دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > العقيدة > متون العقيدة > الفتوى الحموية

موضوع مغلق
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 26 محرم 1430هـ/22-01-2009م, 05:12 AM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,453
افتراضي اختلاف النفاة في نصوص الصفات، وبيان فساد أقوالهم وشناعة لوازمها

ثُمَّ هُمْ هَاهُنَا فَرِيقَانِ: أَكْثَرُهُمْ يَقُولُونَ: مَا لَمْ تُثْبِتْهُ عُقُولُكُمْ فَانْفُوهُ.
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: بَلْ تَوَقَّفُوا فِيهِ، ومَا نَفَاهُ قِيَاسُ عُقُولِكُم الَّذِي أَنْتُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ ومُضْطَرِبُونَ اخْتِلافًا أَكْثَرَ مِنْ جَمِيعِ منْ عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ - فَانْفُوهُ، وَإِلَيْهِ عِنْدَ التَّنَازُعِ فَارْجِعُوا، فَإِنَّهُ الحَقُّ الَّذِي تَعَبَّدْتُكُمْ بِهِ، وَمَا كَانَ مَذْكُورًا فِي الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِمَّا يُخَالِفُ قِيَاسَكُمْ هَذَا، أَوْ يُثْبِتُ مَا لَمْ تُدْرِكْهُ عُقُولُكُمْ - عَلَى طَرِيقَةِ أَكْثَرِهِمْ - فَاعْلَمُوا أنَّي أَمْتَحِنُكُمْ بِتَنْزِيلِهِ لاَ لِتَأْخُذُوا الهُدَى مِنْهُ، لَكِنْ لِتَجْتَهِدُوا فِي تَخْرِيجِهِ عَلَى شَوَاذِّ اللُّغَةِ، وَوَحْشِيِّ الأَلْفَاظِ، وَغَرَائِبِ الكَلامِ، أو أَنْ تَسْكُتُوا عَنْهُ مُفَوِّضِينَ عِلْمَهُ إلىَ اللَّهِ، مَعَ نَفْيِ دَلالَتِهِ عَلَى شَيْءٍ مِنَ الصِّفَاتِ، هَذَا حَقِيقَةُ الأَمْرِ عَلَى رَأْيِ هَؤُلاءِ المُتَكَلِّمِينَ.
وَهَذَا الكَلامُ قَدْ رَأَيْتُهُ صَرَّحَ بِمَعْنَاهُ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ، وَهُوَ لازِمٌ لِجَمَاعَتِهِمْ لِزُومًا لاَ مَحِيدَ عَنْهُ، وَمَضْمُونُهُ أَنَّ كِتَابَ اللَّهِ لاَ يُهْتَدَى بِهِ فِي مَعْرِفَةِ اللَّهِ، وَأَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعْزُولٌ عَنِ التَّعْلِيمِ وَالإِخْبَارِ بِصِفَاتِ مَنْ أَرْسَلَهُ، وَأَنَّ النَّاسَ عِنْدَ التَّنَازُعِ لاَ يَرُدُّونَ مَا تَنَازَعُوا فِيهِ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ، بَلْ إلىَ مِثْلِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي الْجَّاهِلِيَّةِ، وإلىَ مِثْلِ مَا يَتَحَاكَمُ إِلَيْهِ مَنْ لاَ يُؤْمِنُ بالأَنْبِيَاء كَالْبَرَاهِمَةِ، وَالْفَلاسِفَةِ - وَهُم المُشْرِكُونَ -، وَالْمَجُوسُ، وَبَعْضُ الصَّابِئِينَ.
وَإِنْ كَانَ هَذَا الرَّدُّ لاَ يَزِيدُ الأَمْرَ إِلا شِدَّةً، وَلا يَرْتَفِعُ الخِلافُ بِهِ، إِذْ لِكُلِّ فَرِيقٍ طَوَاغِيتُ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَيْهِمْ، وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِمْ، وَمَا أَشْبَهَ حَالَ هَؤُلاءِ المُتَكَلِّمينَ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ المُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا} فَإِنَّ هَؤُلاءِ إِذَا دُعُوا إلىَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الكِتَابِ وإلىَ الرَّسُولِ- وَالدُّعَاءُ إِلَيْهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ هُوَ الدُّعَاءُ إلىَ سُنَّتِهِ - أَعْرَضُوا عَنْ ذَلِكَ وَهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّا قَصَدْنَا الإِحْسَانَ عِلْمًا وَعَمَلاً بِهَذِهِ الطَّرِيقِ الَّتِي سَلَكْنَاهَا، وَالتَّوْفِيقَ بَيْنَ الدَّلائِلِ العَقْلِيَّةِ وَالنَّقْلِيَّةِ.


  #2  
قديم 26 محرم 1430هـ/22-01-2009م, 05:15 AM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,453
افتراضي شرح سماحة الشيخ: عبد العزيز بن عبد الله ابن باز

هذه الكَلِمَاتُ التي قالَها المؤلِّفُ واضِحَةٌ في إبطالِ ما قالَه أصحابُ الكلامِ مِن الخَوْضِ في أسماءِ اللَّهِ وصفاتِه، وعظيمِ حَقِّه جلَّ وعلا بالباطِلِ، وأنَّهم جَعَلُوا عُقُولَهم هي المقياسَ، فما أثْبَتَتْهُ عقولُهم واسْتَحْسَنَتْه أثْبَتُوه، وما لا تُثْبِتُه نَفَوْه أو تَوَقَّفُوا فيه، وهذا الذي قالوه هو غايةُ الباطلِ، وغايةُ الضلالِ والبُعْدِ عن الحقِّ.
وقد أوْضَحَ رَحِمَهُ اللَّهُ في هذا المقالِ غايةَ الإيضاحِ بُطلانَ ما هم عليه؛ فإنَّهم في الحقيقةِ لم يَلْتَفِتُوا إلى كتابِ اللَّهِ، ولا إلى سنَّةِ رسولِه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإنما حَكَّمُوا عُقُولَهم ومَقايِيسَهم وما نَقَلُوه عَمَّنْ قَبْلَهم مِن صناديدِ الضَّلالةِ، وزعماءِ الكفرِ مِن سائرِ الكَفَرَةِ؛ مِن صابِئَةٍ ومجوسٍ وغيرِهم مِن أنواعِ الضُّلاَّلِ، ثم حكَّموا هذه العقولَ والآراءَ التي لا سَنَدَ لها يُعْتَمَدُ عليه، وإنما هو اسْتِحْسَانُ فلانٍ وفلانٍ، فبأيِّ عقلٍ تُوزنُ هذهِ الأمورُ؟ بعقلِ فلانٍ أو فلانٍ أو الطائفةِ الفلانيَّةِ المارِدَةِ المُضْطَرِبَةِ المختلفةِ، سبحانَ اللَّهِ! ما أعْظَمَ شَأْنَه! هذا هو الباطلُ، وهذا هو الضلالُ البَعيدُ.
ولهذا أوْضَحَ المؤلفُ في هذا الكلامِ العظيمِ المتينِ المُصيبِ بُطْلانَ ما هم عليه، وأنَّ أصحابَ الكلامِ في الحقيقةِ لم يُحَكِّمُوا كلامَ اللَّهِ، ولا سنَّةَ رسولِه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإنَّما حَكَّمُوا أهواءَهم وآراءَهم وأراءَ مَن قبلَهم مِن الضُّلاَّلِ، وشَابَهُوا بذلك أهلَ الجاهليَّةِ فيما يَفْعَلُونَ مِن التحاكُمِ إلى الكَهَنَةِ وإلى غيرِهم مِن صناديدِهم وكُبَرَائِهم، ثم لا يَزِيدُهم هذا إلا بُعداً وضلالاً، فقد يَقْتَتِلُونَ ويَتَناحَرُون، ولا يَقْبَلُونَ عقلَ فلانٍ ولا فلانٍ، وهذه هي النتيجةُ التي وَصَلَ إليها هؤلاءِ، اخْتَلَفُوا وتَنَافَرُوا , واخْتَلَفُوا فيما جاءَ به الكتابُ والسنَّةُ، فهؤلاءِ مَثَّلُوا، وهؤلاءِ عَطَّلُوا، وهؤلاءِ تَوَقَّفُوا وفَوَّضُوا، فصارَتْ أقوالُهم في غايةِ الانحرافِ والضَّلالِ.
