دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > برنامج إعداد المفسر > إدارة برنامج إعداد المفسر > الدعوة بالقرآن

 
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #6  
قديم 1 شعبان 1445هـ/10-02-2024م, 11:25 PM
الصورة الرمزية صفية الشقيفي
صفية الشقيفي صفية الشقيفي غير متواجد حالياً
هيئة الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Jul 2010
المشاركات: 5,755
افتراضي

مختصر رسالة في تفسير قول الله تعالى: {أفنضرب عنكم الذكر صفحا أن كنتم قوما مسرفين}
الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب نورًا وهدى ليخرج الناس به من الظلمات إلى النور، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، نشهد أنه بلَّغ الرسالة وأدَّى الأمانة ونصح الأمة فكشف الله به غمة من اهتدى بهديه واستن بسنته، أما بعد:
فإنّ الله عز وجل منَّ علينا بنزول القرآن وضمن حفظه كما قال: {إنّا نحنُ نزلنا الذكر وإنّا له لحافظون}
وما زال همُّ المؤمنين به تحصيل بركته والاهتداء بهديه عسى يتحقق في شأننا وعد الله عز وجل، قال الله عز وجل: {قد جاءكم من الله نورٌ وكتاب مبين. يهدي به الله من اتّبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم}
ومن الشقاء أن يكون بين أيدينا كتاب فيه كلام الله عز وجل، وهذا وصفه، ثم لا نتعرض لبركاته، بل نعرض عنه !
وقد منّ الله علي بتدبر سورة الزخرف ووجدت فيها بيانًا عجيبًا لأسباب هذا الإعراض، وإذا عُرف سبب الداء سهل وصف الدواء - بإذن الله-؛ فعزمت على كتابتها في رسالة تفسيرية لقول الله تعالى: {أفنضرب عنكم الذكر صفحا أن كنتم قوما مسرفين} [سورة الزخرف: 5]، رجوتُ منها الحث على الاهتداء بالقرآن في شؤوننا كلها؛ فما كان فيها من صواب فمن الله عز وجل وما كان من خطإ فمني ومن الشيطان.
وسيكون الحديث فيها بإذن الله على أربعة عناصر رئيسة :
1. مناسبة الآية لما قبلها
2. تفسير قوله تعالى: {أفنضرب عنكم الذكر صفحا أن كنتم قومًا مسرفين}
3. صور الإسراف وأسباب الإعراض عن القرآن الواردة في سورة الزخرف
4. الإشارة إلى بعض أسباب ومظاهر الإعراض عن القرآن في عصرنا الحالي.


1. مناسبة الآية لما قبلها:
جاءت هذه الآية في فاتحة آيات سورة الزخرف، وهي من السور المكية التي تميزت بقوة أسلوبها وحججها على المشركين المعاندين المكذبين برسالة النبي صلى الله عليه وسلم
وافتتحت السورة بالحروف المقطعة (حم) لتثير أسماع المشركين وقلوبهم لمسألة أن القرآن نزل بهذه الحروف التي يتخاطبون بها ومع هذا فهم عاجزون عن معارضته والإتيان بمثله فلا وجه لعنادهم وتكذيبهم!
وتأتي الآيات بعد هذه الحروف المقطعة غالبا لتأكيد هذا المعنى، وفي سورة الزخرف قال الله عز وجل مقسما ومؤكدا : {والكتاب المبين}
والكتاب هنا هو القرآن، أقسم به على{إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون. وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم}
فأقسم بالقرآن على القرآن زيادة في التأكيد، لعلهم ينتهون عن عنادهم وتكذيبهم.
وفي الإتيان باسم الكتاب دلالة على القرآن الكريم، في العهد المكي الذي كان فيه استضعاف للمؤمنين عدة دلالات:
الأولى: حفظ الله عز وجل لهذا القرآن، وكان القرآن يُكتب بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم، فيأمر أصحابه من الكُتاب، كلما نزل عدد من الآيات بكتابتها مع تعيين موضعها من السور.
الثانية: بشرى للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بتمام منة الله عز وجل عليه بإنزال القران وجمعه بين دفتين في كتاب.
الثالثة: تعجيز للمشركين الذين يحاولون صد الناس عن سماع القرآن، ودعوتهم للتكذيب به والإعراض عنه.
ثم وصفه الله عز وجل بالمبين، فهو الواضح الذي لا إشكال فيه فيعرضوا عنه، وهو الموضِّح لسبيل الهدى الذي فيه فلاحهم وسعادتهم
ثم بيّن سبحانه المقسم عليه:{إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون}مؤكدًا أيضًا بـ (إنّ)، وأخبر سبحانه عن نفسه بضمير المتكلم (نا) وهو للجمع دلالة على عظمته، فقال: {إنّا جعلناه}، كل هذا تهيئة للنفوس لعلهم يؤمنون.
وفي قوله{إنّا جعلناه قرآنًا عربيًا لعلكم تعقلون} يبين الله عز وجل أنه أنزل القرآن بلغة العرب، وختم الآية ببيان الغاية {لعلكم تعقلون}، والعقل هو ما يمنع الإنسان من التورط فيما يهلكه، وسبيل هذا الفهم والتدبر، ثم العمل بما فهموه وتدبروه !
فكيف إذا كان الفهم والتدبر لكلام الله عز وجل والذي أنزله إلينا بلغة هي من أفصح اللغات، يقرؤه العربي فيجزم أنه كلام الله عز وجل، قرآن بلغته التي يعرفها وبرع في أساليبها وتراكيبها ودلالاتها ومع هذا فهو لا يمكن أن يكون من كلام بشر ولا يقدر على الإتيان بمثله ولا بسورة منه بشر.
ويستدل على هذا بقول أنيس الغفاري -رضي الله عنه-، وكان شاعرًا فلما سمع النبي صلى الله عليه وسلم -قبل إسلامه-، قال عنه:(لقَدْ سَمِعْتُ قَوْلَ الْكَهَنَةِ، فَمَا هُوَ بِقَوْلِهِمْ، وَلَقَدْ وَضَعْتُ قَوْلَهُ عَلَى أَقْرَاءِ الشِّعْرِ، فَمَا يَلْتَئِمُ عَلَى لِسَانِ أَحَدٍ بَعْدِي، أَنَّهُ شِعْرٌ، وَاللهِ إِنَّهُ لَصَادِقٌ، وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) رواه مسلم.
وبحديث جبير بن مطعم رضي الله حين سمع النبي صلى الله عليه وسلم - قبل إسلامه- يقرأ بقوله تعالى:{أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الخَالِقُونَ، أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ، أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ المُسَيْطِرُونَ} " قَالَ: ‌كَادَ ‌قَلْبِي ‌أَنْ ‌يَطِيرَ). رواه البخاري.
وأما غير العرب فإذا سمعوا القرآن وتُرجم لهم معانيه، جزموا أنه من عند الله لما في آياته من سعة المعاني والحكمة والهداية لما في صلاحهم في الدنيا والآخرة، وأخبار إسلام غير العرب بعد تأثرهم بالقرآن متواترة ومشهودة حتى يومنا هذا.
ثم جاءت الآية التالية لتؤكد هذه المعاني فقال تعالى:{وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم}؛ فجاءت مؤكدة بإنّ، واللام الداخلة على الخبر{لعليٌ حكيم}، فيخبر - سبحانه - أن القرآن علي في قدره ومنزلته وصفاته وهذا يستلزم تنزهه عن كل نقص وتناقض وباطل، وحكيم أي محكم لا اختلاف فيه ولا تناقض، وحاكم على الناس في جميع شؤونهم وذو الحكمة البالغة). مستفاد باختصار من كتاب بيان فضل القرآن للشيخ عبد العزيز الداخل.
وفُصل بين اسم إنَّ وهو الضمير في{إنه}والخبر {لعلي حكيم} بالجار والمجرور(في أمِّ الكتاب) والظرف والمضاف (لدينا)، والمقصود بأمّ الكتاب هو اللوح المحفوظ عند الله عز وجل، و{لدينا}أي عند الله عز وجل.
والمقصود أن القرآن عليٌ حكيم عند الله عز وجل؛ فيستفاد من هذا أمران:
الأول:تشريف القرآن الكريم وتعظيمه، كما قال ابن كثير في تفسيره: (وقوله تعالى:{وإنّه في أمّ الكتاب لدينا لعليٌّ حكيمٌ} بيّن شرفه في الملأ الأعلى، ليشرّفه ويعظّمه ويطيعه أهل الأرض)
الثاني:علو مكانة القرآن في ذاته، فالقرآن كلام الله عز وجل، صفة من صفاته، فعظمة القرآن وعلوه من عظمة المتكلم به - سبحانه -؛ فليس يعلو شأنه بكثرة أتباعه، ولا يضره من أعرضوا عنه، بل من أعرض عنه هو الخاسر المبين.
وكيف يتصور أن يعرض الخلق عن القرآن وهذا وصفه؛ كتاب مبين، نزل بأفصح اللغات وأوسعها دلالة، من عند الله عز وجل، عليٌ حكيم، فيه هدايتهم وصلاحهم ونجاتهم من خزي الدنيا والآخرة ؟!
لهذا جاءت الآية التالية بأسلوب استفهامي يقرع القلوب قبل الأذان، قال الله عز وجل: {أفنضرب عنكم الذكر صفحا أن كنتم قوما مسرفين}
تفسير قوله تعالى: {أفنضرب عنكم الذكر صفحا أن كنتم قومًا مسرفين}
هذا الأسلوب أسلوب استفهامي، وللأسلوب الاستفهامي أغراض سنتوقف أمامها بعد بيان معنى الآية بإذن الله.
معنى {نضرب عنكم} أي نترككم ونعرض عنكم، ونضرب عنكم الذكر أي نكفه عنكم.
والذِّكر مصدر، يأتي بمعنى التذكر ضد النسيان، ويأتي كذلك بمعنى الصيت والثناء
وورد في المراد بالذكر في هذه الآية قولان؛ القول الأول: القرآن، والقول الثاني: العذاب والتذكير به.
أما القول الأول: فالذكر من أسماء القرآن، كما قال الله عز وجل: {إنّا نحنُ نزلنا الذكر وإنا له لحافظون}
وتسمية القرآن بالذكر تأتي على معنيين، يرجعان للمعنى اللغوي للكلمة:
الأول: بمعنى التذكير؛ كما قال الله عز وجل: {كلا إنّه تذكرة}؛ فالقرآن يذكر العبد بكل ما ينفعه في الدنيا والآخرة.
الثاني: القرآن له الذكر الحسن والشرف العالي، ومن أثر هذا المعنى أن يرفع أصحابه والمستمسكين به؛ كما قال تعالى: {وإنه لذكر لك ولقومك}، أي لشرف لك.
وأما القول الثاني: العذاب، والتذكير به، ويكون معنى الذكر على هذا القول تذكيرهم بالعذاب لعلهم يعتبرون فيؤمنون، ولا شكَ أن في القرآن تذكير للعباد بالعذاب كما قال تعالى: {فذكّر بالقرآن من يخافُ وعيد}، فهذا القول في حقيقته داخل في معنى القول الأول.
■ معنى {مسرفين}: يأتي السرف على معانٍ عدة في اللغة يجمعها معنى تجاوز الحد، وما روي عن السلف في تفسير المراد بـ {مسرفين} في هذه الآية، أنها بمعنى (مشركين)، قاله قتادة، والشرك فيه تجاوز للحد بصرف العبادة لغير الله عز وجل. وجاءت (مسرفين) على صيغة اسم الفاعل دلالة على لزومهم وصف الإسراف، وثباتهم عليه، أسأل الله السلامة لي ولكم.
■ وأما معنى قوله تعالى:{ أن كنتم قومًا مسرفين}، فهي على معنيين؛ الأول: بسبب كونكم مسرفين، والثاني على معنى الشرط؛ أي إن كنتم قومًا مسرفين نضرب عنكم الذكر صفحا.
