طريقة القصص وكان من التابعين جماعة من القصّاص وكان من ثقات القُصَّاص الذين ينشرون علمهم في مجالس الوعظ والتذكير: عبيد بن عمير الليثي بمكة، وعطاء بن يسار بالمدينة، وأبو الأحوص عوف بن مالك الجشمي بالكوفة، وغيرهم. - قال شعبة لأبي إسحاق السبيعي: كيف كان أبو الأحوص يحدث؟ قال: (كان يسكبها علينا في المسجد. يقول: قال عبد الله، قال عبد الله). رواه الفسوي وابن سعد. وكان من القصّاص الثقات. - قال عاصم بن أبي النجود: (كنا نأتي أبا عبد الرحمن السلمي ونحن غلمة أيفاع. قال فكان يقول لنا: لا تجالسوا القصاص غير أبي الأحوص). رواه مسلم في مقدمة صحيحه، وابن سعد. - وقال موسى بن دهقان: (رأيت عطاء بن يسار يقصّ في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم غدوة وعشية، ورأيت القاسم وسالماً يجلسان إليه).رواه ابن عساكر. - وقال عبد الواحد بن زياد: حدثنا أبو شهاب، قال: «كان سعيد بن جبير يقصّ لنا كل يوم مرتين بعد صلاة الفجر وبعد العصر» رواه ابن سعد. 10: التألّف على العلم كان من التابعين من يتألف الناس على علمه: - قال حماد بن زيد عن هشام بن عروة عن أبيه قال: (يا بني سلوني فلقد ترُكتُ حتى كدتُ أن أنسى، وإني لأُسأل عن الحديث فيقيم لي حديث يومي). رواه الفسوي في المعرفة والتاريخ. - وقال سفيان بن عيينة: قال الزهري: (كان عروة يتألف الناس على علمه) رواه ابن أبي شيبة وابن أبي خيثمة وابن عساكر. - وقال عمرو بن دينار: لما قدم مكة – يعني عروة - قال لنا: «ائتوني فتلقَّوا مني» رواه ابن أبي شيبة وابن أبي خيثمة وابن عساكر. - وقال محمد بن إسحاق: (رأيت أبا سلمة بن عبد الرحمن يأخذ بيد الصبي من الكُتَّاب؛ فيذهب به إلى البيت فيملي عليه الحديث ويكتب له). رواه الخطيب البغدادي وابن عساكر في تاريخيهما. وهذا مذهب لبعض التابعين رغبة في انتفاع الناس بعلمهم، وكان منهم من يكره ذلك خشية الشهرة وأنا يوطأ عقبه - قال عاصم بن أبي النجود: «كان أبو العالية إذا جلس إليه أكثر من أربعة قام» رواه ابن أبي شيبة. - وقال إبراهيم النخعي عن علقمة أنه قيل له حين مات عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: لو قعدت فعلَّمتَ الناس السنة؟ فقال: «أتريدون أن يوطأ عقبي» رواه الدارمي. - وقال عبد الرحمن بن يزيد النخعي: قيل لعلقمة: ألا تقعد في المسجد فيُجتمع إليك، وتُسأل، ونجلس معك؟! فإنه يُسأل من هو دونك!! فقال: (إني أكره أن يوطأ عقبي، يقال هذا علقمة). رواه أبو خيثمة في كتاب العلم وابن عساكر. |
أصناف أهل العلم من التابعين
حمل العلم من التابعين ثلاثة أصناف من العلماء: 1. فصنف كانوا أهل فقه واجتهاد ونظر، وهم أئمة المفسرين والفقهاء والقضاة وجهابذة المحدثين، ومنهم الفقهاء السبعة، وعبيدة السلماني، وعلقمة بن قيس النخعي، وسعيد بن جبير، ومجاهد، وعكرمة، والحسن البصري، ومحمد بن سيرين، وقتادة، وغيرهم ممن تقدّم ذكرهم. 2. وصنف أهل حفظ ورواية، ومنهم من يكتب؛ ضبطوا المرويّات وأدّوها كما سمعوها؛ فانتفع الناس بما حصّلوه من العلم ونشروه، وكان منهم أهل عناية بالتفسير، ومنهم أهل عناية بالأحاديث والآثار والسير، ومنهم أهل عناية بأقوال الفقهاء. ومنهم: عبد الرحمن بن عسيلة الصنابحي، وسعيد بن نمران، وحسان بن فائد، وأربدة التميمي، والربيع بن أنس البكري، وأبو تميمة طريف بن مجالد الهجيمي، وأبو المتوكّل الناجي، وأبو الزبير المكي، وأبو صالح مولى أمّ هانئ، وغيرهم. 3. وصنف أهل عبادة وصلاح على استقامة وسداد؛ انتفع الناس بصلاحهم وزهدهم واستقامتهم ولا سيما في مواضع الفتن؛ فكان العلماء يتذاكرون سيرهم وأخبارهم وفقههم في سلوكهم وعباداتهم ومواقفهم من الفتن، وإن كان المروي عنهم من الأحاديث والآثار والفتاوى نادر جداً، ومن هؤلاء: أويس القرني، وهرم بن حيان العبدي، وعامر بن عبد قيس التميمي. وأهل هذه الأصناف الثلاثة كلّهم قد حُمل عنهم العلم، ومعهم أصل العلم الذي يشترك فيه عامّتهم إلا أنّ بعضهم أكثر عناية ببعض العلوم من بعض. ومن التابعين من هو إمام في هذه الأصناف الثلاثة؛ فإذا ذكر العلماء والفقهاء والمفسرون كان منهم، وإذا ذكر الرواة والحفاظ كان منهم، وإذا ذكر الزهَّاد والعُبَّاد كان منهم، وهذا شائعٌ في أئمة التابعين. |
التعريف ببعض ما حدث في عصر التابعين
عصر التابعين كان خير عصور الأمة بعد عصر الصحابة رضي الله عنهم، وفيه اتسعت الفتوح الإسلامية، وانتشر العلم، وعرفت الأسانيد، وكان الخلفاء المعدودون من التابعين أقرب إلى الصلاح والإصلاح من كثير ممن جاء بعدهم؛ فقد سيَّروا الجيوش وفتحوا البلدان حتى فتحوا السند وبلاد ما وراء النهر شرقاً وبلاد الأندلس غرباً. وفي عهد عمر بن عبد العزيز انتشر تدوين السنة، وولَّى على الولايات أهل العلم والرأي والتدبير، وعزل كلّ من بلغه عنه ظلم للرعية، واجتهج في ردِّ المظالم وإعطاء الحقوق، حتى فشا العلم والعدل، وكثر الخير، وصلح أمرُ الرعية، وبقيت آثار هذا الصلاح مدّة من الزمن، ومن ذلك فشوّ العلم وانتشار الكتب واشتهارها. ومما ينبغي أن يُعلم أنّ الصحابة امتازوا على غيرهم من الأمّة بأنّهم كلّهم عدول ثقات يُحتجّ بمروياتهم، وأما التابعون ومن بعدهم ففيهم الثقات وفيهم دون ذلك. وقد حدث في عصر التابعين أمور لها آثار على الحركة العلمية في ذلك العصر، ومنها: 1: ظهور بعض مظاهر الغلو والتفريط ومخالفة هدي النبي صلى الله عليه وسلم، مع بقاء كثرة كاثرة من التابعين على الهدي القويم والاتباع الحسن للصحابة رضي الله عنهم، لكن لبعض من وقع منهم تفريط أو إفراط أتباع كثروا فيما بعد. 2: كثرة الحروب والفتن ولا سيما في أواخر سنيّ الدولة الأموية وأوائل عهد الدولة العباسية، حتى قُتل جماعات من حملة العلم وكبار الرواة في تلك الفتن، وحُبس بعضهم، وهجّر بعضهم، وكان أكثر من ناله الأذى في تلك المحن أهل خراسان: - فكان ممن قتلهم أبو مسلم الخراساني: يزيد النحوي راوي التفسير عن عكرمة، وإبراهيم بن ميمون الصائغ وكان عالم مرو ومفتي أهلها، وغيرهما. - قال يزيد النحوي: أتاني إبراهيم الصائغ فقال: أما ترى ما يعمل هذا الطاغية إن الناس معه في سعة غيرنا أهل العلم؟ قلت: لو علمتُ أنه يصنع بي إحدى الخصلتين لفعلت، إن أمرتُ ونهيتُ يقبل منا أو يقتلنا، ولكني أخاف أن يبسط عليَّ العذاب وأنا شيخ كبير لا صبر لي على السياط. فقال الصائغ: لكني لا أنتهي عنه؛ فدخل عليه فأمره ونهاه فقتله. ثم إنّ أبا مسلم ظفر بيزيد النحوي وقتله، والنحوي نسبة إلى نحو بطن من الأزد، وليس إلى علم النحو. - وكان ممن حُبس فطال حبسه الربيع بن أنس البكري تلميذ الحسن وأبي العالية، قال الذهبي: (سجنه أبو مسلم تسعة أعوام). - وكان ممن هرب خوفاً من بطش أبي مسلم مقاتل بن حيان البلخي صاحب التفسير، فلحق بكابل، ودعا إلى الإسلام فأسلم على يديه خلق كثير، وكان أهل كابل يعظّمونه فلما مات حزن عليه ملكهم وتسلَّب عليه أي لبس ثياب الحداد، فقيل له: إنه ليس على دينك!! قال: (إنه كان رجلا صالحاً). والمقصود أن هذه الفتن العظيمة كان لها أثر في الحركة العلمية بظهور بعض التأولات الخاطئة، والفرق والأهواء، والعصبية لبعض الأهواء، وقد وضع الوضّاعون في أوائل الدولة العباسية أحاديث كثيرة، وكان جهابذة أهل الحديث يبيّنون كذبها ويحذرون الناس من الوضاعين والمتهمين بالكذب حتى حذرهم الناس. 3: نشأة الفرق والأهواء، واستفحال خطر بعضها كالخوارج والشيعة والمرجئة والقدرية والمعتزلة، وظهر لبعضهم شوكة في بعض البلدان؛ فتغلّبت الإباضية على عمان وبعض بلاد المغرب، وظهر للخوارج في المشرق إمارات إثر إمارات. وقد قتلت الخوارج جماعة من أهل العلم، منهم: - أبو الأحوص عوف بن مالك الجشمي، وكان من كبار الرواة عن ابن مسعود رضي الله عنه. - وسميّ مولى أبي بكر بن عبد الرحمن صاحب المرويات الكثيرة عن مولاه أبي بكر وعن أبي صالح السمان عن أبي هريرة. قال سفيان بن عيينة: (قتلته الحرورية يوم قُديد، وكان جميلاً). 4: ظهور العجمة وفشوّ اللحن، بسبب اختلاط العجم بالعرب وكثرة الموالي ودخول كثير من الأعاجم في الإسلام. 5: إسلام بعض أحبار اليهود، ونشرهم ما قرأوه في كتبهم من أخبار بني إسرائيل، وفشوّ التحديث عنهم. 6: كثرة القُصّاص والأخباريين، الذين كانت أكثر عنايتهم بالوعظ والتذكير والقصص والأخبار، وقد دخل على كثير منهم أخطاء في فهم المرويات وروايتها. وهذه الأمور وإن كان نصيب التابعين منها أقلّ من نصيب من جاء بعدهم إلا أنّ لها أثراً لا ينكر في كثير من العلوم، ولذلك احتاج أهل العلم إلى ضبط مسائل العلم ؛ بضبط روايته ودرايته: أ: فأما ضبط روايته فبمتييز الأسانيد، فما كان من رواية الثقات قُبل وما كان من رواية الضعفاء وأهل الأهواء ردّ. - قال محمد بن سيرين: (لم يكونوا يسألون عن الإسناد، فلما وقعت الفتنة، قالوا: سموا لنا رجالكم، فينظر إلى أهل السنة فيؤخذ حديثهم، وينظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم). رواه مسلم في مقدمة صحيحه. ب: وأما ضبط درايته؛ فكان بفحص المتون، وعرضها على ما لديهم من محكم العلم، فما وافقه قُبل، وما خالفه رُدَّ. وقد يختلفون في مسائل يدخلها الاجتهاد. |
العلوم المعتنى بها في زمن التابعين
العلوم التي ظهرت العناية بها في زمن التابعين ترجع إلى أصول العلوم التي كان يُعتنى بها في زمن الصحابة رضي الله عنهم ، لكنهم توسعوا فيها وأنشأوا بعض فروعها لأسباب منها ما يعود لحاجة طلاب العلم والمعلمين في ذلك العصر، ومنها ما يعود لما استجد في عصرهم من حوادث وفتن كان لها أثر في الحركة العلمية. فأصول العلم التي عُني بها التابعون هي: التفسير وعلوم القرآن، والحديث، وعلم الاعتقاد وكان يُسمى السنّة، والحلال والحرام وهو ما عرف باسم الفقه، وعلم السلوك، والسيرة النبوية والمغازي، وعلوم العربية. ومن العلوم المشتهرة في عصرهم علم الأنساب، والتاريخ، وأخبار العرب وأشعارهم، والرؤى، والفراسة، والفلك، وهي من العلوم التي كانت العرب تُعنى بها وتحفظها؛ وفي بعضها أحاديث وآثار، فدوّن بعض التابعين شيئاً منها. ثمّ إنّ التابعين توسعوا في بعض هذه العلوم حتى أنشأوا لها فروعاً كتب فيها بعضهم كتباً: 1. ففي القراءات برز أئمة من قراء الأمصار عنوا بالقراءات وكان لهم فيها اجتهاد واختيار في الأحرف، وعنوا برسم المصاحف ونقطها وشَكْلها، وعدّ الآي، والوقف والابتداء، وآداب التلاوة، ونزول القرآن، والناسخ والمنسوخ، وغيرها من علوم القرآن التي كانت عنايتهم فيها امتداداً لعناية الصحابة رضي الله عنهم. - ونشأ التأليف في علم الوقف والابتداء، وكان أوّل من كتب فيه شيبة بن نصاح المدني قارئ أهل المدينة، قال ابن الجزري: (وهو أوَّل من ألَّف في الوقوف، وكتابه مشهور). وقد ذكر أن لابن عامر اليحصبي كتاباً في الوقوف اسمه "المقطوع والموصول". 2. وفي التفسير، كثرت العناية بالصحف التفسيرية حتى كتب جماعة من التابعين صحفاً وأجزاء في التفسير عن بعض الصحابة وعن بعض التابعين، كصحف أربدة التميمي وأبي مالك الغفاري، وأبي صالح مولى أمّ هانئ، عن ابن عباس، وكتب سعيد بن جبير كتاباً في التفسير لعبد الملك بن مروان. وفي أواخر عصر التابعين ظهرت الموازنة بين الصحف التفسيرية والتأليف بينها ؛ فكتب السدي تفسيره معتمداً على صحف تفسيرية عدة، ثم توسّعت الموازنة بين الصحف والجمع بين الروايات بعد ذلك. وظهر ما عُرف بالتفسير بالرأي وأصله الاجتهاد في التفسير. 3. وفي علوم الحديث كثرت كتابة الأحاديث، واعتنوا بالأسانيد، وتوثيق المرويات. ودوّن جماعة من محدّثي التابعين ما سمعوه من الصحابة رضي الله عنهم؛ فكان لهمام بن منبه وبشير بن نهيك ومحمد بن سيرين صحف عن أبي هريرة رضي الله عنه. وكان لعبيدة بن عمرو السلماني كتبٌ لكنّه أمر بإتلافها عند موته. وكان للحارث الأعور الهمداني كتب، وتزوَّج أبو إسحاق السبيعي امرأته وقرأ كتبه. وكان لنافع مولى ابن عمر صحيفة مشهورة يرويها عن ابن عمر وكتب سليمان اليشكري صحيفة عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، وكان لبكير بن عبد الله بن الأشجّ كتبٌ، ولأبي حازم سلمة بن دينار، وقال الحسن البصري: ( إنّ لنا كتباً نتعاهدها). رواه الخطيب البغدادي في تقييد العلم. والأمثلة على تدوين التابعين للحديث كثيرة جداً. 4. وفي سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ومغازيه ظهرت عناية جماعة من التابعين بها فكان منهم من يحفظ ولا يكتب ومنهم من يكتب ، وممن عرفت عنهم العناية بالسيرة من التابعين: عروة بن الزبير، وعامر بن شراحيل الشعبي، وعكرمة مولى ابن عباس، وعاصم بن عمر بن قتادة الأنصاري، ومحمد بن جعفر بن الزبير بن العوام، ومحمد بن مسلم بن شهاب الزهري، وموسى بن عقبة بن أبي عياش المدني، ومحمد بن إسحاق بن يسار وهو من صغار طبقة التابعين ومغازيه أجمع المغازي وأشهرها، ولها روايات كثيرة جداً. 5. وفي الفقه توسّعت عناية الفقهاء بالأدلة والمسائل، وكان لكل معلّم من الصحابة تلاميذ حفظوا أقواله وفتاويه، وكان التابعون يتذاكرون مسائل الفقه وأقوال الصحابة رضي الله عنهم فيها؛ فنشأت العناية بأقوال الفقهاء من الصحابة والتابعين، وكان من التابعين من يأخذ عن عددٍ من الصحابة فيحصل له من المعرفة بأقوالهم وفتاويهم ما لا يحصل لمن اقتصر على واحدٍ منهم أو على أهل بلده. وعني بعضهم ببعض فروع الفقه عناية ظاهرة فكان سعيد بن المسيب من أعلمهم بأحكام القضاء، وكان الزهري ويحيى بن سعيد الأنصاري من أحفظهم لها بعده. وكان الشعبي والحسن البصري وقتادة من أعلم التابعين باختلاف الصحابة ومعرفة أقوالهم وفتاويهم. وكان عطاء بن أبي رباح من أعلمهم بالمناسك. وكان من أعلمهم بالفرائض خارجة بن زيد بن ثابت وعامر الشعبي وابن سيرين ثم الأعمش بعدهم. وكتب عروة بن الزبير كتبا في الفقه ثم أحرقها بعد وندم على إحراقها. ثم في زمن صغار التابعين ظهرت العناية بالرأي والقياس وتوليد المسائل للمذاكرة والمناظرة والتعلم فكان ممن عني بذلك: ربيعة بن أبي عبد الرحمن بالمدينة، وحماد بن أبي سليمان وأبو حنيفة النعمان بن ثابت بالكوفة. 6. وفي السنة والعقيدة كان عامّة علماء التابعين من أئمة أهل السنة، وكانوا ينكرون البدع والأهواء، ويحذّرون من مجالسة المبتدعة. وقد سبق البيان عن ظهور بعض الفرق والأهواء في أواخر زمن الصحابة رضي الله عنهم كالخوارج والمرجئة والقدرية والشيعة، وقد زاد الأمر في زمن التابعين فظهرت الجهمية والمعتزلة والرافضة والزيدية وغيرهم، وكان لبعض هؤلاء المبتدعة شبهات وجدال ومساءلات لبعض الصحابة والتابعين. وكان من كبار أهل الأهواء في زمانهم: معبد الجهني، والجعد بن درهم، والجهم بن صفوان، وعمرو بن عبيد ابن باب البصري، وواصل بن عطاء الغزال، وجابر الجعفي وكان يُنسب إليه القول بالرجعة أي اعتقاد رجوع علي بن أبي طالب رضي الله عنه للحياة. ومن رؤوس الخوارج ممن أدرك بعض الصحابة: نافع بن الأزرق، ونجدة بن عامر الحروري، وشبيب بن يزيد الشيباني، وقطري بن الفجاءة المازني، وعمران بن حطان السدوسي، وغيرهم كثير. 7. وفي علم السلوك، كانت العناية ظاهرة بيّنة، وإن لم تكن تسمية هذا العلم مشتهرة في زمانهم كحال اسم العقيدة وتخصيص اسم الفقه بالأحكام الشرعية الفرعية؛ فهذه الأسماء إنما اشتهرت بعد ذلك بمدة. وقد برز من التابعين أئمة من أهل المعرفة والعبادة والزهد وحسن الهدي والسمت، وكان التابعون يتناقلون أخبارهم ليقتدوا بهم حتى دوّنت أخبارهم في زمن تابعي التابعين ومن بعدهم في كتب مفردة. وكان علم السلوك يُعتنى فيه بأمرين: 1. التبصّر بالأصلح للعبد في عباداته ومعاملاته، ومعرفة المخارج من الفتن، والتفقه في المسائل المتعلقة بذلك، حتى يكتسب من المعرفة والفقه ما يكون عدّة له في سلوكه. 2. والاقتداء بالأصلح من العلماء الذين جمعوا العلم والعمل؛ وامتثال هديهم وسمتهم؛ فالتعلم بالقدوة الصالحة يثمر في القلب ما لا تثمره كثير من الكتب. فكما كان الصحابة رضي الله عنهم يقتدون بالنبي صلى الله عليه وسلم، ويقتدي بعضهم بأصلح من يراه من كبار الصحابة وعلمائهم ؛ فكذلك كان حال التابعين مع الصحابة رضي الله عنهم، وحال صغار التابعين مع كبارهم وفقهائهم، وكان الصحابة يثنون على من يعلمون فيه الخير من التابعين ليُقتدى بهم: - قال عبد الرحمن بن جبير بن نفير: حج عمرو بن الأسود؛ فلما انتهى إلى المدينة نظر إليه عبد الله بن عمر وهو قائم يصلي فسأل عنه؛ فقيل له: رجل من أهل الشام، يقال له: عمرو بن الأسود. فقال ابن عمر: (ما رأيت أحدا أشبه صلاة ولا هديا ولا خشوعا ولا لبسة برسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا الرجل). رواه ابن عساكر. وعمرو بن الأسود العنسي من أصحاب معاذ بن جبل وأبي الدرداء، وقد ولاه معاوية قضاء حمص مدّة، وكان يستشيره في النوازل. - وقال أنس بن مالك رضي الله عنه: ("ما صليت وراء أحد أشبه صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا الفتى"، يعني عمر بن عبد العزيز). رواه ابن سعد. - وقال عبد الرزاق: (أخذ أهل مكةَ الصلاةَ عن ابن جريج، وأخذها ابن جريج عن عطاء، وأخذها عطاء عن ابن الزبير، وأخذها ابن الزبير من أبي بكر الصديق، وأخذ أبو بكر الصديق، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأخذها النبي صلى الله عليه وسلم عن جبريل عليه السلام). رواه ابن عساكر. وهذا مما يدلّ على أنّهم كانوا يتعلّمون هيئة أداء العبادات ، والأصل في ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (صلّوا كما رأيتموني أصلّي). وهكذا كان شأنهم في سائر العبادات: - قال ابن وهب: حدثني مالك (أن محمد بن سيرين قد ثَقل وتخلَّف عن الحج، فكان يأمر من يحج أن ينظر إلى هدي القاسم ولَبوسه وناحيته؛ فيبلّغوه ذلك؛ فيقتدي بالقاسم). رواه الفسوي وابن عساكر. والآثار عن التابعين في ذلك كثيرة، وإنما سقت هذه الآثار لتدل على ما ورائها من عناية التابعين رحمهم الله بهذا العلم. 8. وفي علوم العربية توسّعت عناية التابعين بها لظهور اللحن وفشوّ العجمة، فأصّلت أصولها وفرّعت فروعها، وكان أكثر الاعتماد فيها على مشافهة المعروفين بالفصاحة وسعة المعرفة بلسان العرب من الأعراب وعلماء التابعين. وكان من أشهر التابعين عناية بالعربية ومعرفة بها: زر بن حبيش الأسدي، وأبو الأسود الدؤلي، وعنبسة الفيل وهو عنبسة بن معدان المهري، ونصر بن عاصم الليثي، ويحيى بن يعمر العدواني، وعبد الله بن أبي إسحاق الحضرمي، وغيرهم. - قال عمر بن شبة: حدثنا عبد الله بن محمد [يعني التوّزي]، قال: سمعت أبا عبيدة يقول: (أول من وضع النحو أبو الأسود الديلي، ثم ميمون الإفريقي، ثم عنبسة الفيل، ثم عبد الله بن أبي إسحاق). رواه ابن عساكر في تاريخ دشق.- قال محمد بن سلام الجمحي: (ثم كان من بعدهم عبد الله بن أبى إسحاق الحضرمى، وكان أولَّ من بعجَ النحوَ ومدَّ القياسَ والعلل، وكان معه أبو عمرو ابن العلاء، وبقي بعده بقاء طويلاً، وكان ابن أبى إسحاق أشدَّ تجريداً للقياس، وكان أبو عمرو أوسعَ علماً بكلام العرب ولغاتها وغريبها). فتوسعت العناية بالنحو، وبلغات العرب، وغريب ألفاظها، وبالكتابة والبيان ، فكان بعض خلفاء بني أمية وولاتهم في الأمصار ينتقون كُتَّابهم من أهل المعرفة بالأدب والبيان وحسن المنطق وجودة الخطّ؛ فكان من مشاهير الكُتَّاب ممن هم في طبقة التابعين: - الحسن البصري، وكان كاتباً للربيع بن زياد والي خراسان في خلافة معاوية. - وسليمان بن سعد الخشني وهو كاتب عبد الملك بن مروان، وذُكر أنه أوّل من نقل حساب الديوان من الرومية إلى العربية. - وإسماعيل بن أبي حكيم المدني كاتب عمر بن عبد العزيز. - وصالح بن عبد الرحمن الكاتب، وذكر عنه أنّه أول من نقل الديوان من الفارسية إلى العربية، وهو من مشاهير الكتاب في زمان سليمان بن عبد الملك وقد ولاه خراج العراق. - سالم بن عبد الله مولى هشام بن عبد الملك بن مروان وكاتبه، وهو أستاذ عبد الحميد بن يحيى الكاتب. - وكان عبد الحميد كاتب مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية، وقد قُتل معه. - والجهم بن صفوان رأس الجهمية، وكان كاتبا للأمير الحارث بن سريج التميمي بخراسان. وكان في زمان التابعين جماعة من الشعراء الكبار الذين حفظت أشعارهم ودوّنت أخبارهم، ومنهم: الحطيئة جرول بن أوس العبسي، وعبد الرحمن بن حسان بن ثابت، والنجاشي الحارثي واسمه قيس بن عمرو، وسويد بن أبي كاهل اليشكري، وسحيم بن وثيل الرياحي، والعجاج بن رؤبة التميمي، وابنه رؤبة، وعبد الله بن قيس الرقيات القرشي، وعمر بن أبي ربيعة المخزومي، والأحوص وهو عبد الله بن محمد بن عاصم بن ثابت حميّ الدبر الأنصاري، وجرير بن عطية الخطفي اليربوعي، والفرزدق همام بن غالب الدارمي، والمرار بن منقذ التميمي، وعبيد بن حصين النميري، والبعيث واسمه خداش بن بشر، وعمرو بن شُييم القطامي، وذو الرمّة واسمه غيلان بن عقبة، وكثير بن عبد الرحمن الخزاعي المعروف بكثيّر عزة، وجميل بن معمر العذري، ونصيب مولى عبد العزيز بن مروان، وعديّ بن الرقاع العاملي، والأغلب العجلي، وأبو النجم العجلي، وغيرهم كثير. ومن هؤلاء الشعراء مخضرمون أدركوا الجاهلية والإسلام ومنهم إسلاميون، وكان لبعضهم رواة مشاهير، حفظوا أشعارهم وأخبارهم حتى دوّنت فيما بعد، وانتفع بها أهل العربية في النحو والصرف والمفردات وشرح الغريب والبيان. 9. وكتب وهب بن منبّه كتابه "المبتدأ" ودوّن فيها كثيراً من أخبار بني إسرائيل وكيف كان بدء الخلق وقصص بعض الأنبياء، واشتهر كتابه في زمانهم. وكان لبعض التابعين عناية بأخبار بني إسرائيل ممن قرأ كتبهم وروى بعض ما فيها، ومنهم: كعب الأحبار، ووهب بن منبه، وتبيع بن عامر الحميري، ومغيث بن سمي الأوزاعي، ونوف بن فضالة البكالي، وأبو الجلد الأسدي، وغيرهم. فهذه أشهر العلوم التي كانت في زمن التابعين رحمهم الله |
الساعة الآن 02:18 AM |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By
Almuhajir