أمَّا أهلُ السنَّةِ والجماعةِ المُتَمَسِّكُونَ بكتابِ اللَّهِ وسنَّةِ رسولِه عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ، هم الذين اهْتَدَوْا إلى الصراطِ المستقيمِ، ووُفِّقُوا للحقِّ، وصاروا يَداً واحِدَةً، وجَسَداً واحداً، وبناءً واحداً في اتِّبَاعِ الحقِّ، والتمَسُّكِ به، والردِّ على مَن خَالَفَه. ولازمُ قولِ هؤلاءِ الضالِّينَ نَسْفُ الكتابِ والسنَّةِ، وأنَّ هذا الكتابَ والسنَّةَ لا مَحَلَّ لهما، وأنَّ مَجِيئَهُما ما زادَ هؤلاءِ إلاَّ ضلالاً وفِتْنَةً وشُبْهَةً، وما زادَهُم خيراً، فكَفَى بهذا المقالِ الذي يَقْتَضِي إبطالَ الكتابِ والسنَّةِ قُبْحاً، وكفَى به ضلالاً وبُعْداً عن الصراطِ المستقيمِ الذي هَدَى اللَّهُ نَبِيَّه الكريمَ، مُحَمَّداً عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ إليه.
كتابُ ابنِ تَيْمِيَّةَ هذا مِن أحسنِ ما أَلَّفَه المؤلِّفُ، ومِن أوضحِ ما يَرُدُّ على هؤلاء المُبْطِلِينَ، ويُبَيِّنُ زَيْفَهم وضَلالَهم، واخْتِلاَفَهم وافْتِرَاقَهم، وأنَّهم على غايةٍ مِن البُعْدِ عن الهُدَى، وعلى غايةٍ مِن الضَّلاَلَةِ، وأنَّهم لا سبيلَ لهم إلى الصوابِ إلاَّ بالرجوعِ إلى كتابِ اللَّهِ وسنَّةِ رسولِه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كما قالَ عزَّ وجلَّ: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ}.
فهو سبحانه أعلَمُ بنفسِه وأعلمُ بغيرِه، ورسولُه أعلمُ بربِّه سبحانه وتعالى، فما أخْبَرَ اللَّهُ به عن نفسِه، وأخبَرَ به الرسولُ عن ربِّه، فهو الحقُّ والصوابُ، وما خالَفَه فهو الباطلُ والضلالُ. نَسْأَلُ اللَّهَ لنا ولكمُ العافيةَ، ولا حولَ ولا قُوَّةَ إلاَّ باللَّهِ.


  #3  
قديم 11 شعبان 1433هـ/30-06-2012م, 08:36 PM
سليم سيدهوم سليم سيدهوم غير متواجد حالياً
برنامج الإعداد العلمي - المستوى الثامن
 
تاريخ التسجيل: Aug 2011
الدولة: ليون، فرنسا
المشاركات: 1,087
افتراضي شرح الفتوى الحموية الكبرى للشيخ يوسف الغفيص

قال المصنف رحمه الله: [ثم هم هاهنا فريقان: أكثرهم يقولون: ما لم تثبته عقولكم فانفوه.
ومنهم من يقول: بل توقفوا فيه، وما نفاه قياس عقولكم - الذي أنتم فيه مختلفون ومضطربون اختلافاً أكثر من جميع من على وجه الأرض - فانفوه، وإليه عند التنازع فارجعوا].
يبين المصنف رحمه الله في هذا المقام أصناف المخالفين في تقريرهم لباب الأسماء والصفات، فيقول: إنهم فريقان: الأول: وهم الذين يرون نفي ما لم يثبته العقل وهذا مذهب أكثرهم.
الثاني: وهم الذين يرون التوقف فيما لم يثبته العقل.
إذاً: وقع الاختلاف فيما لم ينفه العقل، أما ما نفاه العقل فإن المتكلمين - سواء كان المتكلم من المعتزلة أو من الأشعرية والماتريدية وغيرهم- متفقون على أن ما تحصل نفيه بالدليل العقلي فإنه يصار إلى نفيه؛ ولهذا نفت الأشاعرة الصفات الفعلية على هذا الوجه، وأما ما لم يدل الدليل على نفيه - أي: الدليل العقلي- فمنهم من يرى التوقف فيه، ومنهم من يرى نفيه، وهذا هو الذي عليه أكثر المتكلمين من المعتزلة ومن وافقهم من متكلمة الصفاتية.
فهذا هو الصنف الأول والصنف الثاني من المتكلمين في هذا الباب.
[فإنه الحق الذي تعبدتكم به، وما كان مذكوراً في الكتاب والسنة مما يخالف قياسكم هذا، أو يثبت ما لم تدركه عقولكم على طريقة أكثرهم، فاعلموا أني امتحنتكم بتنزيله لا لتأخذوا الهدى منه لكن لتجتهدوا في تخريجه على شواذ اللغة، ووحشي الألفاظ، وغرائب الكلام].
هذا هو جواب أكثر المتكلمين عن سبب ورود آيات الصفات على خلاف ما هو الحقيقة في نفس الأمر عندهم، فإنهم إذا نفوا الصفات وظاهر القرآن إثبات الصفات أجابوا عن هذا الظاهر القرآني بأنه قصد امتحان المكلفين به حتى يثابون على هذا الامتحان الذي يحصلونه بطريقة التأويل.
[أو أن تسكتوا عنه مفوضين علمه إلى الله].
كما هي طريقة متأخري الأشاعرة الذين يجوزون التفويض والتأويل، أو كمن يلتزم التفويض فيما لم يدل الدليل العقلي على نفيه، أو من يلتزم التأويل مطلقاً فهذه ثلاث طرق للقوم في هذا الباب.
[مع نفي دلالته على شيء من الصفات هذا حقيقة الأمر على رأي هؤلاء المتكلمين، وهذا الكلام قد رأيته صرح بمعناه طائفة منهم، وهو لازم لجماعتهم لزوماً لا محيد عنه].
وهذا التصريح يقررونه بطرق، ومن أخص هذه الطرق ما شاع في كتب المتكلمين من قانون تعارض العقل والنقل، وقد ذكر هذا القانون أئمة المعتزلة، وتحقيقه عند المعتزلة بين لا إشكال فيه، بل وكذلك ذكره كثير من أئمة الأشاعرة كـ أبي حامد الغزالي وأبي المعالي الجويني، ومحمد بن عمر الرازي وغيرهم، ومحصل هذا القانون -الذي عليه عامة المتكلمين كما يذكره الرازي في كتبه، وبخاصة في أساس التقديس الذي أجاب عنه شيخ الإسلام رحمه الله في كتابه نقض التأسيس - محصل هذا القانون كما يقول الرازي: إن الظواهر النقلية إذا عارضت القواطع العقلية فإما أن تقدم الظواهر النقلية، قال: وهذا ممتنع؛ لأن أصل قبول النقل هو العقل.
وإما أن تقبل الظواهر النقلية مع القواطع العقلية، قال: وهذا ممتنع لأنه جمع بين النقيضين، وإما أن ترفع الظواهر النقلية والقواطع العقلية؛ وهذا ممتنع لأنه رفع للنقيضين.
بهذا يتبين أن تقديم النقل على العقل - بحسب زعم الرازي وأصحابه والمتكلمون بعامة - ممتنع؛ لأن أصل قبول النقل هو الدليل العقلي؛ وبما أن جمع النقيضين ممتنع ورفعهما ممتنع لم يبق عنده إلا الرابع: وهو تقديم العقل على النقل.
قال: وإذا قدم الدليل العقلي القاطع على الظواهر النقلية فهذه الظواهر فيها مسلكان: التأويل والتفويض.