إذا اتضح ما سبق يمكننا فهم معنى الاستفهام في الآية وغرضه، ومن خصائص اللغة العربية أن الجملة الواحدة يمكن أن تأتي على تركيب معين لتفيد عدة معان؛ فتجمع بين وجازة اللفظ الذي ييسر حفظها وكثرة المعنى، وهكذا جاءت هذه الآية؛ فجاء الاستفهام فيها على ثلاثة معان:
الأول: أفنعرض عنكم فلا ننزل عليكم الذكر (القرآن) إعراضًا عنكم، فالاستفهام هنا للتهديد والتقريع والتوبيخ، تهديد لهم برفع القرآن عنهم، ومناسبة هذا القول الآيات التي افتُتحت بها السورة كما سبق بيانه.
الثاني: أفنعرض عنكم فلا نعذبكم عفوًا عنكم لأن كنتم قومًا مسرفين، أو إن كنتم قومًا مسرفين، والاستفهام هنا للتهكم، فهم يستحقون العذاب لإعراضهم، ومناسبة هذا القول أن الله عز وجل أخبر بهلاك الأمم السابقة في الآيات التالية، قال الله عز وجل: {وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (6) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (7) فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (8)} سورة الزخرف.
القول الثالث: أتحسبون أن إعراضكم عما نزل من الكتاب يبعثنا على أن نقطع الذكر عنكم؛ فالغرض من الاستفهام هنا الإنكار.
وهذا القول مستفاد بأن الله عز وجل أتم نعمته على عباده بنزول القرآن ولم يؤاخذ الأمة بإعراض الكفار عنه وإسرافهم، وذلك ليهتدي به اتبعه وتقوم الحجة به على من أعرض عنه.
ومما سبق بيانه نستفيد أن الآية جاءت على وجازة ألفاظها جامعة بين الترغيب والترهيب؛ فما بين الترغيب بأن الله عز وجل أتم علينا نعمته بنزول القرآن ولم يعاقب الأمة بإعراض مشركي قريش عنه، على معنى الاستفهام الإنكاري، ففيها أيضًا تهديد ووعيد بأن يحرموا نعمة التذكر بالقرآن والشرف والرفعة به إن هم أصروا على الإعراض عنه، وأي تذكر أعظم من ذكر العذاب الذي يمنع المرء من مواصلة إسرافه وجهله؛ فإن من أيقن أن عاقبة أمره العذاب، عقل ومنع نفسه من التورط فيما يهلكه، ومن الغرور الظن بأن يعرض المرء عن القرآن ومواعظه وزجره ونهيه ثم يرجو ألا يناله العذاب ولو بحرمانه بركة هذا القرآن في الدنيا !
وأما الأقوال في معنى قوله تعالى:{أن كنتم قومًا مسرفين}؛ على معنى التعليل (لأن كنتم قومًا مسرفين) أو معنى الشرط (إن كنتم قومًا مسرفين)، أي سواء تحقق منكم هذا الإسراف فعلا، أو إن تحقق منكم مستقبلا، فأنتم داخلون في هذا الوعيد؛ فلا يأمن أحد أبدًا مكر الله عز وجل، ويحرص على التوبة، وسؤال الله الثبات فالقلوب متقلبة، ويستمسك بذكر الله عز وجل ما كانت فيه حياة وإلا فإن ركن للقوم المسرفين فهو متوعد بهذا الوعيد الشديد :{أفنضرب عنكم الذكر صفحًا أن كنتم قومًا مسرفين}، وإنه لشديد على من عظَّم القرآن وقدّره قدره، وذاق حلاوة تلاوته وتدبره والاهتداء بنوره في ظلمات الشبهات والشهوات.
ثم جاءت آيات سورة الزخرف مبينة لصور هذا الإسراف، مقيمة الحجة على كل من أعرض عن القرآن على اختلاف صور هذا الإعراض وأسبابه، منذرة لمن أعرض ومبشرة لمن استمسك بالقرآن؛ وذلك في نظم بديع، لا يمكن أن يكون إلا من الحكيم العليم، كما قال الله - عز وجل - لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وإنّك لتُلقى القرآن من لدن حكيم عليم} [سورة النمل: 6]
صور الإسراف وأسباب الإعراض عن القرآن الواردة في سورة الزخرف
جاءت الآيات في فاتحة سورة الزخرف بأسلوب الخطاب كما في قوله تعالى: {أفنضرب عنكم}، زيادة في تقريعهم، منذرةً لهم مغبة إعراضهم عن القرآن مبشرة لهم بحصول الشرف والرفعة والنجاة من العذاب إن هم تذكروا به
ثم جاءت الآيات بعدها مسلية للنبي صلى الله عليه وسلم، مذكرة له بالرسل من قبله واستهزاء أقوامهم بهم، ومنذرة للمشركين ببيان جزاء المكذبين، قال تعالى: {وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (6) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (7) فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (8)}
ثم عادت الآيات للحديث عن المشركين لبيان أسباب إعراضهم، ولكن بأسلوب الغيبة، التفاتًا من أسلوب الخطاب
والالتفات من الخطاب في قوله تعالى: {أفنضرب عنكم} إلى الغيبة في قوله تعالى: {ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض} فيه بيان الإعراض عنهم كما أعرضوا عن القرآن، والله المستعان.
وسأجمل بيان ما رأيته من أسباب وردت في آيات سورة الزخرف، وبيان مناسبة هذه الآيات لمطلع السورة، وإن كان حق هذه الآيات إطالة الوقوف أمامها وتدبرها واستخراج هداياتها ومقاصدها للعمل، وأسأل الله التوفيق والسداد.
■ الانشغال بالنّعم عن شكر المنعم بها:
قال الله عز وجل: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (10) وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (11) وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ (12) لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13) وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ (14)}
فبيّن الله عز وجل في هذه الآياتِ عددًا من النعم على عباده، وبين إقرار المشركين بأنها من عند الله عز وجل، وذكرهم باسميه (العزيز العليم) واللذين يتضمنان كمال قدرة الله عز وجل وقهره وتنزهه عن كل نقص وإحاطة علمه بما فيه صلاح عباده ومنفعتهم، وكان حق هذه النعم شكر المنعم وإفراده بالعبادة وتعظيم كلامه الذي أنزله إليهم، وتذكر ما فيه من الآيات وأهمها البعث، كما جاء في ختام هذه الآيات: {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13) وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ (14)}
أي إذا استوى المرء على الفلك (السفن) أو أي من الدواب التي سخرها الله عز وجل لنا لننتقل بها من مكان لآخر، فينبغي أن يتذكر أنه لا طاقة له لتسخيرها إلا بالله، وهذا معنى (وما كنا له مقرنين)، ثم يتذكر أنه راجع إلى ربه، ويسأله عن شكره لهذه النعم {وإنا إلى ربنا لمنقلبون}
لكن الإنسان الكفور أي كثير الجحود، أعرض عن ذكر ربه بل وأشرك معه غيره وادعى له النقص والحاجة للولد.
كما قال تعالى: {وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (15)} وجاء في تفسير المراد بـ {جزءًا} قولان لا يتعارضان:
الأول: ولدًا وبناتًا من خلقه، وذلك أن المشركين قالوا إن الملائكة بنات الله.
والثاني: نصيبًا، وهذا المعنى أعم من القول الأول فهو يشمل كل شرك، بصرف العبادة لغير الله عز وجل، أو صرف معاني الربوبية لغيره، أو ادّعاء الأولاد والبنات لله سبحانه.
وفي الآيات التالية ردٌ على ادّعائهم البنات لله عز وجل، وتوبيخٌ لهم على بغضهم للبنات وانتقاصهم لهم ثم مع هذا يدعون أن الملائكة بنات الله، ثم تفنيد لشبهة أن الملائكة إناث؛ فهم لم يشهدوا خلقهم ليعلموا إن كانوا إناثًا أو لا {أشهدوا خلقهم} وسيسألهم الله عز وجل عن ادعائهم هذا {ستُكتب شهادتهم ويسألون}
ولما لم تدع الآيات لهم أي مخرج في عبادتهم الملائكة من دون الله عز وجل، قالوا:
{لو شاء الرحمن ما عبدناهم}فجاءت الحجة من الله عز وجل تفنيدًا لشبهتهم:
أولا: أنهم لا يعلمون علم الله عز وجل، ليدعوا أن الله عز وجل يرضى منهم أن يشركوا به شيئا !
قال : { وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (20)}، بل حاصل ادعاءاتهم كذبًا وبهتانًا {إن هم إلا يخرصون}.
ثانيًا: أن الله عز وجل لم ينزل إليهم كتابًا فيه الأمر باتخاذ الشركاء من دون الله، فإذا أنزل إليهم كتابًا فلهم أن يستمسكوا به، قال: {أَمْ آَتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (21)}، فكيف والكتاب الذي أنزله إليهم يأمرهم بعبادة الله عز وجل وحده وألا يشركوا به شيئًا؛ فلماذا يعرضون عنه
ومن هنا يأتي السبب الثاني في إعراضهم، وهو تعلقهم بالآباء والأجداد، قال تعالى: {بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22)}، و{بل} هنا للإضراب الإبطالي، أي تبطل أن يكون لديهم علم فيما قالوا، أو أن يكون الله عز وجل أنزل إليهم كتابًا يأمرهم باتخاذ الشركاء من دونه، وإنما حقيقة الأمر هو تعلقهم بالآباء والأجداد، ويكشف لهم القرآن حقيقتهم أمام أنفسهم، كيف لا؛ وهو كلام العليم بذات الصدور.
■ التعلق بالآباء والأجداد:
قال الله عز وجل: {بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22) وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آَبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (24) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (25) }
في هذه الآيات يبين سبحانه أثر التعلق بالآباء والأجداد والتمسك بما كانوا عليه من باطل، وأنه سنة المكذبين من قبل النبي صلى الله عليه وسلم، يهتدون بهدي آبائهم المشركين ويقتدون بهم.
فأمر الله عز وجل أن يرد عليهم بقوله: {قال أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم}، فإن كان زعمهم أنهم يجدون في دين آبائهم الهدى، ففيما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم ما هو أهدى منه
إن كانوا حقًا يريدون اتباع الهدى !
لكن حقيقة الأمر هو شدة التعلق بآبائهم وأجدادهم حتى أعماهم عن رؤية الحق واتباعه وقالوا: {إنا بما أرسلتم به كافرون}
فردّ الله عليهم ببيان حال نبيه وخليله إبراهيم عليه السلام، وهم يعرفونه معرفتهم بالبيت الحرام الذي ما زالوا يتنعمون به؛ فبيّن هدي إبراهيم عليه السلام لعلهم يهتدون به، وهم من ذريته
قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27) وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (28)}
فبيّن الله عز وجل تبرؤ إبراهيم من أبيه وقومه لشركهم بالله عز وجل، فعليهم أيضًا أن يتبرؤوا من آبائهم وشركهم.
وبيّن تمسكه بعبادة الله عز وجل وحده {إلا الذي فطرني فإنه سيهدين}
وفي التعبير عن الله عز وجل بوصف {الذي فطرني} بيان أنه هو الذي ابتدأ خلقه وابتداء خلقه على التوحيد
وبيّن أن في تبرئه من الشرك وعبادته لله وحده، تحقيق الهداية {فإنه سيهدين}
وبيّن أن إبراهيم عليه السلام جعل كلمة التوحيد هذه في عقبه (ذريته) لعلهم يرجعون إليها، فإذا كان المشركون مستمسكون بما كان عليه آباءهم فالأولى أن يستمسكوا بما كان عليه إبراهيم عليه السلام والمؤمنون من ذريته، وهم من آبائهم !
لكنهم لم يفعلوا والسبب فتنة طول الأمد، كما بينتها الآيات التالية.
■ فتنة طول الأمد
قال الله عز وجل: {بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلَاءِ وَآَبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ (29) وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ (30) }
ومعنى {متعت هؤلاء وآباءهم} أي بقوا فترة طويلة من بعد إسماعيل عليه السلام إلى زمن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأتهم من الله وحي ولم يرسل إليهم رسولا؛ وهذا أدعى أن يقبلوا على الحق الذي يأتيهم من الله عز وجل ويستمسكوا به خاصة إذا كان الرسول منهم، وإذا كان مبينًا يبين لهم ما يحتاجونه وما آتاهم به واضحٌ لا إشكال فيه
لكنهم ولما طال عليهم الأمد في متاع الدنيا نسوا الله عز وجل ونسوا يوم الحساب وكذبوا به، فلما جاءهم الرسول بالحق أي بالقرآن من عند الله عز وجل، كفروا به، وقالوا بأن القرآن سحر!
وأمام اتهام جديد لا حقيقة له، لم تأت الآيات للرد المباشر على هذه التهمة بل عطف عليها قول {وقالوا لولا أُنزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم}، لتضعهم مرة أخرى أمام حقيقة أنفسهم وما يخفونه في صدورهم وتبين سببا من أسباب إعراضهم عن القرآن، ألا وهو حسد النبي صلى الله عليه وسلم.
■ الحسد:
قال الله عز وجل: {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْءانُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32)}
أي لو أن القرآن نزل على شخص آخر غير النبي صلى الله عليه وسلم، عظيم المال، والجاه، لآمنوا به، وسموا رجلين شريفين عندهم من أهل مكة والطائف؛ فهل هناك دليل على حسدهم للنبي صلى الله عليه وسلم أكبر من هذا؟!
فردّ الله عليهم بأسلوب استفهامي استنكاري: {أهم يقسمون رحمة ربك}
والدليل على أنهم ليس لهم شيء من رحمة الله عز وجل اختلاف درجات معيشتهم في الحياة الدنيا، {نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات}
واحتياج كل طائفة منهم للأخرى فالغني يحتاج الفقير ليستعمله في أعماله، والفقير يحتاج مال الغني
ثم جاء ختام الآية {ورحمة ربك خير مما يجمعون} أي ما أنزله الله عز وجل من القرآن خير مما يجمعونه من متاع الحياة الدنيا وأولى بهم أن يتمسكوا به
لكنهم اغتروا بمتاع الحياة الدنيا الزائل، وجاءت الآيات بعد هذا تبين هذا المعنى وتبين سببًا آخرًا من أسباب الإعراض عن القرآن.
■ الاغترار بالحياة الدنيا:
قال الله عز وجل: {وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (33) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ (34) وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35)}
أي لولا أن يكون الناس كلهم أمة واحدة في الكفر فيجتمعون عليه لجعل الله عز وجل أهل الكفر كلهم من أهل الغنى وبسط عليهم متاع الحياة الدنيا من البيوت العالية المزينة بالفضة، ذات الأبواب والسرر والزخارف
لكن الله برحمته جعل أهل الكفر على درجات من متاع الحياة الدنيا وأذاقهم من البلاء ما يبتلي به المؤمنين على اختلاف في جزاء كل منهم فابتلاء المؤمن تطهير له ورفع لدرجته وابتلاء الكافر عذاب له لعله يرجع إلى ربه
ومع أن أهل الكفر معذبون بكفرهم في الحياة الدنيا ومشاهد عذابهم واضحة لكل ذي عقل، إلا أن قلوب بعض الناس ما زالت معلقة بما لدى بعضهم من متاع الحياة الدنيا حتى يبيع المرء دينه بعرض زائل، ويعرض نفسه وأهله وأولاده لفتن عظيمة في سبيل متاع قليل من زينة الحياة الدنيا
قال الله عز وجل في ختام هذه الآيات: {وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا والآخرة عند ربك للمتقين}
فمن يشتري متاع زائل بنعيم دائم ؟!
وهل هذا إلا إصرار على حجب النفس عن نور الحق وذكر الله عز وجل؟!
لهذا جاءت الآيات التالية ببيان سبب آخر وهو أيضًا نتيجة لكل ما سبق.

■ الإعراض عن ذكر الله عز وجل
{وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37) حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38) وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (39) }
الفعل {يعشُ} من عشى يعشو عشوًا، أي عشى العين إذا ضعف البصر.
وغالب الأمر أن ضعف البصر لا يكون بإرادة الإنسان، لكن الله عز وجل في هذه الآية أسند إليهم الفعل {ومن يعش عن ذكر الله} لأنهم أعرضوا عن ذكر الله، فكأنهم يتعامون عنه، وجاءت الجملة بأسلوب الشرط، وجاء الفعل مضارعًا دلالة على تجدده منهم، فهم في إعراض مستمر، وجاء جواب الشرط ببيان جزاء فعلِهم {نُقَيض له شيطانًا فهو له قرين}
زيادة في غوايته وجزاء له على إصراره على الإعراض عن القرآن يكون له قرينًا من الشياطين يصده عن سبيل الله عز وجل
{وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم لمهتدون}
ومن ضلال المعرض عن القرآن أنه يزين إليه فعله حتى يظن أنه على الهداية، فإذا جاء يوم القيامة وجد عاقبة فعله فتبرأ من قرينه !
{حتى إذا جاءنا قال ياليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين. ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون}
قوله: {أنكم في العذاب مشتركون} مصدر مؤول في محل فاعل {ينفعكم}؛ أي لن ينفعكم اشتراككم في العذاب؛ فالعادة أن الإنسان يتأسى ويخف ألمه إذا وجد من يشاركه هذا الألم، لكن يوم القيامة، لن يخفف من ألمهم اشتراكهم في العذاب والعياذ بالله.

ثم جاءت الآيات بعد ذلك وفيها مواساة للنبي صلى الله عليه وسلم وتسلية له، وبيان لعاقبة من أعرض عن القرآن، وتذكيرللجميع بالاستمساك بهذا القرآن وبشرى لمن استمسك به بأنه رفعة لهم، وإنذار لمن أعرض عنه بأنه سيسأل عن شكر هذه النعمة، وفي هذا مقابلة بالجمع بين الترغيب والترهيب لعل القوم يعتبرون ويؤمنون.
قال تعالى: {أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (40) {فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (41) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (42) فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (43) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ}
وأعد قراءة هذه الآيات مرة بعد أخرى حتى يعيها قلبك
{ فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (43) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ}
وعلى سبيل تنويع الحجج على العباد جاء السبب التالي ببيان قصة فرعون وقومه مع موسى عليه السلام، وفيها إيماء لسبب آخر من أسباب الإعراض عن القرآن.


■ الفسق:
قال الله عز وجل: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآَيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (46) فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآَيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ (47) وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آَيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (48) وَقَالُوا يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ (49) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (50) وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ (51) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ (52) فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (54) فَلَمَّا آَسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (55) فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآَخِرِينَ (56)}
تأمل هذه الآيات جيدًا ففيها مقابلة بين ما بعث الله عز وجل به موسى عليه السلام من الآيات والبراهين على صدق رسالته، وبين حجج فرعون التي نادى بها في قومه، ثم تأمل كيف أعرض قوم فرعون عن الآيات التي جاء بها موسى عليه السلام، وأطاعوا فرعون، والعلة التي بينها الله عز وجل سببا لهذا التصرف العجيب منهم.
أما الآيات التي جاء بها موسى عليه السلام؛ فقد بيّن الله عز وجل أنه أيده بالآيات، وأن قوم فرعون قابلوها بالاستهزاء فزادهم الله عز وجل بيانًا بأن أيد موسى عليه السلام بمزيد من الآيات
{وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آَيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا}
فلما ازدادوا إعراضًا أخذهم بالعذاب إنذارًا لهم لا إهلاكًا لعلهم يرجعون
{وأخذناهم بالعذاب لعلهم يرجعون}
وهذا العذاب فسرته آية سورة الأعراف: {وقالوا مهما تأتنا به من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين. فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقُمّل والضفادع والدم آيات مفصلات فاستكبروا وكانوا قومًا مجرمين}
فلما أرهقهم هذا العذاب سألوا موسى أن يدعو الله عز وجل ووعدوا بأن يؤمنوا، {وقالوا يا أيها الساحر ادع لنا ربك بما عهد عندك إننا لمهتدون}
وقولهم: {يا أيها الساحر} فيها استهزاء وكشف لما يضمرونه في قلوبهم.
ومع كشف الله عنهم العذاب كان حريًا بهم أن يؤمنوا، إلا أنهم كذبوا ونكثوا العهد.
وجاء سياق الآيات هنا عجيبًا، فلم يبين الله عز وجل انتقامه منهم هنا -كما هو سياق سورة الأعراف-، بل جاءت الآيات لتبين مقالة فرعون وحججه التي بها أضل قومه
قال الله عز وجل: {وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ (51) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ (52) فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53)}
إذا حجج فرعون:
الأولى: أن له ملك مصر، ويقصد أن له كامل التصرف في ملكه هذا، ويكذبه عجزه عن رفع العذاب عن قومه حتى دعا لهم موسى عليه السلام.، فكشف الله عنهم العذاب.
الثانية:{وهذه الأنهار تجري من تحتي}، ويكذبه ابتلاء الله عز وجل لهم بالطوفان، والدم.
الثالثة: اتهامه لموسى عليه السلام بأنه مهين وضيع، وأنه خير منه، ويكذبه سؤالهم له الدعاء حتى يُرفع عنهم العذاب.
الرابعة: اتهامه لموسى عليه السلام بأنه {لا يكاد يبين} أي ليس فصيحًا وفي لسانه عقدة، وهو إن كان كذلك إلا أن فرعون عجز عن مجاراته في الحجج التي أقامها عليه.
الخامسة: قوله: {فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب أو جاء معه الملائكة مقترنين}
فيكون من أهل الغنى في الدنيا، أو يؤيده الملائكة، وهذا دليل عجز فرعون عن إيجاد حجة يكذب بها موسى عليه السلام فهو لم يسلط حجته على إبطال الآيات التي جاء بها موسى، وإنما عرض إلى حجج ضعيفة واهية.
ومع كل هذا استخف فرعون قومه فأطاعوه !
كيف يمكن أن يعرضوا عن الحق المبين ويطيعوا فرعون ؟!
سبب ذلك كما قال الله عز وجل: {إنهم كانوا قومًا فاسقين}
والفسق لغة هو الخروج، يقال فسقت الرطبة إذا خرجت عن القشرة، وشرعًا هو الخروج عن طاعة الله عز وجل؛ فمنه الفسق الأصغر بالمعاصي مع بقاء المرء على التوحيد، والفسق الأكبر بالشرك والعياذ بالله.
وفي هذا إيماء إلى أن الفسق سبب للإعراض عن القرآن والله أعلم، وكلما عظم قدر الفسق في قلب العبد كلما زاد إعراضه والعياذ بالله والهداية منه سبحانه.
ثم جاءت الآيات بعد ذلك وفيها حديث عن مشركي العرب مرة أخرى، وبيان لسبب آخر من أسباب إعراضهم عن الحق ألا وهو الجدال بالباطل.

■ الجدال بالباطل:
قال تعالى: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57) وَقَالُوا أَآَلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58)}
روى الإمام أحمد في مسنده والطحاوي في مشكل الآثار من طريق عاصم بن بهدلة عن أبي رزين عن أبي يحيى عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: آية في كتاب الله لا يسألني الناس عنها ولا أدري أعرفوها فلا يسألوني عنها أم جهلوها فلا يسألوني عنها؟ قيل: وما هي؟ قال: آية لما نزلت{إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون}[الأنبياء: 98]شق ذلك على أهل مكة وقالوا: شتم محمد آلهتنا فقام ابن الزبعرى فقال: ما شأنكم؟ قالوا: شتم محمد آلهتنا قال: وما قال؟ قالوا: قال: {إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون}[الأنبياء: 98] قال: ادعوه لي، فدعي محمد صلى الله عليه وسلم فقال ابن الزبعرى: يا محمد هذا شيء لآلهتنا خاصة أم لكل من عبد من دون الله؟ قال: " بل لكل من عبد من دون الله عز وجل " قال: فقال: خصمناه ورب هذه البنية، يا محمد ألست تزعم أن عيسى عبد صالح وعزيرا عبد صالح، والملائكة عباد صالحون، قال: " بلى "، قال: فهذه النصارى يعبدون عيسى وهذه اليهود تعبد عزيرا وهذه بنو مليح تعبد الملائكة، قال: فضج أهل مكة فنزلت: {إن الذين سبقت لهم منا الحسنى}[الأنبياء: 101] عيسى وعزير والملائكة {أولئك عنها مبعدون} [الأنبياء: 101] قال: ونزلت: {ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه ‌يصدون}[الزخرف: 57]) اهـ.
ومعنى يصدون أي يضجون.
والشاهد من هذه الآيات هو قوله تعالى: {ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصِمون}
فهم ما أرادوا من سؤالهم إلا التعنت والجدال بالباطل ولو أرادوا الوصول للحق لاهتدوا بإذن الله، ولكنهم قوم خصمون.
وخصِم: صيغة مبالغة من خصَم، على وزن فعِل، فهو كثير الخصومة.
ثم جاءت الآيات بعدها لترد على شبهتهم وتبين أن عيسى عليه السلام عبد الله عز وجل أنعم عليه بالنبوة واختلاف الناس فيه ما بين مكذب بدعوته وغال في أمره حتى عبده، ومن صدق به وآمن به، وأن الأولى بالعرب أن يؤمنوا برسالته ويصدقوه ويصدقوا النبي صلى الله عليه وسلم؛ فعيسى عليه السلام علم على يوم القيامة بخروجه عليه السلام في آخر الزمان؛ كما قال الله عز وجل: {وإنه لعِلم للساعة فلا تمترن بها واتبعون هذا صراطٌ مستقيم}
وإذا كانوا مع كل هذه الآيات لا يؤمنون؛ فكيف إذا جاءتهم الساعة بغتة؟
هل ينفعهم عنادهم وتكذيبهم؟، أم هل ينفعهم تعلقهم بآلهتهم وآبائهم وأجدادهم ومتاع الحياة الدنيا وزينتها؟
قال الله عز وجل:{هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (66) الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ (67)}
وإذا كان هذا حال الأخلاء الذين هم في أعلى درجات الصحبة، يصبحون أعداء يوم القيامة إلا المتقين؛ فهل من العقل أن يشتري المرء متاع الدنيا الزائل بالآخرة؟!
جاءت الآيات بعد ذلك بمقابلة بين أهل الجنة وبيان نعيمهم فيها، وأهل النار وبيان شدة عذابهم وأنه لا ينفعهم يومئذ شيء ثم تأكيد على أن الله عز وجل عليم بذات الصدور وما يدبره أعداء الله عز وجل للصد عن دعوة النبي صلى الله عليه وسلم: {أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (79) أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (80)}
وجاء ختام سورة الزخرف تأكيدًا لما جاء في أولها، من تنزيه الله عز وجل عن كل نقص من الولد والشركاء وإثبات تمام الملك له ونفي كل وسيلة ينتصر بها المشركون من دونه
قال الله عز وجل: {{قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَٰنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ (81) سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (82) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (83) وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (84) وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (85) وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (86)}
وتكرار السؤال على المشركين بعدما قامت عليهم الحجة: {ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله}، لكن ختام الآية جاء مختلفًا؛ فقال عز وجل: {فأنى يؤفكون} ومعنى يؤفكون أي يصرفون عن الحق.
وكيف يصرفون عن الحق بعد كل هذا البيان؟
فناسب ختام السورة بشكوى النبي صلى الله عليه وسلم وتضرعه لربه: {وقيلِهِ يارب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون}، فيسليه ربه، وينذر قومه: {فاصفح عنهم وقل سلام فسوف يعلمون}
وحُذف متعلق العلم للعموم؛ فسوف يعلمون أنك على الحق وهم على الباطل، وسوف يعلمون عاقبة تكذيبهم وعنادهم، وسوف يعلمون خسارة إعراضهم عن القرآن.
4. الإشارة إلى بعض أسباب ومظاهر الإعراض عن القرآن في عصرنا الحالي.
بالنظر للأسباب السابق ذكرها لا يخفى عليكم مناسبتها لمعنى كلمة (مسرفين) وأن فيها جميعًا تجاوز للحد إما بكفر النعمة وعدم شكرها أو التعلق بالمخلوقات من دون الله عز وجل أو التعلق بالحياة الدنيا وزينتها والمعاصي أو مجاوزة الحد بالحسد أو الجدال بالباطل.
فعلى سبيل المشاكلة؛ إذا أتى بعض المسلمين بدرجة من هذه الأعمال، مثل التعلق الأصغر بالحياة الدنيا والإسراف في المعاصي والجدال بالباطل، والغفلة عن شكر نعم الله عز وجل، درجة لا تخرجهم من دين الله عز وجل لكنها تحرمهم بركة القرآن والانتفاع به ونعيم الطمأنينة بذكر الله عز وجل، وعزة الركون إليه سبحانه.
وأما مظاهر الإعراض عن القرآن فقد أجملها ابن القيم رحمه الله في الفوائد في خمسة أنواع: (‌هجر ‌القرآن أنواع:
أحدها هجر سماعه والإيمان به والإصغاء إليه
والثاني هجر العمل به والوقوف عند حلاله وحرامه وإن قرأه وآمن به
والثالث هجر تحكيمه والتحاكم إليه في أصول الدين وفروعه واعتقاد أنه لا يفيد اليقين وأن أدلته لفظية لا تحصل العلم
والرابع هجر تدبره وتفهمه ومعرفة ما أراد المتكلم به منهوالخامس هجر الاستشفاء والتداوي به في جميع أمراض القلب وأدوائها فيطلب شفاء دائه من غيره ويهجر التداوي به، وكل هذا داخل في قوله {وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا} وإن كان بعض الهجر أهون من بعض) اهـ.
وسأركز حديثي على ثلاثة مظاهر من مظاهر الإعراض عن القرآن تعظم فاقة الأمة بها، ويعظم حاجة الناس إلى بيان هدي القرآن في هذه المسائل:
الأولى: الإعراض عن القرآن في الاستشفاء من أدواء القلوب وعلل النفوس، والإقبال على شتى مدارس العلاج النفسي المستوحاة من الشرق أو الغرب !
قال الله عز وجل: {يا أيها الناس قد جاءتكم موعظةٌ من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين}
والموصوف بهذه الصفات العظيمة هو القرآن؛ فإن كان الله عز وجل هو من وصفه بأنه شفاء لما في الصدور، لماذا تُعرض عنه وتقبل على كل زخرف من القول؟!
في القرآن حديث عن الحزن والخوف والغضب والأسف والأسى واليأس والقنوط وغيرها، وفيه حديث عن الفرح والسعادة والطمأنينة والأمن والرضا والصبر والشكر والهدى وغيرها، ما لو تأملنا الآيات التي وردت في سياقها وأمر الله عز وجل فيها، لعلمنا سبيل التعافي من علل النفوس وأدواء القلوب فإذا عملنا به وجدنا الشفاء بإذنه تعالى.
فأيهما خير؟!
منهج اللطيف الخبير العليم بذات الصدور، أم منهج الشرق المشرك المستوحى من البوذية والغرب الملحد الذي يقدس المادية ويؤله النفس من دون الله؛ ما لكم كيف تحكمون!
الثانية: الإعراض عن حجج القرآن وبراهينه في الدعوة إلى الله عز وجل:
تتنوع الحجج التي يستعملها الدعاة إلى الله عز وجل في دعوة غير المسلمين، أو الرد على الشبهات التي يُقصد بها فتنة المسلمين، ولا شك أن إحداث التكامل بين أنواع الحجج أفضل، لكن حديثي هنا عن الإسراف في تناول الحجج المنطقية والفلسفية، والإعراض عن حجج القرآن وفيها من الجمع بين مخاطبة الفكر والوجدان ما هو أكثر تأثيرًا من أي حجة أخرى، وسبق الإشارة لقصة إسلام جبير بن مطعم رضي الله عنه.
وقال الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: {فلا تطع الكافرين وجاهدهم بهِ جهادًا كبيرًا}، ومرجع الضمير في (بهِ) إلى القرآن، وكم سمعنا من قصص إسلام غير العرب بعد قراءتهم ترجمة معاني القرآن وكيف تأثر كل منهم بآية مختلفة أزالت عنه شكوكه وأقامت عليه الحجة
تأثر أحدهم بقصة آدم عليه السلام في سورة البقرة وبيّن كيف أرشدته إلى الغاية من الخلق وأنقذته من الإلحاد
وتأثر آخر بسورة الإخلاص، ولو سمعت ما فهمه من معانيها، وكيف أزالت شبهات الشرك كلها وأقامت عليه حجة وحدانية الله عز وجل، حتى قال عند قراءته للسورة - ما ترجمته - (هذه غيّرت حياتي)
بل إن أحدهم أسلم لمّا تعلم قول الله عز وجل: (واقتلوهم حيث ثقفتموهم …) الآيات.، لما رأى فيها من عزة الإسلام وعدله وأن دعوته للحرب ليست إلا لإقامة الحق لا لمجرد إراقة الدماء.
فلماذا نعرض عن هذا الحق المبين، وننشغل بإثبات مقدمات ونتائج منطقية معقدة وما في القرآن من حجج أهدى وأوضح وأقوى دلالة على الحق! قال تعالى: {ما فرطنا في الكتاب من شيء}

الثالثة: الإعراض عن تعليم الأبناء معاني القرآن فضلا عن ظاهرة الإعراض عن تعليمهم القرآن أساسًا:
وكان منهج الصحابة رضوان الله عليهم في تعلم القرآن، هو تعلم ألفاظه ومعانيه؛ بل لا يتجاوزون العشر آيات حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل، وأما منهجنا فهو التباهي بمقدار الحفظ وسرعته.
قال عبد الله بن عمر- رضي الله عنهما- : " لقد عشنا برهة من دهر وأحدنا ‌يؤتى ‌الإيمان ‌قبل ‌القرآن وتنزل السورة على محمد صلى الله عليه وسلم فيتعلم حلالها وحرامها وآمرها وزاجرها وما ينبغي أن يوقف عنده منها كما تعلمون أنتم اليوم القرآن ثم لقد رأيت اليوم رجالا يؤتى أحدهم القرآن قبل الإيمان فيقرأ ما بين فاتحته إلى خاتمته ، ولا يدري ما آمره ، ولا زاجره ، ولا ما ينبغي أن يوقف عنده منه وينتثره نثر الدقل "رواه الطحاوي في مشكل الآثار والبيهقي في السنن الكبرى والحاكم في مستدركه.
والدقل تمر رديء، إذا نُثِر تفرق ولا يتلاصق.
وعبد الله بن عمر من صغار الصحابة، أسلم مع أبيه وهاجر معه، وتوفي النبي صلى الله عليه وسلم وعُمرُه أربع وعشرون سنة أي أنه ابتدأ تعلم القرآن تقريبًا قبل سنة أربعة عشر سنة، ولم يكن قد ختم حفظه مع وفاة النبي صلى الله عليه وسلم.
فتأملوا الفرق البيّن بين طريقتنا في تعليم أبنائنا القرآن وطريقة الصحابة رضوان الله عليهم، تعلموا من أين أُتِينا!أختم بهذا، وما كان من توفيق فمن الله وحده وما كان من خطإ فمني ومن الشيطان.
والله المستعان وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلا به.

رد مع اقتباس
 

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
رسالة, في


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 08:12 AM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir