دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > برنامج إعداد المفسر > إدارة برنامج إعداد المفسر > الدعوة بالقرآن

إضافة رد
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 17 محرم 1444هـ/14-08-2022م, 12:42 AM
منيرة محمد منيرة محمد غير متواجد حالياً
برنامج إعداد المفسّر - الامتياز
 
تاريخ التسجيل: Aug 2014
الدولة: السعودية
المشاركات: 668
افتراضي رسالة تفسيرية

رسالة تفسيرية
الحمدُ لله الذي عمَّرَ بتقواه قلوبَ المتقين وجعلها سبيلَ النجاةِ للأولين والآخرين، فمن رام الفوز والفلاح
ورغب في السلامة والنجاح ،فعليه لزومُ نهج المتقين، وسلوك سبيل المحسنين.
أحمدُه تعالى وأشكرُه، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وخاتم النبيين.

يقول الله تعالى في محكم تنزيله : ( لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ
وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ
)
وردت هذه الآية ضمن سورة عظيمة قصَدَتْ أهدافا جليلة، هي أطول سورة في كتاب الله ، ورد فيها ألف خبرٍ، وألف أمرٍ، وألف نهيٍ، وألف حكمً،
ورد في فضلها عدة أحاديث منها ،مارواه أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تجعلوا بيوتكم مقابر، إن الشيطان ينفر من البيت الذي تُقْرأ فيه سورة البقرة) (1)
وفي الحديث: (اقرؤوا سورة البقرة؛ فإنَّ أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا تستطيعها البَطَلَةُ) (2) ؛ يعني: السَّحَرة.

ولهذه السورة شخصية مميزة من بين سور القرآن، يميِّزها انفرادُها بشرح المنهج الذي يجب أن تسلكه أمةُ الإسلام لعمارة الأرض ومقوماته.
فالله تعالى خلال مسيرة التاريخ قد استخلف أمماً كثيرة على الأرض، فمنهم من نجح وبقى ،ومنهم من فشل فاستبدل والله لايحابي أحد .
وقد حان الدور على هذه الأمة التي كرمها بهذا الكتاب العظيم وبالرسول الكريم خاتم الأنبياء والمرسلين .
فهل ترى ستنجح في الامتحان ...؟؟؟
نسأل الله أن يجعلنا ممن يستعمله ولا يستبدله، وممن يشرف بخدمة هذا الدين العظيم وممن ينهج سبيل سيد المرسلين .

ومن هنا نفهم لماذا كانت سورة البقرة أوّل سورة في القرآن بعد الفاتحة ، و كونها أول سورة أنزلت في المدينة، وظلت تتنزل طوال السنين التسعة من المرحلة المدنية ؛
وذلك لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قد هاجر من مرحلة الإستضعاف في مكة إلى مرحلة بناء الأمة، فكان من الطبيعي أن تنزل السورة في مرحلة البناء لترشد الأمة،
وترسم المنهج ،وتبين معالم الطريق .
وقد ثبت عن ابن عمر رضي الله عنه بإسناد صحيح أنه مكث أربع سنين في تعلُّم سورة البقرة . (3)
وهذا هو هدي الصحابة ، حيث كانت هممهم منصرفة إلى التفقه والفهم .
قال أبو عبد الرحمن السلمي : " حدثنا الذين يُقرؤوننا القرآن أنهم كانوا لا يتجاوزون عشر آيات حتى يعلموا ويعرفوا ما فيها من علم وعمل "
فالذي ينبغي لكل من يقرأ هذه السورة أن يتفهم كل آية فيها ،
ليقوم بالمهمة التي خلق من أجلها ؛وهي عبادة الله وحده،وقيامه بمسؤلياته التي كلفه الله بها من عمارة الأرض وإصلاحها ونشر الخير فيها .
وإذ أجلنا النظر في هذه السورة الجليلة ،متدبرين متأملين بدءاً من هذا الافتتاح البليغ لهذه السورة الجليلة بإثبات عظمة القرآن الذي هو مصدر هذه الأمة وكتابها ،
وذلك ببيان كمال مضمونه وكمال مصدره.
ثم بعد ذكر كماله ،بين أصناف الناس ومواقفهم من القرآن .
ونلحظ أنه لما ذكر صفات أهل الإيمان، وصفهم بالمتقين ؛وذلك لأنهم هم المنتفعون بالقرآن ، ولقد وردت لفظة التقوى ومشتقاتها قرابة - 35- مرة في هذه السورة الجليلة ،
لأن الذي سيحمل الإمانة ويبلغ الرسالة لابد أن يكون على جانب كبير من التقوى ؛لأنها هي المحرك الأساسي وصمام الأمان والزاد الحقيقي المستمر نفعه لصاحبه في دنياه وأخراه ،
وهو الموصل لأكمل لذة ، وأجل نعيم .
المتقون هم الذين جرّدوا قلوبهم من موانع الانتفاع كالكبر والمعاصي والغفلة والتكذيب وغير ذلك، وحلوها بأسباب الانتفاع من الإخلاص والإقبال والرغبة والصدق وحضور القلب .