إذاً: رتب المتكلمون من الأشاعرة مسألة التأويل ومسألة التفويض على مسألة تعارض العقل والنقل.
وهذا القانون هو من أخص القوانين التي شاعت في طوائف المتكلمين نفاة الصفاة أو ما هو منها، وقد أجاب عنه أئمة السنة كثيراً وبخاصة ما كتبه شيخ الإسلام رحمه الله في درء تعارض العقل والنقل.
هذا القانون متناقض من أوجه كثيرة؛ ولكن من أخص هذه الأوجه أن يقال: إن الدليلين إذا تعارضا فإن التقديم يقع باعتبار ظهور الدلالة، وهو ما يسمى بالدلالة القطعية والدلالة الظنية، والدليل فيه جهتان: جهة الثبوت وجهة الدلالة.
فإذا صار في المقام دليلان بينهما تعارض نظر في جهتي الدليل: 1 - جهة الثبوت.

2 -جهة الدلالة.

فأيهما كان قطعي الثبوت قطعي الدلالة فإنه يقدم على ما يقابله؛ لأنه إذا تحقق في دليل من هذين الدليلين المتعارضين أنه قطعي الثبوت قطعي الدلالة لزم أن يكون الدليل الآخر ليس كذلك، لأنه لا يمكن أن يكون الدليل الآخر قطعي الدلالة قطعي الثبوت؛ حيث إنه لو أمكن هذا للزم التعارض بين القطعيين، وهذا ممتنع باتفاق العقلاء فإذا جئنا إلى الدليل النقلي وهو: القرآن والسنة، وأخذنا القول في القرآن؛ فإن القرآن قطعي الثبوت بإجماع المسلمين، أما من جهة الدلالة فإن آيات الصفات قطعية الدلالة حسب سياق كلام العرب، فإن في قوله تعالى مثلاً: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [المائدة:119] أضاف سبحانه الرضا إلى نفسه، أو في قوله تعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} [المجادلة:1] أضاف السمع إلى نفسه، وهذا الإسناد الصريح -كما يسميه أهل اللغة- هو أصرح سياق في العربية، ومن قال: إن الدلالة في آيات الصفات ليست قطعية من جهة اللغة العربية.
يقال له: ليس هناك سياق قطعي في لسان العرب أكثر ظهوراً من سياق الإسناد الصريح.
إذاً: القرآن قطعي الثبوت قطعي الدلالة على آيات الصفات.
وبهذا يعلم أن كل دليل يعارض القرآن -سواء سمي دليلاً فلسفياً أو عقلياً أو كلامياً أو ما شابه ذلك- يمتنع أن يكون قطعي الثبوت قطعي الدلالة؛ لأن هذا الفرض يوجب التعارض بين القطعيين، وهو ممتنع باتفاق العقلاء.
هذا الطريق من أقوى طرق الرد التي اعتمدها شيخ الإسلام، وهو: تحقيق أن القرآن قطعي الثبوت -وهذا بدهي- وأنه قطعي الدلالة في آيات الصفات؛ لأن سياق آيات الصفات أصرح سياق عربي في لسان العرب، فإذا كان كذلك علم أن المقابل له على جهة المعارضة يمتنع أن يكون قطعي الثبوت قطعي الدلالة؛ لأنه يوجب التعارض بين القطعيين، وهذا ممتنع باتفاق عقلاء بني آدم.
الوجه الثاني
أن يقال: إنه يعلم كون الدليل قطعياً من جهة الثبوت بطرق بحسب حال هذا الدليل، فإذا نظرنا في الدليل الذي يزعمون أنه عارض النقل -وهو الدليل العقلي على زعمهم- فمتى يصح أن نقول عن الدليل العقلي: إنه قطعي الثبوت؟ إذا اتفق عليه العقلاء، وإن شئت قل: إذا اتفق عليه أصحاب النظر العقلي، حتى لا ندخل فيما يتكلف له بعض المتكلمين ويقول: العامة ليسوا من أصحابه.
إذاً: إذا اتفق على الدليل أصحاب النظر العقلي، أو هب أن الدائرة أقصر من هذا، وهي: إذا اتفقت عليه طائفة.
فإذا نظرنا إلى أي دليل عقلي يعارضون به النقل فإننا نجد أنهم لا يتفقون عليه بعامة -أعني: النظار- بل ولا تتفق عليه طائفة اتفاقاً تاماً؛ فالدليل الذي يسميه الرازي وغيره من الأشاعرة بأنه دليل قاطع نجد أن المعتزلة لا يعتبرونه دليلاً قاطعاً، ونجد أن دليل المعتزلة الذي نفوا به الصفات لا تعده الأشعرية دليلاً قاطعاً، بل يرونه دليلاً وهمياً مناقضاً للعقل؛ فالمعتزلة تنفي سائر الصفات والأشعرية تقول: إن الدليل العقلي القاطع يدل على ثبوت أصول الصفات.
وبهذا نجد أن كل طائفة من طوائف المتكلمين والنظار الذين خالفوا السلف كل طائفة تختص بدليل تزعم أنه دليل عقلي قاطع، مع أننا نجد إذا رجعنا إلى البدهيات في ضبط الأدلة أن الدليل إذا كان عقلياً لا يكون قطعي الثبوت إلا إذا اتفق عليه النظار -أصحاب النظر العقلي- على أقل الأحوال، إن لم نقل اتفق عليه سائر العقلاء.
إذاً: ليس هناك دليل عقلي واحد اتفق عليه النظار؛ لأن مذاهب النظار متناقضة متعارضة متضادة.
وبهذا يتبين أنه ليس هناك دليل قطعي الثبوت، وإذا لم يكن الدليل قطعي الثبوت فقد انتهى الأمر فيه من كل جهة.
ومع ذلك إذا افترضنا -جدلاً- أن لديهم دليلاً قطعي الثبوت، فيبقى الشأن في الجهة الثانية وهي جهة الدلالة.
فإننا إذا نظرنا إلى جهة الدلالة فإننا نجد أنهم متناقضون فيها، فضلاً عن مناقضة أئمة السنة لهم، فإن المعتزلة تناقض في جهة الدلالة التي تستعملها الأشاعرة والعكس، ومع المشبهة ومع أصناف المجسمة ومع المتفلسفة وهلم جرا.
إذاً هذا التناقض والتعارض في مذاهب المخالفين للسلف في ثبوت الأدلة وفي دلالتها -الذي هم يصرحون به في كتبهم- دليل على أن النقل لا يعارضه دليل عقلي قاطع لا ثبوتاً ولا دلالة.
الوجه الثالث
أن يقال: إضافة الأدلة إلى هذين القسمين ليس سديداً؛ فإن الدليل النقلي السمعي هو الدليل الشرعي، والدليل الشرعي يقابله الدليل البدعي، أما أن يقال: إن الدليل الشرعي يقابله الدليل العقلي فهذا غلط مبني على أن دلائل القرآن دلائل تسليمية محضة، وليس فيها ما هو من مخاطبة العقول؛ وهذا بسبب أن هذا القانون مبني على قول غلاة المتكلمين الذين يقولون: إن الدلائل القرآنية دلائل خبرية محضة مبنية على صدق المخبر.
والحق: أن القرآن فيه دلائل خبرية محضة كقوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] وفيه دلائل عقلية، الخطاب فيها للعقول، ولهذا يخاطب بها حتى الكفار، ومن ذلك قوله تعالى: {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً} [الأعراف:148] ولهذا كان من دلائل أهل السنة على أن الله متصف بالكلام أن الله أبطل ألوهية العجل وقبوله للعبودية -أي: لكونه محلاً للعبودية- بكونه لا يتكلم، ولو كان الإله الحق كما تزعم الجهمية ومن وافقها -تعالى الله عما يقولون- لا يوصف بالكلام لكان هذا نقصاً فيه، أو كان الاستدلال على بطلان ألوهية العجل بهذا ليس صحيحاً، ومثله قول إبراهيم: {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً} [مريم:42] فلو كان الإله الحق لا يسمع لكان هذا دليلاً على إبراهيم وليس له.
ومن هنا حكم السلف على أدلة المخالفين العقلية الكلامية بأنها دلائل بدعية، وأن أصحابها قوم مبتدعة.
فهذا قانون افتتن به كثير من المتكلمين والطوائف، وإن كان يعلم بطلانه بضرورة العقل، فضلاً عن ضرورة النقل.
ثم إنهم اعتذروا عن تقديم النقل على العقل بأن قالوا: إن أصل قبول النقل هو العقل.
ورتبوا ذلك على مسألة النبوة، وهو أن نبوة النبي صلى الله عليه وسلم عرفت بالمعجزة والمعجزة آية عقلية.
وهذا ليس بشيء؛ لأن نبوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإن ثبتت بالمعجزة إلا أنها تثبت بغيرها أيضاً، فإنه ليس كل من أسلم بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم أو بلغته دعوته فآمن به لم يؤمنوا إلا لما علموا ما معه من المعجزات، سواء كان ذلك من المشركين عبدة الأوثان أو كان من أهل الكتاب، فإن جمهور من أسلم لم يسلموا لكونهم رأوا آية -التي هي المعجزة- وإنما أسلموا لما سمعوا القرآن، ولا شك أن القرآن أعظم آيات النبي صلى الله عليه وسلم، لكن إذا قصدنا بالآيات هنا ما تزعمها المعتزلة وأمثالها وهي الخوارق الحسية للعادات كتكثير الماء وأمثال ذلك.
وهذا هرقل -كما ثبت في الصحيحين في حديث ابن عباس - لما جاءه كتاب النبي صلى الله عليه وسلم، أرسل إلى ركب من قريش كانوا في الشام، وكان معهم أبو سفيان، وهو إذ ذاك مشرك، فلما دخلوا على هرقل وهو كتابي عالم بكتابه سأل أبا سفيان عن مسائل، هذه المسائل لم تكن عن المعجزات، فإن هرقل لم يسأله: هل لديه معجزة أم ليس لديه معجزة؟ بل سأله: من يتبعه؟ هل كان من آبائه من ملك؟ أيكذب؟ إلخ، ولما انتهى من هذه السؤالات قال: ماذا يؤمركم؟ قال: ويأمرنا بالصلاة والصدقة والعفاف والصلة فماذا قال هرقل؟ قال: إن كان ما تقول حقاً فسيملك موضع قدمي هاتين، وقد كنت أعلم أنه خارج ولم أكن أظنه منكم، فقطع بثبوت نبوة النبي صلى الله عليه وسلم وجزم بها لمثل هذا.
إذاً: زعمهم أن النبوة لا تثبت إلا بالمعجزة ليس سديداً، بل تثبت بها وبغيرها؛ فإن آيات الأنبياء لا تختص بخوارق العادات.
ثم لو فرض أن هذا صحيح فإن الدليل الذي عارض آيات الصفات ليس هو الدليل العقلي الذي ثبتت به المعجزة، إذاً لا يلتفت إليه وهلم جرا من الأوجه.
[ومضمونه: أن كتاب الله لا يهتدى به في معرفة الله، وأن الرسول معزول عن التعليم والإخبار بصفات من أرسله، وأن الناس عند التنازع لا يردون ما تنازعوا فيه إلى الله والرسول، بل إلى مثل ما كانوا عليه في الجاهلية، وإلى مثل ما يتحاكم إليه من لا يؤمن بالأنبياء كالبراهمة والفلاسفة -وهم المشركون- والمجوس وبعض الصابئين، وإن كان هذا الرد لا يزيد الأمر إلا شدة].
وإن كان هذا الرد أي: الرد إلى غير الكتاب والسنة، إما إلى العقل أو المقالات الفلسفية أو غيرها؛ الرد إلى هذه الأمور لا يزيد الأمر إلا شدة؛ لأنه يوجب كثرة الاختلاف، ولهذا لما استعمل هؤلاء هذه الدلائل كثر اختلافهم وافترقت طوائفهم افتراقاً مشهوراً.


موضوع مغلق

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
النفاة, اختلاف

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 02:21 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir