هذه الكَلِمَاتُ التي قالَها المؤلِّفُ واضِحَةٌ في إبطالِ ما قالَه أصحابُ الكلامِ مِن الخَوْضِ في أسماءِ اللَّهِ وصفاتِه، وعظيمِ حَقِّه جلَّ وعلا بالباطِلِ، وأنَّهم جَعَلُوا عُقُولَهم هي المقياسَ، فما أثْبَتَتْهُ عقولُهم واسْتَحْسَنَتْه أثْبَتُوه، وما لا تُثْبِتُه نَفَوْه أو تَوَقَّفُوا فيه، وهذا الذي قالوه هو غايةُ الباطلِ، وغايةُ الضلالِ والبُعْدِ عن الحقِّ.
وقد أوْضَحَ رَحِمَهُ اللَّهُ في هذا المقالِ غايةَ الإيضاحِ بُطلانَ ما هم عليه؛ فإنَّهم في الحقيقةِ لم يَلْتَفِتُوا إلى كتابِ اللَّهِ، ولا إلى سنَّةِ رسولِه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإنما حَكَّمُوا عُقُولَهم ومَقايِيسَهم وما نَقَلُوه عَمَّنْ قَبْلَهم مِن صناديدِ الضَّلالةِ، وزعماءِ الكفرِ مِن سائرِ الكَفَرَةِ؛ مِن صابِئَةٍ ومجوسٍ وغيرِهم مِن أنواعِ الضُّلاَّلِ، ثم حكَّموا هذه العقولَ والآراءَ التي لا سَنَدَ لها يُعْتَمَدُ عليه، وإنما هو اسْتِحْسَانُ فلانٍ وفلانٍ، فبأيِّ عقلٍ تُوزنُ هذهِ الأمورُ؟ بعقلِ فلانٍ أو فلانٍ أو الطائفةِ الفلانيَّةِ المارِدَةِ المُضْطَرِبَةِ المختلفةِ، سبحانَ اللَّهِ! ما أعْظَمَ شَأْنَه! هذا هو الباطلُ، وهذا هو الضلالُ البَعيدُ.
ولهذا أوْضَحَ المؤلفُ في هذا الكلامِ العظيمِ المتينِ المُصيبِ بُطْلانَ ما هم عليه، وأنَّ أصحابَ الكلامِ في الحقيقةِ لم يُحَكِّمُوا كلامَ اللَّهِ، ولا سنَّةَ رسولِه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإنَّما حَكَّمُوا أهواءَهم وآراءَهم وأراءَ مَن قبلَهم مِن الضُّلاَّلِ، وشَابَهُوا بذلك أهلَ الجاهليَّةِ فيما يَفْعَلُونَ مِن التحاكُمِ إلى الكَهَنَةِ وإلى غيرِهم مِن صناديدِهم وكُبَرَائِهم، ثم لا يَزِيدُهم هذا إلا بُعداً وضلالاً، فقد يَقْتَتِلُونَ ويَتَناحَرُون، ولا يَقْبَلُونَ عقلَ فلانٍ ولا فلانٍ، وهذه هي النتيجةُ التي وَصَلَ إليها هؤلاءِ، اخْتَلَفُوا وتَنَافَرُوا , واخْتَلَفُوا فيما جاءَ به الكتابُ والسنَّةُ، فهؤلاءِ مَثَّلُوا، وهؤلاءِ عَطَّلُوا، وهؤلاءِ تَوَقَّفُوا وفَوَّضُوا، فصارَتْ أقوالُهم في غايةِ الانحرافِ والضَّلالِ.
أمَّا أهلُ السنَّةِ والجماعةِ المُتَمَسِّكُونَ بكتابِ اللَّهِ وسنَّةِ رسولِه عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ، هم الذين اهْتَدَوْا إلى الصراطِ المستقيمِ، ووُفِّقُوا للحقِّ، وصاروا يَداً واحِدَةً، وجَسَداً واحداً، وبناءً واحداً في اتِّبَاعِ الحقِّ، والتمَسُّكِ به، والردِّ على مَن خَالَفَه. ولازمُ قولِ هؤلاءِ الضالِّينَ نَسْفُ الكتابِ والسنَّةِ، وأنَّ هذا الكتابَ والسنَّةَ لا مَحَلَّ لهما، وأنَّ مَجِيئَهُما ما زادَ هؤلاءِ إلاَّ ضلالاً وفِتْنَةً وشُبْهَةً، وما زادَهُم خيراً، فكَفَى بهذا المقالِ الذي يَقْتَضِي إبطالَ الكتابِ والسنَّةِ قُبْحاً، وكفَى به ضلالاً وبُعْداً عن الصراطِ المستقيمِ الذي هَدَى اللَّهُ نَبِيَّه الكريمَ، مُحَمَّداً عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ إليه.
كتابُ ابنِ تَيْمِيَّةَ هذا مِن أحسنِ ما أَلَّفَه المؤلِّفُ، ومِن أوضحِ ما يَرُدُّ على هؤلاء المُبْطِلِينَ، ويُبَيِّنُ زَيْفَهم وضَلالَهم، واخْتِلاَفَهم وافْتِرَاقَهم، وأنَّهم على غايةٍ مِن البُعْدِ عن الهُدَى، وعلى غايةٍ مِن الضَّلاَلَةِ، وأنَّهم لا سبيلَ لهم إلى الصوابِ إلاَّ بالرجوعِ إلى كتابِ اللَّهِ وسنَّةِ رسولِه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كما قالَ عزَّ وجلَّ: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ}.
فهو سبحانه أعلَمُ بنفسِه وأعلمُ بغيرِه، ورسولُه أعلمُ بربِّه سبحانه وتعالى، فما أخْبَرَ اللَّهُ به عن نفسِه، وأخبَرَ به الرسولُ عن ربِّه، فهو الحقُّ والصوابُ، وما خالَفَه فهو الباطلُ والضلالُ. نَسْأَلُ اللَّهَ لنا ولكمُ العافيةَ، ولا حولَ ولا قُوَّةَ إلاَّ باللَّهِ.