قال ابنُ القيم عليه رحمه الله معرفًا التقوى: "حقيقتُها العملُ بطاعة الله إيمانًا واحتسابًا، أمرًا ونهيًا، فيفعل ما أمر الله به إيمانًا بالآمر، وتصديقًا بوعدِه، ويترك ما نهى الله عنه إيمانًا بالناهي، وخوفًا مِن وعيده" . (4)
قيل لطلق بن حبيب: صف لنا التقوى ، فقال: "اعمل بطاعة الله على نور من الله, ترجو ثواب الله, واترك المعاصي على نور من الله, مخافة عقاب الله عز وجل" . (5)

وخلاصة هذه التعاريف وما يجمعها كلها ،هو توقير الله تبارك وتعالى وتعظيمه في قلب المؤمن؛ والذي ينتج عنه اتقاء المسلم وابتعاده عن كل ما يغضب الله عز وجل ؛ خوفاً وحياءً منه، ومحبةً وتعظيماً.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "الله ضمن للمتقين أن يجعل لهم مخرجاً مما يضيق على الناس, وأن يرزقهم من حيث لا يحتسبون, فيدفع عنهم ما يضرهم, ويجلب لهم ما يحتاجون إليه,
فإذا لم يحصل ذلك دلَّ على أن في التقوى خللاً, فليستغفر الله وليتب إليه". (6)

فالمتأمل في كتاب الله من أوله إلى آخره، يجد التقوى رأس كل أمر، ومفتاح كل خير، وسبب النجاة في الدنيا والآخرة، وإنما تأتي المصائب والمحن والعقوبات بسبب الإهمال أو الإخلال بالتقوى
وإضاعتها يقول الله تعالى :(وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ )
وقال تعالى في سورة الأنفال:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا) والفرقان كما قال أهل العلم هو: النور الذي يفصل به بين الحق والباطل، وبين الهدى والضلال.

وهذه الآية الجليلة التي يقول الله فيها ، : (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى
وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ )

اشتملت على جمل عظيمةٍ، وقواعد عميمةٍ، وعقيدةٍ مستقيمة، جمعت أصول الإيمان ، وأصول الأعمال ، وأصول الأخلاق .
وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى :"أن هذه الآية، آية عظيمة جليلة القدر من أعظم آي القرآن وأجمعه لأمور الدين" . (7)
هذا البيان من شيخ الإسلام ليس بالأمر السهل ، لأنه ممن رسخ علمه في كتاب الله ، فعرف الآيات التي اشتملت على عظائم الدين .
وقال تلميذه ابن القيم :"وهذه هي أصول الإيمان الخمس التي لا قوام للإيمان إلا بها، وأنها الشرائع الظاهرة من إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنفقات الواجبة،
وأنها الأعمال القلبية التي هي حقائقه من الصبر والوفاء بالعهد فتناولت هده الخصال جميع أقسام الدين حقائقه وشرائعه والأعمال المتعلقة بالجوارح والقلب وأصول الإيمان الخمس.
ثم أخبر سبحانه عن هذا أنها هي خصال التقوى بعينها " (8)

فحريٌّ بمن قرأ هذه الآية أن يتأمل فيها ويعرف معانيها لأنها تُرسخ الإيمان ، وتُزكي النفس ، وتُقوم الأخلاق ،فالدين ليس مجرد مظاهر وهيئات ،
إنما هو عقيدة راسخة ، وإيمان صادق تظهر آثاره على الجوارح .

ولنا مع هذه الآية وقفات وتأملات :
- مرجع الخطاب في هذه الآية :
قيل أنه للكفار والمنافقين الذين أنكروا تغيير القبلة. (9)
وقيل: بل لهم وللمؤمنين حيث قد يرون أنهم نالوا البر كله بالتوجه إليها . (10)
والذي رجحه أبو جرير الطبري قول قتادة أن المعنيّ به
اليهودَ والنصارَى ؛ وذلك لأن الآيات قبلها مضت بتوبيخهم ولَومهم، والخبر عنهم وعما أُعدّ لهم من أليم العذاب.
(11)
وقيل أنها نزلت توطئة لتحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة. (12)

-المراد بالْبِرَّ بالآية :
"البر" في الأصل الخير الكثير؛ ومنه سمي "البَرّ" لسعته، واتساعه؛ ومنه "البَرّ" اسم من أسماء الله؛ كما قال تعالى في سورة الطور : {إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ}
ومعنى الآية: أنه ليس البر أن يتوجه الإنسان إلى هذا، أو هذا؛ ليس هذا هو الشأن؛ الشأن إنما هو في الإيمان بالله… إلخ.
قال العوفيّ عن ابن عبّاسٍ في هذه الآية: «ليس البرّ أن تصلّوا ولا تعملوا». فهذا حين تحوّل من مكّة إلى المدينة ونزلت الفرائض والحدود، فأمر اللّه بالفرائض والعمل بها.
وروي عن الضّحّاك ومقاتلٍ نحو ذلك (13)
وقال أبو العالية: «كانت اليهود تقبل قبل المغرب، وكانت النّصارى تقبل قبل المشرق، فقال اللّه تعالى: {ليس البرّ أن تولّوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب}
يقول: هذا كلام الإيمان وحقيقته العمل». وروي عن الحسن والرّبيع بن أنسٍ مثله.
وقال مجاهدٌ: «ولكنّ البرّ ما ثبت في القلوب من طاعة اللّه، عزّ وجلّ». (14)
وقال الضّحّاك: «ولكنّ البرّ والتّقوى أن تؤدّوا الفرائض على وجوهها».
قال ابن كثير رحمه الله تعالى :وذلك لأنه لما أمر الله تعالى المؤمنين أولاّ بالتّوجّه إلى بيت المقدس، ثمّ حوّلهم إلى الكعبة، شقّ ذلك على نفوس طائفةٍ من أهل الكتاب وبعض المسلمين،
فأنزل اللّه تعالى بيان حكمته في ذلك، وهو أنّ المراد إنّما هو طاعة اللّه عزّ وجلّ ،وامتثال أوامره، والتّوجّه حيثما وجّه، واتّباع ما شرع، فهذا هو البرّ والتّقوى والإيمان الكامل،
وليس في لزوم التّوجّه إلى جهةٍ من المشرق إلى المغرب برٌّ ولا طاعةٌ، إن لم يكن عن أمر اللّه وشرعه؛
ولهذا قال: {ليس البرّ أن تولّوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكنّ البرّ من آمن باللّه واليوم الآخر} الآية، كما قال في الأضاحيّ والهدايا: {لن ينال اللّه لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التّقوى منكم} (15)
وقال الثّوريّ: {ولكنّ البرّ من آمن باللّه} الآية، قال: «هذه أنواع البرّ كلّها»
وعلق ابن كثير على قول الثوري ، فقال : صدق رحمه اللّه؛ فإنّ من اتّصف بهذه الآية، فقد دخل في عرى الإسلام كلّها، وأخذ بمجامع الخير كلّه .

وهنا قد يرد سؤال ،لماذا عبر الله بالبر هنا عن هذه الأصول كلها؟
والجواب ، والله أعلم ، لأن البر اسم جامع للخير كله وهو دال على تحقيق الكمال ، فالله سبحانه وتعالى لما ذكر أصول الإيمان ذكر أصول الأعمال التي هي ثمرة هذا الإيمان الذي زكّى النفس ،
وأثمر العمل الصالح ، والخلق الحسن ، وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن صاحب الخلق الحسن قد يسبق درجة الصائم القائم ، حيث قال (أقربكم إلي يوم القيامة أحسنكم أخلاقا) (16)

-قوله: وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ )
- "الإيمان" في اللغة بمعنى التصديق؛ لكنه إذا قرن بالباء صار تصديقاً متضمناً للطمأنية، والثبات، والقرار ، والإيمان بالله يتضمن الإيمان بوجوده، وربوبيته، ، وأولهيته، وأسمائه وصفاته.
ولما كان الإيمان بالله جل وعلا أصل الأصول، وأول أركان الإيمان، وكانت حقيقة الإيمان أن يعرف العبد ربه الذي يؤمن به معرفةً يصل بها إلى اليقين، ويبلغ بها مرتبة الإحسان،
كان الارتباط وثيقًا بين الإيمان ومعرفة الرحمن؛ فبحسب بمعرفته سبحانه وتعالى يكون الإيمان؛ فإن صحت المعرفة صح الإيمان، وإن فسدت المعرفة فسد الإيمان،
وكلما زادت معرفة العبد بالله زاد إيمانه به، وزاد حبه له، وزاد تعظيمه له، وزادت خشيته إياه؛ قال نبينا صلى الله عليه وسلم: (فوالله إني لأعلمهم بالله، وأشدهم له خشية) (17)

قوله: {واليوم الآخر} هو يوم القيامة؛ وسمي آخراً؛ لأنه ليس بعده يوم.
ويشمل الإيمان باليوم الآخر؛ الإيمان بكل ما أخبر الله به وأخبر به رسوله-صلى الله عليه وسلم- مما يكون بعد الموت؛ كفتنة القبر، ونعيمه، وعذابه، وقيام الساعة، والبعث، والحساب،
والصراط، والميزان، وأخذ الكتاب باليمين، أو الشمال، والجنة، وما ذُكر من نعيمها، والنار، وما ذكر من عذابها، وغير ذلك مما جاء في الكتاب، والسنة عن هذه الأمور مفصلاً أحياناً، ومجملاً أحياناً .

قوله: {والملائكة} جمع ملَك؛ وهم عالَم غيبي خلقهم الله -سبحانه وتعالى- من نور، وذللهم لعبادته، وهم لا يستكبرون عن عبادته، ولا يستحسرون، يسبحون الليل والنهار
لا يفترون، وهم أجسام ذوو عقول؛ لقوله تعالى في سورة فاطر: {جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ} ولقوله عز وجل في وصف جبريل في سورة التكوير:
{إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ}

قوله: {والكتاب}؛ المراد به الجنس؛ فيشمل كل كتاب أنزله الله -عز وجل- على كل رسول، كالإنجيل الذي أنزل على موسى، والتوراة على عيسى،
والفرقان الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم وهذه عقيدة يعتقدها المسلم يثقل بها ميزانه .

قوله: {والنبيين} يدخل فيهم الرسل؛ لأن كل رسول فهو نبي، ولا عكس؛ قال تعالى في سورة النساء : {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ ...}

قوله: (وآتى المال على حبه) أي أخرجه وهو محب له راغب فيه، وفيه دلالة على عظمِ الأجر؛ لأنَّ بذل الإنسان من الشَّيء الذي يحبّه أبلغ، وأكثر أجرًا وأدْعى لزيادته وبركته.
نص على ذلك ابن مسعود وسعيد بن جبير، وغيرهما من السلف والخلف، كما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة مرفوعا "أفضل الصدقة أن تصدق وأنت صحيح شحيح، تأمل الغنى وتخشى الفقر ." (18)

قوله: }ذوي القربى{ هم قرابات الرجل، وهم أولى من أعطى من الصدقة. وقد عن سليمان بن عامر قال: قال رسول الله ﷺ: "إن الصدقة على المسكين صدقة، وعلى ذي الرحم اثنتان: صدقة وصلة" (19)
وقد أمر الله تعالى بالإحسان إلى القرابة في غير موضع من كتابه العزيز.
قوله: (واليتامى) هم الذين لا كاسب لهم وقد مات آباؤهم وهم ضعفاء صغار دون البلوغ .
(والمساكين ): هم الذين لا يجدون ما يكفيهم في قوتهم وكسوتهم وسكناهم، فيعطون ما يسد به حاجتهم وخلتهم.
وفي الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: "ليس المسكين بهذا الطواف الذي ترده التمرة والتمرتان واللقمة واللقمتان، ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه،
ولا يفطن له فيتصدق عليه"
.(20)

قوله : }وابن السبيل{ السبيل اسم الطريق، وجعل المسافر ابنا لها لملازمته إياها كما يقال لطير الماء: ابن الماء،
وهو المسافر المجتاز الذي قد فرغت نفقته، فيعطى ما يوصله إلى بلده لعجزه بالغربة، وكذا الذي يريد سفرا في طاعة فيعطى ما يكفيه في ذهابه وإيابه.
ويدخل في ذلك الضيف، كما روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس أنه قال: ابن السبيل هو الضيف الذي ينزل بالمسلمين.

قوله: }والسائلين{ هم الذين يتعرضون للطلب، فيعطون من الزكوات والصدقات.
كما روى الإمام أحمد عن حسين بن علي عليهما السلام قال: قال رسول الله ﷺ: "للسائل حق وإن جاء على فرس" (21)
قوله: }وفي الرقاب{ معطوف على المفعول الأول وهو ذوي أي: وآتى المال في الرقاب، أي: دفعه في فكها، أي: لأجله وبسببه لأجل تخليص رقابهم، فلا يملكونه كالمصارف الأخرى .

قال الراغب: إن قيل كيف اعتبر الترتيب المذكور في قوله تعالى: ﴿وآتى المال على حبه﴾ الآية؟ قيل: لما كان أولى من يتفقده الإنسان بمعروفه أقاربه،
كان تقديمها أولى ثم عقبه باليتامى لأن مواساتهم بعد الأقارب أولى، ثم ذكر المساكين الذين لا مال لهم حاضرا ولا غائبا، ثم ذكر ابن السبيل الذي قد يكون له مال غائب،
ثم ذكر السائلين الذين منهم صادق وكاذب، ثم ذكر الرقاب الذين لهم أرباب يعولونهم، فكل واحد ممن أخر ذكره أقل فقرا ممن قدم ذكره...!

قوله :( وَأَقَامَ الصَّلَاةَ ) نلحظ أنه عُبر عن إقامتها بالفعل الماضي للدلالة على ثباتها، حتى صارت إقامتها على وجهها في وقتها صفة لهم ،
وكذلك اختيار لفظة (أَقَامَ) ولم تأتي أدّى، أوفعل ، وذلك لأنه كما قال السعدي رحمه الله: " لا يكفي فيها مجرد الإتيان بصورتها الظاهرة.
فإقامة الصلاة, إقامتها ظاهرا, بإتمام أركانها, وواجباتها, وشروطها.
وإقامتها باطنا بإقامة روحها, وهو حضور القلب فيها, وتدبر ما يقوله ويفعله منها، فهذه الصلاة هي التي قال الله فيها: (إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ)
وهي التي يترتب عليها الثواب، فلا ثواب للإنسان من صلاته, إلا ما عقل منها، ويدخل في الصلاة فرائضها ونوافلها .

وما أحسن من قال "الصلاة للقلب مثل الماء للبدن يحتاجها على مدار الساعة ومتى توقفت عنه فإنه يعطش وقد يشتد عطشه فيصاب بالجفاف والقسوة،
وربما صعبت عليه الصلاة إلا بجهد كبير، فإن الصلاة تعين على الصلاة، فالله سبحانه وتعالى يقول :(واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين)
ونرى أن بعض الناس حين يحس بغمرة الفرح والنشوة بتجدد نعمة أو اندفاع نقمة لا يقع في نفسه تعبيرا عما فيها من الشكر إلا الصدقة بالمال ونحوه
وهذا خير وعمل جميل ، لكن الصلاة قبله وفوقه بكثير،{إنا أعطيناك الكوثر* فصلّ لربك وانحر}. وكان هذا هو هدي سيد الخلق صلوات الله وسلامه عليه فإنه يبادر إلى الصلاة ويكثر منها
حين تجدد نعم ربه عليه ومن أبرز ما حفظ لنا من هديه صلى الله عليه وسلم في هذا الأمر صلاة الفتح : أي فتح مكة فقد صلى ثماني ركعات شكرًا لله عز وجل على هذه النعمة العظمى." (22)

وأقول ولا يعدم الخير .. وياليت هذا الذي نراه الآن ، إنما حفلات وهدايا وبذخ وترف وتصوير ...!!
نسأل الله أن يرزقنا شكر نعمته، وأن يجنبنا أسباب نقمه وغضبه

قوله: (وَآَتَى الزَّكَاةَ ) أي: زكاة المال المفروضة؛ على أن المراد بما مر من إيتاء المال، التنفل بالصدقات والبر والصلة، قدم على الفريضة مبالغة في الحث عليه .
وسميت زكاة؛ لأنها تنمي الخُلق وتنمي المال، وتنمي الثواب؛ تنمي الخُلُق بأن يكون الإنسان بها كريماً من أهل البذل، والجود، والإحسان؛ وهذا لا شك من أفضل الأخلاق شرعاً،
وعادة؛ وتنمي المال بالبركة، والحماية، والحفظ؛ ولهذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ما نقصت صدقة من مال" (23)
وتزكي الثواب؛ كما قال تعالى: {مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}
وصح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: " من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب، ولا يقبل الله إلا الطيب؛ فإن الله تعالى يأخذها بيمنيه، فيربيها،
كما يربي الإنسان فلوه حتى تكون مثل الجبل".
(24)
ونلحظ انه قدَّم سبحانه الإيمانَ على أفعال الجوارح، وهو: إيتاءُ المال والصَّلاة والزَّكاة؛ لأنَّ أعمال القلوب أشرف من أعمال الجوارح،
ولأنَّ أعمال الجوارح النافِعة عند الله تعالى إنَّما تنشأ عن الإيمان .
نسأل الله أن يصلح فساد قلوبنا، وأن يرزقنا إيماناً صادقا .

قوله :( وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا ) "إذا" ظرفية ، يعني: الموفون بعهدهم وقت العهد؛ أي في الحال التي يعاهدون فيها؛ فإذا عاهدوا وفوا.
والعهد عهدان عهد مع الله، وعهد مع الخلق، فهم يوفون بالعهدين.

قوله : (وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ ) : الصبر حبس النفس على طاعة الله، أو عن معصيته، أو على أقداره المؤلمة ،
فهم صابرون في أمور لهم فيها طاقة، وأمور لا طاقة لهم بها .
ونلحظ أنه لم يعطف على ما قبله لمزيد شرف الصبر وفضيلته وللأهتمام بشأنه، إذ لا فضيلة إلا وللصبر فيها أثر بليغ .
(الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ) أي: في حال الفقر،؛ لا يحملهم فقرهم على الطمع في أموال الناس، ولا يشكون أمرهم لغير الله .
وفي حال المرض، لا تحملهم الضراء- على أن يتسخطوا من قضاء الله وقدره؛ بل هم دائماً يقولون بألسنتهم وقلوبهم: رضينا بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد رسولاً؛
كذلك حين البأس يصبرون، ولا يولون الأدبار- وهذا صبر على الطاعة؛ فتضمنت هذه الآية ، جميع أنواع الصبر .
وقيل : الترتيب فيها للانتقال من الأسهل إلى الأشد.

قوله :( أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون )
شهادة من الله -عز وجل-؛ وهي أعلى شهادة وأجل شهادة ؛ لأنها من أعظم شاهد ؛ والمشار إليهم كلُ من اتصف بهذه الصفات؛ والإشارة بالبعيد لما هو قريب لأجل علو المرتبة

قال أبو جرير الطبري رحمه الله تعالى: "فمن فعل هذه الأشياء، فهم الذين صدقوا الله في إيمانهم، وحققوا قولهم بأفعالهم - لا من ولى وجهه قبل المشرق والمغرب
وهو يخالف الله في أمره، وينقض عهده وميثاقه، ويكتم الناس بيان ما أمره الله ببيانه، ويكذب رسله. " (25)
وفيه إشعار بأن من لم يفعل أفعالهم لم يصدق في دعواه .

قوله: (وأولئك هم المتقون ) أي القائمون بالتقوى؛ بفعل أوامره، واجتناب نواهيه
نلحظ كثرة المؤكدات فيها، من تكرير الإشارة لزيادة التنويه بشأنهم ، وتوسيط الضمير للإشارة إلى انحصار التقوى فيهم.
ومجيئ الجملة الاسمية المؤكدة؛ لتدل على أنها صفة ملازمة للمتصف بها.
قال الواحدي: هذه الواوات في الأوصاف في هذه الآية للجمع.
فمن شرائط البر، وتمام شرط البار، أن تجتمع فيه هذه الأوصاف، ومن قام بواحد منها لم يستحق الوصف بالبر. (26)

ولقد بيَّنت لنا هذه الآية الكريمة أن الأعمال الصالحة داخلة في مسمى الإيمان؛ خلافًا لمن أخرجها منها، وقد ساق الطبري بسنده - عند هذه الآية - عن الربيع: "﴿أولئك الذين صدقوا﴾ قال، فتكلموا بكلام الإيمان، فكانت حقيقتُه العمل، صَدقوا الله. قال: وكان الحسن يقول: هذا كلام الإيمان، وحقيقتُه العمل، فإن لم يكن مع القول عملٌ فلا شيء. (27)


رزقنا الله وإياكم صنوف البرّ والكمال ،وصدق الإيمان والأعمال وجملنا بالتقوى والتمسك بالعروة الوثقى .

المراجع :
(1) رواه مسلم
(2)رواه مسلم
(3)رواه ابن سعد في " الطبقات الكبرى
(4)الرسالة التبوكية - ص 15
(5)تفسير ابن رجب الحنبلي
(6)الفتاوى (٨/ ٥٢٦)
(7)جموع الفتاوى
(8) كتاب الفوائد لابن القيم
(9) تفسير ابن جرير
(10) تفسير ابن جرير
(11) تفسير ابن جرير
(12) تفسير القاسمي
(13) تفسير ابن كثير
(14) تفسير ابن جرير
(15) تفسير ابن كثير
(16) مجمع الزوائد |رقم 8/24
(17) البخاري: ٦١٠١
(18) أخرجه البخاري، كتاب الزكاة،
(19) رواه الإمام أحمد، والترمذي، والنسائي وغيرهم
(20) أخرجه البخاري ومسلم
(21) رواه أبو داود
(22) د خالد اللاحم -مفاتح إقامة الصلاة
(23)رواه مسلم
(24) رواه البخاري ومسلم .
(25) تفسير ابن جرير
(26) البسيط للواحدي[/size]

رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
تفسيرية, رسالة


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع
إبحث في الموضوع:

البحث المتقدم
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 08:37 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir