دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > علوم اللغة > متون علوم اللغة العربية > الأدب > بانت سعاد

موضوع مغلق
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 19 محرم 1430هـ/15-01-2009م, 08:54 PM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,453
افتراضي شرح البردة (1/7): بانت سعاد فقلبي اليوم متبول ... متيم إثرها لم يفد مكبول


1- بَانَتْ سُعادُ فقَلْبِي اليَوْمَ مَتْبُولُ = مُتَيَّمٌ إِثْرَها لم يُفْدَ مَكبولُ
2- وما سُعادُ غَداةَ الْبَيْنِ إذ رَحَلُوا = إلا أَغَنُّ غَضيضُ الطرْفِ مَكحولُ
3- تَجْلُو عَوَارِضَ ذي ظَلْمٍ إذا ابْتَسَمَت = كأنه مُنْهَلٌ بالراحِ مَعلولُْ
4- شُجَّتْ بِذِي شَبَمٍ من ماءِ مَحْنِيَةٍ = صافٍ بأَبْطَحَ أَضْحَى وهْو مَشمولُ
5- تَنْفِي الرِّياحُ الْقَذَى عنه وأَفْرَطَهُ = مِن صَوْبِ سَارِيَةٍ بِيضٌ يَعَالِيلُ


  #2  
قديم 20 محرم 1430هـ/16-01-2009م, 08:32 AM
حفيدة بني عامر حفيدة بني عامر غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: بلاد الحرمين .
المشاركات: 2,423
افتراضي شرح الخطيب يحيى بن علي التبريزي

- بانتْ سعادُ فقلبي اليومَ متبولُ = مُتَيَّمٌ إثْرُها لمْ يُفْدَ مكبولُ

( بانَتْ ): فارَقَتْ، يقالُ: ( بانَ يبينُ بَيْناً وبينونةً )، إذا فارقَ فراقاً بعيداً.
( وسعادُ ): اسمُ امرأةٍ، وما زادَ على ثلاثةِ أحرفٍ من المُؤَنَّثِ الذي ليستْ له علامةٌ، نحوُ عقابُ وعقربُ وزينبُ، فإنَّ الحرفَ الزائدَ على الثلاثةِ يَجْرِي مجرى علامةِ التأنيثِ فلا ينصرفُ لذلك إذا سُمِّيَتْ بها، وامتناعُهم من دخولِ تاءِ التأنيثِ عليها يدلُّ على أنَّهم أنزلوا الحرفَ الزائدَ منزلةَ تاءِ التأنيثِ.
( والتَّبَلُ ) : الوَغَمُ في القلبِ، يُقَالُ: تَبَلَتْ فلانةٌ فُلاناً، إذا تَيَّمَتْهُ، كأنَّها أصابتْ قَلْبَهُ بتَبَلٍ، أيْ: ذهلٍ، والتبلُ العداوةُ، ويقالُ: تَبَلَهُم الدهرُ، أي: أفناهم. ومنه قولُ الأعشى:
.... ودهرٌ خائِنٌ تَبِلُ
( والمُتَيَّمُ ): المُسْتَعْبَدُ، ومنهُ اشتقاقُ تَيْمِ اللَّهِ، [ ويقالُ: أَرْضاً وتيهًا وتَيْماً إذا كانتْ مُضِلَّةً ]، ويقالُ: جئتُ في أثَرِهِ، وَأَثَرَهُ بمعنى ( بَعْدَهُ ).
( والمكبولُ ): المُقَيَّدُ، والكَبَلُ: القيدُ، ويقالُ: كَبَلَهُ كَبْلاً إذا قيَّدَهُ.
وقولُهُ: ( لمْ يُفْدَ ) من الفداءِ، ( ومعناهُ ) أنَّهُ لمَّا فارقَتْهُ هذهِ المرأةُ، وتَبَلَتْ قلْبَهُ وتيَّمَتْهُ صارَ بعْدَها كأسيرٍ محبوسٍ لمْ يُفْدَ بفِدَاءٍ يَفُكُّهُ من الأسرِ، فهوَ باقٍ على حالةِ الأسرِ.

2- وما سعادُ غداةَ البينِ إذ رحلوا إلاَّ أغنُّ غضيضُ الطرفِ مكحولُ

( الأغنُّ ) من الغزلانِ وغيْرِها: الذي في صوْتِهِ غُنَّةٌ، والغنَّةُ: صوتٌ يخرجُ من الخياشيمِ، والظباءُ كُلُّها غزلانٌ في نَزِيبِها غُنَّةٌ، والنزيبُ صوتُ الظَّبْيِ.
وقولُهُ: (غضيضُ الطرْفِ)؛ أيْ: فاتِرُهُ. والغضُّ: الكسرُ والفتورُ، وغضيضٌ بمعنى مغضوضٍ.
وقولُهُ: ( مكحولٌ ) بمعنى أنَّ حدقةَ [ العينِ من ] الغزالِ كُلِّها سوداءُ ليسَ فيها بياضٌ، ومعناهُ أنَّهُ يُشَبِّهُ المرأةَ بالغزالِ.
3
- تجْلُو عوارضَ ذِي ظَلْمٍ إذا ابتسمتْ كأنَّهُ مَنْهَلٌ بالراحِ معلولُ

قولُهُ: ( تجلو ) من قولهم: جلوتُ السيفَ وغيرَهُ، أجْلُوهُ جَلْواً وجِلاءً، إذا أزلتُ عنهُ الصَّدَأَ.
( والعوارضُ ): ما بعدَ الأنيابِ من الأسنانِ، وهيَ الضواحكُ، قالَ الشاعرُ:

وكأَنَّ ريَّا فَأْرَةٍ هندِيَّةٍ سبقتْ عوارِضُها إليكَ من الفَمِ

( والظَّلْمُ ): ماءُ الأسنانِ، وقيلَ: رِقَّةُ الأسنانِ وشِدَّةُ بَيَاضِهَا، ( ومَنْهَلٌ ) من قولهم: أنْهَلَهُ يُنْهِلُهُ إِنْهَالاً إذا أوْرَدَهُ النَّهَلَ، وهوَ الشربُ الأوَّلُ.
( ومعلولٌ ) من : عَلَّهُويَعُلُّهُ ويَعِلُّهُ، إذا أسقاهُ العللَ، وهوَ الشربُ الثاني بعدَ الأوَّلِ.
( والراحُ ) الخمرُ، والمعنى: أنَّهُ يصفُها بأنَّها تستاكُ ثغراً طَيِّبَ النكهةِ، إذا ابتسمتْ قَابَلْتَ منها نكهةً كطِيبِ رائحةِ الخمرِ.
قالَ أحمدُ بنُ عبدِ اللَّهِ: وشَبَّهَ نكهةَ المرأةِ بطيبِ رائحةِ الروضِ:

إذا قبَّلْتَها قابلْتَ منها أريجَ الروضِ في زُهْرِ مُغِنَّةْ
4- شُجَّتْ بذي شَبِمٍ منْ ماءِ محنيَةٍ صافٍ بأبطحَ أضحَى وهْوَ مشمولُ

[ قولُهُ: ] شُجَّتْ؛ [ أيْ ]: مُزجتْ، يقالُ: شجَجْتُ الخمرَ إذا مزَجْتُها، أشْتَجُّها شجًّا، وكذلكَ قَتَلْتُها أقتلُها قتلاً، كأنَّكَ كسَرْتَ حِدَّتَها بالماءِ.
( وذُو شَبِمٍ ): ذو بَرْدٍ، يعني ماءً بارداً، والشَّبَمُ: البردُ، والشَّبِمُ: الباردُ.
( ومحنيَةٌ ) مَفْعَلةٌ من : حنوتُ أحْنُو إذا عطفتُ، وكلُّ كلمةٍ كانتْ لامُها واواً ووقعتْ رابعةً وقبْلَها كسرةٌ قُلِبَتْ ياءً، نحوُ غازيَةٍ ومحنيَةٍ، وأصْلُهُما غَازُوَةٌ ومحنوةٌ، فقُلِبَت الواوُ فيهما ياءً لَمَّا وقعتْ رابعةً وقبلها كسرةٌ، وهذا عقدٌ من عقودِ التصريفِ.
( والمحنيَةُ ): ما انعطفَ من الوادِي.
( وصافٍ ) من : صَفَا الماءُ ( لصفائِهِ من القَذَى ). ( والأبطحُ ) ما اتَّسعَ من بطونِ الأوديَةِ.
( والمشمولُ ) الذي أصابَتْهُ الشمالُ، وقولُهُ: ( وهوَ مشمولُ ) جملةٌ مركَّبةٌ من مبتدأٍ وخبرٍ، وهيَ في موضعِ نصبٍ؛ لأنَّها خبرُ أضحَى، واسمُ أضحى مضمرٌ فيها، ومعناهُ أنَّهُ وصفَ الراحَ التي عُلَّ بها ظُلمُ هذهِ المرأةِ الموصوفةِ بأنَّها شُجَّتْ بماءٍ باردٍ صافٍ قدْ ضَرَبَتْهُ الشمالُ في أبطُحِ وادٍ فهوَ أبْرَدُ لهُ وأصفَى.

5- تنفِي الرياحَ القذى عنهُ وأفْرَطَهُ من صَوْبِ ساريَةٍ بيضٌ يعاليلُ

ويُرْوَى: ( تجلو الرياحُ القذى عنهُ )، يعني: أنَّ الرياحَ تكشفُ عنهُ ما يعلوهُ وتُصَفِّيهِ.
قولُهُ: وأفْرَطَهُ يحتملُ وجهَيْنِ؛ أحدُهما: أنْ تكونَ من قوْلِهم: أفْرَطْتُ القربةَ إذا ملأْتُها، وغديرٌ مُفْرطٌ، أيْ: مملوءٌ، قالَ الشاعرُ:

يُرَجِّعُ بينَ خُرْمٍ مُفْرَطَاتٍ صوافٍ كمْ يُكَدِّرُهَا الدِّلاءُ


والخُرْمُ غُدرٌ تنخرمُ بعضُها إلى بعضٍ، أي: تملأُ هذا الأبطحَ من صَوْبِ ساريَةٍ بيضٌ يعاليلُ.
والوجهُ الثاني: أنَّ أفْرَطَهُ بمعنى : تركَهُ، يقالُ: أفرطْتُ القومَ إذا ترَكْتُهم ورَاءَكَ وتقَدَّمْتَهم، ومنهُ قولُ النبيِّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ: ((أَنَا فَرَطُكُمْ عَلَى الْحَوْضِ))؛ أي: سابِقُكُم ومتقدِّمُكم. وقولُهُ تعالى: {وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ}؛ أيْ: مؤخَّرُونَ، ومعناهُ أنَّ البيضَ اليعاليلَ تركتْ ماءَ المطرِ في هذا الأبطحِ.ومن هذا المعنى سُمِّيَ الغديرُ غديراً، مِنْ : غادَرَهُ السيلُ؛ [ أيْ ]: تركَهُ.
والصوبُ: مصدرُ : صابَ الغمامُ، يصوبُ صوباً، والساريَةُ: السحابةُ التي تسري ليلاً.
والغاديَةُ: التي تغْدُو نهاراً.
وقولُهُ: ( بيضٌ يعاليلُ )، يعني: سحائبُ بيضاءُ رِوَاءٌ، ومنهُ قولُهم: ثوبٌ يعلولُ، إذا عُلَّ بالصبغِ وأُعِيدَ عليهِ مرَّةً بعدَ أخرى. هذا أحسنُ ما يحتمِلُهُ هذا الموضعُ، وما يُقَالُ في تفسيرِ (يَعَالِيلُ): إنَّها السحائبُ البيضُ [ الرِّوَاءُ ].

  #3  
قديم 20 محرم 1430هـ/16-01-2009م, 08:54 AM
حفيدة بني عامر حفيدة بني عامر غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: بلاد الحرمين .
المشاركات: 2,423
افتراضي شرح كمال الدين عبد الرحمن بن محمد الأنباري

بـَانَتْ سُـعَادُ فَـقَـلْبِـي الْيَــوْمَ مَتْـبُولُ = مُـتَيـَّمٌ إِثْــرَهَا لَمْ يـُـفَدَ مَـكْبــُولُ
"بَانَتْ": فَارَقَتْ. وسُعَادُ: لا تَنْصَرِفُ للتعريفِ والتأنيثِ، و"مَتْبُولُ": أُصيبَ بِتَبْلٍ، والتَّبْلُ: والذَّحْلُ، والدَّعْثُ، والوَغْمُ، والوَغَرُ، والغَمْرُ، والوَحَى، والدِّمْنَةُ، والسَّخِيمَةُ، والضِّغْنُ، والضَّغِينَةُ والقَبُّ، والوَتْرُ، والتِّرَةُ والحَزَازُ، والحَزَازَةُ، والإِحْنَةُ، والحِنَةُ، والحَسِيكَةُ والحَسِيفَةُ، والكَتِيفَةُ والزَّخَّةُ، والطَّائِلَةُ بمعنًى, وهو الحِقْدُ. و"مُتَيَّمٌ": مـُعَبَّدٌ. و"مَكْبُولُ": مُقَيَّدٌ، والمعنى: أنَّه لَمَّا فَارَقَ هَذِه المَرْأَةَ بَقِيَ كأَسِيرٍ لَمْ يُـفْدَ بِفِـدَاءٍ.

وَمَا سُــعَادُ غَـدَاةَ الْبَـيْنِ إِذْ رَحَـــلُوا إِلاَّ أَغَـنُّ غَضِيـضُ الطَّــرْفِ مَـكْـحُــولُ
سعادُ: رُفِعَ بالابْتِدَاءِ، لا بـ " مَا "؛ لِزَوَالِ معنَى النَّفْيِ بإِلاَّ في قَوْلِه: "إِلاَّ أَغَنُّ"، وأَغَنُّ: خَبَرُ المبتدأِ. والأَغَنُّ: الذي في صَوْتِهِ غُنَّةٌ. والغُنَّةُ: خُرُوجُ الكلامِ مِنَ الأَنْفِ. و"غَضِيضُ الطَّرْفِ": فاتِرُ الطَّرْفِ. والغَضُّ: كفُّ الطَّرْفِ، قالَ تَعَالَى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ}، وقالَ الشَّاعِـرُ:

فـَغُضَّ الطَّـرْفَ إِنَّــكَ مِنْ نُــمَيْـرٍ فَـلاَ كَــعْـباً بَــلَغْـتَ وَلاَ كِـلاَبَــا
و"غَضِيضُ" بمعنى مَغْضُوضٍ، فَعِيلٌ بمعنى مَفْعُولٍ، كقَتِيلٍ بمعنَى مَقْتُولٍ، وجَرِيحٍ بمعنَى مَجْرُوحٍ، وقَدِيرٍ بمعنَى مَقْدُورٍ، قالَ امْرِؤُ الْقَيْسِ:

فَـظَلَّ طُـهَاةُ الـلَّحْـمِ مِنْ بَيْـنِ مُنْـضِجٍ صَـفِيـفَ شِــوَاءٍ أَوْ قَـدِيرٍ مُعَـجَّـلِ


تَـجْـلُو عَــوَارِضَ ذِي ظَـلْمٍ إِذَا ابْتَسَمَتْ كَأَنَّــهُ مُنْــهَلٌ بِالـرَّاحِ مَــعْلُــولُ
تَجْلُو: تَكْشِفُ. يُـقالُ: جَلَوْتُ السَّيْفَ، إذا كَشَفْتَ ما عليه مِنَ الصَّدَأِ. وجَلاَ لِيَ الخَبَرُ انْكَشَفَ ووَضَحَ، ويُقالُ: وهو ابنُ جَلاَ إذا انْكَشَفَ أَمْرُهُ لِشُهْرَتِه، قالَ سُـعَيْمُ بنُ وَثِيـلٍ (الرِّيَاحِيُّ):

أَنَـا ابْــنُ جَــلاَ وَطَـلاَّعُ الثَّـنَـايَـا مَتَـى أَضَـعِ العِمَــامَـةَ تَــعْرِفُــونِـي
وقالَ الآخَرُ:

إِنِّي أَنَا ابنُ جَلاَ إِنْ كُنْتَ تُنْكِرُنِي = يَا رُؤْبُ والصَّخْرَةُ الصَّمَّاءُ والْجَبَلُ
أبَالأَرَاجِيزِ يَا ابنَ اللُّؤْمِ تُوعِدُنِي وَفِي الأَرَاجِيزِ, خِلْتُ, اللُّؤْمُ والفَشَلُ
والعَواَرِضُ: الضَّوَاحِكُ، وهي ما بعدَ الأَنْيابِ مِن الأسنانِ، وقِيلَ: بَرِيقُها وصَفَاؤُها. ومُنْهَلٌ: مُفْعَلٌ مِن النَّهَلِ, وهو الشُّرْبُ الأَوَّلُ. و"مَعْلُولُ": مَفْعُولٌ، من العَلَلِ وهو الشُّرْبُ الثاني. والـرَّاحُ: الخَمْرُ. والمعنى: أنَّها تَسْتَاكُ ثَغْراً رَائِحَتُه كرَائِحَـةِ الخَـمْرِ.
شـُجَّتْ بِـذِي شَـبَـمٍ مِن مَاءِ مَحْـنِيَــةٍ صَـافٍ بَأَبْـطَـحَ أَضْـحَـى وَهُوَ مَشْـمُـولُ
شُجَّتْ: مُـزِجَتْ. والشَّبَمُ: البَرْدُ. مَحْنِيَةٍ: مُنْعَطَفُ الوَادِي، وأصلُه: مَحْنُوَةٌ، مِن حَنَوْتُ، أي: عَطَفْتُ، فقُلِبَتِ الواوُ ياءً؛ لِوُقُوعِها رَابِعَةً وانْكِسَارِ ما قَبْلَها، والأَبْطَحُ: ما اتَّسَعَ مِنَ الأرضِ.

ومَشْمُولُ: أصَابَتْهُ (الشَّمَالُ) وفيها سِتُّ لُغَاتٍ: شَمْأَلٌ، وشَمَالٌ، وشَمَلٌ، وشَمْلٌ، وشَمُولٌ، (وشَأْمَلٌ).
والمعنى: أنَّ الرَّاحَ الَّتِي أَنْهَلَ بِهَا ظَلْمَ هذه المَرْأَةِ، وعـَلَّ مُـزِجَتْ بماءٍ هذه صِفَتُهُ.
تَنْـفِي الرِّيَاحُ الْقَــذَى عَــنْهُ وَأَفْــرَطَهُ مِنْ صَــوْبِ سَـارِيَةٍ بِيــضٌ يَـعَالِـيلُ
أَفْرَطَه: مَلأَهُ. والصَّوْبُ: نُزُولُ المَطَرِ. قالَ الشاعِرُ:

فَـلَسْتَ لإِنْسِـيٍّ وَلَكِـنْ لِـمَلأَكٍٍ تَنَــزَّلَ مِنْ جَــوِّ السَّـمَاءِ يَصُــوبُ
والسَّارِيَةُ: السَّحَابَةُ تَسْرِي لَيْلاً. وبِيضٌ يَعَالِيلُ: يعني: سَحَائِبَ بِيضاً رِوَاءَ الماءِ.

  #4  
قديم 20 محرم 1430هـ/16-01-2009م, 09:17 AM
حفيدة بني عامر حفيدة بني عامر غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: بلاد الحرمين .
المشاركات: 2,423
افتراضي شرح موفق الدين عبد اللطيف بن يوسف البغدادي

وبَعْدَمَا أَتَيْنَا عَلَى ذِكْرِ مَا يَجِبُ ذِكْرُه، فَلْنَأْخُذْ فِي شَرْحِ القَصِيدَةِ بَيْتاً بَيْتاً.
بَـانَتْ سُـعَادُ فَقَـلْبِي الْيَـوْمَ مَتْبـولُ - مُـتَيـَّـمٌ إِثْـرَهَا لَـمْ يـُـفْـدَ مـَكْبـُولُ
بَانَتْ: بَعُدَتْ، والبَيْنُ: البُعَادُ. وسُعَادُ: اسْمُ امْرَأةٍ فَلا يَنْصَرِفُ؛ لاجْتِمَاعِ العَلَمِيَّةِ والتَّأْنِيثِ.

"فَقَلْبِي اليَوْمَ مَتْبُولُ": جُمْلَةٌ خَبَرِيَّةٌ. والفَاءُ: لتَعْقِيبِ المَعْلُولِ عَنِ العِلَّةِ، وعَلَى اللُّزُومِ. والمَتْبُولُ: المَغْلُوبُ حُبًّا، يُقَالُ: تَبَلَهُ الحُبُّ تَبْلاً، إِذَا غَلَبَ عَلَى قَلْبِه. وأَصْلُ التَّبْلِ: العَدَاوَةُ والرَّغْمُ، يُقَالُ: تَبَلَتْهُ فُلانَةٌ كَأَنَّها أَصَابَتْ قَلْبَهُ بتَبْلٍ, أي: ذَحْلٍ. و"اليَوْمَ": يُرِيدُ الوَقْتَ الحَاضِرَ، لا بَيَاضَ النَّهَارِ ولا سَوَادَ اللَّيْلِ. و"مُتَيَّمٌ": مُعبَّدٌ مُذلٌّ، وهو خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ.
وعِنْدَها: مُتَعَلِّقٌ بِهِ، وهو ظَرْفٌ عَلَى السَّعَةِ. و"لَمْ يُفْدَ": خَبَرٌ آخَرُ وكَذَلِكَ "مَكْبُولُ". والمَكْبُولُ: المُقَيَّدُ. والكَبْلُ: القَيْدُ. ويُرْوَى: "لَمْ يُفْدَ" مِن الفِدَاءِ, أي: لَمْ يُفَكَّ أَسْرُه مِن حُبِّهَا. وإِنْ شِئْتَ جَعَلْتَ جُمْلَةَ " لَمْ يُفْدَ " صِفَةً لـ "مُتَيَّمٌ" يَصِفُ أَنَّ قَلْبَهُ صَارَ بهَذِهِ الأَحْوَالِ.
وَمَـا سُـعَادُ غَـدَاةَ الْبَيْنِ إِذْ رَحَـلُوا إِلاَّ أَغَـنُّ غَضِــيضُ الـطَّـرْفِ مَـكْحُـولُ
يُرِيدُ "وَ مَا هِيَ" فأَقَامَ المُظْهَرَ مُقَامَ المُضْمَرِ للتَّوْكِيلِ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:

" أَرَىَ المَوْتَ لا يَسْبِقُ المَوْتَ شَيْءٌ ". والمَحْفُوظُ: " لا أَرَى المَوْتَ يَسْبِقُ المَوْتَ شَيْءٌ ". وهَذَا إِنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ التَّشْبِيبِ بالمَحْبُوبِ وتَكْرِيرِ اسمِه؛ الْتِذَاذاً بذِكْرِه وسَمَاعِه, ويَكُونُ ذَلِكَ أَيْضاً في الأَشْيَاءِ الهَائِلَةِ والأُمُورِ المُعَظَّمَةِ المُفَخَّمَةِ، كقَوْلِه تَعَالَى: {القَارِعَةُ مَا الْقَارِعَةُ}. وأَصْلُه مَا هِيَ. و"غَدَاةَ": ظَرْفٌ يَتَعَلَّقُ بِمَا فِي الكَلامِ مِن مَعْنَى التَّشْبِيهِ.
و"إِذْ": بَدَلٌ مِن "غَدَاةَ"؛ بَدَلُ الخَاصِ مِنَ العَامِّ, والاسْتِثْنَاءُ مُفَرَّغٌ، وهي مَعَ " مَا" للحَصْرِ. وأَغَنُّ: خَبَرُ المُبْتَدَأِ، أو صِفَةٌ لمَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ، أي: ظَبْيٌ أَغَنُّ: في صَوْتِه غُنَّةٌ, وهو صَوْتٌ لَذِيذٌ يَخْرُجُ مِنَ الأَنْفِ تَغْلُبُ عَلَيْهِ غُنَّةُ النُّونِ، وهو يُشْبِهُ صَوْتَ الرِّيحِ في الشَّجَرِ المُلْتَفِّ. يُقَالُ: وَادٍ أَغَنُّ إِذَا كَانَ كَذَلِكَ. ومِثْلُه صَوْتُ الذُّبَابِ فِي الغِيَاضِ.
و"غَضِيضُ الطَّرْفِ": مُنْكَسِرُ الطَّرْفِ ذُلاًّ أو حَيَاءً وخَفَراً. والطَّرْفُ الغَضِيضُ: المَغْضُوضُ الَّذِي لَيْسَ بتَامِّ النَّظَرِ، وغَضُّ الطَّرْفِ: تَنْكِيسُهُ وتَرْكُ الاسْتِفْهَامِ والتَّحْدِيقِ.
وأَمَّا كَفُّ البَصَرِ: فَهُو مَنْعُهُ بالكُلِّيَّةِ. ومِنْهُ قَوْلُه تَعَالَى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ}. أي: يَتْرُكُوا التَّحْدِيقَ.
ولَمْ يُصِبْ مَن جَعَلَ "مَن" صِلَةً؛ لأَنَّ البَصَرَ يُغَضُّ عَنِ المَحَارِمِ، ويُطْلَقُ فِيمَا عَدَا ذَلِكَ، وَلَمْ يُنْهَ عَنْ رُؤْيَةِ الشَّبَحِ، وإِنَّمَا نُهِيَ عَنْ تَلَمُّحِ المَحَاسِنِ، وتَأَمُّلِ التَّثَنِّي والمَعَاطِفِ، والقَلْبُ مُقْبِلٌ والنَّفْسُ صَبَّةٌ، فأَمَّا والقَلْبُ مُعْرِضٌ مَشْغُولٌ بذِكْرِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، والبَصَرُ إِنَّمَا يَقَعُ عَلَى الشَّبَحِ والشَّخْصِ، فَلَيْسَ ذَلِكَ دَاخِلاً في النَّهْيِ. والمَكْحُولُ فِي النَّاسِ: أَكْحَلُ العَيْنَيْنِ بالإِثْمِدِ، والظِّبَاءُ تُوصَفُ بالكُحْلِ، والنِّسَاءُ تُمْدَحُ بذَلِكَ. والكَحَلُ: سَوَادُ الهُدْبِ خِلْقَةً، والظِّبَاءُ كَذَلِكَ. ويُقَالُ: مِن الكَحَلِ عَيْنٌ كَحِيلٌ، ومِنَ الكُحْلِ عَيْنٌ كَحْلَةٌ.
تَجْلُو عـَـوَارِضَ ذِي ظَلْمٍ إِذَا ابْتَسَـمَتْ كَأَنـَّهُ مُـنـْهَلٌ بالــرَّاحِ مَعْــلُـولُ
تَجْلُوا: تَكْشِفُ. والعَوَارِضُ: مَا بَعْدَ الأَنْيَابِ؛ لأَنَّهَا في عَرْضِ الوَجْهِ، أي: تَكْشِفُ عَنْ عَوَارِضِها بالابْتِسَامِ, وهِيَ الضَّوَاحِكُ. ويُرْوَى: غَوَارِبَ, وغَوَارِبُ كُلِّ شَيْءٍ: أَعْلاهُ.

يُرِيدُ أَنَّ ابْتِسَامَهَا بإِمْعَانٍ، وذَلِكَ مِن أَمَارَاتِ الهَشَاشَةِ والسُّرُورِ. والظَّلْمُ: بَرِيقُهَا وصَفَاؤُهَا، وذَلِكَ أَنَّ الأَسْنَانَ الفَلَجَةَ مُنْطَفِئَةٌ بَشِعَةُ المَنْظَرِ كأَسْنَانِ المَرْضَى والمَوْتَى، وقِيلَ: الظَّلْمُ: رِقَّةُ الأَسْنَانِ وشِدَّةُ بَيَاضِهَا.
و"إِذَا ابْتَسَمَتْ". أي: حِينَ ابْتِسَامِهَا، وهو مُتَعَلِّقٌ "بتَجْلُو", ولا يُخْبَرُ عَنْ ذَلِكَ كَمَا يُخْبَرُ عَنْهُ مَن لا حِنْكَةَ عِنْدَهُ. والضَّمِيرُ فِي "كَأَنَّهُ" يَرْجِعُ إِلَى الثَّغْرِ. وقَوْلُه: "مُنْهَلٌ.. مَعْلُولُ": مَعْنَاهُ: سُقِيَ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، فيَكُونُ إِطْرَاءً لَهُ, وَأصَفَى لجَوْهَرِه. والنَّهَلُ: الشُّرْبُ الأَوَّلُ. العَلَلُ: الشُّرْبُ الثَّانِي, ومَفْعُولُ " مَعْلُولُ " مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ الأَوَّلُ. وجَعَلَ نَهَلَهُ وعَلَلَهُ مِن الرَّاحِ وَهِيَ الخَمْرُ؛ ليَدُلَّ مَعَ حُسْنِ المَنْظَرِ عَلَى طِيبِ النَّكْهَةِ ولَذَاذَةِ طَعْمِ الرِّيقِ جَمِيعاً. والمعنى: أَنَّها تَكْشِفُ بالابْتِسَامِ ثَغْراً هَذِهِ صِفَتُهُ.
شـُجَّتْ بـذِي شَـبَمٍ مِنْ مَــاءِ مَحْنِيَةٍ صَـافٍ بأَبْــطَـحَ أَضْـحَـى وهـو مَشْمُولُ
شُجَّتْ: مُزِجَتْ. وأَصْلُ شَجَّ: قَطَعَ وفَرَّقَ، يُقَالُ: شَجَجْتُ الخَمْرَ، وقَتَلْتُهَا، وشَعْشَعْتُهَا: إِذَا مَزَجْتَهَا، كأَنَّكَ كَسَرْتَ سَوْرَتَهَا بالمِزَاجِ. وقَوْلُه: بذِي شَبَمٍ: أي: ذِي بَرْدٍ، فالشَّبَمُ بفَتْحِ البَاءِ: البَرْدُ، والشَّبِمُ بكَسْرِهَا: البَارِدُ. والمَحْنِيَةُ: مَفْعِلَةٌ مِن حَنَوْتُ أَحْنُو إِذَا عَطَفْتَ، وأَصْلُه مَحْنُوَةٌ, فقُلِبَتِ الوَاوُ يَاءً لتَصِحَّ الكَسْرَةُ، ومَاؤُهَا يَكونُ أَصْفَى وأَرَقَّ.

والأَبْطَحُ: مَسِيلٌ وَاسِعٌ فيه دَقِيقُ الحَصَا، والجَمْعُ الأَبَاطِحُ والبِطَاحُ أَيْضاً عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ. وتَبَطَّحَ السَّيْلُ: اتَّسَعَ فِي البَطْحَاءِ. ومَاءُ الأَبْطَحِ أَفْضَلُ مِياهِ المَطَرِ, ولا سِيَّما إِذَا كَانَ بمَحْنِيَةٍ.
وقَوْلُه: " أَضْحَى وهو مَشْمُولُ. " أي: باكَرَتْهُ الشَّمَالُ، وذَلِكَ أَفْضَلُ لَهُ، فإِنَّ الشَّمَالَ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ أَبْرَدُ مَا يَكُونُ، والوَاوُ فِي "وهو" واوُ الحَالِ.
وأَضْحَى: صِفَةُ المَاءِ، ولَيْسَتْ أَضْحَى هذه مِن أَخَواتِ كَانَ, وإِنَّمَا هِيَ فِعْلٌ تَامٌّ بمَعْنَى دَخَلَ وَقْتَ الضُّحَى. والمَعْنَى: " أَنَّ الرَّاحَ التي أَنْهَلَ بِهَا ظَلْمَ هذه المَرْأَةِ وعَلَّ مُـزِجَتْ بماءٍ هَذِهِ صِفَتُهُ ".
تـَنْـفِي الرِّيَاحُ القَذَى عَنْهُ وأَفْرَطَـهُ مِن صَـوْبِ سَــارِيـَةٍ بَيــضٌ يــَعَالِـيلُ
أَخَذَ يَزِيدُ المَاءَ صِفَةً بأَنَّ الرِّيحَ تَنْفِي عَنْهُ الأَخْبَاثَ. والقَذَى: مَا يَعْلُو المَاءَ. وقَوْلُه: " أَفْرَطَهُ مِن صَوْبِ سَارِيَةٍ ". أي: مَلأَهُ مِن صَبِّ سَحَابَةٍ أَتَتْ لَيْلاً. والسُّرَى: سَيْرُ اللَّيْلِ. والتَّأْوِيلُ: سَيْرُ النَّهَارِ. ويُرْوَى: " مِنْ صَوْبِ غَادِيَةٍ"، وَهِيَ الجَائِيَةُ أَوَّلَ النَّهَارِ، ومَطَرُ أَوَّلِ النَّهَارِ أَفْضَلُ مَطَرٍ, وكَذَلِكَ مَطَرُ آخِرِ اللَّيْلِ. والغَادِيَةُ: في مَوْضِعِ الرَّفْعِ؛ لأَنَّهَا فَاعِلُ المَصْدَرِ وهو الصَّوْبُ.

يُقَالُ: صَابَ السَّحَابُ يَصُوبُ صَوْباً، وسُمِّيَ الصَيِّبُ مِن ذَلِكَ. والبَيضُ: جَمْعُ بَيْضَاءَ, وهي فَاعِلُ "أَفْرَطَ". واليَعَالِيلُ: السَّحَائِبُ البِيضُ, واحِدُهَا يَعْلُولٌ, ومَطَرُهَا يَكُونُ أَصْفَى وأَلْطَفَ،وهو يَفَاعِيلُ مِنَ العَلَلِ وهو الشُّرْبُ الثَّانِي.
قَالُوا: واليَعَالِيلُ: سَحَابٌ بِيضٌ رَوِيٌّ. يُقَالُ: ثَوْبٌ يَعْلُولٌ إِذَا عُلَّ بالصِّبْغِ وأُعِيدَ عَلَيْهِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى. وأَفْرَطَهُ: يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهما: مَلأَهُ, مِن قَوْلِهِم: أَفْرَطْتُ القِرْبَةَ.
[والوَجْهُ الثَّانِي أَنْ يَكُونَ أَفْرَطَهُ بمَعْنَى تَرَكَهُ، يُقَالُ: أَفْرَطْتُ القَوْمَ]. إِذَا تَرَكْتَهُمْ ورَاءَكَ. ومِن: ((أَنَا فَرْطُكُمْ عَلَى الحَوْضِ)). أي: السَّحَائِبُ تَرَكَتِ الأَبْطَحَ مُفْعَماً.

  #5  
قديم 20 محرم 1430هـ/16-01-2009م, 11:14 AM
حفيدة بني عامر حفيدة بني عامر غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: بلاد الحرمين .
المشاركات: 2,423
افتراضي شرح جمال الدين محمد بن هشام الأنصاري

وهذا حينَ نَبْتَدِئُ القولَ في شَرْحِ أبياتِ القَصيدةِ وباللهِ تعالى حُسْنُ التوفيقِ.
قالَ رَضِىَ اللهُ عنه:
بَـانَتْ سُـعَادُ فَقَـلْبِي الْيَـوْمَ مَتْبـولُ - مُـتَيـَّـمٌ إِثْـرَهَا لَـمْ يـُـفْـدَ مـَكْبـُولُ
قولُه: " بَانَتْ " معنى بانَ: فارَقَ، وله مَصدرانِ: الْبَيْنُ، وسَيأْتِي في البيتِ الثاني، والبَيْنُونَةُ، ووَزْنُه عندَ البَصرِيِّينَ فَيْعَلُولَة، وأصلُه بَيْيَنُونَة بيَاءَيْنِ، الأُولَى زائدةٌ، والثانيةُ عَيْنٌ، ثم أُدْغِمَتْ الأُولى في الثانيةِ فصارَ: بَيَّنُونَةً ثم خُفِّفَ بحذْفِ الثانيةِ، كما فُعِلَ بسَيِّدٍ ومَيِّتٍ فصارَتْ " بَيْنُونَةً " على وَزْنِ فَيْلُولَةٍ والْتُزِمَ فيه التخفيفُ لطُولِهِ.
ومَذْهَبُ الكُوفِيِّينَ أنه فَعْلُولَةٌ بالضمِّ كعُصفورةٍ، ثم كُسِرَتْ فاؤُه لتَسْلَمَ الياءُ ثم فُتِحَتْ لثِقَلِ كَسْرَةٍ وضَمَّةٍ ليس بينَهما حاجِزٌ حَصينٌ، ثم فَعَلُوا ذلك في دَيمومةٍ ونحوِه، حَمْلًا لذَواتِ الواوِ على ذواتِ الياءِ؛ لأنَّ ذَواتِ الواوِ في هذا البِناءِ أَقَلُّ.
والتاءُ حَرْفُ تأنيثٍ لا اسمٌ للمؤنَّثِ، كالياءِ في قُومِي، بدَليلِ أنها تُجامِعُ الضميرَ بخِلافِ الياءِ تَقولُ في قَامَتْ: قامَتَا، إذا أَرَدْتَ الاثنينِ، ولا تَقولُ في قُومِي: قُومِيَا.
قولُه: " سعادُ " هو عَلَمٌ مُرْتَجَلٌ يُريدُ به امرأةً يَهواهَا حَقيقةً أو ادِّعاءً، وكونُه حقيقيَّ التأنيثِ مُوجِبٌ للَحَاقِ التاءِ للفِعْلِ، بخِلافٍ نحوَ: طَلَعَت الشمسُ ففيه الوَجهانِ، وزِيادتُه على الثلاثةِ مُوجِبٌ لِمَنْعِ صَرْفِه، فخِلافُ نحوِ " هِنْد " ففيه الوَجهانِ، ومانِعٌ مِن لَحاقِ التاءِ إذا صُغِّرَ، بخِلافِ نحوِ هِنْدٍ وشَمْسٍ وقُدِّمَ فتَجِبُ فيهنَّ التاءُ، والجملةُ مُستأنَفَةٌ فلا مَحَلَّ لها.
قولُه: " فقلبي " : اعْلَمْ أنَّ للفاءِ ثلاثَ حالاتٍ.
إحداها: أن تأتيَ لِمُجَرَّدِ السببِيَّةِ والرَّبْطِ، نحوَ: إن جِئْتَنِي فأنا أُكْرِمْكَ، إذ لو كانت عاطفةً كان ما بعدَها شَرْطًا واحْتيجَ للجوابِ ونحوَ: { إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ، فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ } لأنه لا يُعْطَفُ الإنشاءُ على الخبَرِ، ولا الْخَبَرُ على الإنشاءِ، هذا قولُ الأكثرينَ وهو الصحيحُ، واستَدَلَّ مَن أَجازَ بقولِ: ( البحر الطويل )

تُنَاغِي غَزَالًا عندَ بابِ ابنِ عامِرٍ وكُحْلُ مآقِيكَ الْحِسانِ بِاثْمَدِ

وقولِه: ـ امرئِ القَيْسِ ـ ( البحر الطويل )

وإنَّ شِفَائِيَ عَبْرَةٌ إنْ سَفَحْتُها = وهل عندَ رَسْمٍ دَارِسٍ مِن مُعَوَّلِ
ولا دليلَ في هذا؛ لأنَّ الاستفهامَ مُرادٌ به الإنكارُ، فهو مِثْلُه في: { هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ } فهو خَبَرٌ لا إنشاءٌ، وأَمَّا الأَوَّلُ فلا نُسَلِّمُه إلا بعدَ الوُقوفِ على ما قَبْلَه مِن الأبياتِ.
والثانيةُ: أن تَأْتِيَ لِمَحْضِ العَطْفِ، نحوَ: جاءَ زيدٌ، فعَمرٌو، وقولُه تعالى : { وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى }.
والثالثةُ: أن تأتيَ لهما: كقولِه تعالى : { فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ }،{ فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبَّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ } وهذا هو الغالِبُ على الفاءِ الْمُتَوَسِّطَةِ بينَ الْجُمَلِ المتعاطِفَةِ، ومنه الفاءُ في هذا البيتِ.
وعَطْفُ الاسْمِيَّةِ على الفِعلِيَّةِ جائزٌ عندَ الجمهورِ مُطْلَقًا، بدليلِ قولِهم في نحوِ: قامَ زيدٌ وعَمْرًا أَكْرَمْتُه: إنَّ نَصْبَ عمرٍو أَرْجَحُ مِن رَفْعِه، وتعليلُهم ذلك بأنَّ تَناسُبَ الْجُملتينِ الْمُتعاطفتينِ أَوْلَى مِن تَخَالُفِهما، وقيلَ: مُمْتَنِعٌ مُطْلَقًا وإنَّ ارتفاعَ الضِّرْسِ من قولِه : ( البحر الرمَل ).
عاضَهَا اللهُ غُلامًا بعدَما = شابَتِ الأَصْداغُ والضِّرْسُ نَقَدْ
على إضمارِ فِعْلٍ يُفَسِّرُه " نَقَدْ " وذَهَبَ الفارسيُّ إلى جَوازِه إذا كان العاطِفُ الواوَ خَاصَّةً، نَقَلَه عنه تِلميذُه أبو الفَتْحِ، في " سِرِّ الصناعةِ " وعلى هَذينِ الْمَذهبينِ، فالفاءُ لِمَحْضِ السببيَّةِ، لا للعَطْفِ، وللقَلْبِ أربعةُ مَعانٍ:
(أحدُها): الفؤادُ، ومنه: {وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ} وهو الْمُرادُ هنا. وإنما سُمِّيَ قَلْبًا لتَقَلُّبِه وقيلَ: القلْبُ أَخَصُّ مِن الفؤادِ، ومنه الحديثُ :" أَتَاكُمْ أَهْلُ الْيَمَنِ هُمْ أَرَقُّ قُلُوبًا وَأَلْيَنُ أَفْئِدَةً الْإِيمَانُ يَمَانٌ وَالْحِكْمَةُ يَمَانِيَّةٌ " فوَصَفَ القُلوبَ بالرِّقَّةِ، والأَفْئِدَةَ باللِّينِ.
والثاني: العقلُ، ومنه: { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ }.
والثالثُ: خَالِصُ كُلِّ شَيءٍ ومَحْضُه، ومنه الحديثُ: " لِكُلِّ شَيْءٍ قَلْبٌ وَقَلْبُ الْقُرْآنِ يس ".
والرابعُ: مَصْدَرُ قَلَبَه. وجَمْعُ القَلْبِ: قُلوبٌ وأَقْلُبٌ عن اللَّحْيَانِيِّ.
قولُه: " اليومَ " فيه مَسألتانِ :
إحداهما: أنه يُطْلَقُ على أربعةِ أُمورٍ:
أحَدُها: مُقابِلُ الليلةِ، ومنه: { سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ }.
الثاني: مُطْلَقُ الزمانِ، كقولِه تعالى: { وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ } { وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ } { إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ } المرادُ: ساعةُ الاحتضارِ، وتقولُ: فلانٌ يَعملُ اليومَ كذا.
وقولُ الشاعِرِ: ( إذا جاءَ يومًا وَارِثِي يَطلبُ الْغِنَى ) ومنه بيتُ كَعْبٍ هذا، ويُستعملُ هذا الاستعمالَ: " الساعةُ " ومنه قولُه تعالى: { الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ } المرادُ به زَمَنُ غَزوةِ تَبوكَ، وكذلك: " الغَداةُ" وسَيأتِي في البيتِ بعدَ هذا.
والثالثُ: مُدَّةُ القِتالِ، نحوَ: يومَ حُنَيْنٍ، ويومَ بُعاثٍ وهو يومٌ للأَوْسِ على الْخَزْرَجِ، وهو بضَمِّ الباءِ الْمُوَحَّدَةِ، وبالعينِ الْمُهمَلَةِ وبالثاءِ الْمُثَلَّثَةِ.
والرابعُ: الدَّوْلةُ، ومنه: { وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ }.
المسألةُ الثانيةُ: أنه ظَرْفٌ لِمَا بَعْدَه وهو " مَتبولٌ " لا لِمُتَيَّمٍ؛ لأنه لم يَجِئْ حتى اسْتَوْفَاهُ الأَوَّلُ، ولئلا يَلْزَمَ فَصْلُ العامِلِ مِن مَعمولِه بالأَجْنَبِيِّ، ومَن جَوَّزَ تَنازُعَ العامِلَيْنِ الْمُتَأَخِّرَيْنِ، وجَعَلَ منه: { بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ } جازَ ذلك عندَه هنا، وبابُ التنازُعِ يَجوزُ فيه مِن الفَصْلِ ما لا يَجوزُ في غيرِه مِن الفَصْلِ، وإذا قيلَ بذلك، فيَتَرَجَّحُ إعمالُ الأَوَّلِ عندَ الجميعِ لاجتماعِ صِفَتَيِ القُرْبِ والسبْقِ فيه، ولا يَجوزُ فيه أن يَتَعَلَّقَ بكَوْنِ محذوفٍ على أن يكونَ خَبرًا؛ لأنَّ الزمانَ إنما يكونُ خبرًا عن الأعراضِ دونَ الْجَواهِرِ.
وقولُه: " مَتبولٌ " خَبَرٌ، ويُقالُ: تَبَلَهُمُ الدهْرُ، أي : أَفناهُمْ، والحُبُّ أي: أَسْقَمَهُم، وأَضناهُمْ، ومِن الأَوَّلِ قولُ الأَعْشَى، ( البحر البسيط ).

أإن رَأَتْ رَجُلًا أَعْشَى أَضَرَّ به = رَيْبُ الزمانِ ودَهْرٌ مُفْسِدٌ تَبِلُ
أي: ودَهْرٌ مُفْنٍ للأهلِ والمالِ. ومن الثاني بيتُ كَعْبٍ، ويُقالُ مِن معنى الإفناءِ: أَتْبَلَهم أيضًا، وعليه يُرْوَى: ودَهْرٌ مُتْبِلٌ خَبِلٌ.
وقولُه: " مُتَيَّمٌ " خبرٌ ثانٍ عندَ مَن أَجازَ تَعَدُّدَ الْخَبَرِ، وأمَّا مَن مَنَعَه، فهو عندَه خبرٌ عن " هو " محذوفٌ، أو صِفةٌ لِمَتبولٍ عندَ مَن جَوَّزَ وَصْفَ الصفةِ، وحُجَّةُ المانِعِ أنها كالفعلِ، وهو لا يُوصَفُ، ولو صَحَّ هذا، لم يَصِحَّ التصغيرُ، وهو جائزٌ بلا خِلافٍ نَعْلَمُه، ويُقالُ: تَيَّمَه الْحُبُّ، وتامَه بمعنى: استَعْبَدَه وأَذَلَّهُ، ومِن الثاني تَيَّمَ اللاتَ، سَمَّوْا بالْمَصْدَرِ، وقالَ الشاعرُ: ( البحر البسيط).
تَامَتْ فُؤادَك لو يُحْزِنْكَ ما صَنَعَتْ = إحدى نساءِ بني ذُهْلِ بنِ شَيْبَانَا
استَشْهَدَ به ابنُ الشَّجَريِّ على أنَّ " لو " قد تَجْزِمُ حَمْلًا على " إنْ " ولا دليلَ فيه لاحتمالِ أنه سَكَّنَه تَخفيفًا لتَوالِي الْحَرَكاتِ كقِراءةِ أبي عَمْرٍو: ( وَمَا يُشْعِرْكُمْ ) بإسكانِ الراءِ، وللضرورةِ كقولِ امرئِ القيسِ: ( البحر السريع ).

فاليومَ أَشرَبْ غيرَ مُسْتَحْقِبٍ = إِثْمًا مِن اللهِ ولا وَاغِلِ
وقولُه: " إِثْرَها " فيه مَسألتانِ:
الأُولَى: الإِثْرُ بكسرٍ فسُكونٍ، أو بفَتحتينِ، ونظيرُه مما جَاءَ على فِعْلٍ وفَعَلٍ: قِيدُ رُمْحٍ، وقَادَه وقِيبُ قوسٍ وقَابَه، وقلتُ قِيلاً وقَالًا، وكِيحَ وكاحَ لعُرْضِ الجبَلِ وحاؤُه مُهمَلَةٌ، وعَقَدَ يَعقوبُ لذلك في كتابِ " الإصلاحِ " بابًا، ويقالُ لفِرِنْدِ السيفِ: أَثْرٌ بفَتحِ الهمزةِ وضَمِّها كِلاهما مع سكونِ العينِ. قالَ: ( البحر الوافر ).
جَلَاهَا الصَّيَقلون فأَخْلَصُوها = خِفافًا كُلُّها يُتْقَى بأَثْرِ
أي: كلٌّ يَستَقْبِلُك بفِرِنْدِه، ويُقالُ: اتَّقاهُ يَتَّقِيهِ بالتشديدِ، وتَقاهُ يَتَّقِيهِ بالتخفيفِ، كما هو في البيتِ وكقولِ: ( البحر الطويل ).
زِيارتُنا نُعمانَ لا تَنْسَيَنَّها = تَقِ اللهَ فينا والكتابَ الذي يَتْلُو
المسألةُ الثانيةُ: أنه إمَّا ظَرْفٌ لِمُتَيَّمٍ مُتَعَلِّقٌ به، وإمَّا حالٌ مِن ضَميرِه، فيَتَعَلَّقُ بكونٍ محذوفٍ، ولا يَحْسُنُ تَعَلُّقُه بِمَتْبُولِ، ولا كونُه حالًا مِن ضَميرِه للبُعْدِ اللفظيِّ والمعنويِّ، وليس بِمُمْتَنِعٍ، وعلى تقديرِه ظَرفًا له، فيكونُ الوَصفانِ قد تَنازَعاهُ كما تَنازَعَ مَمطولٌ ومُعَنًّى " الغَريمِ "، في قولِه ( البحر الطويل ).
قَضَى كلَّ ذِي دَيْنٍ فَوَفَّى غَرِيمَهُ = وعَزَّةُ مَمْطُولٌ مُعَنًّى غَرِيمُهَا

في قولِ بعضِهم، ولا يَصِحُّ ذلك على تَقديرِ الْحَالِيَّةِ؛ لأنَّهما حينئذٍ إنما يَطلبانِ الكَونَ الْمُطْلَقَ الذي تَعَلَّقَ به؛ لأنه الحالُ بالحقيقةِ، ولم يَثْبُت التنازُعُ في المحذوفِ، ولأنا إذا أَعْلَمْنا الأَوَّلَ، أَضْمَرْنا في الثاني، والضميرُ لا يَعْمَلُ، والحالُ لا يُضْمَرُ؛ لأنَّها واجبةُ التنكيرِ.
وجَوَّزَ ابنُ مُعْطِي وُقوعَ التنازُعِ في الحالِ، في نحوِ: زُرْنِي أَزُرْكَ رَاغِبًا، قالَ: وإذا أَعْمَلْتَ الأَوَّلَ، قُلتَ : زُرْنِي أَزُرْكِ في هذه الحالةِ راغِبًا.
ويُرْوَى: " عندَها " بدَلَ " إِثْرَها " وعندَ : اسمٌ لمكانٍ حاضِرٍ أو قريبٍ فالأَوَّلُ: نحوَ { فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ } والثاني: نحوَ: { وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أَخْرَى. عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى }.
وقد يكونُ الحضورُ والقُربُ مَعنوِيَّيْنِ، نحوَ: { قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ } ونحوَ: { رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا } وقد تُفْتَحُ فاؤُها وقد تُضَمُّ.
ولا تَقَعُ " عندَ " إلا مَنصوبةً على الظرفيَّةِ، أو مَخفوضةً بِمِن، وعنها أَلْغَزَ الحَريريُّ بقولِه:
وما اسمٌ منصوبٌ أبدًا على الظرْفِ لا يَخْفِضُه سوى حَرْفٍ .
وقولُ العامَّةِ: ذَهَبْتُ إلى عِندِه لَحْنٌ.
وقولُه: " لم " هي حَرْفُ جَزْمٍ لنَفْيِ الْمُضارِعِ، وقَلْبِ زَمَنِه ماضيًا، وقيلَ: حرْفُ جَزْمٍ لنَفْيِ الماضي، وقَلْبِ لَفْظِه مُضارِعًا.
وقولُه: " يُفْدَ " مُضارِعُ فَدَى الأسيرَ، إذا أَعْطَى فِداءَه واسْتَنْقَذَه، وكذلك معنى فَادَاهُ، وقالَ قومٌ: إنما يُقالُ: فاداه بالألِفِ، إذا كان الْفِداءُ أسيرًا أيضًا لا مالًا، فإن ضَعَّفْتَ عينَ فَدَّاه، صارَ معناه: قالَ له: جُعِلْتُ فِدَاكَ.
وجملةُ " لم يُفْدَ " إمَّا خبرٌ آخَرُ إن قُلنا: يَجوزُ تَعَدُّدُ الخبرِ مُخْتَلِفًا بالإفرادِ والجملةِ، وهو ظاهِرُ إطلاقِ كثيرٍ منهم، وصَرَّحَ بعضُهم بتَجويزِه في قولِه تعالى: { فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ } وقولِه تعالى: { فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى } ولكنَّ أبا عليٍّ صَرَّحَ بالْمَنْعِ، وإمَّا صِفةٌ لِمُتَيَّمٍ، كما يقولُ أبو عليٍّ الفارسيُّ، في الجملةِ مِن هاتينِ الآيتينِ، وإمَّا حالٌ إمَّا مِن ضميرِ مُتَيَّمٍ وهو الظاهِرُ، أو مِن ضميرِ مَتبولٍ، وعلى هذا التجويزِ، فيَمتَنِعُ أن تكونَ الْمَسألةُ مِن التنازُعِ، لتَعَذُّرِ الإضمارِ مِن وَجهينِ: كونُ الحالِ واجبةَ التنكيرِ، وكونُ الْجُملةِ لا تُضْمَرُ.
ويُرْوَى " لم يُجْزَ " ولم يُشْفَ ".
وقولُه: مَكبولُ: يقالُ: كَبَلَه كضَرَبَه، وكَبَّلَه مُشَدَّدًا، ومعناهما: وَضَعَ في رِجْلِه الكَبْلَ بفَتْحِ الكافِ ـ وقد تُكْسَرُ ـ وهو القَيْدُ فقيلَ مُطْلَقًا، وقيلَ: الضخمُ، وقيلَ: أعظمُ ما يكونُ مِن الأقيادِ، فهو مَكبولٌ ومُكَبَّلٌ، ويُقالُ في الْمُكَبَّلِ، مُكَلَّبٌ على القلبِ، قالَ طُفيلٌ: ( البحر الطويل )
أَبَأْنَا بِقَتْلانَا مِن القَوْمِ ضِعْفَهم = وما لا يُعَدُّ مِن أَسيرٍ مُكَلَّبِ
ومعنى أَبَأْنَا: قَتَلْنَا.
ويُقالُ أيضًا: كَبَلَهُ بالتخفيفِ بمعنى حَبَسَه في سِجنٍ أو غيرِه، وفي الحديثِ: " إِذَا وَقَعَت السُّهْمَانِ فَلَا مُكَابَلَةَ" أي: فلا يُحْبَسُ أَحَدٌ عن حَقِّه، وقالَ:

إذا كنتَ في دارٍ يُهِينُكَ أَهْلُها = ولم تَكُ مَكبولاً بها فَتَحَوَّلِ
أَنْشَدَه ابنُ سِيدَه على ذلك، والصوابُ أنه مُحْتَمِلٌ للمَعْنَيَيْنِ، وفي هذا البيتِ احتراسٌ بخِلافِ قولِه: وإذا نَبَا بك مَنْزِلٌ فتَحَوَّلِ.
قالَ كعبٌ رَضِيَ اللهُ تعالى عنه ورَحِمَهُ:
وما سعادُ غَداةَ الْبَيْنِ إذ رَحَلُوا = إلا أَغَنُّ غَضيضُ الطرْفِ مَكحولُ

قولُه: " وما " سُعادُ " : الواوُ عاطِفةٌ على الفَعليةِ لا على الاسْمِيَّةِ، وإن كانتْ أَقْرَبَ وأَنْسَبَ لكونِ المعطوفةِ اسْمِيَّةً؛ لأنَّ هذه الْجُملةَ لا تُشارِكُ تلك في التَّسَبُّبِ عن البَيْنُونَةِ، وسعادُ مُبتدأٌ لا اسمَ له: " ما " لانتقاضِ النفيِ بإلا، والأَصْلُ: وما هي، فأنَابَ الظاهِرَ عن الْمُضْمَرِ، والذي سَهَّلَه أنهما في جُملتينِ مُسْتَقِلَّتَيِنْ، وأنهما في بَيتينِ، وأنَّ بينَهما جُملةً فاصلةً، وأنَّ اسمَ المحبوبِ يَلْتَذُّ بإعادتِه، ودونَه قولُ الْحُطَيْئَةِ:

ألا حَبَّذَا هِندٌ وأرضُ بها هِنْدٌ وهندٌ أَتَى مِن دونِها النَّأْيُ والْبُعْدُ

لأنهما في جُملةٍ واحدةٍ، وبيتُ الكِتابِ وهو للجَعْدِيِّ: ( البحر الطويل ).
إذ الوَحْشُ ضَمَّ الوَحْشَ في ظُلَلَاتِها = سَواقِطَ من حَرٍّ وقد كان أَظْهَرَا
لأنَّ الْجُملتينِ كالْجُملةِ الواحدةِ؛ لأنَّ الرافِعَ للوَحْشِ الأَوَّلِ، فعلٌ مَحذوفٌ، كما يَقولُ جُمهورُ البَصرِيِّينَ، فالفِعْلُ المذكورُ سادٌّ مَسَدَّ الفِعْلِ المحذوفِ، حتى كأنه هو، ولهذا لا يَجتمعانِ. وإن قُدِّرَ رَفْعُ الوَحْشِ بالابتداءِ كما يقولُ أبو الْحَسَنِ، فالكلامُ جُملةٌ واحدةٌ، فهو كبيتِ الْحُطَيْئَةِ، بل دونَه؛ لأنه ليس اسْمًا يُلْتَذُّ به، وأَسْهَلُ مِن هذا البيتِ قولُه: ( البحر الطويل )
إذا الْمَرْءُ لم يَغْشَ الكَريهةَ أَوْشَكَتْ = حِبالُ الْهُوَيْنَا بالْفَتَى أن تَقَطَّعَا
لاختلافِ لَفْظَي الظاهِرَيْنِ، فأَشْبَهَا الظاهِرَ والْمُضْمَرَ في اختلافِ اللفْظِ، وإنما يَحسُنُ إعادةُ الظاهِرِ في الْجُملةِ الواحدةِ في مَقامِ التعظيمِ نحوَ: { وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ } والتهويلِ نحوَ: { الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ } بخِلافِ نحوِ قولِه: ( البحر الكامل )
ليتَ الغُرابَ غَداةَ يَنْعَبُ دَائِبًا = كان الغُرابُ مُقَطَّعَ الأدواجِ
إلا أنَّ الذي سَهَّلَ هذا قَليلًا تَبَاعُدُ ما بينَ الظاهِرَيْنِ.
وقولُه: " غَداةَ " فيه مَسَائِلُ:
الأُولَى: هي اسمٌ لِمُقَابِلِ العَشِيِّ قالَ اللهُ تعالى: { يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ } وقد يُرادُ بها مُطْلَقُ الزمانِ كما تَقَدَّمَ في " الساعةِ " و " اليومِ" قالَ: ( البحر الطويل ):

غَداةَ طَفَتْ عَلْمَاءِ بَكرُ بنُ وَائِلٍ = عَشِيَّةَ لاقَيْنَا جُذامَ وحِمْيَرَا
ألا ترى أنه قد أَبْدَلَ منها العَشِيَّةَ وهي في بيتِ كَعْبٍ مُحْتَمِلَةٌ لذلك.
المسألةُ الثانيةُ: وَزْنُها: فَعَلَة بالتحريكِ ولامُها واوٌ لقولِهم في جَمْعِها: غَدَوَاتٌ، ونظيرُها صلاةٌ وصَلَوَاتٌ، وزَكاةٌ وزَكَواتٌ، ولأنها مِن غَدَوْتُ، ولقولِهم غَدْوَةٌ، وأمَّا قولُهم: فلانٌ يَأتِينَا بالغَدَايا والعَشايَا، فقالَ الْجُرْجَانِيُّ في شَرْحِ " التَّكْمِلَةِ "، وابنُ سِيدَهْ في " شَرْحِ أبياتِ الْجملِ " : إنما جاءتْ الياءُ فيها لتُنَاسِبَ عَشايَا، والصوابُ أنَّ الذي فَعَلَ الازدواجَ إنما هو جَمْعُ " غَداةٍ " على " غَدَايَا "، فإنها لا تَسْتَحِقُّ هذا الجَمْعَ، بخِلافِ " عَشِيَّةٍ " فإنها كقَضِيَّةٍ ووَصِيَّةٍ، وأمَّا الياءُ فإنها تَسْتَحِقُّها بعدَ أن جُمِعَتْ هذا الْجَمْعَ، وهي مُبْدَلَةٌ مِن هَمزةِ فَعائلَ، لا مِن لامِ غَداةٍ التي هي الوَاوُ، وبيانُ ذلك أنَّ العَشايَا أَصْلُها: عَشَائِوْ، بواوٍ مُتَطَرِّفَةٍ، هي لامُها، وتلك الواوُ بعدَ الهمزةِ الْمُنْقَلِبَةِ عن الياءِ الزائدةِ في عَشِيَّةٍ، كما في صَحيفةٍ وصَحائِفَ، ثم قَلَبُوا الكَسرةَ فَتحةً للتخفيفِ، كما فَعَلوا في صَحَارَى وعَذَارَى قالَ: ( البحر الطويل ).
ويومَ عَقَرْتُ للعَذَارَى مَطِيَّتِي = ..............
إلا أنهم الْتَزَموا هنا التخفيفَ في الْجَمْعِ الذي اعْتَلَّتْ لامُه وقَبْلَها هَمزةٌ؛ لأنَّه أَثْقَلُ، ثم انْقَلَبَت اللامُ أَلِفًا لتَحَرُّكِها، وانفتاحِ ما قَبْلَها، ثم أُبْدِلَت الهمزةُ ياءً تَخفيفًا لاجتماعِ الأشباهِ، إذ الهمزةُ تُشْبِهُ الأَلِفَ، وقد وَقَعَت بينَ أَلِفَيْنِ، ثم لَمَّا جَمَعُوا " غَداةَ " على فَعائِلَ للمُناسَبَةِ وكانَ كلُّ شيءٍ جُمِعَ على فَعائِلَ ولامُه هَمزةٌ أو واوٌ أو ياءٌ لم تَسْلَمْ في الواحدةِ مُسْتَحِقًّا لأنْ تُبْدَلَ مِن هَمْزَتِه ياءً كخَطايا ووَصايَا ومَطايَا فَعَلُوا ذلك في غَدايا؛ لأنَّ واوَ غَداةٍ لم تَسْلَمْ، فإن قلتَ: قَدَّرَ الغَدايا جَمْعًا لغَدْوَةٍ، وقد صَحَّ كلامُهما لأنَّ الواوَ قد سَلِمَتْ في الواحدةِ، فكان القياسُ غَدَاوَى، كما يُقالُ: هَراوَةٌ وهَرَاوَى، قلتُ: يأْبَى هذا أمرانِ:
أحدُهما: أنهما قالَا: إنها جَمْعُ غَداةٍ، فكيف أَحْمِلُ كلامَهما على ما صَرَّحَا بخِلافِه.
والثاني: أنه إذا أَدارَ الأَمْرُ بينَ إسنادِ الْحُكْمِ إلى الْمُنَاسِبِ وإسنادِه إلى أَمْرٍ مُقْتَضٍ في الكلمةِ نفسِها، تَعَيَّنَ القولُ بالثاني، وزَعَمَ ابنُ الأعرابيِّ أنَّ الغَدايا لم يُقَلْ للمُناسَبَةِ الْبَتَّةَ، وأنها جَمْعُ تَغْدِيَةٍ لا غَداةٍ واستَدَلَّ على غَدِيَّةٍ بقولِ: ( البحر الطويل ).
ألا لَيْتَ حَظِّي مِن زِيارَةِ مَيَّةٍ = غَدَيَّاتُ قَيْظٍ أو عَشِيَّاتُ أَشْتِيَه

ولا دَليلَ في هذا الجوازِ أن يكونَ إنما جازَ " غَدِيَّاتٌ " لِمُنَاسَبَةِ " عَشِيَّاتٍ " لا أنه يُقالُ " غَدِيَّةٌ ".
المسألةُ الثالثةُ: حُكْمُها في التعريفِ أنها تُعَرَّفُ تارةً بألْ، كما في قولِه تعالى: { بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ } وقولِ الْحَمَاسِيِّ: ( البحر المتقارِب ).
أَشابَ الصغيرَ وأَفْنَى الكبيرَ = كَرُّ الغَداةِ ومَرُّ الْعَشِي
وتارةً بالإضافةِ كما في بيتِ كَعْبٍ، وهي بكذلك مُخالِفَةٌ لغَدوةٍ؛ فإنَّ الغالِبَ تَعريفُها بالعَلَمِيَّةِ، تقولُ: جِئْتُكَ يومَ الْجُمُعَةِ غَدْوَةً، وسَمِعَ الفَرَّاءُ، أبا الْجَرَّاحِ يقولُ في غَداةِ يومٍ بارِدٍ: ما رأيتُ كغَدْوَةٍ، يُريدُ: غَداةَ يَوْمِه، ورَبَّمَا عُرِّفَتْ بألْ كقِراءةِ ابنِ عامرٍ: بالغَدْوَةِ والْعَشِيِّ.
المسألةُ الرابعةُ: عامِلُها التشبيهُ؛ إذ المعنى أنها تُشْبِهُ غَداةَ بانَتْ ظَبْيًا من صِفَتِه كَيْتَ وكَيْتَ، فإنْ قلتَ: الحرْفُ الحاملُ لِمَعْنَى التشبيهِ مُقَدَّرٌ بعدَ إلا، وما بعدَ إلا لا يَعْمَلُ فيما قَبْلَها إذا كانَ فِعْلًا مَذكورًا بالإجماعِ، فما ظَنُّكَ به إذا كان حَرْفًا مَحذوفًا.
قلتُ: الْمُخَلِّصُ مِن ذلك أن يُقَدَّرَ حرْفُ التشبيهِ قَبْلَها، وقبلَ الظرْفِ أيضًا داخلًا على سُعادَ، أي: وما كَسُعادَ في هذا الوَقْتِ إلا ظَبْيٌ أَغَنُّ.
فإن قلتَ: هذا عَكْسُ المعنى المرادِ؟!
قلتُ: بل هو مُحَصِّلٌ للمُرادِ على وَجْهٍ أَبْلَغَ، وذلك أنهم إذا بَالَغُوا في التشبيهِ عَكَسُوه، فَجَعَلُوا الْمُشَبَّهَ أَصْلًا في ذلك المعنى، والْمُشَبَّهَ به فَرْعًا عليه، وفي ذلك مِن الْمُبالَغَةِ ما لا خَفاءَ به، وعلى ذلك قولُ ذي الرُّمَّةِ: ( البحر الطويل ).

ورَمْلٍ كأَوْرَاكِ الْعَذَارَى قَطَعْتُه = ...........

وقولُ رُؤْبَةَ: ( بحرُ الرَّجَزِ )
ومَهْمَهٍ مُغْبَرَّةٍ أَرْجَاؤُهُ = كأنَّ لونَ أَرْضِه سَمَاؤُهُ
الأَصْلُ: كأنَّ لونَ سَمَائِه لغُبْرَتِها لونُ أَرْضِه، فعَكَسَ التَّشْبِيهَ، وحَذَفَ الْمُضافَ.
وقولُ أبي تَمَّامٍ يَصِفُ قَلَمَ مَمْدُوحِهِ:
لُعابُ الأفاعِي القَاتلاتِ لُعَابُهُ = وأَرْيُ الْجَنَى اشْتَارَتْهُ أيدٍ عواسِلُ
وقلبُ الكلامِ جائزٌ في التشبيهِ وغيرِه، وإنما يكونُ مَقبولاً عندَ الْمُحَقِّقِينَ إذا تَضَمَّنَ اعتبارًا لطِيفًا كما في بابِ التشبيهِ, ألا تَرَى أنه أفادَ الْمُبالَغَةَ بجَعْلِ الفرْعِ الذي يُرادُ إثباتُ الْحُكْمِ له أصلاً، وجَعَلَ غيرَه مَحمولًا عليه، وحِينئذٍ فيَبْقَى في البيتِ مُبالَغَةٌ مِن ثَلاثِ جِهاتٍ:
إحداها: ما في الكلامِ مِن حَرْفَي النَّفْيِ والإيجابِ الْمُفيدَينِ للحَصْرِ.
والثاني: ما فيه مِن عَكْسِ التشبيهِ.
والثالثُ: حَذْفُ أداةِ التشبيهِ كما حُذِفَتْ في قولِه تعالى: { وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ }.
فإن قلتَ: عَكْسُ التشبيهِ خِلافُ الأَصْلِ، فلا يُدَّعَى إلا بدليلٍ. قُلْتُ: دليلُه تَعَذُّرُ إعمالِه في الظرْفِ إلا على هذا الوجهِ.
فإن قلتَ: أفَتُسَمِّي هذا الواقِعَ في البيتِ تَشبيهًا أم استعارةً؟
قلتُ: الذي عليه الْحُذَّاقُ كالْجُرْجَانِيِّ، والزمخشريِّ والسكَّاكيِّ، تَسميتُه تَشبيهًا بَليغًا لا استعارةً.
والحاصِلُ أنَّ الأَقسامَ ثلاثةٌ:
تَشبيهٌ مُتَّفَقٌ عليه، واستعارةٌ مُتَّفَقٌ عليها، ومُخْتَلَفٌ فيه، فالْمُتَّفَقُ عليه أنه تَشبيهٌ أن يُذْكَرَ أطرافُ التشبيهِ مِن الْمُشَبَّهِ، والْمُشَبَّهِ به، والأداةِ، كقولِك: زيدٌ كالأسَدِ.
والمتَّفَقُ على أنه استعارةٌ: أن يَقْتَصِرَ على ذِكْرِ الْمُشَبَّهِ به، ولا يكونَ الْمُشَبَّهُ مُقَدَّرًا كقولِك: رأيتُ أَسَدًا في الْحَمَّامِ.
والمختلَفُ فيه: أن يَتْرُكَ الأداةَ، ويكونَ الْمُشَبَّهُ به خَبَرًا، إمَّا لِمَذكورٍ مبتدأٍ، كقولِه تعالى: { وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ } وكبيتِ كَعْبٍ هذا، أو لِمُقَدَّرٍ كقولِه تعالى: { صُمٌّ بُكْمٌ } وقولِ الشاعرِ: ( البحر الطويل )

نجومُ سماءٍ كُلَّمَا انْقَضَّ كوكبٌ = بدا كوكبٌ تَأْوِي إليه كواكِبُ
التقديرُ: هم كصُمٍّ، وهم كنجومٍ، إذ لا بُدَّ للخبَرِ من مُبتدأٍ.
والفَرْقُ بينَ هذا القِسْمِ والذي قَبْلَه أنك في هذا القِسمِ وَضَعْتَ كلامَك في الظاهِرِ لإثباتِ معنى الأوَّلِ للثاني، وإذا امْتَنَعَ إثباتُه له حَقيقةً كان لإثباتِ الْمُشابَهَةِ، فكان خَليقًا بأن يُسَمَّى تَشبيهًا، بخِلافِ الذي قَبْلَه، فإنك لم تَضَعْ كلامَك على التشبيهِ، بل على استعارةِ اسمِ الأسدِ لِمَن رأيتَه.
قولُه: " الْبَيْنِ " . هو مَصْدَرُ بانَ، كما قَدَّمْنَا، وأل فيه لتعريفِ الحقيقةِ، أو للعَهْدِ في البَيْنِ الْمُستفادِ مِن الفعلِ السابقِ، أي: وما هي غَداةَ هذا الْبَيْنِ، ويأتي الْبَيْنُ بمعنى الوَصْلِ كقولِه: ( البحر الطويل ).
لقد فَرَّقَ الوَاشونَ بَيْنِي وبَيْنَها = فقَرَّتْ بذاك الوَصْلِ عَيْنِي وعَيْنُها
وقولِه تعالى: { لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ } في قراءةِ مَن رَفَعَه، وقيلَ كذلك هو في قِراءةِ مَن فَتَحَ، ولكنه مَبْنِيٌّ لإبهامِه وإضافتِه إلى مَبْنِيٍّ.
وقولُه: " إذ " يَحْتَمِلُ ثلاثةَ أُوْجُهٍ:
أحدُها: وهو الظاهِرُ: أن يكونَ بَدَلًا مِن " غَدَاةَ "، كما أُبْدِلَتْ من يومِ الْحَسْرَةِ في قولِه تعالى: { وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ } إلا أنها في البيتِ بَدَلٌ مِن المفعولِ فيه، وفي الآيةِ بَدَلٌ من المفعولِ به.
والثاني: أن يكونَ ظَرْفًا للتشبيهِ لا بَدَلًا مِن الظرْفِ الأَوَّلِ.
فإن قلتَ: إنما يَجُوزُ تَعُدُّدُ الظرْفِ إذا كان مِن نوعينِ، كصَلَّيْتُ يومَ الْجُمُعةِ أمامَ الْمِنْبَرِ، فأَمَّا إذا كان الظرفان مِن نوعٍ واحدٍ، فلا يَعْمَلُ فيهما عاملٌ واحدٌ، إلا على أن يكونَ الثاني تابِعًا للأوَّلِ، أو يكونَ العامِلُ اسمَ تفضيلٍ؛ وذلك لأنه في قُوَّةِ عامِلَيْنِ، كقولِك: زيدٌ يومَ الْجُمُعةِ خيرٌ منه يومَ الْخَمِيسِ؛ لأنَّ المعنى أنه يَزيدُ خَيْرُه في هذا اليومِ على خَيْرِه في ذلك اليومِ. قلتُ: ذَكَرَ ابنُ عُصفورٍ أنَّ مَذهبَ سِيبوَيْهِ أنه يَجوزُ أيضًا التَّعَدُّدُ مع الاتِّفاقِ إذا كان الزمانُ الأَوَّلُ أَعَمَّ مِن الثاني، نحوَ: لَقِيتُه يَومَ الْجُمُعَةِ غَدْوَةً، وأنه يُجيزُ نَصْبَ الظرفينِ بلَقِيتُ لا على أنَّ الثانِيَ بدَلُ بعضٍ مِن كُلٍّ، وذلك لأنه أَجازَ: سِيرَ عليه يومَ الْجُمُعَةِ غَدْوَةً، برَفْعِ اليومِ، ونَصْبِ غَدْوَةً، ولو كان بَدَلًا منه لتَبِعَه في إعرابِه، واسْتَدَلَّ بقولِه: ( البحر الطويل ).

متى تَرِدَنْ يومًا سَفَارِ تَجِدْ بِهَا = أُدَيْهِمَ يَرْمِي الْمُسْتَجيرَ الْمُغَوَّرَا
فعَدَّى " تَرِد " إلى " متى " وإلى " يومًا " لَمَّا كانت " متى " مُشْتَمِلَةً على اليومِ لعُمومِها، ولا يكونُ " يومًا " نَصْبًا بتَجِد؛ لأنَّ سَفَارَ نُصِبَ بتَرِدْ، فيَلْزَمُ الفصْلُ بينَ العامِلِ ومَعمولِه بالأَجْنَبِيِّ.
والوجهُ الثالثُ مِن أَوْجُهِ إذ: أن يكونَ ظَرْفًا للْبَيْنِ، أي : وما هي غَداةَ بانَتْ وَقْتَ رَحيلِهم.
وقولُه: " رَحَلُوا " في مَوْضِعِ خَفْضٍ بإضافةِ إذ، لا نَعْلَمُ في ذلك خِلافًا، والخِلافُ في الجملةِ بعدَ " إذا " كما سيأتي في البيتِ بعدَه، والفرْقُ بينَهما أنَّ تلك مُرْتَبِطَةٌ بما بَعْدَها ارتباطَ أداةِ الشرْطِ بجُملةِ الشرْطِ، فلم يَلْزَمْ مِن عَدَمِ ادِّعاءِ الإضافةِ عَدَمُ الربْطِ، وأمَّا " إذ " فلولا دَعْوَى الإضافةِ لم يكنْ رَبْطٌ، وإنما جَمَعَ ضميرَ الفاعلِ مع أنه إنما قَدَّمَ ذِكْرَ سُعادَ؛ لأنَّها رَحَلَتْ مع قومِها ولإرادةِ تَعظيمِها، كقولِه :
" فَإِنْ شِئْتِ حَرَّمْتُ النِّسَاءَ سِوَاكُمُ " وما أَحسنَ قولَ مَن قالَ : ( البحر الطويل)

تَحَمَّلْتُ مِن نُعمانَ عُودَ أراكةٍ = لِهِنْدٍ ولكن مَن يُبَلِّغُه هِنْدًا

خَلِيلَيَّ عُوجَا بارَكَ اللهُ فِيكُمَا = وإن لم تكنْ هِنْدٌ لأَرْضِكُما قَصْدًا
وقُولَا لها ليس الضَّلَالُ أَجَارَنَا = ولكنَّنا جُرْنَا لنَلْقَاكُمُ عَمْدًا


أجارَنا بالراءِ الْمُهْمَلَةِ: أي: أَمالَنا عن الطريقِ، ومنه الْجَوْرُ ضِدُّ العَدْلِ؛ لأنَّه مَيْلٌ عنه، وكذلك قولُه: جُرْنَا وكثيرٌ يُصَحِّفُها بالزايِ مِن الْجَوَازِ.
وقولُه: " إلا أَغَنُّ " إلا : إيجابٌ للنَّفْيِ. وفي قولِه " أَغَنُّ " مسائلُ:
الأُولَى: الْأَغَنُّ الذي في صَوْتِه غُنَّةٌ، والْغُنَّةُ صوتٌ لذيذٌ يَخْرُجُ مِن الأَنْفِ، ويُشَبَّهُ به صوتُ الرياحِ في الأشجارِ الْمُلْتَفَّةِ، فيُقالُ: وادٍ أَغَنُّ، وصَوتُ الذبابِ في الغِياضِ، وهو معنى قولِهم: رَوْضَةٌ غَنَّاءُ، وجَمْعُ الأَغَنِّ والْغَنَّاءِ غُنٌّ، كما يُقالُ: أحمرُ وحُمْرٌ، وحَمراءُ وحُمْرٌ.
فإن قلتَ: كيف قالَ الجوهريُّ طَيْرٌ أَغَنُّ، مع أنَّ الطيرَ للجماعةِ؟
قلتُ: الطيرُ عندَ سِيبويهِ اسمُ جَمْعٍ لا جَمْعٌ، فيَجوزُ أن يُخْبَرَ عنه كما يُخْبَرُ عن الواحدِ، ألا تَرى أنهم يَقولون: رَكْبٌ سائرٌ.
المسألةُ الثانيةُ: في مَوْقِعِه من الإعرابِ: هو صِفةٌ لمحذوفٍ، أي: إلا ظَبْيٌ أَغَنُّ، والذي دَلَّ على الْحَذْفِ أنَّ الصِّفةَ لا بُدَّ لها من مَوصوفٍ، ولو كان الموصوفُ في المعنى هو سُعادَ, كما تقولُ: ما زيدٌ إلا قائمٌ، لكان يقولُ: إلا غَنَّاءُ بالتأنيثِ كما تَقولُ: ما هذه الرَّوْضَةُ إلا غَنَّاءُ، والذي يَدُلُّ على تَعيينِ المحذوفِ أنَّ أَكثرَ ما يُوصَفُ بالغُنَّةِ الظِّباءُ، وهي وَصفٌ لازِمٌ لكلِّ ظَبْيٍ، فصارَت لغَلَبَةِ الاستعمالِ فيهنَّ كأنها مُخْتَصَّةٌ لهنَّ، وحيث أُطْلِقَ الأَغَنُّ في مَقامِ التشبيهِ لا يَتبادَرُ الذِّهْنُ إلى غيرِ الظَّبْيِ.
فإن قلتَ: فما تَقولُ في قولِ جماعةٍ مِن النَّحْوِيِّينَ: لا يُحْذَفُ الموصوفُ إلا إن كانت الصفةُ خاصَّةً بجِنْسِه، نحو رأيتُ كاتبًا، ورَكِبْتُ صَاهِلًا، ويُمْنَعُ: رأيتُ طويلًا، وأَبْصَرْتُ أَبْيَضَ؟
قلتُ: التحقيقُ أنَّ الشرْطَ إنما هو وُجودُ الدليلِ، ومِن جُملةِ الأَدِلَّةِ اختصاصُ الصفةِ بالموصوفِ، وأمَّا أنها شَرْطٌ مُتَعَيِّنٌ فلا، ألا تَرَى إلى قولِه تعالى: { وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ } أي: دُروعًا سابغاتٍ، فحَذَفَ الموصوفَ مع أنَّ الصِّفةَ لا تَخْتَصُّ به، ولكنَّ تَقَدُّمَ ذِكْرِ الحديدِ أَشْعَرَ به.
المسألةُ الثالثةُ: اخْتَلَفُوا في الْخَبَرِ الْمَقرونِ بإلا بعدَ " ما " على أربعةِ أقوالٍ:
أحدُها: وُجوبُ الرفْعِ مُطْلَقًا، وهو قولُ الجمهورِ نحوَ: { وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ } ووَجهُه: أنها عَمِلَتْ لشَبَهِها بليسَ في النفيِ، وقد انْتَقَضَ بإلا فزَالَ الأَمْرُ الذي عَمِلَتْ لأَجْلِهِ.
والثاني: جَوازُ النَّصْبِ مُطْلَقًا، وهو قولُ يونسَ ووَجْهُه الحمْلُ على ليسَ.
والثالثُ: جَوازُ النصْبِ بشَرْطِ كونِ الْخَبَرِ وَصْفًا وهو قولُ الْفَرَّاءِ، فيُجيزُ: ما زَيْدٌ إلا قائمًا، ويَمْنَعُ: ما زيدٌ إلا أَخاكَ.
الرابعُ: جوازُ النصْبِ بشرطِ كونِ الخبرِ مُشَبَّهًا به وهو قولُ بَقِيَّةِ الكوفِيِّينَ، فيُجِيزُون: ما زيدٌ إلا زُهَيْرًا، ويَمنعون: ما زيدٌ إلا قائمًا.
وعلى هذا فالنصْبُ في قولِه: " إلا أَغَنُّ " جائزٌ على الأقوالِ الثلاثةِ الأخيرةِ.
وقولُه: " غَضيضُ الطرْفِ " فيه مسائلُ:
الأُولَى: غَضُّ الطرْفِ في الأصْلِ عِبارةٌ عن تَرْكِ التحديقِ واستيفاءِ النظَرِ، فتارةً يكونُ ذلك؛ لأنَّ في الطرْفِ كَسْرًا وفُتورًا خِلْقِيَّيْنِ، وهو الْمُرادُ هنا، وتارةً يكونُ لقَصْدِ الكَفِّ عن التأَمُّلِ، حياءً مِن اللهِ تعالى ومِن الناسِ، ومنه قولُه تعالى: { قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ } أي: يَكُفُّوها عَمَّا لا يَحِلُّ لهم النظَرُ إليه، وقولُ الشاعرِ يَهْجُو مَن يَتَفَعَّلُ ذلك: ( البحر الوافر ).

يَغُضُّ الطرْفَ مِن مَكْرٍ ودَهْيٍ = كأنَّ به وليس به خُشُوعًا

وما أحسَنَ مَوْقِعَ هذه الجملةِ المعترِضَةِ بينَ خَبَرِ كأنَّ واسْمِها، وقد يُرادُ به تَرْكُ التأمُّلِ الذي هو أَعَمُّ مِن النظَرِ الْحِسِّيِّ والمعنويِّ، كقولِ الشافعيِّ رَضِيَ اللهُ تعالى عنه ورَحِمَه: ( البحر الطويل ).
أُحِبُّ مِن الإخوانِ كلَّ مَوَاتِي = وكلَّ غَضيضِ الطرْفِ عَن عَثَرَاتِي
وقد يُكَنَّى به عن خَفْضِ الطرْفِ ذُلًّا، كقولِ جَريرٍ ( البحر الوافر )
فغُضَّ الطرْفَ إنَّك مِن نُمَيْرٍ = فلا كَعْبًا بلَغْتَ ولا كِلَابًا
وعن احتمالِ المكروهِ كقولِه: ( البحر الطويل ).
وما كان غَضُّ الطرْفِ منا سَجِيَّةً = ولكنَّنا فِي مَذْحِجٍ غُرُبَانُ
مَذْحِجٌ: بفَتْحِ الميمِ، وإعجامِ الذالِ، وكَسْرِ الحاءِ: قَبيلةٌ، وغُرُبانُ بضَمَّتَيْنِ تَثْنِيَةُ غُرُبٌ على وَزْنِ جُنُبٍ بمعنى غَريبٍ.
المسألةُ الثانيةُ: وهو فَعيلٌ بمعنى مَفعولٍ، كقَتيلٍ، وجَريحٍ، وذَبيحٍ، وكَحِيلٍ، ودَهينٍ، وهو كَثيرٌ، ومِن غريبِ ما جاءَ منه " قَديرٌ " معنى مَقْدُورٍ، أي: مَطبوخٌ في القُدورِ ، قالَ امْرُؤُ القيسِ: ( البحر الطويل ).
فظَلَّ طُهاةُ اللحمِ مِن بينِ مُنْضِجٍ = صَفِيفِ شواءٍ أو قَديرٍ مُعَجَّلِ
يُقالُ: قَدَرْتُ اللحمَ وأَقْدَرْتُه مِثلَ طَبَخْتُه وأَطْبَخْتُهُ
المسألةُ الثالثةُ: الطرْفُ: العينُ، وهو مَنقولٌ مِن الْمَصْدَرِ، ولهذا لا يُجْمَعُ، قالَ اللهُ تعالى: { لَا يَرْتَدُّ إِلْيَهِمْ طَرْفُهُمْ } وقالَ جَريرٌ ( البحر البسيط ).
إنَّ العُيونَ التي في طَرْفِها حَوَرٌ = قَتَلْنَنَا ثم لم يُحْيِينَ قَتْلَانَا
فإن كُسِرَتِ الطاءُ، فهو الكريمُ مِن الفِتيانِ والخيلِ، وخَصَّهُ أبو زيدٍ بِمُذَكَّرِها، وجَمْعُها طُروفٌ، فإن زِدْتَ على الطرْفِ الأَلِفَ والهمزةَ، فقلتَ: " طَرفاءُ " فهو شَجَرٌ واحدُه " طَرَفَةٌ " وبه سُمِّيَ طَرَفَةُ بنُ العَبْدِ الشاعرُ وقالَ سِيبويهِ: الطرْفُ واحدٌ وجَمْعٌ.
المسألةُ الرابعةُ: خَفْضُ الطرْفِ ناشئٌ عن نَصْبِه، ونَصبُهُ ناشئٌ عن رَفْعِه، والأصلُ: غَضيضٌ طَرْفُه بالرفْعِ على النِّيابةِ عن الفاعلِ، ثم قَدَّرَ تَحويلَ الإسنادِ إلى ضَميرِ الموصوفِ للمبالَغَةِ في اتِّصافِه بمعناها، فانْتَصَبَ الطرْفُ على التشبيهِ بالمفعولِ به، كما في : زيدٌ حَسَنٌ الوَجْهَ، ثم أُضِيفَتْ الصِّفَةُ للتخفيفِ، وإنما لم يُقَدَّرُ الْخَفْضُ ناشئًا عن الرَّفْعِ؛ لئَلَّا يَلْزَمَ إضافةُ الشيءِ إلى نفسِه، ولأنهم يقولون: مَرَرْتُ بامرأةٍ حَسَنَةِ الوجهِ، ولو كان الوجهُ مَرفوعَ الْمَحَلِّ لم يَجُزْ تأنيثُ الصفةِ، كما لا يَجوزُ ذلك مع رَفْعِ الوَجْهِ.
قولُه: " مَكحولٌ " هو اسمُ مفعولٍ، أي: على صِيغتِه الأصلِيَّةِ، بخِلافِ " غَضيضُ " وضَميرُه الْمُسْتَتِرُ كضميرِه في الارتفاعِ على النيابةِ عن الفاعلِ، وفي عَوْدِه إلى الظبْيِ الأَغَنِّ، وليس ضميرُه عائدًا على الظرْفِ، وإن كان هو المكحولَ بالحقيقةِ؛ لأنَّه إمَّا خَبَرٌ عن ضميرٍ محذوفٍ راجعٍ للأَغَنِّ، أو صَفةٌ للأَغَنِّ، وعليهما فلا بُدَّ مِن تَحَمُّلِه ضَميرَه.
والمكحولُ والكحيلُ إمَّا مِن " الكَحَلِ " بفَتْحَتَيْنِ، وهو الذي يَعْلُو جُفونَ عَينَيْهِ سَوادٌ مِن غَيرِ اكتحالٍ، وإمَّا مِن الكُحْلِ بالضَّمِّ، وأمَّا الأَكْحَلُ فمِن الكَحَلِ بفَتْحَتَيْنِ لا غيرُ.
تنبيهٌ: قيلَ: إنَّ فعيلًا ومَفعولًا يَفترقانِ مِن وَجهينِ:
أحدُهما: مَعنويٌّ: وهو أنَّ فعيلًا أَبلغُ، نَصَّ على ذلك بدرُ الدينِ ابنُ مالِكٍ رَحِمَه اللهُ تعالى، فإنه يُقالُ لِمَن جُرِحَ في أُنْمُلَتِه: " مَجروحٌ " ولا يُقالُ له : " جَريحٌ " فعَلَى هذا " كَحيلٌ " أَبلَغُ مِن " مَكحولٍ " والحقُّ أنَّ " فَعيلًا " إنما يَقتضِي الْمُبالَغَةَ والتَّكرارَ إذا كان للفاعلِ لا للمفعولِ، يَدُلُّ على ذلك قولُهم: " قَتيلٌ " والقَتْلُ لا يَتفاوَتُ.
والثاني: لَفظيٌّ: وهو أنَّ " فَعيلًا " الْمُحَوَّلَ عنْ " مفعولٍ " يَستوِي فيه الذَّكَرُ والأُنْثَى، فيُقالُ: طَرْفٌ كَحيلٌ، وعينٌ كحيلٌ، ولا يُقالُ: الأَعْيُنُ مَكحولةٌ بالتأنيثِ، وأمَّا قولُ طُفَيْلٍ ( البحر البسيط ):
إذ هي أَحْوَى مِن الرِّبْعِيِّ حاجِبَهُ = والعينُ بالإِثْمِدِ الْحَارِيِّ مَكحولُ
فقيلَ: لأَجْلِ الضرورةِ حَمَلَ العينَ على الطرْفِ، وقيلَ: الأَصْلُ حاجِبُه مَكحولٌ، والعينُ كذلك، ثم اعْتَرَضَ بالحملةِ الثانيةِ، وحَذَفَ الخبرَ.
قالَ رَحِمَه اللهُ:

3- تَجْلُو عَوَارِضَ ذِي ظَلْمٍ إذا ابْتَسَمَتْ = كأنه مَنْهَلٌ بالراحِ مَعلولُ
قولُه: " تَجْلُو " أي : تَكْشِفُ، ومنه: جَلَوْتُ الْخَبَرَ، أي: أَوْضَحْتَه وكَشَفْتَه، وجَلَا الخبرُ نفسَه، أي: اتَّضَحَ، وانْكَشَفَ، يَتَعَدَّى، ولا يَتَعَدَّى، ومَصدرُهما " الْجَلاءُ " بالفَتْحِ والْمَدِّ، ولهذا سُمِّيَ الإقرارُ بالشيءِ جَلاءً؛ لأنَّه يَكْشِفُ الحقَّ، ويُوَضِّحُه ، قالَ زُهَيْرٌ: ( البحر الوافر ).
فإنَّ الحقَّ مَقْطَعُه ثلاثٌ = يمينٌ أو شُهودٌ أو جَلاءُ

وعن عمرَ رَضِيَ اللهُ عنه: أنه لَمَّا سَمِعَ هذا البيتَ، قالَ: لو أَدْرَكْتُه لوَلَّيْتُه القضاءَ، لِمَعْرِفَتِه، بما يَثْبُتُ به الحقوقُ.
ومثلُ هذا البيتِ في استيفاءِ الأقسامِ قولُ نُصَيْبٍ: ( البحر الطويل )
فقالَ فريقُ القومِ لا وفريقُهم = نَعَمْ وفريقٌ قالَ وَيْحَكَ ما نَدْرِي
فاسْتَوْفَى ما يُذْكَرُ في جوابِ الأسئلةِ، ورَوَى الأخفَشُ هذا البيتَ ( البحر الطويل ).
فقالَ فريقُ القومِ لَمَّا نَشَدْتُهُمْ = نَعَمْ وفريقٌ لَايْمُنُ اللهِ ما نَدْرِي

واسْتَدَلَّ به على أنَّ هَمزةَ " أَيْمُنِ اللهِ " هَمزةُ وَصْلٍ لإسقاطِها في الدَّرَجِ.
ويُقالُ: جَلَوْتُ بَصَرِي بالْكُحْلِ، وسَيْفِي بالصِّقْلِ، وهَمِّي بكذا جِلاءً بالكَسْرِ والْمَدِّ.
وجُملةُ " تَجْلُو " مُستأنَفَةٌ، أو خَبَرٌ آخَرُ عن سُعادَ، عندَ مَن أَجازَ تَعَدُّدَ الْخَبَرِ مُخْتَلِفًا بالإفرادِ والجملةِ.
قولُه: " عَوارِضَ " فيه مَسألتانِ؛ إحداهما: اخْتُلِفَ في مُفْرَدِهما على قولينِ :
أحدُهما: أنه " عارِضَةٌ " قاله عبدُ اللطيفِ بنُ يُوسُفَ البَغداديُّ في شَرْحِ غريبِ الحديثِ.
والثاني: أنه عارِضٌ
ثم اخْتَلَفَ هؤلاءِ، فقيلَ: هو جَمْعٌ شاذٌّ، ذَكَرَ ذلك أبو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ، قالَ في شَرْحِ قولِ عَنترةَ ( البحر الكامل ).
وكأنَّ فَأرةَ تَاجِرٍ بقَسِيمَةٍ = سَبَقَتْ عَوارِضَها إليك مِن الفَمِ
لا يَكادُ " فَواعِلُ " يَجيءُ جَمْعًا " لفاعلٍ" ورُبَّما جاءَ جَمْعًا له، كما يَجيءُ جَمْعًا " لفاعِلَةٍ "؛ لأنَّ " الهاءَ " زائدةٌ، قالوا: هالِكٌ في الْهَوالِكِ، وعارِضٌ وعَوارِضُ . انتهى بمعناه.
والصوابُ: أنه جَمْعٌ لعَارِضٍ، وأنه قِياسٌ.
وأمَّا الأَوَّلُ، فلِقولِ جَريرٍ: ( الوافر ).

أَتَذْكُرُ يومَ تَصْقُلُ عَارِضَيْهَا = بفَرْعِ بَشامَةٍ سُقِيَ البَشَامُ
وأمَّا الثاني، فلأنه اسمٌ، وإنما يكونُ جَمْعُ " فاعلٍ " على " فَواعِلَ " شاذًّا إذا كان صِفةً للعاقِلِ كهالِكٍ، وفارِسٍ، وراجِلٍ، وسابِقٍ، وناكِسٍ.
فأمَّا إن كان " فاعلٌ " اسْمًا، كحاجِبٍ، وكاهِلٍ، وعَارِضٍ، وحائطٍ ودَانِقٍ، أو صِفةً لِمُؤَنَّثٍ، كحائضٍ، وطالِقٍ، وطامِثٍ، أو لغيرِ العاقِلِ، كنَجمٍ طالعٍ، وجَبَلٍ شاهِقٍ، فجَمْعُه على " فواعِلَ " قِياسٌ.
المسألةُ الثانيةُ: اختُلِفَ في مَعناهَا على ثمانيةِ أقوالٍ: أَحَدُها: أنها الأسنانُ كلُّها. ذَكَرَه عبدُ اللطيفِ في شَرْحِ الغريبِ، واقْتَصَرَ عليه.
الثاني: أنها الضواحِكُ، وهي ما بعدَ الأنيابِ. قالَه ثابتٌ في خَلْقِ الإنسانِ، وقالَه التِّبريزيُّ وأبو الْبَرَكَاتِ ابنُ الأنباريِّ في شَرْحَيْهِما على هذه القَصيدةِ، وزادَ أبو الْبَرَكَاتِ أنها قد تُطْلَقُ على الأسنانِ كلِّها.
الثالثُ: أنها مِن الثَّنايا إلى أَقْصَى الأسنانِ. وقالَه جماعةٌ.
والرابعُ: أنها ما بَعدَ الثَّنايا إلى أَقْصَى الأسنانِ، ومِمَّنْ قالَه أبو نَصْرٍ.
والخامسُ: أنها ما بعدَ الأنيابِ إلى أَقْصَى الأسنانِ، ومِمَّنْ قالَه عبدُ اللطيفِ في شَرْحِ هذه القَصيدةِ ولم يَذْكُرْ غيرَه.
السادسُ: أنها الضواحِكُ والأنيابُ. قالَه يَعقوبُ.
والسابعُ: أنها الرَّبَاعِيَاتُ والأنيابُ. قاله أبو عمرٍو الشيبانيُّ.
والثامنُ: أنها الضواحِكُ والرَّباعِيَاتُ والأنيابُ حَكاهُ إسحاقُ الْمَوْصِلِيُّ عن بعضِ الأعرابِ وَرَدَّ مَن زَعَمَ أنَّ الثَّنايا منها على مَن نَفَى ذلك بقولِ ابنِ مُقْبِلٍ : ( بَحْر الرمَلِ ).
هَزِئَتْ مَيَّةُ أَنْ ضَاحَكْتُها = فرَأَتْ عارِضَ عَوْدٍ قَدْ ثَرِمْ
إذ الثَّرْمُ لا يكونُ إلا في الثَّنَايَا.
وقولُه: " ذي " نعتٌ لمحذوفٍ، أي: ثَغْرٍ ذي.
وقولُه: " ظَلْمٍ " هو بفَتْحِ الظاءِ الْمُعْجَمَةِ، ومعناه: ماءُ الأسنانِ وبَريقُها، وقيلَ: رِقَّتُها وشِدَّةُ بَيَاضِها، وجَمْعُه " ظُلومٌ " كفَلْسٍ وفُلُوسٍ.
ويكونُ الظَّلْمُ مَصدَرَ ظَلَمَ يَظْلِمُ، وقد رُوِيَ قولُ الْحَمَاسِيِّ ( البحر البسيط ).
يَجْزُونَ مِن ظُلْمِ أهلِ الظُّلْمِ مَغفِرَةً = ومِن إِساءَةِ أهلِ السَّوْءِ إِحسانًا
بفَتْحِ الظاءِ وضَمِّها.
قالَ التِّبْرِيزِيُّ في شَرْحِ الحماسةِ: والفتحُ أَحْسَنُ؛ لأن المفتوحَ مَصدَرٌ، والمضمومَ اسمٌ . انتهى، وكلامُ المرزوقيِّ يَقْتَضِي أنَّ الأَحْسَنَ أنْ يُفْتَحَ الأَوَّلُ، ويُضَمَّ الثاني وأنه رَوَى كذلك.
وقولُه: " إذا " ظرْفٌ مَنصوبُ الْمَحَلِّ، وفي ناصِبِه وَجهانِ: أحدُهما: ما قَبْلَه وهو تَجْلُو " وذلك إذا قَدَّرْتَه خاليًا مِن مَعْنَى الشرْطِ، مِثلَ في قولِه تعالى: { وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ } وقولِه تعالى: { وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ } ألا تَرَى أنه لو كان مُضَمَّنًا معنى الشرْطِ هنا، لكان ما بعدَه جَوابًا له، وكان يَجِبُ دُخولُ الفاءِ، فلَمَّا لم تَدْخُل الفاءُ، دَلَّ على انتفاءِ مَعْنَى الشرْطِ، ولكنه ظَرْفٌ لِمَا بَعْدَه بخِلافِه في البيتِ، وأمَّا مَن قالَ: حُذِفَت الفاءُ كما حُذِفَتْ من قولِه: ( البحر البسيط ).

مَن يَفْعَلِ الْحَسناتِ اللهُ يَشْكُرُها = والشرُّ بالشرِّ عندَ اللهِ مِثلانِ
فقولُه ضعيفٌ؛ لأنَّ بابَ ذلك الشعْرُ.
والثاني: ما بعدَه، وذلك على تقديرِه مُضَمَّنًا معنى الشرْطِ، ويَحتاجُ حِينئذٍ إلى تقديرِ الجوابِ، أي: إذا ابْتَسَمَت جَلَتْ.
وهل الناصِبُ فِعْلُ الشرْطِ، أو فعْلُ الجوابِ؟ قولان: أَشْهَرُهما الثاني، وأَصَحُّهما الأَوَّلُ؛ إذ يَلْزَمُ على قولِ الأكثرينَ أن تَقعَ مَعمولةً لِمَا بعدَ الفاءِ " وإن " و " إذا الفُجائِيَّةِ " و " ما " النافيةِ في نحوِ قولِه تعالى: { إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } { ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ } وقولِك: إذا جِئْتَنِي فإني أُكْرِمُكَ، وقولِ الشاعرِ: ( بحر الرَّجَزِ ):
ومَن يُشابِهْ أَبَهُ فَمَا ظَلَمَ
ولأنها قد ثَبَتَ عَدَمُ إضافَتِها في نحوِ قولِه: ( البحر الكامل )

وَاستَغْنِ مَا أَغناكَ رَبُّكَ بالْغِنَى = وإذا تُصِبْكَ خَصاصَةٌ فتَجَمَّلِ
فإن قلتَ: كيف يَعملُ الْمُضافُ إليه في الْمُضافِ؟ قلتُ: القائلُ بهذا لا يَدَّعِي أنها مُضافَةٌ، بل إنها بِمَنزِلَةِ " متى " في قولِك: متى تَقُمْ أَقُمْ، في أنها مُرتبِطَةٌ بما بعدَها ارتباطَ أداةِ الشرْطِ بجُملةِ الشرْطِ، لا ارتباطَ الْمُضافِ بالْمُضافِ إليه.
قولُه: " ابْتَسَمَتْ " يُقالُ: " ابْتَسَمَ كاكْتَسَبَ، وتَبَسَّمَ كتَكَلَّمَ، وبَسَمَ يَبْسِمُ كجَلَسَ يَجْلِسُ، والْمَبْسِمُ كالْمَجْلِسِ اسمٌ لِمَكانِ الابتسامِ وهو الثَّغْرُ، وجُملةُ " ابْتَسَمَتْ " في مَوْضِعِ خَفْضٍ إن قُدِّرتْ إذا مَعمولةً " لتَجْلُو" أو الجوابُ مَحذُوفٌ ، ولا مَوْضِعَ لها إن قُدِّرَتْ "إذا" مَعمولةً لها.
قولُه: " كأنه مُنْهَلٌ ": هذه الجملةُ، إمَّا مُستأنَفَةٌ، وإمَّا صِفةٌ للثَّغْرِ، وإمَّا حالٌ منه.
وعلى الثاني: فإن قُدِّرَتْ إذا شَرطيَّةً كانت هي وجُملتاها اعتراضًا بينَ الصفةِ والموصوفِ للضرورةِ، وإن قُدِّرَتْ ظَرْفًا لتَجْلُو، لم تكنْ ضَرورةً؛ لأنَّ الفَصْلَ حينئذٍ شبيهٌ بالفَصْلِ بمعمولِ عاملِ الموصوفِ نحوَ: { سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ عَالِمِ الْغَيْبِ }؛ لأنَّ الُمُضافَ إذا كان بَعْضًا مِن الْمُضافِ إليه، أو كبعضِه، كان صالحًا للحَذْفِ، فيكونُ الْمُضافُ إليه حينئذٍ كأنه معمولٌ لعامِلِ الْمُضافِ، ولهذا جازَ مَجيءُ الحالِ مِن الْمُضافِ إليه في هاتينِ المسألتينِ لاتِّحادِ عاملِ الحالِ، وعاملِ صاحبِها في التقديرِ، وعلى هذا وَجْهُ الحالِ هنا؛ إذ العوارِضُ بعضُ الثَّغْرِ، ونَظيرُه قولُه تعالى : { أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا }، { وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا }.
وإن فُسِّرَ العَوارِضُ بجميعِ الأسنانِ كما تَقَدَّمَ مِن قولِ بعضِهم، امْتَنَعَ وَجهُ الحالِ؛ لأنه حينئذٍ نَظيرُ: جاءَ غُلامُ هِندَ ضَاحكةً؛ إذ الْمُضافُ ليس بعضًا كما في الآيتينِ الكريمتينِ، ولا كبعضٍ كما في قولِه تعالى: { بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا } ولا الْمُضافُ عاملًا في الحالِ كما في قولِه تعالى: { إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا }.
فإن قُدِّرَتْ: تَجلُو عوارِضَ فَمٍ، جازَ هذا؛ لأنَّ العَوارِضَ بعضُ الفَمِ.
وإن فُسِّرَتْ بجميعِ الأسنانِ، وليس في الأحْرُفِ السِّتَّةِ ما يكونُ هو ومَعمولاهُ حالًا إلا حَرفينِ؛ " إنَّ المسكورةَ، " وكأنَّ " نحوَ: { كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ } ونحوَ :{ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ }.
وسبَبُ ذلك أنَّ المفتوحةَ مُؤَوَّلَةٌ بِمَصدَرٍ مَعرِفَةٍ، وشرْطُ الحالِ التنكيرُ و " ليت " و " لَعَلَّ " طَلَبِيَّتَانِ، وشَرْطُ الجملةِ الحالِيَّةِ أن تكونَ خَبَرِيَّةً، وأمَّا " لكنَّ " فإنها مُسْتَدْعِيَةٌ لكلامٍ قَبْلَها، فلهذا لا تَقَعُ جُملتُها صِفةً، ولا صِلَةً، ولا خَبَرًا، ولا حالًا.
والْمُنْهَلُ: بضَمِّ الميمِ: اسمُ مَفعولٍ مِن أَنْهَلَه، إذا سَقاهُ النَّهَلَ بفَتحتينِ، وهو الشرْبُ الأَوَّلُ.
وقولُه: " بالرَّاحِ " فيه مسألتان:
إحداهما: أنَّ للراحِ ثلاثةَ مَعانٍ: أحدُها: الخمرُ، وهو الْمُرادُ هنا، ويُقالُ فيها أيضًا: " رَياحٌ " بياءٍ بعدَ الراءِ المفتوحةِ، قالَ امرؤُ القَيْسِ:
ولَقِيتُ ما لَقِيَتْ مَعَدٌّ كلُّها = وفَقَدْتُ رَاحِي في الشبابِ وخالِي
...................... = نَشاوَى تَساقَوْا بالرَّياحِ الْمُفَلْفَلِ

والثاني: الارتياحُ، قالَ: ( البحر الكامل )
أي: ارتياحي واختيالي. وذكَرَ أبو عمرٍو أنَّ الأَوَّلَ مَنقولٌ مِن هذا؛ فإنه قالَ: سُمِّيَتِ الخمْرُ رَاحًا لارتياحِ شارِبِها إلى الكَرمِ.
والثالثُ: جَمْعُ راحةٍ وهو الكَفُّ، قالَ يَصِفُ سَحابًا دَانِيًا مِن الأرضِ:
يَكادُ يُمْسِكُه مَن قامَ بالراحِ
المسألةُ الثانيةُ: الجارُّ يَتَعَلَّقُ بِمُنْهَلٍ، وحَذْفُ نَظيرِه مُتَعَلِّقٌ بمعلولٍ، ويَجوزُ على قولِ أبي عليٍّ أن يُقالَ: إنهما تَنَازَعَاهُ؛ لأنه يُجيزُ أن يَتنازَعَ العاملان معمولًا تَوَسَّطَهما، قالَ في قولِه:
مَهْمَا تُصِبْ أُفُقًا من بَارِقٍ تَشِمِ
إنَّ " أُفُقًا " ظرْفٌ، و " مِن " زائدةٌ، و " بارِقٍ " مَطلوبٌ لتُصِب ولتَشِمِ، فأَعْمَلَ أحدَهما، وحَذَفَ مَعمولَ الآخَرِ.
قولُه: " مَعلولٌ " اسمُ مفعولٍ كما أنَّ مُنْهلًا كذلك، إلا أنَّ فِعْلَه ثُلاثيٌّ مُجَرَّدٌ، يُقالُ: علَّه يَعُلُّه بالضمِّ على القِياسِ، ويَعِلُّه بالكسْرِ: إذا سَقاهُ ثانيًا، وأَصْلُ ذلك أنَّ الإبِلَ إذا شَرِبَتْ في أَوَّلِ الوِرْدِ سُمِّيَ ذلك نَهَلًا، فإذا رُدَّتْ إلى أَعطانِها، ثم سُقِيَتْ الثانيةَ، فذلك العَلَلُ.
وزَعَمَ الحريريُّ أنَّ المعلولَ لا يُسْتَعْمَلُ إلا بهذا المعنى، وأنَّ إطلاقَ الناسِ له على الذي أَصابَتْهُ العِلَّةُ وَهْمٌ، وأنه إنما يُقالُ لذلك: " مُعَلٌّ " من أَعَلَّه اللهُ، وكذا قالَ ابنُ مَكِّيٍّ وغيرُه، ولَحَّنُوا الْمُحَدِّثِينَ في قولِهم: حديثٌ مَعلولٌ. وقالوا: الصوابُ مَعيلٌ أو مُعَلَّلٌ . انتهى.
والصوابُ أنه يَجوزُ أن يُقالَ: عَلَّهُ فهو مَعلولٌ مِن العِلَّةِ، إلا أنه قليلٌ، ومِمَّنْ نَقَل ذلك الجَوْهريُّ في " صِحاحِه " وابنُ القوطِيَّةِ في " أفعالِه " وقُطْرُبٌ في كتابِ " فَعَلْتُ وأَفْعَلْت " وذَكَر ابنُ سِيدَهْ في " الْمُحْكَمِ " أنَّ في كتابِ أبي إسحاقَ في العَروضِ " مَعلولٌ"، ثم قالَ: ولستُ على ثِقَةٍ منها. انتهى. قيلَ: ويَشْهَدُ لهذه اللغةِ قولُهم: عَليلٌ، كما يَقولون : " جَريحٌ " و " قَتيلٌ " انتهى. ولا دَليلَ في ذلك لقولِهم: " عَقيدٌ " و " ضَميرٌ " وهما بمعنى مُفْعَلٍ، لا بمعنى مَفعولٍ، ونَظيرُ هذا أنَّ الْمُحَدِّثِينَ يَقولون: أَعْضَلَ فَلَانٌ الحديثَ، فهو مُعْضَلٌ، بالفَتْحِ، ورُدَّ بأن المعروفَ أَعْضَلَ الأمْرُ فهو مُعْضِلٌ، كأَشْكَلَ فهو مُشْكِلٌ، وأجابَ ابنُ الصَّلاحِ بأنهم قالوا: أَمْرٌ عَضيلٌ، أي: مُشْكِلٌ، و " فَعيلٌ " يَدُلُّ على الثلاثيِّ، قالَ: فعلى هذا يكونُ لنا " عَضَلَ " قاصرًا، " وأَعْضَلَ " مُتَعَدِّيًا وقاصرًا، كما قالوا: ظَلَمَ الليلُ، وأَظلَمَ الليلُ، وأَظلَمَ اللهُ الليلَ . انتهى.
وقد بَيَّنَّا أنَّ فعيلًا يأتي من غيرِ الثلاثيِّ، ثم إنه لا يكونُ مِن الثلاثيِّ القاصِرِ.


  #6  
قديم 20 محرم 1430هـ/16-01-2009م, 11:24 AM
حفيدة بني عامر حفيدة بني عامر غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: بلاد الحرمين .
المشاركات: 2,423
افتراضي (تابع ) شرح جمال الدين محمد بن هشام الأنصاري

قالَ:

4- شُجَّتْ بذي شَبَمٍ من ماءِ مَحْنِيَةٍ = صافٍ بأَبْطَحَ أَضْحَى وَهْوَ مَشمولُ
قولُه: " شُجَّتْ " الشَّجُّ: الكسرُ والشَّقُّ، ومنه: شُجَّ رأسُه، وشَجَّجَها، للمُبالَغَةِ، أَنْشَدَ سِيبويهِ رَحِمَه اللهُ تعالى : ( البحر الوافر )

وكنتَ أَذَلَّ مِن وَتَدٍ بِقَاعٍ = يُشَجِّجُ رأسَه بالفِهْرِ وَاجِي
الفِهْرُ: حَجَرٌ يَملأُ الكَفَّ، ويَجوزُ تأنيثُه، والوَاجِي مُخَفَّفٌ مِن الوَاجِئِ بالْهَمْزِ، وهو داقُّ الوَتَدِ، ويُقالُ: شَجَّت السفينةُ البَحْرَ والناقةُ الْمَفَازَةَ، قالَ :
" تَشُجُّ بِيَ العَوْجاءُ كلَّ تَنُوفَةٍ "
ومُضارِعُهُنَّ يَشُجُّ بالضمِّ على القياسِ وبالكسْرِ، والمفعولُ: مَشجوجٌ على القِياسِ، وشَجيجٌ، كذَبيحٍ وطَريحٍ.
ويُقالُ في الْخَمْرِ إذا خُلِطَ بها الماءُ: مُزِجَتْ، وهو عامٌّ في كلِّ مَزْجٍ، فإن أُريدَ أنَّ الْمِزاجَ رَقَّقَها قيلَ: شُعْشِعَتْ، وهو مِن قولِهم: ظِلٌّ شُعْشَاعٌ. إذا كان رَقيقًا لا كَثيفًا ورَجُلٌ شُعْشَاعٌ، إذا كان نَحيفًا فإن أُريدَ أنَّ الماءَ كَسَرَ سَوْرَتَها قيلَ: شُجَّتْ، وهو مَجازٌ. وإن أُريدَ المبالَغَةُ في ذلك قيلَ: قُتِلَتْ، وهو مَجازٌ أيضًا ، قالَ اللهُ تعالى : { إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا } وقالَ عمرُو بنُ كُلثومٍ ( البحر الوافر ).

ألا هُبِّي بِصَحْنِكِ فاصْبَحِينَا = ولا تُبْقِي خُمورَ الأَنْدَرِينَا
مُشَعْشَعَةً كأنَّ الْحُصَّ فيها = إذا ما الماءُ خالَطَها سَخِينَا

ومعنى هُبِّي: قُومِي مِن نَوْمِكِ، والصَّحْنُ: القَدَحُ الصغيرُ. واصْبَحِينَا، بفَتْحِ الباءِ، أي: اسْقِينَا بالغَداةِ، والأَنْدَرِينَ بالدالِ المهمَلَةِ: موْضِعٌ بالشامِ، ويُقالُ في الرَّفْعِ: أَنْدَرُونَ، وقيلَ: إنها اسمُ الموْضِعِ أَنْدَرَ، ولكنه نُسِبَ إليه أَهْلُه، فقالَ: الأَنْدَرِيينَ، ثم حَذَفَ يَاءَيِ النَّسَبِ للتخفيفِ، كما في قولِه تعالى: { وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ } وقولِ الشاعرِ:
" وما عِلْمِي بِسِحْرِ الْبَابِلِينَا"
والمعنى: لا تُبْقِيها لغيرِنا وتَسْقِينَا سِواهَا، و " مُشَعْشَعَةً " حالٌ، أو بَدَلٌ مِن " خُمورَ " أو مفعولٌ لـ "اصْبَحِينَا"، ويَجوزُ رَفْعُها بتقديرِ هي، " والْحُصُّ " مُهْمَلُ الحرفينِ مَضمومُ الأَوَّلِ: الوَرْسُ، وقيلَ: الزَّعْفرانُ. و " سَخِينَا " إمَّا اسمٌ مَنصوبٌ على الحالِ مِن الماءِ وهو قولُ أبي عمرٍو الشيبانيِّ، قالَ: كانوا يُسَخِّنُونَ لها الماءَ في الشتاءِ وإمَّا فِعْلٌ وفاعلٌ، والجملةُ جوابٌ لإذا، أي: أنها إذا مُزِجَتْ أَحْدَثَتْ فينا السخاءَ قبلَ أن نَشْرَبَها، وهذا أَبْلَغُ مِن قولِ عَنترةَ ( البحر الكامل ) :

وإذا شَرِبْتُ فإنَّنِي مُسْتَهْلِكٌ = مالِي، وعِرْضِي وافرٌ لم يُكْلَمِ
وإذا صَحَوْتُ فما أُقَصِّرُ عن نَدًى = وكما عَلِمْتِ شَمَائِلِي وتَكَرُّمِي

وقولُ عَنترةَ أَعْدَلُ وأَحْسَنُ، والعِرْضُ: الْحَسَبُ، والكَلْمُ: الْجُرْحُ، وهو هنا مَجازٌ وتَمثيلٌ, وفي البيتِ الثاني احتراسٌ مِن اعتراضٍ يَرِدُ على بيتِ أبي عمرٍو؛ إذ ظاهِرُه أنه لولا الْخَمْرُ لم يكنْ فيهم سَخاءٌ، والشمائِلُ: جَمْعُ شِمالٍ بكَسْرِ الشينِ، وهي الْخُلُقُ، قالَ عبدُ يَغوثَ الحارثيُّ: ( البحر الطويل )
أَلَمْ تَعْلَمِي أنَّ الْمَلامَةَ نَفْعُها قَليلٌ ومَا لَوْمِي أخي مِن شِمَالِيَا
وأَحْسَنُ من بَيْتَيْ عَنترةَ قولُ امرئِ القيسِ : ( البحر الطويل).
وتُعْرَفُ فيه مِن أبيه شَمَائِلًا = ومِن خالِه ومِن يَزيدَ ومِن حُجَرْ
سَماحَةُ ذا وبِرُّ ذا ووَفاءُ ذا = ونائلُ ذا إذا صَحَا وإذا سَكِرْ

وإنما قُدِّمَ هذا البيتُ على بيتِ عَنترةَ؛ لأنه جَمَعَ هذه الأشياءَ في بيتٍ واحدٍ، وقالَ حَسَّانُ رَضِيَ اللهُ عنه: ( البحر الكامل )

إنَّ التي ناوَلْتَنِي فرَدَدْتُها = قُتِلَتْ هَواكَ فهَاتِها لم تُقْتَلِ
كِلتاهما حَلَبُ العصيرِ فعَاطِنِي = بزُجاجةٍ أَرخاهُما للمِفْصَلِ

ولهذا الشعْرِ حِكايةٌ حَسَنَةٌ، أَوْرَدَها الإمامُ أبو السَّعاداتِ هِبَةُ اللهِ ابنُ الشَّجَرِيِّ، في الجزءِ الثاني مِن " أَمَالِيهِ " قالَ: اجْتَمَعَ قومٌ على شَرابٍ فغَنَّى أحدُهم بهذينِ البيتينِ، فقالَ بعضُ الحاضرينَ: كيف قالَ: " إنَّ التي نَاوَلْتَنِي فَرَدَدْتُها". ثم قالَ: " كِلتاهُما" فجَعَلَها لاثنتينِ، فلم يَدْرِ الحاضرونَ، فحَلِفَ أحدُهم بالطلاقِ ثلاثًا إنْ باتَ ولم يَسْأَل القاضيَ عُبيدَ اللهِ بنَ الْحُسينِ عن ذلك. قال: فسُقِطَ في أَيْدِيهِم، ثم أَجْمَعُوا على قَصْدِ القاضِي، فيَمَّمُوهُ يَتَخَطَّوْنُ إليه الأحياءَ فصَادَفُوه في مَسْجِدٍ يُصَلِّي بينَ العِشاءَيْنِ، ولَمَّاَ أَحَسَّ بهم، أَوْجَزَ، ثم أَقْبَلَ عليهم، قالَ: ما حاجَتُكُم؟ فتَقَدَّمَ أَحْسَنُهم نَفْثَةً، فقالَ: نحنُ ـ أَعَزَّ اللهُ القاضيَ ـ قومٌ نَزَعْنا إليك مِن طريقِ البَصرةِ في حاجةٍ مُهِمَّةٍ، فيها بعضُ الشيءِ، فإن أَذِنْتَ لنا، قُلْنَا. فقالَ: قلْ. فذَكَرَ له البيتينِ والسؤالَ، فقالَ: أمَّا قولُه: إنَّ التي نَاوَلْتَنِي، فإنه يَعْنِي " الْخَمرةَ "، وأمَّا معنى قولِه: " قُتِلَتْ " فمعناه: مُزِجَتْ بالماءِ، وأمَّا قولُه: " كِلتاهُمَا حَلَبُ العصيرِ" فإنه يَعْنِي به الخمْرَ والماءَ، فالخمْرُ عصيرُ العِنَبِ والماءُ عَصيرُ السَّحابِ، قالَ اللهُ تعالى: { وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا } انْصَرِفوا إذا شِئْتُمْ.
وقالَ ابنُ الشَّجَرِيِّ: ويَمْنَعُ مِن هذا التأويلِ ثلاثةُ أشياءَ:
أحدُهما: أنَّ " كِلْتَا " للمؤَنَّثَتَيْنِ، والماءَ مُذَكَّرٌ، والتذكيرُ يَغْلِبُ على التأنيثِ، كقولِ الفَرَزْدَقِ:
لنا قَمَرَاها والنجومُ الطوالِعُ
والثاني: أنه قالَ: " أَرْخَاهُما"، و " أَفْعَلُ " يَقْتَضِي الْمُشَارَكَةَ، والماءُ لا إِرخاءَ فيه للمِفْصَلِ.
والثالثُ: أنه قالَ: فالْخَمْرُ عَصيرُ العِنَبِ، وحَسَّانُ يَقولُ: حَلَبُ العصيرِ، والْحَلَبُ هو الْخَمْرُ، فيَلزَمُ على قولِه إضافةُ الشيءِ إلى نفسِه، وإنما الجوابُ أنَّ المرادَ كِلتَا الممزوجةِ والصرْفِ حَلَبُ العِنَبِ، فنَاوِلْنِي أَشَدَّهما إِرخاءً وهي الصِّرْفُ التي طَلَبَها منه في قولِه: " فهَاتِها لم تُقْتَل " . انتهى كلامُه.
وها هنا فَوائدُ تَتَعَلَّقُ بالبيتينِ:
إحداها: أنَّ قولَه: " قُتِلَتْ " جُملةٌ مُعْتَرِضَةٌ، ونَظيرُه في الاعتراضِ بالدعاءِ ـ إلا أنه دُعاءٌ بخبرٍ ـ قولُه : ( البحر السريع )
إنَّ الثمانينَ وقد بُلِّغْتَها = قد أَحْوَجَتْ سَمْعِي إلى تُرْجُمَانِ

وقولُ الْخَنساءِ : ( البحر الْمُنْسَرِح )
إنَّ سُلَيْمَى واللهُ يَكْلَؤُها = ضَنَّتْ بشيءٍ ما كان يَرْزَؤُها

وقولُ بعضِهم: إنَّ قولَه: " قُتِلَتْ " التفاتٌ. مَردودٌ؛ لأنَّ شَرْطَه اتِّحادُ مَدلولِ الضميرينِ كقولِه تعالى: { حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ }.
الثانيةُ: أنَّ التاءَ مِن " هَاتِها " مَكسورةٌ، كما أنَّ الطاءَ مِن عاطِنِي كذلك؛ لأنهما أَمرانِ مِن هاتِي يُهَاتِي مُهَاتَاةً، وعاطَى يُعاطِي مُعاطاةً، وقولُ بعضِهم: إنه اسمُ فِعْلٍ ، مَردودٌ بأمرينِ: تَصَرُّفُه، واتِّصالُ ضمائِرِ الرفْعِ البارِزَةِ به، نحوَ: { قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ } وقولِ امرئِ القَيْسِ: ( البحر الطويل).
إذا قُلْتُ هاتِي نَاوِلِينِي تَمَايَلَتْ = علَيَّ هَضيمُ الكَشْحِ رَيَّا الْمُخَلْخَلِ
الثالثةُ: أنَّ الْحَلَبَ " فَعَلٌ " بمعنى " مَفعولٍ " كالقَبَضِ، والْخَبَطِ، والعَصيرُ " فَعيلٌ " بمعنى " مفعولٍ " كالكَحيلِ والدَّهِينِ.
الرابعةُ: أنَّ الْمِفْصَلَ ـ بكسْرِ الميمِ وفَتْحِ الصادِ ـ اللسانُ؛ لأنه آلةٌ تُفْصَلُ بها الأمورُ، و " مِفْعَلٌ " مِن أوزانِه أسماءُ الآلاتِ، كالْمِفْتَحِ، والْمِخْيَطِ، والْمَفْصِلُ ـ بفتْحِ الميمِ وكسْرِ الصادِ:
مكانُ انفصالِ بعضِ الأعضاءِ مِن بعضٍ؛ لأنَّ اسمَ المكانِ مِن فَعَلَ يَفْعِلُ على مَفْعِلٍ، كالْمَجْلِسِ والْمَضْرِبِ، والمعنيان صَحيحانِ في بيتِ حَسَّانَ، فيَجوزُ قِراءتُه بالوَجهينِ.
الخامسةُ: أنَّ " أَرْخَى " اسمُ تَفضيلٍ مَبْنِيٌّ مِن أَرْخَى، وبِناءُ أَفعلَ التفضيلِ مِن أَفعلَ مَسموعٌ عندَ قومٍ، مَقيسٌ عندَ آخرينَ، وفَصَّلَ بعضُهم، فقالَ: إن كانت هَمْزَتُه للنَّقْلِ، كأَعْطَى، مَسموعٌ، أو لغيرِ النقْلِ: كأَظْلَمَ الليلُ، فمَقيسٌ، ومِن الوارِدِ مِن ذلك قولُهم: ما أَعطاهُ للدَّرَاهِمِ، وأَوْلَاهُ للمعروفِ، وقولُه تعالى: { ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ } فإنهما مِن " أَقْسَطَ " إذا عَدَلَ، ومِن " أَقامَ "، قالَ اللهُ تعالى: { وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } { وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ }.
وفي مَحَلِّ الْجُملةِ مِن قولِه : " شُجَّتْ " وَجهانِ :
أحدُهما: النصْبُ على الحالِ مِن الراحِ، فإن قُلتَ: كيف وَقَعَ الماضي حالًا مع تَجَرُّدِه مِن الواوِ، وقد قُلتَ: إنما يَلْزَمُ ذلك إذا كان الماضي مُثْبَتًا ولا ضَميرَ منه كقولِ: ( البحر الطويل ).

وجَالَدْتَهُمْ حتى اتَّقَوْكَ بكَبْشِهِمْ = وقد حانَ مِن شَمْسِ النهارِ غُروبُ
ويَمتنعانِ إن كان الماضِي في المعنى شَرْطًا، نحوَ لأَضْرِبَنَّهَ ذَهَبَ أو مَكَثَ، أو وَقَعَ بعدَ " إلا " نحوَ: ما تَكَلَّمَ إلا قالَ خَيْرًا، وتَجِبُ الواوُ، وتَمْتَنِعُ قد، إذا نُفِيَ الفعلُ، ولم يَكُنْ ضَميرًا، نحوَ: جاءَ زيدٌ وما طَلَعَت الشمسُ، ويَجوزُ الواوُ وتَمْتَنِعُ قد إذا نُفِيَ الفعلُ ووُجِدَ الضميرُ، نحوَ: جاءَ زيدٌ وما دَرَى كيف جاءَ، أو كان الفعلُ ليس نحوَ : { وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ } وقولِ الراجِزِ: ( بحرُ الرجَزِ )
إذا جَرَى في كَفِّهِ الرِّشَاءُ = جَرَى القَليبُ ليس فيه ماءُ

ويَجوزُ فيما عَدَا ذلك أن يَأْتِيَ بهما، أو يَتْرُكَهما، وأن يَقْتَصِرَ على الواوِ، وأن يَقْتَصِرَ على قد.
فالأَوَّلُ كقولِه تعالى : { وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ } والثاني كقولِه: { أَوْ جَاؤُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ } ولهذا قَرأَ الْحَسَنُ: " حَصِرَةً صُدُورُهُمْ " ومنه: { هِذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا } { وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا } وقولُ كَعْبٍ رَضِيَ اللهُ عنه: "شُجَّتْ".
والثالثُ: كقولِه تعالى: { أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ } { كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ } .
والرابعُ: كقولِ الشاعرِ ( البحر الطويل ) :

وَقَفْتُ برَبْعِ الدارِ قد غَيَّرَ الْبِلَى = مَعارِفَها والسارِياتُ الْهَواطِلُ
ولا يَحتاجُ في الوجهِ الثاني والوجهِ الثالثِ إلى أن يُضْمِرَ " قد "، خِلافًا للمُبَرَّدِ، والفارسيِّ، والفَرَّاءِ، وأَكثَرِ الْمُتَأَخِّرِينَ.
والوجهُ الثاني: الرَّفْعُ علَى أنه صِفةٌ للراحِ؛ لأنَّ تَعريفَها تَعريفُ الْجِنْسِ، كما أُجيزَ ذلك في قولِ: ( البحر الكامل )
ولقدْ أَمُرُّ على اللئيمِ يَسُبُّنِي = فمضَيْتُ ثَمَّتَ قُلْتُ ما يَعْنِينِي
وقولُه: " بِذِي " أي: بِمَاءٍ ذِي. وفيه دَليلٌ على ما قَدَّمْنَاهُ مِن أنَّ شَرْطَ حَذْفِ الموصوفِ فَهْمُ مَعناهُ لا كونُ الصفةِ مُخْتَصَّةً بجِنْسِه كما يقولُ ابنُ عُصفورٍ وغيرُه.
وقولُه: " شَبَمٍ " هو بفَتْحِ الشينِ الْمُعْجَمَةِ والباءِ الْمُوَحَّدَةِ: البَرْدُ الشديدُ، يُقالُ: غَداةٌ ذاتُ شَبَمٍ، وقد شَبِمَ الماءُ وغيرُه، وخَصِرَ، بمعنى: اشْتَدَّ بَرْدُه، وخَرِصَ الرجُلُ، بمعنى: اشْتَدَّ بَرْدُه مع الجوعِ، والفِعلانِ بالخاءِ الْمُعْجَمَةِ، والراءِ والصادِ الْمُهْمَلَتَيْنِ، والأفعالُ الثلاثةُ على فَعِلَ بالكسْرِ، يَفْعَلُ، بالفَتْحِ، ومَصْدَرُهُنَّ على الفَعَلِ بفَتحتينِ، ووَصْفُهُنَّ بزِنَةِ الماضِي، وقالَ أبو الطَّيِّبِ: " وَاحَرَّ قَلْبَاهُ مِمَّنْ قَلْبُه شَبِمُ "
وقالَ الْمَعَرِّيُّ: ( البحر البسيط ).

لو اخْتَصَرْتُمْ مِن الإحسانِ زُرْتُكُمُ = والعَذْبُ يَهْجُرُ للإفراطِ في الْخَصَرِ
وعن أبي عَمْرِو بنِ العلاءِ: الشَّبِمُ مِن الناسِ: الْمَقرورُ الجامِعُ. وفي ثُبوتِ هذا عن مِثْلِ هذا الإمامِ بُعدٌ، وإن كان الناقلُ عنه الجوهريَّ؛ لأنَّ فِعْلَ هذا الوَصْفِ لا يَقتضِي ذلك، ولا يَخْتَصُّ بالحيوانِ.
وقولُه: " مِن ماءِ " : صِفةٌ ثانيةٌ لماءٍ المحذوفِ، أو حالٌ منه، وإن كان نَكِرَةً لاختصاصِه بالوَصْفِ بِذِي، أو حالٌ مِن ضميرِ " ذِي " العائدِ منه علَى الموصوفِ، وهذا أَحْسَنُ؛ فإنه حُمِلَ على الأَخَصِّ الأقرَبِ، ولهذا كان ضَعيفًا جَزْمُ الزَّمخشريِّ في ( مُصَدِّقًا ) مِن قِراءةِ بعضِهم { وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقًا } بأنه حالٌ مِن النَّكِرَةِ، والوجهُ الأوَّلُ أَحْسَنُ الثلاثةِ لتَوَسُّطِ هذا الظرْفِ بينَ صِفتينِ، وهما " ذي شَبَمٍ " و " صافٍ ".
فإن قُلْتَ: قُدِّرَ قولُه " صافٍ " حالًا، وإنَّ المنقوصَ سُكِّنَ حالةَ النصْبِ للضرورةِ، فانْحَذَفَت الياءُ للساكنينِ كقولِه: ( قَيْسِ بنِ الملَوَّحِ ) ( البحر الطويل ) :
ولو أنَّ وَاشٍ باليَمامةِ دَارُهُ = ودَارِي بأَعْلَى حَضْرَمَوْتَ اهْتَدَى لِيَا
وقولِ الفَرزْدَقِ يَهجُو هِشامَ بنَ عبدِ الْمَلِكِ: ( البحر الطويل ) :
يُقَلِّبُ رأسًا لم تكنْ رأسَ سَيِّدٍ = وعينًا له حَولاءَ بادٍ عُيُوبُها

وحينئذٍ فيَتَرَجَّحُ الظرْفُ لِمُجاوَرَةِ الحالِ.
قلتُ: لا يَحْسُنُ الحمْلُ على خِلافِ الظاهِرِ، مع عَدَمِ الحاجةِ إليه، ثم مُناسَبَةُ الْمُتَقَدِّمِ أَوْلَى مِن مُناسَبَةِ الْمُتَأَخِّرِ.
وأَصْلُ الماءِ : " مَوَهَ " فقُلِبَت فاؤُه أَلِفًا على القِياسِ، وأُبْدِلَت هاؤُه هَمزةً على غيرِ القِياسِ، وَحَصَلَ بذلك توالِي إعلالَيْنِ، وجَمْعُه في القِلَّةِ " أَمواهٌ " بالهاءِ على الأَصْلِ ورُبَّمَا أَبْدَلُوها فيه، قالَ: ( بحرُ الرجَزِ ) :
وبَلْدَةٍ قالِصَةٍ أَمْوَاؤُهَا = ماصِحَةٌ رَأْدُ الضُّحَى أَفْيَاؤُهَا
القالِصَةُ: الْمُرْتَفِعَةُ، والْمَاصِحَةُ: الذاهِبَةُ، ورَأْدُ الضُّحَى: ارتفاعُها.
وجَمْعُه على الأَصْلِ في الكَثرةِ " مِياهٌ " بالهاءِ لا غيرُ، وإنما قُلِبَت عينُه ياءً للكَسرةِ قَبْلَها والألِفِ بعدَها، كدارٍ ودِيارٍ، وإنما صَحَّتْ في " طِوالٍ " لصِحَّتِها في " طَويلٍ " وإنما أُعِلَّتْ في " سِيَاطٍ " مع سَلامَتِها في " سَوْطٍ "؛ لأنَّ السكونَ عندَهم كالإعلالِ.
والنِّسْبَةُ إلى " الماءِ " مَائِيٌّ بالْهَمْزِ، ومَاوِيٌّ، وكَكِسَائِيٍّ، وكِسَاوِيٍّ.
وقولُه: " مَحْنِيَةٍ " مَفْعِلَةٍ مِن حَنَوْتُ، وجَمْعُها: مَحانٍ، وأَصْلُها مَحْنُوَّةٌ، وهي عِبارةٌ عما انْعَطَفَ مِن الوَادِي؛ لأنَّ مَاءَها يكونُ أَصْفَى وأَرَقَّ، وإنما قُلِبَت الواوُ ياءً لتَطَرُّفِها في التقديرِ بعدَ كَسْرَةٍ، وقولُ التِّبريزيِّ: لوُقوعِها رابعةً بعدَ كَسرةٍ: فيه زِيادةُ ما ليس بشَرْطٍ، وهو كونُها رابعةً، ويَرُدُّه وُجوبُ القَلْبِ في قَوِيٍّ، ورَضِيٍّ، وشَجِيَّةٍ؛ فإنهنَّ مِن الرِّضوانِ، والقُوَّةِ، والشَّجْوَةِ، ونَقَصَ ما هو شَرْطٌ، وهو التصرُّفُ إمَّا تَقديرًا، كما في شَجِيَّةٍ ومَحْنِيَّةٍ، أو لفظًا: كما في قَوِيٍّ، ورَضِيٍّ، وقد اجْتَمَعَ النوعانِ في قولِه مَحْنِيَةٍ.
وقولُه: " صافٍ " إذ هو مِن الصَّفْوِ، ومِثلُه، داعٍ، وغَازٍ، وكذلك حادٍ، سواءٌ أكانَ اسمَ فاعلٍ مِن حَدَا يَحْدُو، أو اسمَ العَدَدِ، إلا أنَّ في هذا قَلبينِ: قَلْبَ الْمَكانِ، وقَلْبَ الإبدالِ؛ وذلك لأنه مِن الوَحدةِ، فأَصْلُه: واحدٌ، ثم أُخِّرَتْ فاؤُه، فصارَ حادٍ وَزْنُهُ عالِفٌ.
وقولُه: " بأَبْطَحَ " : صِفةٌ، أو حالٌ، والأَبْطَحُ: مَسيلٌ فيه دِقاقُ الْحَصَا، وجَمْعُ بِطاحٍ على غيرِ القِياسِ، وأَباطِحَ على القِياسِ؛ لأنه قد صارَ اسمًا، فالْتَحَقَ بأَفْكَلَ وأَفَاكِلَ، وأحمدَ وأَحامِدَ، قالَ ( البحر الوافر ) :

وكائنٌ بالأباطِحِ مِن صَديقٍ = يَرانِي لو أَصَبْتُ هو الْمُصَابَا
وإنما خَفَضَ " أَبْطَحَ " بالفَتْحِ؛ لأنه لا يَنْصَرِفُ للوَصْفِ الْمُتَأَصِّلِ والوَزْنِ الغالِبِ، ومنهم مَن يَصْرِفُه اعتدادًا بعارِضِ الاسْمِيَّةِ، والوجهان في أَخواتِه، كأَجْرَعَ، وأَبْرَقَ، وأَدْهَمَ للقَيْدِ، والأَجودُ مَنْعُ الصرْفِ في الجميعِ.
وقولُه: " أَضْحَى "
إمَّا تامَّةٌ بمعنى: دَخَلَ في وَقْتِ الضُّحَى، فالجملةُ بعدَه حالٌ، والواوُ الداخلةُ عليها واوُ الابتداءِ، ويُقَدِّرُها سِيبويهِ بإِذْ.
وإمَّا ناقِصَةٌ، بمعنى: ثُبوتِ الخبَرِ للمُخْبَرِ عنه في هذا الوَقْتِ، فالجملةُ بعدَها خَبَرٌ، والواوُ زائدةٌ، ووَجْهُ دخولِها تَشبيهُ الجملةِ الْخَبريَّةِ بالجملةِ الحالِيَّةِ، وهذا الوَجْهُ إنما يُجيزُه أبو الْحَسَنِ والكوفِيُّونَ، وتَابَعَهم ابنُ مالِكٍ وزَعَمَ أنَّ ذلك يَكْثُرُ بِشَرْطَيْنِ: كونِ عاملِ الخبَرِ كان، أو ليس، وكونِ الْخَبَرِ مُوجِبًا بإلا، كقولِه: ( البحر البسيط ).
ما كان مِن بَشَرٍ إلا وميتَتُهُ = مَحتومةٌ لكنِ الآجالُ تَخْتَلِفُ
وقولُه: ( البحر الخفيف ):

ليس شيءٌ إلا وفيه إذا ما = قَابَلَتْهُ عينُ اللبيبِ اعتبارُ
ويَقِلُّ في غيرِ ذلك، كقولِه: ( البحر الطويل )
وكانوا أُناسًا يَنْفَحُونَ فأَصْبَحُوا = وأكثرُ ما يُعطُونَكَ النَّظَرُ الشَّزْرُ

وعلى هذا قولُ كَعْبٍ رَضِيَ اللهُ تعالى عنه: أَضْحَى
" وهو مَشمولٌ " : الذي ضَرَبَتْهُ رِيحُ الشِّمالِ حَتَّى بَرَدَ، ويُقالُ منه: غَديرٌ مَشمولٌ، ومنه قِيلَ للخَمْرِ: مَشمولةٌ، إذا كانت بارِدةَ الطَّعْمِ، قالَ: ( البحر السريع )
تقولُ يا شيخُ أَمَا تَسْتَحِي = مِن شُرْبِكَ الرَّاحَ على الكِبَرْ

فقلتُ لو بَاكَرْتِ مَشمولةً = صَفْرَا، كلونِ الفَرَسِ الأَشْقَرْ
رُحْتِ وفي رِجْلَيْكِ، ما فيهما = وقد بَدَا هَنْكِ مِن الْمِئْزَرْ

وفي البيتِ الأوَّلِ شاهدٌ على أنه يُقالُ: اسْتَحَى يَسْتَحِي، كاستَبَى يَسْتَبِي، وقد قرأَ يَعقوبُ وابنُ مُحَيْصِنٍ: { إِنَّ اللهَ لَا يَسْتَحِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا } بياءٍ واحدةٍ، ورُوِيَتْ عن ابنِ كثيرٍ أيضًا، وهي لغةُ تَميمٍ، والأصْلُ بيَاءَيْنِ، فنُقِلَتْ حَركةُ العينِ إلى الفاءِ، فالْتَقَى ساكنانِ، فقِيلَ: حُذِفَتِ اللامُ، فالوَزْنُ يَسْتَفْعِ.
وفي البيتِ الثاني شاهِدٌ على قَصْرِ الممدودِ القياسيِّ لأَجْلِ الضرورةِ، وفيه رَدٌّ على الفَرَّاءِ إذ زَعَمَ أنه لا يُقْصَرُ للضرورةِ إلا ما مَأْخَذُهُ السماعُ دونَ القِياسِ.
وفي الثالثِ شاهدٌ على جَوازِ تَسكينِ المرفوعِ الصحيحِ لأَجْلِ الضرورةِ، وعلى جَوازِ النَّقْصِ في " الْهَن " وهي أَفْصَحُ فيه مِن التَّمَامِ، ويُرْوَى " وقد بَدَا ذاكَ " فلا شَاهِدَ فيه.
ويُسَمَّى الْخَمْرُ أيضًا شَمولًا، فقالَ القَتْبيُّ: لأنها تَشتمِلُ على عَقْلِ صاحبِها، وقالَ غيرُه: لأنَّ لها عَصْفَةً كعَصْفَةِ الريحِ الشِّمالِ.
وأَفْضَلُ مِياهِ الْمَطَرِ باعتبارِ المكانِ ما كان بأَبْطَحَ بِمَحْنِيةٍ، وباعتبارِ الزمانِ ما دَخَلَ في زَمَنِ الضُّحَى، وباعتبارِ الصفاتِ القائمةِ به ما كان صافيًا شَبَمًا، وباعتبارِ ما يَطْرَأُ عليه ما هَبَّتْ عليه رِيحُ الشِّمالِ، وقد اشْتَمَلَ البيتُ على ذلك كلِّه، قالَ:

5- تَنْفِي الرياحُ القَذَى عنه وأَفْرَطَهُ = مِن صَوْبِ ساريةٍ بِيضٌ يَعَالِيلُ
قولُه: " تَنْفِي " مُضارِعُ نَفَاهُ، إذا طَرَدَه، ويُقالُ أَيضًا: نَفَى يَنْفِي، بمعنى: انْطَرَدَ يَنْطَرِدُ، يَتَعَدَّى، ولا يَتَعَدَّى، ومِن تَعَدِّيهِ قولُه تعالى: { أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ } ومِن قُصُورِه قولُ +القُطَّامِيِّ ـ بضَمِّ القافِ ـ:
فأَصْبَحَ جَارَاكُم قَتِيلًا ونَافِيًا
أي: مُنْتَفِيًا.
وقولُه: " الرياحُ" : جَمْعُ رِيحٍ، والياءُ فيهما بَدَلٌ عن واوٍ , وإنما قُلِبَتْ في الْمُفْرَدِ ؛ لسُكونِها بعدَ كَسرةٍ، كما في " مِيزانٍ " و " مِيقاتٍ " وفي الْجَمْعِ لِمَا تَقَدَّمَ في " مِياهٍ " و " دِيارٍ " و " سِياطٍ " مِن مَجيءِ الكَسرةِ قَبْلَها والألِفِ بعدَها، واعتلالِها في الْمُفْرَدِ، أو سكونِها فيه، ومِن ثَمَّ صَحَّتْ في " أرواحٍ " لانتفاءِ الشرْطِ الأَوَّلِ، وفي " كُوزَةٍ " جَمْعِ " كُوزٍ " لانتفاءِ الثاني. وفي " طِوالٍ " لانتفاءِ الثالثِ، وأمَّا قولُه: ( البحر الطويل )

تَبَيَّنَ لي أنَّ القَمَاءَةَ ذِلَّةٌ = وأنَّ أَعِزَّاءَ الرِّجالِ طِيَالُهَا
فنادِرٌ.

وفي العَرَبِ مَن يَقولُ: " أَرياحٌ " كَراهيةَ الاشتباهِ بجَمْعِ رَوْحٍ، كما قالَ الجميعُ: " أَعيادٌ " كَراهيةَ الاشتباهِ بجَمْعِ " عَوْدٍ " وقولُ الحريرِيِّ: إنَّ الأرياحَ في جَمْعِ رِيحٍ لَحْنٌ. مَردودٌ، وقولُ الجوهريِّ: الريحُ واحدةُ الرياحِ والأرياحِ، وقد يُجْمَعُ على " أرواحٍ " يَقتضِي أنَّ الأرياحَ هو الكثيرُ وليس كذلك، وإنما الكثيرُ " أرواحٌ " ومنه قولُ مَيْسُونَ بنتِ بَحْدَلٍ الكلبيَّةِ ـ بالحاءِ المهمَلَةِ ـ وهي زَوجُ مُعاويةَ رَضِيَ اللهُ عنه وأمُّ ابنِه يَزيدَ ( البحر الوافر )

لَبيتٌ تَخْفِقُ الأرواحُ فيهِ = أَحَبُّ إليَّ مِن قَصْرٍ مُنِيفِ
ولُبْسُ عَباءَةٍ وتَقَرَّ عَيْنِي = أَحَبُّ إِلَيَّ مِن لُبْسِ الشُّفُوفِ

وهذا البيتُ شاهدٌ على نَصْبِ الْمُضارِعِ، بأنْ مُضْمَرَةٍ لعَطْفِه على اسمٍ متَقَدِّمٍ، وحَرَّفَ أكثرُهم أَوَّلَه، فأَنْشَدَه: لَلُبْسُ، وإنما هو بالواوِ عَطْفًا على قَوْلِها: لبيتٌ. وما بعدَه.
وقولُه: " الْقَذَى " هو بالذالِ الْمُعْجَمَةِ: ما يَسْقُطُ في العينِ والشرابِ، والواحدةُ: " قَذَاةٌ ".
ويُقالُ: قَذِيَت العينُ بالكسْرِ تَقْذَى بالفتْحِ: إذا سَقَطَ فيهما الْقَذَى.
وقَذَتْ بالفَتْحِ تَقْذِي بالكَسْرِ: إذا رَمَتْ بالْقَذَى، وأَقْذَيْتُها: إذا جَعَلْتَ فيها الْقَذَى.
وقَذَّيْتُها مُشَدَّدًا إذا نَزَعْتَ عنها الْقَذَى، كما قالوا: جَلَّدَ البعيرَ وقَرَّدَهُ: إذا نَزَعَ عنه جِلْدَه وقُرادَهُ.
وفي الْجُملةِ مِن قولِهِ: " تَنْفِي الرياحُ الْقَذَى عنه " بَحثانِ :
أحدُهما: بالنِّسبةِ إلى الإعرابِ، وهي باعتبارِه مُحْتَمِلَةٌ لثلاثةِ أَوْجُهٍ:
أحدُها: أن يكونَ خبرًا ثانيًا لأَضْحَى على أن تكونَ ناقِصَةً.
والثاني: أن يكونَ حالًا، فإن كانت أَضْحَى تامَّةً، فذو الحالِ فاعِلُها، أو مفعولُ " مَشْمُولُ " المستَتِرُ فيه، وهي على الثاني مِن الحالِ الْمُتَدَاخِلَةِ، وعلى الأوَّلِ مِن الْمُتَرَادِفَةِ، وإن كانتْ ناقصةً، فذو الحالِ ضميرُ " مَشمولُ " أو ضَميرُ " أَضْحَى " إنْ قُلْنَا: إنَّ الأَفعالَ الناقصةَ تَدُلُّ على الحدَثِ , وهو الصحيحُ.
والثالثُ: أن تكونَ مُسْتَأْنَفَةً.
البحثُ الثاني: بالنِّسبةِ إلى الْمَعْنَى، وهي باعتبارِه مُحْتَمِلَةٌ لثلاثةِ أَوْجُهٍ أيضًا:
أحدُها: أن يكونَ تَعليلًا لقولِه: " صافٍ "
والثاني: أن يكونَ تَوكيدًا له، وتَتْمِيمًا.
والثالثُ: أن يكونَ احتراسًا؛ وذلك لأنَّ الماءَ الصافِيَ قد يَعْرِضُ له أن يَعْلُوَهُ شيءٌ مِن الأقذارِ، ويكونَ بحيثُ لو أُزِيلَ عنه، لظَهَرَ صفاؤُه، وأنه لا كُدُورَةَ فيه، فَنَفَى أن يكونَ هذا الماءُ مِن هذا القَبيلِ.
قولُه: " وأَفْرَطَهُ ": يُستعمَلُ " أَفْرَطَ " على وَجهينِ:
مُتَعَدِّيًا بِفِي، ومعناه: الزيادةُ في الشيءِ، ومُجاوَزَةُ الحدِّ فيه.
ومُتَعَدِّيًا بنَفْسِه، وله ثلاثةُ مَعانٍ: أحدُها: تَرْكُ الشيءِ ونِسيانُه.
والثاني: تَقديمُه وتَعجيلُه.
والثالثُ: مَلْؤُه , بفَتْحِ الْمِيمِ.
وقولُه تعالى: { وَأَنَّهُمْ مُفْرِطُونَ } يُقرأُ بسُكونِ الفاءِ مع كَسْرِ الراءِ، على أنه مِن الْمُتَعَدِّي بِفِي، أي: مُفْرِطُونَ في المعاصي، ومع فَتْحِها على أنه مِن الْمُتَعَدِّي بنفسِه، ومعناه: إمَّا مَتْرُوكُونَ في النارِ، أو مَنْسِيُّونَ، أو مُقَدَّمُونَ إليها مُعَجَّلُونَ.
وقولُ العَرَبِ: غَديرٌ مُفْرَطٌ . بسُكونِ الفاءِ وفتحِ الراءِ مِن الثالثِ، أي: مَملوءٌ، ومنه هذا البيتُ كما سَيَأْتِي.
ويُقالُ مِن هذه الْمَادَّةِ: فَرَطْتُ القومَ. بالتخفيفِ والفتْحِ، أَفْرُطُهم بالضَّمِّ، فأنا فَرَطُهم بفَتْحَتَيْنِ وفارِطُهم، بمعنى: سَبَقْتُهُم إلى الماءِ , وفي الحديثِ: ((أَنَا فَرَطُكُمْ عَلَى الْحَوْضِ)) ولا يُثَنَّى الفَرَطُ، ولا يُجْمَع، بخِلافِ الفارِطِ؛ فإنه يُطابِقُ مَن قُصِدَ به، قالَ: ( البحر البسيط )

فاستَعْجَلُونَا وكَانوا مِن صَحَابَتِنا = كما تَعَجَّلَ فَرَّاطٌ لوَرَّادِ
ويُقالُ: فَرَّطَ بالأمْرِ بالتشديدِ، بمعنى: قَصَّرَ فيه، ومنه قولُه تعالى: { يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ } وقُرِئَ: { إِنَّهُمْ مُفَرِّطُونَ } براءٍ مَشدودةٍ مَكسورةٍ، أي: مُقَصِّرُونَ.
قولُه: " مِن صَوْبِ ": للصَّوْبِ أربعةُ مَعانٍ:
أحدُها: الْمَطَرُ كقولِ: ( البحر الكامل ).
فَسَقَى دِيارَكَ غيرَ مُفْسِدِهَا = صَوْبُ الربيعِ ودَيْمَةٌ تَهْمِي
وانتصابُ " غيرَ " على الحالِ للفاعِلِ الْمُؤَخَّرِ، وفيه احتراسٌ مِمَّا أُورِدَ على مَن قالَ: ( البحر الطويل ).
ألا يا اسْلَمِي يا دارَ مَيَّ على البِلَى = ولا زالَ مُنْهَلًّا بِجَرْعَائِكِ القَطْرُ

إذ قيلَ: إنه أَرادَ الدُّعاءَ لها، فدَعَا عليها بالْخَرَابِ.
والجوابُ: أنه احْتَرَسَ أوَّلًا بقولِه: " اسْلَمِي " وأنَّ زالَ وأخواتِها إنما تَقْتَضِي ثُبوتَ الخبَرِ للاسمِ على جارِي العادَةِ في مِثْلِه، كقولِنا: ما زالَ زيدٌ يُصَلِّي؛ فإنَّ معناه: أنه قد تَأَتَّى منه فِعْلُ الصلاةِ , لم يَتْرُكْها في أوقاتِها، لا أنه مُذْ خُلِقَ لم يَزَلْ يُصَلِّي ليلًا ونهارًا لا يَفْتُرُ.
والثاني: أن يكونَ مَصْدَرًا لصابَ يَصوبُ بمعنى : نَزَلَ.
والثالثُ: أن يكونَ مَصْدَرًا لصابَ بمعنى قَصَدَ، كقولِ رَجُلٍ من عَبدِ القَيْسِ يَمْدَحُ النُّعمانَ بنَ الْمُنْذِرِ ( البحر الطويل ):

تَعالَيْتَ أنْ تُعْزَى إلى الإنسِ جُملةً = وللإنسِ مَن يَعْزُوكَ فهو كَذوبُ
فلَسْتَ لإِنْسِيٍّ ولكن لِمَلَاءكٍ = تَنَزَّلُ مِن جَوِّ السماءِ يَصُوبُ

أي: يَقْصِدُ إلى الأرضِ، هذا هو الصوابُ في تفسيرِه، وهو قولُ أبي مُحَمَّدِ بنِ السَّيِّدِ ، وأمَّا قولُ الجوهريِّ، والأعلَمِ، واللخْمِيِّ، والواحديِّ، وغيرِهم أنَّ مَعناه : تَنَزَّلُ، فيَلْزَمُ منه التَّكرارُ، والأكثَرُ أن يُقالَ: أصابَ بالهمزةِ، ومنه قولُه تعالى: { تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصابَ } أي: تَجْرِي لَيِّنَةً سَريعةً حيث أَرادَ، قالَه ابنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنه، ونَقَلَ الزَّجَّاجُ إجماعَ أهلِ اللغةِ والتفسيرِ عليه. قالَ: ومنه قولُهم للمُجيبِ: أَصَبْتَ، أي: قَصَدْتَ الجوابَ، فلم تُخْطِئْهُ . انتهى.
ولا أَدْرِي مِن أينَ اسْتُفِيدَ مَعْنَى قولِه: لم تُخْطِئْه، وإنما الظاهِرُ أنه مِن قولِهم: أَصَبْتُ الشيءَ، إذا وَجَدْتَه، وأنَّ الأَصْلَ: أَصَبْتُ الجوابَ.
وعلى التفسيرينِ فهذا الفِعْلُ قد هَجَرَ مَفعولَه، كما في قولِهم: بَنَى على امرأتِه، أي: قُبَّةً، وأَفَاضُوا مِن عَرَفَاتٍ أي: رَوَاحِلَهم؛ لأنه مُستعارٌ مِن إِفاضةِ الماءِ، وهو صَبُّهُ بكَثرَةٍ، ونَظيرُه في المعنى قولُه :
وسَالَتْ بأَعناقِ الْمَطِيِّ الأباطِحُ
ويُحْكَى أنَّ رَجلينِ قَصَدَا رُؤبةَ بنَ العَجَّاجِ يَسألانِه عن معنى: " أَصابَ " في الآيةِ، فصَادَفَاهُ في الطريقِ، فقالَ لهما: أينَ تُصيبانِ، فرَجَعَا، ولم يَسْأَلَاهُ.
والرابعُ: أن يكونَ بمعنى الصوابِ , كقولِ أَوْسِ بنِ غَلفاءَ ( البحر الوافر ):

ألا قالتْ أُمامةُ يومَ غُولٍ = تَقَطَّعَ بابنِ غَلفاءَ الْحِبَالُ
ذَرِينِي إنما خَطَئِي وصَوْبِي = علَيَّ وإنما أهْلَكْتُ مالُ


أي: وإنَّ الذي أَهْلَكْتُه مالِي لا مالُ غَيْرِي، فحَذَفَ ياءَ الإضافةِ مَنْسِيَّةً، فظَهَرَ إعرافُ ما قَبْلَها , قالَه أبو عمرٍو، وخالَفَه بعضُهم وقالَ: إنما أرادَ: أنَّ الذي أَهْلَكْتُه مالٌ لا عِرْضٌ.
والمرادُ في بيتِ كعبٍ المعنى الأَوَّلُ، وهو مُحْتَمَلٌ لأنْ يكونَ مَنقولًا مِن المعنى الثاني أو الثالثِ.
وجَزَمَ عبدُ اللطيفِ بأنَّ " الصَّوْبَ " في البيتِ مَصدَرٌ، وأنَّ الاسمَ الْمَخفوضَ بإضافتِه في مَوْضِعِ رَفْعٍ على الفاعلِيَّةِ، وليس بشيءٍ، بل هو اسمٌ للمَطَرِ، ولا مَحَلَّ للاسمِ بعدَه، بل هو كزيدٍ في غُلامِ زيدٍ.
قولُه: " ساريةٍ " هي السَّحابَةُ تَأْتِي ليلًا، وهي في الأَصْلِ صِفَةٌ، ثم غَلَبَتْ عليها الاسْمِيَّةُ، وفِعْلُها : سَرَتْ تَسْرِي، ومَصْدَرُه السُّرَى، وهو سَيْرُ الليلِ خاصَّةً، والتأويبُ: سَيْرُ النهارِ خاصَّةً , والإِسْئَادُ بِمُهْمَلَتَيْنِ مَصدَرُ أَسْأَدَتِ الإبِلُ: إذا سارَتْ ليلًا ونَهارًا، والْحِجازِيُّونَ يَقولون: أَسْرَى بالألِفِ، وقد اجْتَمَعَت اللغتانِ في قولِ حَسَّانَ: ( البحر الكامل )
حَيِّ العَشِيَّةَ رَبَّةَ الْخِدْرِ = أَسْرَتْ إِلَيَّ ولم تَكُنْ تَسْرِي
الروايةُ بفَتْحِ حَرْفِ الْمُضَارَعَةِ، وقُرِئَ بهما في السبْعِ { فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ } { أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي } واتُّفِقَ على الْحِجازِيَّةِ في { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا } وإنما ذَكَرَ الليلَ مَعَ اختصاصِ الإسراءِ به، ليُشارَ بتَنكيرِه الدالِّ على التقليلِ والتبعيضِ إلى أنه قَطَعَ به عليه الصلاةُ والسلامُ مَسافةَ أربعينَ ليلةً في بعضِ ليلةٍ، ويُؤَيِّدُه قِراءةُ ابنِ مَسعودٍ وحُذَيْفَةَ، رَضِيَ اللهُ عنهما: " مِنَ اللَّيْلِ " وإنما جازَ في هذه القراءةِ تَعَدِّي " أَسْرَى " بِمَنْ مَرَّتَيْنِ؛ لأنَّ الأُولَى تَبعيضِيَّةٌ، والثانيةَ لابتداءِ الغايةِ.
وتَأْتِي السارِيَةُ بِمَعنى الأُسْطُوَانَةِ
ويُرْوَى " غاديةٍ " بَدَلَ " سارِيَةٍ " وهي السَّحابةُ تأتي بالغَداةِ، وهي أيضًا مِن الصفاتِ الغالِبَةِ عليها الاسْمِيَّةُ، وفِعْلُها: غَدَتْ تَغْدُو.
وقولُه: " بِيضٌ ". فاعلٌ بأَفْرَطَهُ، وهو جَمْعُ أبيضَ أو بَيضاءَ على ما يأتي في تَفسيرِ الْمُرادِ به، وعليهما فأَصْلُه فُعلٌ بضَمِّ الفاءِ، ثم كُسِرَتْ لتَسْلَمَ الياءُ مِن الانقلابِ.
وأمَّا قولُه: " يَعالِيلُ " صِفةٌ لبِيضٌ , ووَزْنُه " يَفَاعِيلُ"؛ لأنه من الْعَلَلِ وهو الشُّرْبُ الثاني، ومُفْرَدُه " يَعلولٌ " قالوا: ثوبٌ يَعلولٌ: إذا عُلَّ بالصِّبْغِ، أي: أُعيدَ عليه مَرَّةً بعدَ أُخْرَى.
واختُلِفَ بالْمُرادِ بالبِيضِ اليَعاليلِ:
فقالَ أبو السَّمْحِ: الْجِبَالُ الْمُرْتَفِعَةُ. والاشتقاقُ لا يُساعِدُه على تفسيرِ اليَعاليلِ بالْمُرْتَفِعَةِ.
وقالَ أبو عَمْرٍو: البِيضُ: السَّحابُ، واليَعاليلُ: التي تَجيءُ مَرَّةً بعدَ أُخْرَى، ولا وَاحِدَ لها كالأبابيلِ، وتابَعَه على تَفسيرِ البِيضِ بالسَّحابِ التِّبْرِيزيُّ، وعبدُ اللطيفِ، وابنُ الأنباريِّ. وغيرُهم، وهو مَردودٌ ؛ لاقتضائِه أنَّ السَّحابةَ السارِيَةَ أَمَدَّت السَّحَائِبَ البِيضَ التي مَلَأَت الأَبْطَحَ، وليس هذا مُرادَ الْمُتَكَلِّمِ، ولا هو الواقِعَ.
وقيلَ : هي الغَدَوَاتُ. وهو بَعيدٌ؛ لأنها ليس في العُرْفِ أنها تُوصَفُ بالبَياضِ , ولا أنها تَمُدُّ الأَبَاطِحَ.
والذي يَظْهَرُ أنها الْجِبالُ الْمُفْرِطَةُ البَياضِ، وأنَّ المعنى : ومَلَأَ هذا الأَبْطَحَ مِن ماءِ سَحابةٍ آتِيَةٍ بالليلِ ماءُ جِبالٍ شَديدةِ البَياضِ ؛ وذلك لأنَّ ماءَ السَّحابةِ يَتَحَصَّلُ أوَّلًا في الْجِبالِ، ثم يَنْصَبُّ منها عندَ اجتماعِه وكَثرَتِه إلى الأَبْطَحِ، وفي هذا الكلامِ تأكيدٌ لوَصْفِ الماءِ بالْبَرْدِ والصفاءِ.
وجَوَّزَ التِّبريزيُّ أن يكونَ " أَفْرَطَهُ " بمعنى تَرَكَه، أي: تَرَكَ ماءُ الْمَطَرِ في هذا الأَبْطَحِ سَحائبَ بيضٍ. قال: ومِن ثَمَّ سُمِّيَ الغَديرُ غَديرًا؛ لأنَّ الْمَسيلَ غَادَرَه، أي: تَرَكَه. يُقالُ: أَفْرَطْتَ القومَ إذا تَرَكْتَهُم وَراءَكَ، ومنه الحديثُ: ((أَنَا فَرَطُكُم عَلَى الْحَوْضِ)) وقولُه تعالى: { وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ } أي: مُؤَخَّرُونَ. انتهَى.
ويَلزَمُ ما قَدَّمْنَا من أنَّ بعضَ السَّحابِ يُسْتَمَدُّ مِن بعضٍ، وأيضًا فلم يَثْبُتْ مَجيءُ " أَفْرَطَهُ " بمعنى تَرَكَه في مَوْضِعٍ، بل جاءَ بمعنى سَبَقَه، وكلُّ مَن سَبَقْتَه فقد خَلَّفْتَه وَراءَك، وليس هذا مِمَّا نحن فيه، وقد تَقَدَّمَ القولُ في تفسيرِ ذلك مُشْبَعًا .

موضوع مغلق

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
البردة, شرح

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع
إبحث في الموضوع:

البحث المتقدم
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 06:41 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir