دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > برنامج إعداد المفسر > دروس التفسير لبرنامج إعداد المفسّر > دروس تفسير سورة النساء

إضافة رد
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 10 ربيع الأول 1440هـ/18-11-2018م, 09:36 AM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي تفسير سورة النساء [ من الآية (94) إلى الآية (96) ]

تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَتَبَيَّنُواْ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِندَ اللّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُواْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (94) لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95) دَرَجَاتٍ مِّنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا (96)}

تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَتَبَيَّنُواْ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِندَ اللّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُواْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (94)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله: {يا أيّها الّذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل اللّه فتبيّنوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السّلام لست مؤمنا تبتغون عرض الحياة الدّنيا فعند اللّه مغانم كثيرة كذلك كنتم من قبل فمنّ اللّه عليكم فتبيّنوا إنّ اللّه كان بما تعملون خبيرا}
و(فتثبّتوا) بالثاء والتاء.
ومعنى {ضربتم}: سرتم في الأرض وغزوتم.

وقوله:
{ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السّلام لست مؤمنا}.
قرئت السلام بالألف، وقرئت السّلم. فأما السلام: فيجوز أن يكون من التسليم، ويجوز أن يكون بمعنى: السّلم، وهو: الاستسلام، وإلقاء المقادة إلى إرادة المسلمين.

ويروى في التفسير: أن سبب هذا أن رجلا انحاز وأظهر الإسلام فقتله رجل من المسلمين وأخذ سلبه، فأعلم اللّه عزّ وجلّ أن حق من ألقى السلم أن يتبين أمره.
ومن قرأ (فتثبتوا) فحقه أن يتثبّت في أمره، وأعلم الله - جلّ وعزّ – أن كل من أسلم ممن كان كافرا فبمنزلة الذي تعوذ بالإسلام، فقال عزّ وجلّ: {كذلك كنتم من قبل فمنّ اللّه عليكم} أي: منّ عليكم بالإسلام، وبأن قبل ذلك منكم على ما أظهرتم ثم كرر الأمر بالتبيين فقال عزّ وجلّ: {فتبيّنوا إنّ اللّه كان بما تعملون خبيرا} ). [معاني القرآن: 2/91-92]
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله تعالى: يا أيّها الّذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل اللّه فتبيّنوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السّلام لست مؤمناً تبتغون عرض الحياة الدّنيا فعند اللّه مغانم كثيرةٌ كذلك كنتم من قبل فمنّ اللّه عليكم فتبيّنوا إنّ اللّه كان بما تعملون خبيراً (94)
تقول العرب: ضربت في الأرض إذا سرت لتجارة أو غزو أو غيره مقترنة ب «في»، وتقول: ضربت الأرض دون «في» إذا قصدت قضاء حاجة الإنسان، ومنه قول- النبي عليه السلام: «لا يخرج الرجلان يضربان الغائط يتحدثان كاشفين عن فرجيهما فإن الله يمقت على ذلك»، وسبب هذه الآية: أن سرية من سرايا رسول الله لقيت رجلا له جمل ومتيع، وقيل غنيمة، فسلم على القوم وقال: لا إله إلا الله محمد رسول الله، فحمل عليه أحدهم فقتله، فشق ذلك على رسول الله ونزلت الآية فيه، واختلف المفسرون في تعيين القاتل والمقتول في هذه النازلة، فالذي عليه الأكثر- وهو في سيرة ابن إسحاق وفي مصنف أبي داود وغيرهما: أن القاتل محلم بن جثامة والمقتول عامر بن الأضبط، والحديث بكماله في المصنف لأبي داود، وفي السير وفي الاستيعاب، وقالت فرقة: القاتل أسامة بن زيد، والمقتول مرداس بن نهيك الغطفاني، وقالت فرقة: القاتل أبو قتادة، وقالت فرقة: القاتل غالب الليثي، والمقتول مرداس، وقالت فرقة: القاتل هو أبو الدرداء، ولا خلاف أن الذي لفظته الأرض حين مات هو محلم بن جثامة.
وقرأ جمهور السبعة فتبيّنوا وقرأ حمزة والكسائي «فتثبتوا» بالثاء مثلثة في الموضعين وفي الحجرات، وقال قوم: «تبينوا» أبلغ وأشد من «تثبتوا»، لأن المتثبت قد لا يتبين، وقال أبو عبيد: هما متقاربان.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: والصحيح ما قال أبو عبيد، لأن تبين الرجل لا يقتضي أن الشيء بان له، بل يقتضي محاولة اليقين، كما أن ثبت تقتضي محاولة اليقين، فهما سواء، وقرأ نافع وابن عامر وحمزة وابن كثير في بعض طرقه، «السّلم» بتشديد السين وفتحه وفتح اللام، ومعناه: الاستسلام أي ألقى بيده واستسلم لكم وأظهر دعوتكم، وقرأ بقية السبعة «السلام» يريد سلم ذلك المقتول على السرية، لأن سلامه بتحية الإسلام مؤذن بطاعته وانقياده، ويحتمل أن يراد به الانحياز والترك، قال الأخفش: يقال: فلان سلام إذا كان لا يخالط أحدا، وروي في بعض طرق عاصم «السّلم» بكسر السين وشده وسكون اللام وهو الصلح، والمعنى المراد بهذه الثلاثة يتقارب، وقرأ الجحدري «السّلم» بفتح السين وسكون اللام، والعرض: هو المتيع والجمل، أو الغنيمة التي كانت للرجل المقتول، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع وأبو حمزة واليماني «لست مؤمنا» بفتح الميم، أي لسنا نؤمنك في نفسك، وقوله تعالى: فعند اللّه مغانم كثيرةٌ عدة بما يأتي به الله على وجهه ومن حله دون ارتكاب محظور أي فلا تتهافتوا.
واختلف المتأولون في قوله تعالى: كذلك كنتم من قبل فقال سعيد بن جبير: معناه كنتم مستخفين من قومكم بإسلامكم، خائفين منهم على أنفسكم، فمنّ الله عليكم بإعزاز دينكم، وإظهار شريعتكم، فهم الآن كذلك، كل واحد منهم خائف من قومه، متربص أن يصل إليكم فلم يصلح إذا وصل أن تقتلوه حتى تتبينوا أمره، وقال ابن زيد: كذلك كنتم كفرة فمنّ الله عليكم بأن أسلمتم، فلا تنكروا أن يكون هو كافرا ثم يسلم لحينه حين لقيكم، فيجب أن يتثبت في أمره، ويحتمل أن يكون المعنى إشارة بذلك إلى القتل قبل التثبت، أي على هذه الحال كنتم في جاهليتكم لا تتثبتون، حتى جاء الله بالإسلام ومنّ عليكم، ثم أكد تبارك وتعالى الوصية بالتبين، وأعلم أنه خبير بما يعمله العباد، وذلك منه خبر يتضمن تحذيرا منه تعالى، لأن المعنى إنّ اللّه كان بما تعملون خبيراً، فاحفظوا نفوسكم، وجنبوا الزلل الموبق بكم). [المحرر الوجيز: 2/634-637]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ([قوله عزّ وجلّ] {يا أيّها الّذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل اللّه فتبيّنوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السّلام لست مؤمنًا تبتغون عرض الحياة الدّنيا فعند اللّه مغانم كثيرةٌ كذلك كنتم من قبل فمنّ اللّه عليكم فتبيّنوا إنّ اللّه كان بما تعملون خبيرًا (94)}
قال الإمام أحمد: حدّثنا يحيى بن أبي بكير، وحسين بن محمّدٍ، وخلف بن الوليد، قالوا: حدّثنا إسرائيل، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عبّاسٍ قال: مرّ رجلٌ من بني سليمٍ بنفرٍ من أصحاب النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم وهو يسوق غنمًا له، فسلّم عليهم فقالوا: ما سلّم علينا إلّا ليتعوّذ منّا. فعمدوا إليه فقتلوه، وأتوا بغنمه النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم فنزلت هذه الآية: {يا أيّها الّذين آمنوا [إذا ضربتم في سبيل اللّه فتبيّنوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السّلام لست مؤمنًا]} إلى آخرها.
ورواه التّرمذيّ في التّفسير، عن عبد بن حميدٍ، عن عبد العزيز بن أبي رزمة، عن إسرائيل، به. وقال: هذا حديثٌ حسنٌ، وفي الباب عن أسامة بن زيدٍ. ورواه الحاكم من طريق عبيد اللّه بن موسى، عن إسرائيل، به. ثمّ قال: صحيح الإسناد ولم يخرّجاه.
ورواه ابن جريرٍ من حديث عبيد اللّه بن موسى وعبد الرّحيم بن سليمان، كلاهما عن إسرائيل، به وقال في بعض كتبه غير التّفسير -وقد رواه من طريق عبد الرّحمن فقط-: وهذا خبر عندنا صحيحٌ سنده، وقد يجب أن يكون على مذهب الآخرين سقيمًا، لعللٍ منها: أنّه لا يعرف له مخرجٌ عن سماك إلّا من هذا الوجه، ومنها: أنّ عكرمة في روايته عندهم نظرٌ، ومنها: أنّ الّذي أنزلت فيه الآية مختلفٌ فيه، فقال بعضهم: أنزلت في محلّم بن جثّامة، وقال بعضهم: أسامة بن زيدٍ. وقيل غير ذلك.
قلت: وهذا كلامٌ غريبٌ، وهو مردودٌ من وجوهٍ أحدها: أنّه ثابتٌ عن سماك، حدّث به عنه غير واحدٍ من الكبار. الثّاني: أنّ عكرمة محتجٌّ به في الصّحيح. الثّالث: أنّه مرويٌّ من غير هذا الوجه عن ابن عبّاسٍ، كما قال البخاريّ: حدّثنا عليّ بن عبد اللّه، حدّثنا سفيان، عن عمرٍو، عن عطاءٍ، عن ابن عبّاسٍ: {ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السّلام لست مؤمنًا} قال: قال ابن عبّاسٍ: كان رجلٌ في غنيمة له، فلحقه المسلمون، فقال: السّلام عليكم. فقتلوه وأخذوا غنيمته [فأنزل اللّه ذلك إلى قوله: {تبتغون عرض الحياة الدّنيا} تلك الغنيمة. قرأ ابن عبّاسٍ (السّلام) وقال سعيد بن منصورٍ: حدّثنا سفيان عن عمرو بن دينارٍ عن عطاء بن يسارٍ عن ابن عبّاسٍ قال: لحق المسلمون رجلًا في غنيمة فقال: السّلام عليكم، فقتلوه وأخذوا غنيمته] فنزلت: {ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السّلام لست مؤمنًا}
ورواه ابن جريرٍ وابن أبي حاتمٍ، من طريق سفيان بن عيينة، به
وأمّا قصّة محلّم بن جثّامة فقال الإمام أحمد: حدّثنا يعقوب، حدّثنا أبي، عن محمّد بن إسحاق، حدثني يزيد بن عبد اللّه بن قسيط، عن القعقاع بن عبد اللّه بن أبي حدردٍ عن أبيه عبد اللّه ابن أبي حدردٍ، رضي اللّه عنه، قال: بعثنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إلى إضم، فخرجت في نفرٍ من المسلمين، فيهم: أبو قتادة الحارث بن ربعي، ومحلّم بن جثّامة بن قيسٍ، فخرجنا حتّى إذا كنا ببطن إضم مرّ بنا عامر بن الأضبط الأشجعيّ، على قعود له، معه متيّع ووطب من لبنٍ، فلمّا مرّ بنا سلّم علينا، فأمسكنا عنه، وحمل عليه محلّم بن جثّامة فقتله، بشيءٍ كان بينه وبينه، وأخذ بعيره متيّعه، فلمّا قدمنا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وأخبرناه الخبر، نزل فينا القرآن: {يا أيّها الّذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل اللّه [فتبيّنوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السّلام لست مؤمنًا تبتغون عرض الحياة الدّنيا فعند اللّه مغانم كثيرةٌ كذلك كنتم من قبل فمنّ اللّه عليكم فتبيّنوا إنّ اللّه كان بما تعملون] خبيرًا.}
تفرّد به أحمد
وقال ابن جريرٍ: حدّثنا ابن وكيع، حدّثنا جريرٌ، عن ابن إسحاق، عن نافعٍ؛ أنّ ابن عمر قال: بعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم محلّم بن جثّامة مبعثًا، فلقيهم عامر بن الأضبط، فحيّاهم بتحيّة الإسلام وكانت بينهم حسنة في الجاهليّة، فرماه محلّمٌ بسهمٍ فقتله، فجاء الخبر إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فتكلّم فيه عيينة والأقرع، فقال الأقرع: يا رسول اللّه، سنّ اليوم وغيّر غدًا. فقال عيينة: لا واللّه، حتّى تذوق نساؤه من الثّكل ما ذاق نسائي. فجاء محلّمٌ في بردين، فجلس بين يدي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ليستغفر له، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "لا غفر اللّه لك". فقام وهو يتلقّى دموعه ببرديه، فما مضت له سابعةٌ حتّى مات، ودفنوه، فلفظته الأرض، فجاءوا إلى النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم فذكروا ذلك له، فقال: "إنّ الأرض تقبل من هو شرٌّ من صاحبكم، ولكنّ اللّه أراد أن يعظكم من جرمتكم" ثمّ طرحوه بين صدفي جبلٍ وألقوا عليه الحجارة، ونزلت: {يا أيّها الّذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبيّنوا} الآية.
وقال البخاريّ: قال حبيب بن أبي عمرة، عن سعيدٍ، عن ابن عبّاسٍ قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم للمقداد: "إذا كان رجلٌ مؤمنٌ يخفي إيمانه مع قومٍ كفّارٍ، فأظهر إيمانه فقتلته، فكذلك كنت أنت تخفي إيمانك بمكّة من قبل".
هكذا ذكر البخاريّ هذا الحديث معلّقًا مختصرًا وقد روي مطوّلًا موصولًا فقال الحافظ أبو بكرٍ البزّار:
حدثنا حماد بن عليٍّ البغداديّ، حدّثنا جعفر بن سلمة، حدّثنا أبو بكر بن عليّ بن مقدّم، حدّثنا حبيب بن أبي عمرة، عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ قال: بعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم سريّةً، فيها المقداد بن الأسود، فلمّا أتوا القوم وجدوهم قد تفرّقوا، وبقي رجلٌ له مالٌ كثيرٌ لم يبرح فقال: أشهد أن لا إله إلّا اللّه. وأهوى إليه المقداد فقتله، فقال له رجلٌ من أصحابه: أقتلت رجلًا شهد أن لا إله إلّا اللّه؟ واللّه لأذكرن ذلك للنّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم. فلمّا قدموا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قالوا: يا رسول اللّه، إن رجلًا شهد أن لا إله إلّا اللّه، فقتله المقداد. فقال: "ادعوا لي المقداد. يا مقداد، أقتلت رجلًا يقول: لا إله إلّا اللّه، فكيف لك بلا إله إلّا اللّه غدًا؟ ". قال: فأنزل اللّه: {يا أيّها الّذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل اللّه فتبيّنوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السّلام لست مؤمنًا تبتغون عرض الحياة الدّنيا فعند اللّه مغانم كثيرةٌ كذلك كنتم من قبل فمنّ اللّه عليكم فتبيّنوا} فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم للمقداد: "كان رجلٌ مؤمنٌ يخفي إيمانه مع قومٍ كفّارٍ، فأظهر إيمانه، فقتلته، وكذلك كنت تخفي إيمانك بمكّة قبل".
وقوله: {فعند الله مغانم كثيرةٌ} أي: خيرٌ ممّا رغبتم فيه من عرض الحياة الدّنيا الّذي حملكم على قتل مثل هذا الّذي ألقى إليكم السّلام، وأظهر إليكم الإيمان، فتغافلتم عنه، واتّهمتموه بالمصانعة والتّقيّة؛ لتبتغوا عرض الحياة الدّنيا، فما عند اللّه من المغانم الحلّال خيرٌ لكم من مال هذا.
وقوله: {كذلك كنتم من قبل فمنّ اللّه عليكم} أي: قد كنتم من قبل هذه الحال كهذا الذي يسرّ إيمانه ويخفيه من قومه، كما تقدّم في الحديث المرفوع آنفًا، وكما قال تعالى: {واذكروا إذ أنتم قليلٌ مستضعفون في الأرض [تخافون أن يتخطّفكم النّاس فآواكم وأيّدكم بنصره]} الآية [الأنفال: 26]، وهذا هو مذهب سعيد بن جبيرٍ، كما رواه الثّوريّ، عن حبيب بن أبي عمرة، عن سعيد بن جبيرٍ في قوله: {كذلك كنتم من قبل} تخفون إيمانكم في المشركين.
ورواه عبد الرّزّاق، عن ابن جريج، أخبرني عبد اللّه بن كثيرٍ، عن سعيد بن جبيرٍ في قوله: {كذلك كنتم من قبل} تستخفون بإيمانكم، كما استخفى هذا الرّاعي بإيمانه.
وهذا اختيار ابن جريرٍ. وقال ابن أبي حاتمٍ: وذكر عن قيسٍ، عن سالمٍ، عن سعيد بن جبيرٍ قوله: {كذلك كنتم من قبل} [تورّعون عن مثل هذا، وقال الثّوريّ عن منصورٍ، عن أبي الضّحى، عن مسروقٍ: {كذلك كنتم من قبل}] لم تكونوا مؤمنين {فمنّ اللّه عليكم [فتبيّنوا} وقال السّدّيّ: {فمنّ اللّه عليكم}] أي: تاب عليكم، فحلف أسامة لا يقتل رجلًا يقول: "لا إله إلّا اللّه" بعد ذلك الرّجل، وما لقي من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فيه.
وقوله: {فتبيّنوا} تأكيدٌ لما تقدّم. وقوله: {إنّ اللّه كان بما تعملون خبيرًا} قال سعيد بن جبيرٍ: هذا تهديدٌ ووعيدٌ). [تفسير القرآن العظيم: 2/382-385]


تفسير قوله تعالى: {لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): ( {لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضّرر والمجاهدون في سبيل اللّه بأموالهم وأنفسهم فضّل اللّه المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلّا وعد اللّه الحسنى وفضّل اللّه المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما}
قرئت
{غير أولي الضّرر} بالرفع و {غير} بالنصب، فأما الرفع فمن جهتين:
إحداهما: أن يكون " غير " صفة للقاعدين، وإن كان أصلها أن تكون صفة للنكرة، المعنى: لا يستوي القاعدون الذين هم غير أولى الضرر، أي: لا يستوي القاعدون الأصحاء والمجاهدون وإن كانوا كلهم مؤمنين.

ويجوز أن يكون: " غير " رفعا على جهة الاستثناء.
المعنى: لا يستوي القاعدون والمجاهدون إلّا أولو الضرر، فإنهم يساوون المجاهدين، لأن الذي أقعدهم عن الجهاد الضرر، والضرر أن يكون ضريرا أو أعمى أو زمنا أو مريضا.
ويروى أن ابن أم مكتوم قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -:: أعل جهاد؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -:
(({انفروا خفافا وثقالا}، فإما أن تكون من الخفاف أو من الثقال)) فأنزل اللّه: {ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج}
وقوله جلّ وعزّ:
{فضّل اللّه المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلّا وعد اللّه الحسنى} أي: وعد الجنّة.
{وفضّل اللّه المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما}
ويجوز أن يكون
{غير أولي الضرر}: نصبا على الاستثناء من {القاعدين المعنى: لا يستوي القاعدون إلّا أولي الضرر.
على أصل الاستثناء النّصب.
ويجوز أن يكون :" غير " منصوبا على الحال، المعنى: لا يستوي القاعدون في حال صحتهم والمجاهدون.

كما تقول: جاءني زيد غير مريض، أي: جاءني زيد صحيحا.

ويجوز: جرّ " غير " على الصفة للمؤمنين، أي: لا يستوي القاعدون من المؤمنين الأصحاء والمجاهدون.
أما الرفع والنصب فالقراءة بهما كثيرة.
والجرّ وجه جيد إلا أن أهل الأمصار لم يقرأوا به وإن كان وجها.
لأن القراءة سنة متبعة). [معاني القرآن: 2/92-93]
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله تعالى: لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضّرر والمجاهدون في سبيل اللّه بأموالهم وأنفسهم فضّل اللّه المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجةً وكلاًّ وعد اللّه الحسنى وفضّل اللّه المجاهدين على القاعدين أجراً عظيماً (95) درجاتٍ منه ومغفرةً ورحمةً وكان اللّه غفوراً رحيماً (96)
في قوله: لا يستوي إبهام على السامع هو أبلغ من تحديد المنزلة التي بين المجاهد والقاعد، فالمتأمل يمشي مع فكرته ولا يزال يتخيل الدرجات بينهما، والقاعدون عبارة عن المتخلفين، إذ القعود هيئة من لا يتحرك إلى الأمر المقعود عنه في الأغلب، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة، «غير أولي الضرر» برفع الراء من غير، وقرأ نافع وابن عامر والكسائي «غير» بالنصب، واختلف عن عاصم، فروي عنه الرفع والنصب، وقرأ الأعمش وأبو حيوة «غير» بكسر الراء فمن رفع جعل غير صفة للقاعدين عند سيبويه، كما هي عنده صفة في قوله تعالى: غير المغضوب [الفاتحة: 7] بجر غير صفة، ومثله قول لبيد: [الرمل]
وإذا جوزيت قرضا فاجزه = إنّما يجزى الفتى غير الجمل
قال المؤلف: كذا ذكره أبو علي، ويروى ليس الجمل، ومن قرأ بنصب الراء جعله استثناء من القاعدين، قال أبو الحسن: ويقوي ذلك أنها نزلت بعدها على طريق الاستثناء والاستدراك.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وقد يتحصل الاستدراك بتخصيص القاعدين بالصفة، قال الزجّاج: يجوز أيضا في قراءة الرفع أن يكون على جهة الاستثناء، كأنه قال: «لا يستوي القاعدون والمجاهدون إلا أولو الضرر» فإنهم يساوون المجاهدين.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا مردود، لأن أولي الضّرر لا يساوون المجاهدين، وغايتهم أن خرجوا من التوبيخ والمذمة التي لزمت القاعدين من غير عذر، قال: ويجوز في قراءة نصب
الراء أن يكون على الحال، وأما كسر الراء فعلى الصفة للمؤمنين، وروي من غير طريق أن الآية نزلت لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون فجاء ابن أم مكتوم حين سمعها، فقال: يا رسول الله هل من رخصة؟ فإني ضرير البصر فنزلت عند ذلك غير أولي الضّرر قال الفلتان بن عاصم كنا قعودا عند النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل عليه، وكان إذا أوحي إليه دام بصره مفتوحة عيناه وفرغ سمعه وبصره لما يأتيه من الله، وكنا نعرف ذلك في وجهه، فلما فرغ قال للكاتب: اكتب لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون إلى آخر الآية. قال: فقام الأعمى، فقال: يا رسول الله ما ذنبنا؟ قال: فأنزل الله على رسوله، فقلنا للأعمى: إنه ينزل عليه. قال: فخاف أن ينزل فيه شيء فبقي قائما مكانه يقول: أتوب إلى رسول الله حتى فرغ رسول الله، فقال الكاتب: اكتب غير أولي الضّرر وأولو الضرر هم أهل الأعذار إذ قد أضرت بهم حتى منعتهم الجهاد. قاله ابن عباس وغيره. وقوله تعالى: بأموالهم وأنفسهم هي الغاية في كمال الجهاد. ولما كان أهل الديوان متملكين بذلك العطاء يصرفون في الشدائد وتروعهم البعوث والأوامر. قال بعض العلماء: هم أعظم أجرا من المتطوع لسكون جأشه ونعمة باله في الصوائف الكبار ونحوها. واحتج بهذه الآية المظهرة لفضل المال من قال: إن الغنى أفضل من الفقر وإن متعلقه بها لبين.
وفسر الناس الآية على أن تكملة التفضيل فيها ب «الدرجة» ثم بالدرجات إنما هو مبالغة وتأكيد وبيان، وقال ابن جريج الفضل بدرجة هو على القاعدين من أهل العذر.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: لأنهم مع المؤمنين بنياتهم كما قال النبي عليه السلام في غزوة تبوك «إن بالمدينة رجالا ما قطعنا واديا ولا سلكنا جبلا ولا طريقا إلا وهم معنا حبسهم العذر» قال ابن جريج. والتفضيل «بالأجر العظيم والدرجات» هو على القاعدين من غير أهل العذر، والحسنى الجنة، وهي التي وعدها المؤمنون، وكذلك قال السدي وغيره). [المحرر الوجيز: 2/637-639]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضّرر والمجاهدون في سبيل اللّه بأموالهم وأنفسهم فضّل اللّه المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجةً وكلا وعد اللّه الحسنى وفضّل اللّه المجاهدين على القاعدين أجرًا عظيمًا (95) درجاتٍ منه ومغفرةً ورحمةً وكان اللّه غفورًا رحيمًا (96)}
قال البخاريّ: حدّثنا حفص بن عمر حدّثنا شعبة، عن أبي إسحاق، عن البراء قال: لمّا نزلت: {لا يستوي القاعدون من المؤمنين} دعا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم زيدًا فكتبها، فجاء ابن أمّ مكتومٍ فشكا ضرارته فأنزل اللّه [عزّ وجلّ] {غير أولي الضّرر}
حدّثنا محمّد بن يوسف، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن البراء قال: لمّا نزلت: {لا يستوي القاعدون من المؤمنين} قال النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: " ادع فلانًا " فجاءه ومعه الدّواة واللّوح والكتف فقال: " اكتب: لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل اللّه " وخلف النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم ابن أمّ مكتومٍ، فقال: يا رسول اللّه، أنا ضريرٌ فنزلت مكانها: {لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضّرر والمجاهدون في سبيل الله}
وقال البخاريّ أيضًا: حدّثنا إسماعيل بن عبد اللّه، حدّثني إبراهيم بن سعدٍ، عن صالح بن كيسان، عن ابن شهابٍ، حدّثني سهل بن سعدٍ السّاعديّ: أنّه رأى مروان بن الحكم في المسجد، قال: فأقبلت حتّى جلست إلى جنبه، فأخبرنا أنّ زيد بن ثابتٍ أخبره: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم أملى عليّ: " لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل اللّه ". فجاءه ابن أمّ مكتومٍ، وهو يمليها عليّ، قال: يا رسول اللّه، واللّه لو أستطيع الجهاد لجاهدت -وكان أعمى-فأنزل اللّه على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، وفخذه على فخذي، فثقلت عليّ حتّى خفت أن ترض فخذي، ثمّ سرّي عنه، فأنزل اللّه: {غير أولي الضّرر}
انفرد به البخاريّ دون مسلمٍ، وقد روي من وجهٍ آخر عن زيدٍ فقال الإمام أحمد:
حدّثنا سليمان بن داود، أنبأنا عبد الرّحمن بن أبي الزّناد، عن خارجة بن زيدٍ قال: قال زيد بن ثابتٍ: إنّي قاعدٌ إلى جنب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، إذ أوحي إليه، قال: وغشيته السّكينة، قال: فوقع فخذه على فخذي حين غشيته السّكينة. قال زيدٌ: فلا واللّه ما وجدت شيئًا قطّ أثقل من فخذ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، ثمّ سرّي عنه فقال: " اكتب يا زيد ". فأخذت كتفًا فقال: "اكتب: {لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضّرر والمجاهدون} إلى قوله {أجرًا عظيمًا} فكتبت ذاك في كتفٍ، فقام حين سمعها ابن أمّ مكتومٍ -وكان رجلًا أعمى -فقام حين سمع فضيلة المجاهدين فقال: يا رسول اللّه، وكيف بمن لا يستطيع الجهاد ممّن هو أعمى، وأشباه ذلك؟ قال زيدٌ: فواللّه ما مضى كلامه -أو ما هو إلّا أن قضى كلامه -حتّى غشيت النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم السّكينة، فوقعت فخذه على فخذي، فوجدت من ثقلها كما وجدت في المرّة الأولى، ثمّ سرّي عنه فقال: " اقرأ ". فقرأت عليه: " لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون " فقال النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: {غير أولي الضّرر} قال زيدٌ: فألحقتها، فواللّه لكأني أنظر إلى ملحقها عند صدعٍ كان في الكتف.
ورواه أبو داود، عن سعيد بن منصورٍ، عن عبد الرّحمن بن أبي الزّناد، عن أبيه، عن خارجة بن زيد بن ثابتٍ، عن أبيه، به نحوه.
وقال عبد الرّزّاق: أنبأنا معمرٌ، عن الزّهريّ، عن قبيصة بن ذؤيب، عن زيد بن ثابتٍ، قال: كنت أكتب لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقال: " اكتب لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل اللّه " فجاء عبد اللّه ابن أمّ مكتومٍ فقال: يا رسول اللّه إنّي أحبّ الجهاد في سبيل اللّه ولكنّ بي من الزّمانة ما قد ترى، قد ذهب بصري. قال زيدٌ: فثقلت فخذ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم على فخذي، حتّى خشيت أن ترضّها ثمّ سرّي عنه، ثمّ قال: " اكتب: {لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضّرر والمجاهدون في سبيل اللّه} ورواه ابن أبي حاتمٍ وابن جريرٍ وقال عبد الرّزّاق: أخبرني ابن جريج، أخبرني عبد الكريم -هو ابن مالكٍ الجزري -أنّ مقسما مولى عبد اللّه بن الحارث -أخبره أنّ ابن عبّاسٍ أخبره: لا يستوي القاعدون من المؤمنين عن بدرٍ، والخارجون إلى بدرٍ.
انفرد به البخاريّ دون مسلمٍ. وقد رواه التّرمذيّ من طريق حجّاجٍ، عن ابن جريج، عن عبد الكريم، عن مقسم، عن ابن عبّاسٍ قال: لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضّرّ عن بدرٍ، والخارجون إلى بدرٍ، لمّا نزلت غزوة بدرٍ قال عبد اللّه بن جحشٍ وابن أمّ مكتومٍ: إنّا أعميان يا رسول اللّه فهل لنا رخصةٌ؟ فنزلت: {لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضّرر} وفضّل اللّه المجاهدين على القاعدين درجةً، فهؤلاء القاعدون غير أولي الضّرر {وفضّل اللّه المجاهدين على القاعدين أجرًا عظيمًا} درجاتٍ منه على القاعدين من المؤمنين غير أولي الضّرر.
هذا لفظ التّرمذيّ، ثمّ قال: هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ من هذا الوجه.
فقوله [تعالى] {لا يستوي القاعدون من المؤمنين} كان مطلقًا، فلمّا نزل بوحيٍ سريعٍ: {غير أولي الضّرر} صار ذلك مخرجًا لذوي الأعذار المبيحة لترك الجهاد -من العمى والعرج والمرض-عن مساواتهم للمجاهدين في سبيل اللّه بأموالهم وأنفسهم.
ثمّ أخبر تعالى بفضيلة المجاهدين على القاعدين، قال ابن عبّاسٍ: {غير أولي الضّرر} وكذا ينبغي أن يكون لما ثبت في الصّحيح عند البخاريّ من طريق زهير بن معاوية، عن حميد، عن أنسٍ؛ أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: " إنّ بالمدينة أقوامًا ما سرتم من مسير، ولا قطعتم من وادٍ إلّا وهم معكم فيه " قالوا: وهم بالمدينة يا رسول اللّه؟ قال: " نعم حبسهم العذر ".
وهكذا رواه الإمام أحمد عن محمّد بن أبي عديّ عن حميد، عن أنس، به وعلّقه البخاريّ مجزومًا. ورواه أبو داود عن حمّاد بن سلمة، عن حميدٍ، عن موسى بن أنس بن مالكٍ، عن أبيه عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال: " لقد تركتم بالمدينة أقوامًا ما سرتم مسيرًا، ولا أنفقتم من نفقةٍ، ولا قطعتم من وادٍ إلّا وهم معكم فيه ". قالوا: يا رسول اللّه، وكيف يكونون معنا وهم بالمدينة؟ قال: " حبسهم العذر ".
لفظ أبي داود وفي هذا المعنى قال الشّاعر:
يا راحلين إلى البيت العتيق لقد = سرتم جسوما وسرنا نحن أرواحا
إنّا أقمنا على عذرٍ وعن قدرٍ = ومن أقام على عذرٍ فقد راحا
وقوله: {وكلا وعد اللّه الحسنى} أي: الجنّة والجزاء الجزيل. وفيه دلالةٌ على أنّ الجهاد ليس بفرض عينٍ بل هو فرضٌ على الكفاية.
ثمّ قال تعالى: {وفضّل اللّه المجاهدين على القاعدين أجرًا عظيمًا} ). [تفسير القرآن العظيم: 2/385-388]

تفسير قوله تعالى: {دَرَجَاتٍ مِّنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا (96)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله جلّ وعزّ: {درجات منه ومغفرة ورحمة وكان اللّه غفورا رحيما}
{درجات} في موضع نصب بدلا من قوله..{ أجرا عظيما} وهو مفسّر للآخر.
المعنى: فضّل اللّه المجاهدين درجات ومغفرة ورحمة.

وجائز أن يكون: منصوبا على التوكيد لـ
{أجرا عظيما} لأن الأجر العظيم هو رفع الدرجات من اللّه جلّ وعزّ والمغفرة والرحمة، كما تقول لك على ألف درهم، لأن قولك على ألف درهم هو اعتراف فكأنك قلت أعرفها عرفا، وكأنه قيل: غفر اللّه لهم مغفرة، وأجرهم أجرا عظيما، لأن قوله {أجرا عظيما} فيه معنى غفر ورحم وفضّل.
ويجوز: الرفع في قوله
{درجات منه ومغفرة ورحمة}، ولو قيل: {درجات منه ومغفرة ورحمة}
كان جائز جائزا على إضمار تلك درجات منه ومغفرة كما قال جل ثناؤه:
{لم يلبثوا إلّا ساعة من نهار بلاغ} أي: ذلك بلاغ). [معاني القرآن: 2/93-94]

قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقال ابن محيريز: «الدرجات» هي درجات في الجنة، سبعون، ما بين الدرجتين حضر الفرس الجواد المضمر سبعين سنة، وقال بهذا القول الطبري ورجحه، وقال ابن زيد: «الدرجات» في الآية هي السبع المذكورات في سورة براءة، فهي قوله تعالى: ذلك بأنّهم لا يصيبهم ظمأٌ ولا نصبٌ ولا مخمصةٌ في سبيل اللّه [التوبة: 120] الآيات فذكر فيها الموطئ الغائظ للكفار، والنيل من العدو، والنفقة الصغيرة والكبيرة، وقطع الأودية والمسافات.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: ودرجات الجهاد لو حصرت أكثر من هذه، لكن يجمعها بذل النفس والمال والاعتمال بالبدن والمال في أن تكون كلمة الله هي العليا، ولا شك أن بحسب مراتب الأعمال ودرجاتها تكون مراتب الجنة ودرجاتها، فالأقوال كلها متقاربة، وباقي الآية وعد كريم وتأنيس. ونصب درجاتٍ إما على البدل من الأجر، وإما على إضمار فعل على أن تكون تأكيدا للأجر، كما تقول: لك عليّ ألف درهم عرفا، كأنك قلت أعرفها عرفا). [المحرر الوجيز: 2/639-640]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (ثمّ أخبر تعالى بما فضّلهم به من الدّرجات، في غرف الجنان العاليات، ومغفرة الذّنوب والزّلّات، وحلول الرّحمة والبركات، إحسانًا منه وتكريمًا؛ ولهذا قال تعالى: {درجاتٍ منه ومغفرةً ورحمةً وكان اللّه غفورًا رحيمًا}
وقد ثبت في الصّحيحين عن أبي سعيدٍ الخدريّ أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: " إنّ في الجنّة مائة درجةٍ، أعدّها اللّه للمجاهدين في سبيله، ما بين كلّ درجتين كما بين السّماء والأرض".
وقال الأعمش، عن عمرو بن مرّة، عن أبي عبيدة، عن عبد اللّه بن مسعودٍ قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: " من بلغ بسهمٍ فله أجره درجةٌ " فقال رجلٌ: يا رسول اللّه، وما الدّرجة؟ فقال: " أما إنّها ليست بعتبة أمّك، ما بين الدّرجتين مائة عامٍ "). [تفسير القرآن العظيم: 2/388]


* للاستزادة ينظر: هنا

رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
تفسير, سورة

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 10:44 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir