دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > السلوك والآداب الشرعية > متون الآداب الشرعية > منظومة الآداب

 
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #2  
قديم 14 ذو الحجة 1429هـ/12-12-2008م, 03:29 PM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,453
افتراضي غذاء الألباب للشيخ: محمد بن أحمد السفاريني

‏(‏وَإِرْسَالُ‏)‏ أَيْ إطْلَاقُ وَتَسْلِيطُ ‏(‏طَرْفِ‏)‏ أَيْ عَيْنِ ‏(‏المَرْءِ‏)‏ بِتَثْلِيثِ المِيمِ‏:‏ الإِنْسَانُ أَوْ الرَّجُلُ وَلَا جَمْعَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ، وَمَا قِيلَ إنَّهُ جَمْعُ مُرْءُونَ فَشَاذٌّ، وَالأُنْثَى مَرْأَةٌ وَيُقَالُ مَرَةٌ وَالِامْرَأَةُ ‏.‏ وَفِي امْرِئٍ مَعَ أَلِفِ الوَصْلِ ثَلَاثُ لُغَاتٍ فَتْحُ الرَّاءِ دَائِمًا وَضَمُّهَا دَائِمًا وَإِعْرَابُهَا دَائِمًا ذَكَرَهُ فِي القَامُوسِ ‏.‏ قَالَ وَنَقُول هَذَا امْرُؤٌ وَمَرْوٌ وَرَأَيْت امْرًَا وَمَرْءًا وَمَرَرْت بِامْرِئٍ مُعْرَبًا مِنْ مَكَانَيْنِ انْتَهَى ‏.‏
وَالطَّرْفُ لَا يُجْمَعُ لِأَنَّهُ فِي الأَصْلِ مَصْدَرٌ أَوْ اسْمٌ جَامِعٌ لِلْبَصَرِ لَا يُثَنَّى وَلَا يُجْمَعُ، وَقِيلَ أَطْرَافٌ، وَالمُرَادُ إطْلَاقُ بَصَرِ الإِنْسَانِ بِالنَّظَرِ فِي المُحَرَّمَاتِ ‏(‏أَنْكَى‏)‏ أَيْ أَشَدُّ نِكَايَةً ‏.‏ قَالَ فِي الصِّحَاحِ وَالقَامُوسِ‏:‏ نَكَيْت فِي العَدُوِّ نِكَايَةً إذَا قَتَلَ فِيهِمْ وَجَرَحَ ‏.‏ يَعْنِي أَنَّ إرْسَالَ الطَّرْفِ أَشَدُّ نِكَايَةً مِنْ حَصْدِ اللِّسَانِ، فَيَكُبُّ صَاحِبَهُ فِي قَعْرِ النِّيرَانِ، إنْ لَمْ يُقَيِّدْهُ عَمَّا لَا يَحِلُّ إلَيْهِ مِنْ الجَوَارِي وَالغِلْمَانِ ‏.‏
وَلِذَا قَالَ ‏(‏فَقَيِّدِ‏)‏ أَيْ احْبِسْهُ وَلَا تُرْسِلْهُ وَتَتْرُكْهُ مُهْمَلاً فَإِنَّهُ يُورِدُك مَوَارِدَ العَطَبِ، وَيَتْرُكُ بِهِ الوَصَبَ وَالنَّصَبَ، وَإِنَّمَا قَدَّمَ ذِكْرَ اللِّسَانِ وَأَتْبَعَهُ بِالبَصَرِ لَمَا بَيْنَهُمَا مِنْ الِاشْتِرَاكِ وَالدُّنُوِّ مِنْ القَلْبِ كَمَا أَشَرْنَا إلَى ذَلِكَ فِيمَا تَقَدَّمَ وَلِأَنَّ أَكْثَرَ المَعَاصِي إنَّمَا تَتَوَلَّدُ مِنْ فُضُولِ الكَلَامِ وَإِرْسَالِ النَّظَرِ وَهُمَا أَوْسَعُ مَدَاخِلِ الشَّيْطَانِ، فَإِنَّ جَارِحَتَهُمَا لَا تُمْلَآنِ بِخِلَافِ البَطْنِ فَإِنَّهُ مَتَى امْتَلَأَ لَمْ يَبْقَ لَهُ فِي الطَّعَامِ إرَادَةٌ ‏.‏
وَأَمَّا العَيْنُ وَاللِّسَانُ فَلَوْ تُرِكَا لَمْ يَفْتُرَا مِنْ النَّظَرِ وَالكَلَامِ أَبَدًا، كَمَا قِيلَ‏:‏ أَرْبَعٌ لَا تَشْبَعُ مِنْ أَرْبَعٍ‏:‏ عَيْنٌ مِنْ نَظَرٍ، وَأُذُنٌ مَنْ خَبَرٍ، وَأَرْضٌ مِنْ مَطَرٍ، وَأُنْثَى مِنْ ذَكَرٍ ‏.‏ وَبَعْضُ النَّاسِ يَقُولُ‏:‏ عَالِمٌ مِنْ أَثَرٍ ‏.‏
ثُمَّ إنَّ فُضُولَ النَّظَرِ هُوَ أَصْلُ البَلَاءِ لِأَنَّهُ رَسُولُ الفَرْجِ، فَمِنْ ثَمَّ قَالَ النَّاظِمُ رحمه الله تعالى‏:‏

وَطَرْفُ الفَتَى يَا صَاحِ رَائِدُ فَرْجِهِ = وَمُتْعِبُهُ فَاغْضُضْهُ مَا اسْطَعْتَ تَهْتَدِ

‏(‏وَطَرْفُ الفَتَى‏)‏ أَيْ بَصَرُهُ وَنَظَرُهُ ‏(‏يَا صَاحِ‏)‏ مُرَخَّمُ صَاحِبٍ وَتَرْخِيمُهُ شَاذٌّ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِعَلَمٍ، وَلَكِنَّهُ لَمَّا كَثُرَ نِدَاؤُهُ وَاسْتَفَاضَ تَدَاوُلُهُ سَاغَ تَرْخِيمُهُ، إذْ الإِنْسَانُ لَا يَنْفَكُّ فِي سَفَرِهِ وَإِقَامَتِهِ مِنْ صَاحِبٍ يُعِينُهُ فَيُنَادِيهِ عِنْدَ الحَاجَةِ إلَيْهِ ‏(‏رَائِدُ‏)‏ أَيْ رَسُولُ ‏(‏فَرْجِهِ‏)‏ أَيْ فَرْجِ الفَتَى وَاشْتِقَاقُهُ مِنْ الرَّوْدِ ‏.‏ قَالَ فِي القَامُوسِ‏:‏ الرَّائِدُ المُرْسَلُ فِي طَلَبِ الكَلَإِ ‏.‏ انْتَهَى ‏.‏ وَفِي الحَدِيثِ ‏"‏ الحُمَّى رَائِدُ المَوْتِ ‏"‏ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا وَغَيْرُهُ مِنْ وُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ ‏.‏ ذَكَرَهُ الإِمَامُ الحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ فِي كِتَابِهِ البِشَارَةِ العُظْمَى فِي أَنَّ حَظَّ المُؤْمِنِ مِنْ النَّارِ الحُمَّى ‏.‏
وَالفَرْجُ العَوْرَةُ كَمَا فِي القَامُوسِ وَقَالَ الحِجَّاوِيُّ فِي لُغَةِ إقْنَاعِهِ‏:‏ وَالفَرْجُ مِنْ الإِنْسَانِ يُطْلَقُ عَلَى القُبُلِ وَالدُّبُرِ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُنْفَرِجٌ أَيْ مُنْفَتِحٌ، وَأَكْثَرُ اسْتِعْمَالِهِ عُرْفًا فِي القُبُلِ ‏(‏وَ‏)‏ طَرْفُ الفَتَى ‏(‏مُتْعِبُهُ‏)‏ أَيْ سَبَبُ تَعَبِهِ وَسَلْبِهِ الِاسْتِرَاحَةَ مَتَى أَرْسَلَهُ وَلَمْ يَغْضُضْهُ، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ ‏(‏فَاغْضُضْهُ‏)‏ أَيْ اخْفِضْهُ وَاحْتَمِلْ المَكْرُوهَ مِنْهُ ‏.‏ قَالَ فِي النِّهَايَةِ‏:‏ غَضَّ طَرْفَهُ أَيْ كَسَرَهُ وَأَطْرَقَ وَلَمْ يَفْتَحْ عَيْنَهُ ‏.‏ وَفِي قَصِيدَةِ كَعْبٍ‏:‏
وَمَا سُعَادُ غَدَاةَ البَيْنِ إذْ رَحَلُوا إلَّا = أَغَنُّ غَضِيضُ الطَّرْفِ مَكْحُولُ

مطلب‏:‏ فِي غَضِّ الطَّرْفِ
قَالَ الإِمَامُ ابْنُ هِشَامٍ فِي شَرْحِهِ لِقَصِيدَةِ كَعْبٍ‏:‏ غَضُّ الطَّرْفِ عِبَارَةٌ عَنْ تَرْكِ التَّحْدِيقِ وَاسْتِيفَاءِ النَّظَرِ، فَتَارَةً يَكُونُ ذَلِكَ لِأَنَّ فِي الطَّرْفِ كَسْرًا وَفُتُورًا خِلْقِيَّيْنِ وَهُوَ المُرَادُ فِي كَلَامِ كَعْبٍ، وَتَارَةً يَكُونُ لِقَصْدِ الكَفِّ عَنْ التَّأَمُّلِ حَيَاءً مِنْ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ المُرَادُ فِي كَلَامِ النَّاظِمِ، فَإِنَّ مُرَادَهُ رحمه الله تعالى فَاغْضُضْ طَرْفَك امْتِثَالاً ‏{‏قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ‏}‏ وَلِمَا سَنَذْكُرُهُ مِنْ الأَخْبَارِ النَّبَوِيَّةِ وَالآثَارِ المَرْوِيَّةِ ‏(‏مَا اسْطَعْتَ‏)‏ أَيْ مُدَّةَ اسْتِطَاعَتِكَ، يُقَالُ اسْتَطَاعَ وَاسْطَاعَ بِحَذْفِ التَّاءِ تَخْفِيفًا لِأَنَّهُمْ يَسْتَثْقِلُونَهَا مَعَ الطَّاءِ وَيَكْرَهُونَ إدْغَامَ التَّاءِ فِيهَا فَتُحَرَّكُ السِّينُ وَهِيَ لَا تُحَرَّكُ أَبَدًا ‏.‏ وَقَرَأَ حَمْزَةُ ‏(‏فَمَا اسْتَطَاعُوا‏)‏ بِالإِدْغَامِ فَجَمَعَ بَيْنَ السَّاكِنَيْنِ ‏.‏ وَبَعْضُ العَرَبِ تَقُولُ اسْتَاعَ يَسْتِيعُ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ إسْطَاعَ يَسْطِيعُ بِقَطْعِ الهَمْزَةِ بِمَعْنَى أَطَاعَ يُطِيعُ وَمَعْنَى ذَلِكَ طَاقَ ‏(‏تَهْتَدِ‏)‏ أَيْ تَرْشُدُ بِغَضِّ طَرْفِك لِامْتِثَالِ أَمْرِ رَبِّك وَاتِّبَاعِ سُنَّةِ نَبِيِّك، وَتَسْلَمُ مِنْ غَائِلَةِ النَّظَرِ وَتَعَبِهِ وَجُرْمِهِ وَوَصَبِهِ ‏.‏
أَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ‏:‏ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَعْنِي عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ ‏"‏ النَّظْرَةُ سَهْمٌ مَسْمُومٌ مِنْ سِهَامِ إبْلِيسَ مَنْ تَرَكَهَا مِنْ مَخَافَتِي أَبْدَلْتُهُ إيمَانًا يَجِدُ حَلَاوَتَهُ فِي قَلْبِهِ ‏"‏ وَرَوَاهُ الحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ وَقَالَ صَحِيحُ الإِسْنَادِ وَفِيهِ نَظَرٌ ‏.‏ وَأَخْرَجَ الإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ ‏"‏ مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَنْظُرُ إلَى مَحَاسِنِ امْرَأَةٍ ثُمَّ يَغُضُّ بَصَرَهُ إلَّا أَحْدَثَ اللَّهُ لَهُ عِبَادَةً يَجِدُ حَلَاوَتَهَا فِي قَلْبِهِ ‏"‏ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ إلَّا أَنَّهُ قَالَ يَنْظُرُ إلَى امْرَأَةٍ أَوَّلَ رَمْقَةٍ وَالبَيْهَقِيُّ قَالَ إنَّمَا أَرَادَ إنْ صَحَّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَنْ يَقَعَ بَصَرُهُ عَلَيْهَا مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ فَيَصْرِفَ بَصَرَهُ عَنْهَا تَوَرُّعًا ‏.‏ وَرَوَى الأَصْبَهَانِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ‏"‏ كُلُّ عَيْنٍ بَاكِيَةٌ يَوْمَ القِيَامَةِ إلَّا عَيْنًا غُضَّتْ عَنْ مَحَارِمِ اللَّهِ، وَعَيْنًا سَهِرَتْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَعَيْنًا خَرَجَ مِنْهَا مِثْلُ رَأْسِ الذُّبَابِ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ‏"‏ ‏.‏
وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادٍ رِجَالُهُ ثِقَاتٌ إلَّا أَبَا حَبِيبٍ العَبْقَرِيَّ وَيُقَالُ لَهُ الغَنَوِيُّ فَقَالَ المُنْذِرِيُّ لَمْ أَقِفْ عَلَيْهِ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ حَيْدَرَةَ رضي الله عنه قَالَ‏:‏ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ‏"‏ ثَلَاثَةٌ لَا تَرَى أَعْيُنُهُمْ النَّارَ‏:‏ عَيْنٌ حَرَسَتْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَعَيْنٌ بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، وَعَيْنٌ كَفَّتْ عَنْ مَحَارِمِ اللَّهِ ‏"‏ ‏.‏
وَأَخْرَجَ الإِمَامُ أَحْمَدُ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَالحَاكِمُ وَقَالَ صَحِيحُ الإِسْنَادِ وَاعْتَرَضَهُ المُنْذِرِيُّ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ ‏"‏ اضْمَنُوا لِي سِتًّا مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَضْمَنْ لَكُمْ الجَنَّةَ، اُصْدُقُوا إذَا حَدَّثْتُمْ، وَأَوْفُوا إذَا وَعَدْتُمْ، وَأَدُّوا إذَا اُؤْتُمِنْتُمْ، وَاحْفَظُوا فُرُوجَكُمْ، وَغُضُّوا أَبْصَارَكُمْ، وَكُفُّوا أَيْدِيَكُمْ ‏"‏ ‏.‏
وَأَخْرَجَ الإِمَامُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ ‏"‏ يَا عَلِيُّ إنَّ لَك كَنْزًا فِي الجَنَّةِ وَإِنَّك ذُو قَرْنَيْهَا، فَلَا تُتْبِعُ النَّظْرَةَ النَّظْرَةَ، فَإِنَّمَا لَك الأُولَى وَلَيْسَتْ لَك الأُخْرَى ‏"‏ ‏.‏ وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ بُرَيْدَةَ قَالَ‏:‏ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِعَلِيٍّ ‏"‏ يَا عَلِيُّ لَا تُتْبِعْ النَّظْرَةَ النَّظْرَةَ، فَإِنَّمَا لَك الأُولَى وَلَيْسَتْ لَك الآخِرَةُ ‏"‏ وَحَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ ‏.‏
فَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم لِعَلِيٍّ ‏"‏ إنَّك ذُو قَرْنَيْهَا ‏"‏ أَيْ ذُو قَرْنَيْ هَذِهِ الأُمَّةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ كَانَ لَهُ شَجَّتَانِ فِي قَرْنَيْ رَأْسِهِ أَحَدُهُمَا مِنْ ابْنِ مُلْجِمٍ لَعَنَهُ اللَّهُ وَالأُخْرَى مِنْ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ وُدٍّ ‏.‏ قَالَهُ المُنْذِرِيُّ ‏.‏
وَقَالَ الإِمَامُ الحَافِظُ ابْنُ الجَوْزِيِّ فِي التَّبْصِرَةِ فِي قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم لِعَلِيٍّ وَإِنَّك ذُو قَرْنَيْهَا‏:‏ وَفِي الضَّمِيرِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ كِنَايَةٌ عَنْ هَذِهِ الأُمَّةِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرٍ تَقَدَّمَ لَهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى ‏{‏حَتَّى تَوَارَتْ بِالحِجَابِ‏}‏ يَعْنِي الشَّمْسَ ‏.‏ الثَّانِي عَنْ الجَنَّةِ ‏.‏
وَأَمَّا تَسْمِيَتُهُ بِذِي القَرْنَيْنِ فَفِيهِ وَجْهَانِ إنْ قُلْنَا أَنَّ الكِنَايَةَ عَنْ الأُمَّةِ فَإِنَّ عَلِيًّا رضي الله عنه ضُرِبَ عَلَى رَأْسِهِ فِي اللَّهِ تَعَالَى ضَرْبَتَيْنِ، الأُولَى ضَرَبَهُ إيَّاهَا عَمْرُو بْنُ عَبْدِ وُدٍّ، الثَّانِيَةُ ابْنُ مُلْجِمٍ، كَمَا ضُرِبَ ذُو القَرْنَيْنِ ضَرْبَةً بَعْدَ ضَرْبَةٍ ‏.‏ وَإِنْ قُلْنَا الكِنَايَةُ عَنْ الجَنَّةِ فَقَرْنَاهَا جَانِبَاهَا ‏.‏ ذَكَرَهُ ابْنُ الأَنْبَارِيِّ ‏.‏ وَقَالَ الحَافِظُ المُنْذِرِيُّ‏:‏ وَقِيلَ مَعْنَاهُ أَنَّك ذُو قَرْنَيْ الجَنَّةِ أَيْ ذُو طَرَفَيْهَا وَمَلِكُهَا المُمَكَّنُ فِيهَا الَّذِي يَسْلُكُ جَمِيعَ نَوَاحِيهَا كَمَا سَلَكَ الإِسْكَنْدَرُ جَمِيعَ نَوَاحِي الأَرْضِ شَرْقًا وَغَرْبًا فَسُمِّيَ ذَا القَرْنَيْنِ عَلَى أَحَدِ الأَقْوَالِ ‏.‏ وَقَدْ بَيَّنْت ذَلِكَ فِي كِتَابِي الجَوَابِ المُحَرَّرِ فِي الكَشْفِ عَنْ الخَضِرِ وَالإِسْكَنْدَرِ ‏.‏ قَالَ ابْنُ الجَوْزِيِّ‏:‏ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم ‏"‏ فَلَا تُتْبِعْ النَّظْرَةَ النَّظْرَةَ ‏"‏ إلَخْ رُبَّمَا تَحَايَلَ أَحَدٌ جَوَازَ القَصْدِ لِلْأُولَى وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَإِنَّمَا الأُولَى الَّتِي لَمْ يَقْصِدْهَا ‏.‏
وَفِي أَفْرَادِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه قَالَ ‏"‏ سَالت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ النَّظْرَةِ الفَجْأَةِ قَالَ اصْرِفْ نَظَرَك ‏"‏ قَالَ ابْنُ الجَوْزِيِّ‏:‏ وَهَذَا لِأَنَّ الأُولَى لَمْ يَحْضُرْهَا القَلْبُ، وَلَا يَتَأَمَّلُ بِهَا المَحَاسِنَ، وَلَا يَقَعُ الِالتِذَاذُ بِهَا، فَمَتَى اسْتَدَامَهَا مِقْدَارَ حُضُورِ الذِّهْنِ كَانَتْ كَالثَّانِيَةِ فِي الإِثْمِ ‏.‏
وَأَخْرَجَ البُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ ‏"‏ كُتِبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ نَصِيبُهُ مِنْ الزِّنَا مُدْرِكٌ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ، العَيْنَانِ زِنَاهُمَا النَّظَرُ، وَالأُذُنَانِ زِنَاهُمَا الِاسْتِمَاعُ، وَاللِّسَانُ زِنَاهُ الكَلَامُ، وَاليَدُ زِنَاهَا البَطْشُ، وَالرِّجْلُ زِنَاهَا الخُطَا، وَالقَلْبُ يَهْوَى وَيَتَمَنَّى، وَيُصَدِّقُ ذَلِكَ الفَرْجُ أَوْ يُكَذِّبُهُ ‏"‏ ‏.‏
وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ وَأَبِي دَاوُدَ ‏"‏ وَاليَدَانِ تَزْنِيَانِ وَزِنَاهُمَا البَطْشُ، وَالرِّجْلَانِ تَزْنِيَانِ فَزِنَاهُمَا المَشْيُ، وَالفَمُ يَزْنِي فَزِنَاهُ القُبَلُ ‏"‏ ‏.‏
وَأَخْرَجَ الإِمَامُ أَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ وَالبَزَّارُ وَأَبُو يَعْلَى عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ ‏"‏ العَيْنَانِ تَزْنِيَانِ، وَالرِّجْلَانِ تَزْنِيَانِ، وَالفَرْجُ يَزْنِي ‏"‏ ‏.‏
وَأَخْرَجَ البَيْهَقِيُّ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا ‏"‏ الإِثْمُ حَوَّازُ القُلُوبِ وَمَا مِنْ نَظْرَةٍ إلَّا وَلِلشَّيْطَانِ فِيهَا مَطْمَعٌ ‏"‏ وَمَعْنَى حَوَّازُ بِفَتْحِ الحَاءِ المُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الوَاوِ وَهُوَ مَا يَحُوزُهَا وَيَغْلِبُ عَلَيْهَا حَتَّى تَرْتَكِبَ مَا لَا يَحْسُنُ، وَقِيلَ بِتَخْفِيفِ الوَاوِ وَتَشْدِيدِ الزَّايِ جَمْعُ حَازَّةٍ وَهِيَ الأُمُورُ الَّتِي تَحُزُّ فِي القُلُوبِ وَتَحُكُّ وَتُؤَثِّرُ وَتَتَخَالَجُ فِي القُلُوبِ فَتَكُونُ مَعَاصِيَ، وَهَذَا أَشْهَرُ ‏.‏
وَمِنْهُ ‏"‏ الإِثْمُ مَا حَاكَ فِي صَدْرِك وَكَرِهْت أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ ‏"‏ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ ‏"‏ لَتَغُضُّنَّ أَبْصَارَكُمْ، وَلَتَحْفَظُنَّ فُرُوجَكُمْ، أَوْ لَيَكْسِفَنَّ اللَّهُ وُجُوهَكُمْ ‏"‏ ‏.‏
وَفِي صَحِيحِ الحَاكِمِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا ‏"‏ مَا مِنْ صَبَاحٍ إلَّا وَمَلَكَانِ يُنَادِيَانِ وَيْلٌ لِلرِّجَالِ مِنْ النِّسَاءِ، وَوَيْلٌ لِلنِّسَاءِ مِنْ الرِّجَالِ ‏"‏ ‏.‏
وَفِي التَّبْصِرَةِ‏:‏ كَانَ عِيسَى بْنُ مَرْيَمَ عليه السلام يَقُولُ‏:‏ ‏"‏ النَّظْرَةُ تَزْرَعُ فِي القَلْبِ الشَّهْوَةَ وَكَفَى بِهَا خَطِيئَةً ‏"‏ ‏.‏
وَقَالَ الحَسَنُ رضي الله عنه‏:‏ مَنْ أَطْلَقَ طَرْفَهُ كَثُرَ أَسَفُهُ ‏.‏ وَقَالَ الإِمَامُ المُحَقِّقُ ابْنُ القَيِّمِ فِي كِتَابِهِ الدَّاءِ وَالدَّوَاءِ‏:‏ أَمَّا اللَّحَظَاتُ فَهِيَ رَائِدَةُ الشَّهْوَةِ وَرَسُولُهَا، وَحِفْظُهَا أَصْلُ حِفْظِ الفَرْجِ، فَمَنْ أَطْلَقَ بَصَرَهُ أَوْرَدَهُ مَوَارِدَ الهَلَكَاتِ ‏.‏
وَذَكَرَ فِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ ‏"‏ إيَّاكُمْ وَالجُلُوسَ عَلَى الطَّرَقَاتِ، قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ مَجَالِسُنَا مَا لَنَا مِنْهَا بُدٌّ، قَالَ فَإِنْ كُنْتُمْ لَا بُدَّ فَاعِلِينَ فَأَعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهُ ‏.‏ قَالُوا‏:‏ وَمَا حَقُّهُ‏؟‏ قَالَ‏:‏ غَضُّ البَصَرِ وَكَفُّ الأَذَى، وَرَدُّ السَّلَامِ ‏"‏ ‏.‏
وَقَدْ نَظَمَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ آدَابَ الجُلُوسِ عَلَى الطَّرِيقِ فِي قَوْلِهِ‏:‏

جَمَعْت آدَابَ مَنْ رَامَ الجُلُوسَ عَلَى الطَّـ = ـرِيقِ مِنْ قَوْلِ خَيْرِ الخَلْقِ إنْسَانَا
أَفْشِ السَّلَامَ وَأَحْسِنْ فِي الكَلَامِ وَشَـ = ـمِّتْ عَاطِسًا وَسَلَامًا زَادَ إحْسَانَا
فِي الحَمْلِ عَاوِنْ وَمَظْلُومًا أَعِنْ = وَأَغِثْ لَهْفَانَ وَارْشِدْ سَبِيلاً وَاهْدِ حَيْرَانَا
بِالعُرْفِ مُرْ، وَانْهَ عَنْ نُكْرٍ وَكُفَّ أَذًى = وَغُضَّ طَرْفًا وَأَكْثِرْ ذِكْرَ مَوْلَانَا
وَزَادَ شَيْخُ مَشَايِخِنَا العَلَّامَةُ عَبْدُ البَاقِي الحَنْبَلِيُّ وَالِدُ أَبِي المَوَاهِبِ عَلِيِّ بْنِ حَجَرٍ بَيْتًا وَهُوَ‏:‏
وَالصُّمَّ وَالعُمْيَ أَبْلِغْ ثُمَّ دُلَّ عَلَى الـ = ـحَاجَاتِ وَالأَغْبَيَا كُنْ صَاحِ فَطَّانَا
قَالَ الإِمَامُ المُحَقِّقُ ابْنُ القَيِّمِ فِي الدَّاءِ وَالدَّوَاءِ‏:‏ وَالنَّظَرُ أَصْلُ عَامَّةِ الحَوَادِثِ الَّتِي تُصِيبُ الإِنْسَانَ، فَإِنَّ النَّظْرَةَ تُولِدُ خَطْرَةً، ثُمَّ تُولِدُ الخَطْرَةُ فِكْرَةً، ثُمَّ تُولِدُ الفِكْرَةُ شَهْوَةً، ثُمَّ تُولِدُ الشَّهْوَةُ إرَادَةً، ثُمَّ تَقْوَى فَتَصِيرُ عَزِيمَةً جَازِمَةً فَيَقَعُ الفِعْلُ وَلَا بُدَّ مَا لَمْ يَمْنَعْ مِنْهُ مَانِعٌ ‏.‏
وَفِي هَذَا قِيلَ‏:‏ الصَّبْرُ عَلَى غَضِّ الطَّرْفِ أَيْسَرُ مِنْ الصَّبْرِ عَلَى أَلَمٍ بَعْدَهُ ‏.‏ وَقَالَ الشَّاعِرُ‏:‏

كُلُّ الحَوَادِثِ مَبْدَاهَا مِنْ النَّظَرِ = وَمُعْظَمُ النَّارِ مِنْ مُسْتَصْغَرِ الشَّرَرِ
كَمْ نَظْرَةً فَتَكَتْ فِي قَلْبِ صَاحِبِهَا = فَتْكَ السِّهَامِ بِلَا قَوْسٍ وَلَا وَتَرِ
وَالعَبْدُ مَا دَامَ ذَا عَيْنٍ يُقَلِّبُهَا فِي = أَعْيُنِ الغِيدِ مَوْقُوفٌ عَلَى خَطَرِ
يَسُرُّ نَاظِرَهُ مَا ضَرَّ خَاطِرَهُ = لَا مَرْحَبًا بِسُرُورٍ عَادَ بِالضَّرَرِ
وَقَالَ الحِجَّاوِيُّ‏:‏ فُضُولُ النَّظَرِ أَصْلُ البَلَاءِ لِأَنَّهُ رَسُولُ الفَرْجِ، أَعْنِي الآفَةَ العُظْمَى وَالبَلِيَّةَ الكُبْرَى، وَالزِّنَا إنَّمَا يَكُونُ سَبَبُهُ فِي الغَالِبِ النَّظَرَ، فَإِنَّهُ يَدْعُو إلَى الِاسْتِحْسَانِ وَوُقُوعِ صُورَةِ المَنْظُورِ إلَيْهِ فِي القَلْبِ وَالفِكْرَةِ، فَهَذِهِ الفِتْنَةُ مِنْ فُضُولِ النَّظَرِ، وَهُوَ مِنْ الأَبْوَابِ الَّتِي تُفْتَحُ لِلشَّيْطَانِ عَلَى ابْنِ آدَمَ ‏.‏ وَمَا أَحْسَنَ قَوْلَ الإِمَامِ الصَّرْصَرِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَرَضِيَ عَنْهُ‏:‏

وَغُضَّ عَنْ المَحَارِمِ مِنْك طَرْفًا = طَمُوحًا يَفْتِنُ الرَّجُلَ اللَّبِيبَا
فَخَائِنَةُ العُيُونِ كَأُسْدِ غَابٍ إذَا = مَا أُهْمِلَتْ وَثَبَتْ وُثُوبَا
وَمَنْ يَغْضُضْ فُضُولَ الطَّرْفِ عَنْهَا = يَجِدْ فِي قَلْبِهِ رَوْحًا وَطِيبَا
وَمِنْ آفَاتِ النَّظَرِ أَنَّك تَرَى مَا لَا قُدْرَةَ لَك عَلَيْهِ، وَلَا صَبْرَ لَك عَنْهُ، وَكَفَى بِهَذَا فِتْنَةً كَمَا قِيلَ‏:‏

وَكُنْت مَتَى أَرْسَلْت طَرْفَك رَائِدًا = لِقَلْبِك يَوْمًا أَتْعَبَتْك المَنَاظِرُ
رَأَيْت الَّذِي لَا كُلَّهُ أَنْتَ قَادِرٌ عَلَيْهِ = وَلَا عَنْ بَعْضِهِ أَنْتَ صَابِرُ
وَأَنْشَدَ الإِمَامُ ابْنُ القَيِّمِ فِي الدَّاءِ وَالدَّوَاءِ لِنَفْسِهِ‏:‏

مَلَّ السَّلَامَةَ فَاغْتَدَتْ لَحَظَاتُهُ = وَقْفًا عَلَى طَلَلٍ يَظُنُّ جَمِيلَا
مَا زَالَ يُتْبِعُ إثْرَهُ لَحَظَاتَهُ = حَتَّى تَشَحَّطَ بَيْنَهُنَّ قَتِيلَا
وَلَهُ قَصِيدَةٌ ذَكَرَهَا بِرُمَّتِهَا فِي بَدَائِعِ الفَوَائِدِ‏:‏

يَا رَامِيًا بِسِهَامِ اللَّحْظِ مُجْتَهِدًا = أَنْتَ القَتِيلُ بِمَا تَرْمِي فَلَا تُصِبْ
وَبَاعِثُ الطَّرْفِ تَرْتَادُ الشِّفَاءَ لَهُ = تَوَقَّهُ إنَّهُ يَرْتَدُّ بِالعَطَبِ
تَرْجُو الشِّفَاءَ بِأَحْدَاقٍ بِهَا مَرَضٌ = فَهَلْ سَمِعْت بِبُرْءٍ جَاءَ مِنْ عَطَبِ
وَمُفْنِيًا نَفْسَهُ فِي إثْرِ أَقْبَحِهِمْ وَصْفًا = لِلَطْخِ جَمَالٍ فِيهِ مُكْتَسَبِ
وَوَاهِبًا عُمْرَهُ مِنْ مِثْلِ ذَا سَفَهًا لَوْ = كُنْت تَعْرِفُ قَدْرَ العُمْرِ لَمْ تَهَبْ
وَبَائِعًا طِيبَ عَيْشٍ مَا لَهُ خَطَرٌ = بِطَيْفِ عَيْشٍ مِنْ الأَيَّامِ مُنْتَهَبِ
غُبِنْت وَاَللَّهِ غَبْنًا فَاحِشًا فَلَوْ اسْـ = ـتَرْجَعْتَ ذَا العِقْدَ لَمْ تُغْبَنْ وَلَمْ تَخِبْ
إلَى أَنْ قَالَ‏:‏

شَابَ الصِّبَا وَالتَّصَابِي لَمْ يَشِبْ سَفَهًا = وَضَاعَ وَقْتُك بَيْنَ اللَّهْوِ وَاللَّعِبِ
وَشَمْسُ عُمْرِك قَدْ حَانَ الغُرُوبُ لَهَا = وَالغَيُّ فِي الأُفْقِ الشَّرْقِيِّ لَمْ يَغِبْ
وَمِمَّا أَنْشَدَ لِنَفْسِهِ فِي الدَّاءِ وَالدَّوَاءِ‏:‏

مَا زِلْت تُتْبِعُ نَظْرَةً فِي نَظْرَةٍ = فِي إثْرِ كُلِّ مَلِيحَةٍ وَمَلِيحِ
وَتَظُنُّ ذَاكَ دَوَاءَ جُرْحِك وَهْوَ فِي التّـ = ـتَحْقِيقِ تَجْرِيحٌ عَلَى تَجْرِيحِ
فَذَبَحْت طَرْفَك بِاللِّحَاظِ وَبِالبُكَا = فَالقَلْبُ مِنْك ذَبِيحٌ ابْنُ ذَبِيحِ
مطلب‏:‏ فِي فَوَائِدِ غَضِّ البَصَرِ
فَإِذَا عَلِمْت مَا ذَكَرْنَا لَك، وَتَحَقَّقْت عِظَمَ مَا جَمَعْنَاهُ، وَفَخَامَةَ قَدْرِ مَا نَالَك، فَلْنَذْكُرْ الكَلَامَ عَلَى فَوَائِدِ غَضِّ الطَّرْفِ، وَآفَاتِهِ وَأَحْكَامِهِ وَنَكَبَاتِهِ فِي مَقَامَاتٍ‏:
‏ ‏(‏المَقَامُ الأَوَّلُ‏)‏ فِي فَوَائِدِ غَضِّ البَصَرِ(‏إحْدَاهَا‏)‏ تَخْلِيصُ القَلْبِ مِنْ الحَسْرَةِ فَإِنَّ مَنْ أَطْلَقَ نَظَرَهُ دَامَتْ حَسْرَتُهُ، فَأَضَرُّ شَيْءٍ عَلَى القَلْبِ إرْسَالُ البَصَرِ، فَإِنَّهُ يُرِيهِ مَا لَا سَبِيلَ إلَى وُصُولِهِ وَلَا صَبْرَ لَهُ عَنْهُ، وَذَلِكَ غَايَةُ الأَلَمِ ‏.‏ قَالَ الفَرَزْدَقُ‏:‏

تَزَوَّدَ مِنْهَا نَظْرَةً لَمْ تَدَعْ لَهُ فُؤَادًا = وَلَمْ يَشْعُرْ بِمَا قَدْ تَزَوَّدَا
فَلَمْ أَرَ مَقْتُولاً وَلَمْ أَرَ قَاتِلاً = بِغَيْرِ سِلَاحِ مِثْلَهَا حِينَ أَقْصِدَا
وَقَالَ آخَرُ‏:‏

وَمَنْ كَانَ يُؤْتَى مِنْ عَدُوٍّ وَحَاسِدٍ = فَإِنِّي مِنْ عَيْنِي أُتِيت وَمِنْ قَلْبِي
هُمَا اعْتَوَرَانِي نَظْرَةً ثُمَّ فِكْرَةً فَمَا = أَبْقَيَا لِي مِنْ رُقَادٍ وَلَا لُبِّ
وَقَالَ ابْنُ المُعْتَزِّ‏:‏

مُتَيَّمٌ يَرْعَى نُجُومَ الدُّجَى = يَبْكِي عَلَيْهِ رَحْمَةً عَاذِلُهْ
عَيْنِي أَشَاطَتْ بِدَمِي فِي الهَوَى = فَابْكُوا قَتِيلاً بَعْضُهُ قَاتِلُهْ
وَلِابْنِ القَيِّمِ‏:‏

أَلَمْ أَقُلْ لَك لَا تَسْرِقْ مَلَاحِظَهُ = فَسَارِقُ اللَّحْظِ لَا يَنْجُو مِنْ الدَّرَكِ
نَصَبْت طَرْفِي لَهُ لَمَّا بَدَا شَرَكًا = فَكَانَ قَلْبِي أَوْلَى مِنْهُ بِالشَّرَكِ ‏
(‏الثَّانِيَةُ‏)‏ أَنَّ غَضَّ الطَّرْفِ يُورِثُ القَلْبَ نُورًا وَإِشْرَاقًا يَظْهَرُ فِي العَيْنِ وَفِي الوَجْهِ وَفِي الجَوَارِحِ، كَمَا أَنَّ إطْلَاقَ البَصَرِ يُورِثُ ذَلِكَ ظُلْمَةً وَكَآبَةً ‏.‏ قَالَ ابْنُ القَيِّمِ فِي كِتَابِهِ رَوْضَةِ المُحِبِّينَ وَنُزْهَةِ المُشْتَاقِينَ لَمَّا ذَكَرَ هَذِهِ الفَائِدَةَ ‏.‏ وَلِهَذَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ آيَةَ النُّورِ فِي قَوْلِهِ ‏{‏اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ‏}‏ عَقِبَ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ‏}‏ وَتَقَدَّمَ حَدِيثُ ‏"‏ النَّظَرُ سَهْمٌ مَسْمُومٌ مِنْ سِهَامِ إبْلِيسَ ‏"‏ وَفِي بَعْضِ رِوَايَاتِهِ ‏"‏ فَمَنْ غَضَّ بَصَرَهُ عَنْ مَحَاسِنِ امْرَأَةٍ أَوْرَثَ اللَّهُ قَلْبَهُ نُورًا ‏"‏ ‏.‏
‏(‏الثَّالِثَةُ‏)‏ أَنَّهُ يُورَثُ صِحَّةَ الفِرَاسَةِ فَإِنَّهَا مِنْ النُّورِ وَثَمَرَاتِهِ، فَإِذَا اسْتَنَارَ القَلْبُ صَحَّتْ الفِرَاسَةُ، فَإِنَّهُ يَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ المِرْآةِ المَجْلُوَّةِ تَظْهَرُ فِيهَا المَعْلُومَاتُ كَمَا هِيَ، وَالنَّظَرُ بِمَنْزِلَةِ التَّنَفُّسِ فِيهَا، فَإِذَا أَطْلَقَ العَبْدُ نَظَرَهُ تَنَفَّسَتْ الصُّعَدَاءَ فِي مِرْآةِ قَلْبِهِ فَطَمَسَتْ نُورَهَا كَمَا قِيلَ فِي ذَلِكَ‏:‏ مِرْآةُ قَلْبِك لَا تُرِيك صَلَاحَهُ وَالنَّفْسُ فِيهَا دَائِمًا تَتَنَفَّسُ وَقَالَ شُجَاعٌ الكَرْمَانِيُّ رحمه الله تعالى‏:‏ مَنْ عَمَّرَ ظَاهِرَهُ بِاتِّبَاعِ السُّنَّةِ، وَبَاطِنَهُ بِدَوَامِ المُرَاقَبَةِ، وَغَضَّ بَصَرَهُ عَنْ المَحَارِمِ، وَكَفَّ نَفْسَهُ عَنْ الشَّهَوَاتِ وَأَكَلَ مِنْ الحَلَالِ، لَمْ تُخْطِئْ فِرَاسَتُهُ ‏.‏ وَكَانَ شُجَاعًا لَا تُخْطِئُ لَهُ فِرَاسَةٌ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَجْزِي العَبْدَ مِنْ جِنْسِ عَمَلِهِ، فَمَنْ غَضَّ بَصَرَهُ عَنْ المَحَارِمِ عَوَّضَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ إطْلَاقَ نُورِ بَصِيرَتِهِ، فَلَمَّا حَبَسَ بَصَرَهُ لَهُ تَعَالَى، أَطْلَقَ لَهُ بَصِيرَتَهُ جَزَاءً وِفَاقًا ‏.‏
‏(‏الرَّابِعَةُ‏)‏ أَنَّهُ يَفْتَحُ لَهُ طُرُقَ العِلْمِ وَأَبْوَابَهُ، وَيُسَهِّلُ عَلَيْهِ أَسْبَابَهُ وَذَلِكَ سَبَبُ نُورِ القَلْبِ، فَإِنَّهُ إذَا اسْتَنَارَ ظَهَرَتْ فِيهِ حَقَائِقُ المَعْلُومَاتِ، وَانْكَشَفَ لَهُ بِسُرْعَةٍ، وَنَفَذَ مِنْ بَعْضِهَا إلَى بَعْضٍ ‏.‏ وَمَنْ أَرْسَلَ بَصَرَهُ تَكَدَّرَ عَلَيْهِ قَلْبُهُ، وَأَظْلَمَ، وَانْسَدَّ عَلَيْهِ بَابُ العِلْمِ وَأُحْجِمَ ‏.‏
‏(‏الخَامِسَةُ‏)‏ أَنَّهُ يُورِثُ قُوَّةَ القَلْبِ وَثَبَاتَهُ وَشَجَاعَتَهُ، فَيَجْعَلُ اللَّهُ لَهُ سُلْطَانَ البَصِيرَةِ مَعَ سُلْطَانِ الحُجَّةِ ‏.‏ وَفِي أَثَرٍ أَنَّ الَّذِي يُخَالِفُ هَوَاهُ يَفْرَقُ الشَّيْطَانُ مِنْ ظِلِّهِ، وَلِذَا يُوجَدُ فِي المُتَّبِعِ لِهَوَاهُ مِنْ ذُلِّ القَلْبِ وَضَعْفِهِ وَمَهَانَةِ النَّفْسِ وَحَقَارَتِهَا مَا جَعَلَهُ اللَّهُ لِمُؤْثِرٍ هَوَاهُ عَلَى رِضَاهُ، بِخِلَافِ مَنْ آثَرَ رِضَا مَوْلَاهُ عَلَى هَوَاهُ، فَإِنَّهُ فِي عِزِّ الطَّاعَةِ وَحِصْنِ التَّقْوَى، بِخِلَافِ أَهْلِ المَعَاصِي وَالأَهْوَاءِ ‏.‏
قَالَ الحَسَنُ‏:‏ إنَّهُمْ وَإِنْ هَمْلَجْت بِهِمْ البِغَالُ، وَطَقْطَقْت بِهِمْ البَرَاذِينُ، فَإِنَّ ذُلَّ المَعْصِيَةِ لَفِي قُلُوبِهِمْ، أَبَى اللَّهُ إلَّا أَنْ يُذِلَّ مَنْ عَصَاهُ ‏.‏
وَقَالَ بَعْضُ المَشَايِخِ‏:‏ النَّاسُ يَطْلُبُونَ العِزَّ فِي أَبْوَابِ المُلُوكِ وَلَا يَجِدُونَهُ إلَّا فِي طَاعَةِ اللَّهِ، فَمَنْ أَطَاعَ اللَّهَ فَقَدْ وَالَاهُ فِيمَا أَطَاعَهُ فِيهِ، وَمَنْ عَصَاهُ عَادَاهُ فِيمَا عَصَاهُ فِيهِ ‏.‏ وَفِي دُعَاءِ القُنُوتِ‏:‏ إنَّهُ لَا يُذَلُّ مِنْ وَالَيْت، وَلَا يُعَزُّ مَنْ عَادَيْت ‏.‏
‏(‏السَّادِسَةُ‏)‏ أَنَّهُ يُورِثُ القَلْبَ سُرُورًا وَفَرْحَةً أَعْظَمَ مِنْ الِالتِذَاذِ بِالنَّظَرِ، وَذَلِكَ لِقَهْرِهِ عَدُوَّهُ وَقَمْعِهِ شَهْوَتَهُ وَنُصْرَتِهِ عَلَى نَفْسِهِ، فَإِنَّهُ لَمَّا كَفَّ لَذَّتَهُ وَحَبَسَ شَهْوَتَهُ لِلَّهِ تَعَالَى وَفِيهِمَا مَضَرَّةُ نَفْسِهِ الأَمَّارَةِ بِالسُّوءِ، أَعَاضَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مَسَرَّةً وَلَذَّةً أَكْمَلَ مِنْهُمَا، كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ وَاَللَّهِ لَلَذَّةُ العِفَّةِ أَعْظَمُ مِنْ لَذَّةِ الذَّنْبِ ‏.‏
وَلَا رَيْبَ أَنَّ النَّفْسَ إذَا خَالَفَتْ هَوَاهَا أَعْقَبَهَا ذَلِكَ فَرَحًا وَسُرُورًا وَلَذَّةً أَكْمَلَ مِنْ لَذَّةِ مُوَافَقَةِ الهَوَى بِمَا لَا نِسْبَةَ بَيْنَهُمَا ‏.‏ وَهُنَا يَمْتَازُ العَقْلُ مِنْ الهَوَى ‏.‏
‏(‏السَّابِعَةُ‏)‏ أَنَّهُ يُخَلِّصُ القَلْبَ مِنْ أَسْرِ الشَّهْوَةِ، فَلَا أَسْرَ أَشَدُّ مِنْ أَسْرِ الشَّهْوَةِ وَالهَوَى، قَدْ سَلَبَ الحَوْلَ وَالقُوَّةَ، وَعَزَّ عَلَيْهِ الدَّوَاءُ، فَهُوَ كَمَا قِيلَ‏:‏ كَعُصْفُورَةٍ فِي كَفِّ طِفْلٍ يَسُومُهَا حِيَاضَ الرَّدَى وَالطِّفْلُ يَلْهُو وَيَلْعَبُ
‏(‏الثَّامِنَةُ‏)‏ أَنَّهُ يَسُدُّ عَنْهُ بَابًا مِنْ أَبْوَابِ جَهَنَّمَ، فَإِنَّ النَّظَرَ بَابُ الشَّهْوَةِ الحَامِلَةِ عَلَى مُوَاقَعَةِ الفِعْلِ، وَتَحْرِيمُ الرَّبِّ تَعَالَى وَشَرْعُهُ حِجَابٌ مَانِعٌ مِنْ الوُصُولِ، فَمَتَى هَتَكَ الحِجَابُ تَجَرَّأَ عَلَى المَحْظُورِ، وَلَمْ تَقِفْ نَفْسُهُ مِنْهُ عِنْدَ غَايَةٍ، لِأَنَّ النَّفْسَ فِي هَذَا البَابِ لَا تَقْنَعُ بِغَايَةٍ تَقِفُ عِنْدَهَا، وَذَلِكَ أَنَّ لَذَّتَهُ فِي الشَّيْءِ الجَدِيدِ ‏.‏ فَصَاحِبُ الطَّارِفِ لَا يُقْنِعُهُ التَّلِيدُ، وَإِنْ كَانَ أَحْسَنَ مِنْهُ مَنْظَرًا أَوْ أَطْيَبَ مَخْبَرًا ‏.‏ فَغَضُّ البَصَرِ يَسُدُّ عَنْهُ هَذَا البَابَ، الَّذِي عَجَزَتْ المُلُوكُ عَنْ اسْتِيفَاءِ أَغْرَاضِهِمْ فِيهِ، وَفِيهِ غَضَبُ رَبِّ الأَرْبَابِ ‏.‏
‏(‏التَّاسِعَةُ‏)‏ أَنَّهُ يُقَوِّي عَقْلَهُ وَيُثَبِّتُهُ وَيَزِيدُهُ، فَإِرْسَالُ البَصَرِ لَا يَحْصُلُ إلَّا مِنْ قِلَّةٍ فِي العَقْلِ، وَطَيْشٍ فِي اللُّبِّ، وَخَوَرٍ فِي القَلْبِ، وَعَدَمِ مُلَاحَظَةٍ لِلْعَوَاقِبِ، فَإِنَّ خَاصَّةَ العَقْلِ مُلَاحَظَةُ العَوَاقِبِ، وَمُرْسِلُ الطَّرْفِ لَوْ عَلِمَ مَا تَجْنِي عَوَاقِبُ طَرْفِهِ عَلَيْهِ لَمَا أَطْلَقَ بَصَرَهُ، وَلِذَا قَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ وَأَعْقَلُ النَّاسِ مَنْ لَمْ يَرْتَكِبْ سَبَبًا حَتَّى يُفَكِّرَ مَا تَجْنِي عَوَاقِبُهُ
‏(‏العَاشِرَةُ‏)‏ أَنَّهُ يُخَلِّصُ القَلْبَ مِنْ سَكْرَةِ الشَّهْوَةِ وَرَقْدَةِ الغَفْلَةِ، فَإِنَّ إطْلَاقَ البَصَرِ يُوجِبُ اسْتِحْكَامَ الغَفْلَةِ عَنْ اللَّهِ وَالدَّارِ الآخِرَةِ، وَيُوقِعُ فِي سَكْرَةِ العِشْقِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي عُشَّاقِ الصُّوَرِ ‏{‏لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ‏}‏ فَالنَّظْرَةُ كَأْسٌ مِنْ خَمْرٍ، وَالعِشْقُ سُكْرُ ذَلِكَ الشَّرَابِ ‏.‏ وَآفَاتُ العِشْقِ تَكَادُ تُقَارِبُ الشِّرْكَ، فَإِنَّ العِشْقَ يَتَعَبَّدُ القَلْبَ الَّذِي هُوَ بَيْتُ الرَّبِّ لِلْمَعْشُوقِ ‏.‏
وَفَوَائِدُ غَضِّ البَصَرِ وَآفَاتِ إطْلَاقِهِ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُذْكَرَ، وَفِيمَا ذَكَرْنَا كِفَايَةٌ ‏.‏ وَقَدْ عَلِمْت الفَوَائِدَ وَالآفَاتِ فِي ضِمْنِهَا، فَمَا مِنْ فَائِدَةٍ إلَّا تَرْكُهَا آفَةٌ وَمَفْسَدَةٌ ‏.‏ وَقَالَ المَرُّوذِيُّ‏:‏ قُلْت لِأَحْمَدَ رضي الله عنه‏:‏ الرَّجُلُ يَنْظُرُ إلَى المَمْلُوكَةِ‏؟‏ قَالَ أَخَافُ عَلَيْهِ الفِتْنَةَ، كَمْ نَظْرَةٍ القَتْ فِي قَلْبِ صَاحِبِهَا البَلَابِلَ ‏.‏
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما‏:‏ الشَّيْطَانُ مِنْ الرَّجُلِ فِي ثَلَاثَةٍ‏:‏ فِي بَصَرِهِ وَقَلْبِهِ وَذَكَرِهِ، وَهُوَ مِنْ المَرْأَةِ فِي ثَلَاثَةٍ‏:‏ فِي بَصَرِهَا وَقَلْبِهَا وَعَجُزِهَا ‏.‏ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ‏.‏
مطلب‏:‏ فِي نِكَاتٍ لَطِيفَةٍ وَأَخْبَارٍ ظَرِيفَةٍ
‏(‏المَقَامُ الثَّالِثُ‏)‏ فِي نِكَاتٍ لَطِيفَةٍ، وَأَخْبَارٍ ظَرِيفَةٍ، تَتَعَلَّقُ بِمَا نَحْنُ بِصَدَدِهِ ‏.‏
مِنْهَا مَا حَكَاهُ الإِمَامُ ابْنُ القَيِّمِ فِي كِتَابِ رَوْضَةِ المُحِبِّينَ وَنُزْهَةِ المُشْتَاقِينَ قَالَ‏:‏ وَقَعَتْ مَسْأَلَةُ مَا تَقُولُ الفُقَهَاءُ فِي رَجُلٍ نَظَرَ إلَى امْرَأَةٍ فَعَلِقَ حُبُّهَا بِقَلْبِهِ وَاشْتَدَّ عَلَيْهِ الأَمْرُ، فَقَالَتْ لَهُ نَفْسُهُ هَذَا كُلُّهُ مِنْ أَوَّلِ نَظْرَةٍ، فَلَوْ أَعَدْت النَّظَرَ إلَيْهَا لَرَأَيْتهَا دُونَ مَا فِي نَفْسِك فَسَلَوْت عَنْهَا، فَهَلْ يَجُوزُ لَهُ تَعَمُّدُ النَّظَرِ ثَانِيًا لِهَذَا المَعْنَى‏؟‏ قَالَ‏:‏ فَكَانَ الجَوَابُ‏:‏ الحَمْدُ لِلَّهِ، لَا يَجُوزُ هَذَا لِعَشَرَةِ أَوْجُهٍ‏:‏
‏(‏أَحَدُهَا‏)‏ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَمَرَ بِغَضِّ البَصَرِ، وَلَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَ القَلْبِ فِيمَا حَرَّمَهُ عَلَى العَبْدِ ‏.‏
‏(‏الثَّانِي‏)‏ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عَنْ نَظْرَةِ الفَجْأَةِ وَقَدْ عَلِمَ أَنَّهُ يُؤَثِّرُ فِي القَلْبِ فَأَمَرَ بِمُدَاوَاتِهِ بِصَرْفِ البَصَرِ لَا بِتَكْرَارِ النَّظَرِ ‏.‏
‏(‏الثَّالِثُ‏)‏ أَنَّهُ صَرَّحَ بِأَنَّ لَهُ الأُولَى وَلَيْسَتْ لَهُ الثَّانِيَةُ، وَمُحَالٌ أَنْ يَكُونَ دَاؤُهُ مِمَّا لَهُ وَدَوَاؤُهُ مِمَّا لَيْسَ لَهُ ‏.‏
‏(‏الرَّابِعُ‏)‏ أَنَّ الظَّاهِرَ قُوَّةُ الأَمْرِ بِالنَّظْرَةِ الثَّانِيَةِ لَا نَقْصُهُ وَالتَّجْرِبَةُ شَاهِدَةٌ بِهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الأَمْرَ كَمَا رَآهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلَا تَحْسُنُ المُخَاطَرَةُ بِالإِعَادَةِ ‏.‏
‏(‏الخَامِسُ‏)‏ رُبَّمَا رَأَى فَوْقَ الَّذِي فِي نَفْسِهِ فَزَادَ عَذَابُهُ ‏.‏
‏(‏السَّادِسُ‏)‏ أَنَّ إبْلِيسَ عِنْدَ قَصْدِهِ لِلنَّظْرَةِ الثَّانِيَةِ يَقُومُ فِي رِكَابِهِ فَيُزَيِّنُ لَهُ مَا لَيْسَ بِحَسَنٍ لِتَتِمَّ البَلِيَّةُ ‏.‏
‏(‏السَّابِعُ‏)‏ أَنَّهُ لَا يُعَانُ عَلَى بَلِيَّةٍ إذَا أَعْرَضَ عَنْ امْتِثَالِ أَمْرِ الشَّارِعِ وَتَدَاوَى بِمَا حَرَّمَهُ عَلَيْهِ، بَلْ هُوَ جَدِيرٌ أَنْ تَتَخَلَّفَ عَنْهُ المَعُونَةُ ‏.‏
‏(‏الثَّامِنُ‏)‏ أَنَّ النَّظْرَةَ سَهْمٌ مَسْمُومٌ مِنْ سِهَامِ إبْلِيسَ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الثَّانِيَةَ أَشَدُّ سُمًّا فَكَيْفَ يَتَدَاوَى مِنْ السُّمِّ بِالسُّمِّ ‏.‏
‏(‏التَّاسِعُ‏)‏ أَنَّ صَاحِبَ هَذَا المَقَامِ فِي مَقَامِ مُعَامَلَةِ الحَقِّ عَزَّ وَجَلَّ فِي تَرْكِ مَحْبُوبِهِ كَمَا زَعَمَ، وَهُوَ يُرِيدُ بِالنَّظْرَةِ الثَّانِيَةِ أَنْ يَتَبَيَّنَ حَالَ المَنْظُورِ إلَيْهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُرْضِيًا تَرَكَهُ، فَإِذًا يَكُونُ تَرْكُهُ لِأَنَّهُ لَا يُلَائِمُ غَرَضَهُ لَا لِلَّهِ تَعَالَى، فَأَيْنَ مُعَامَلَةُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِتَرْكِهِ المَحْبُوبَ لِأَجْلِهِ ‏.‏
‏(‏العَاشِرُ‏)‏ يَتَبَيَّنُ بِضَرْبِ مَثَلٍ مُطَابِقٍ لِلْحَالِ، وَهُوَ أَنَّك إذَا رَكِبْت فَرَسًا جَدِيدًا فَمَالَتْ بِك إلَى طَرِيقٍ ضَيِّقٍ لَا يُنْفِذُ وَلَا يُمَكِّنُهَا تَسْتَدِيرُ فِيهِ لِلْخُرُوجِ، فَإِذَا هَمَّتْ بِالدُّخُولِ فِيهِ فَاكْبَحْهَا لِئَلَّا تَدْخُلَ، فَإِنْ دَخَلَتْ خُطْوَةً أَوْ خُطْوَتَيْنِ فَصِحْ بِهَا وَرُدَّهَا إلَى وَرَاءٍ عَاجِلاً قَبْلَ أَنْ يَتَمَكَّنَ دُخُولُهَا، فَإِنْ رَدَدْتهَا إلَى وَرَائِهَا سَهُلَ الأَمْرُ وَإِنْ تَوَانَيْت حَتَّى وَلَجَتْهُ وَسُقْتهَا دَاخِلاً ثُمَّ قُمْت تَجْذِبُهَا بِذَنَبِهَا عَسُرَ عَلَيْك أَوْ تَعَذَّرَ خُرُوجُهَا، فَهَلْ يَقُولُ عَاقِلٌ إنَّ طَرِيقَ تَخْلِيصِهَا سَوْقُهَا إلَى دَاخِلٍ ‏.‏
وَكَذَلِكَ النَّظْرَةُ إذَا أَثَّرَتْ فِي القَلْبِ فَإِنْ عَجَّلَ الحَازِمُ وَحَسَمَ المَادَّةَ مِنْ أَوَّلِهَا سَهُلَ عِلَاجُهُ، وَإِنْ كَرَّرَ النَّظَرَ وَتَأَمَّلَ مَحَاسِنَ الصُّورَةِ وَنَقَلَهَا إلَى قَلْبٍ فَارِغٍ فَنَقَشَهَا فِيهِ تَمَكَّنَتْ المَحَبَّةُ ‏.‏ وَكُلَّمَا تَوَاصَلَتْ النَّظَرَاتُ كَانَتْ كَالمَاءِ يَسْقِي الشَّجَرَةَ، فَلَا تَزَالُ شَجَرَةُ الحُبِّ تُنَمَّى حَتَّى يَفْسُدَ القَلْبُ وَيُعْرِضَ عَنْ الفِكْرِ فِيمَا أُمِرَ بِهِ، فَيَخْرُجَ بِصَاحِبِهِ إلَى المِحَنِ وَيُوجِبَ ارْتِكَابَ المَحْظُورَاتِ وَالفِتَنِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ‏.‏ وَمِنْهَا أَنَّهُ رُفِعَتْ لِلْإِمَامِ أَبِي الخَطَّابِ بْنِ أَحْمَدَ الكُلُوذَانِيِّ مِنْ أَكَابِرِ أَئِمَّتِنَا رُقْعَةٌ فِيهَا‏:

‏ قُلْ لِأَبِي الخَطَّابِ نَجْمِ الهُدَى = وَقُدْوَةِ العَالَمِ فِي عَصْرِهِ
لَا زِلْت فِي فَتْوَاك مُسْتَأْمَنًا = مِنْ خُدَعِ الشَّيْطَانِ أَوْ مَكْرِهِ
مَاذَا تَرَى فِي رَشَإٍ أَغْيَدَ = حَازَ اللَّمَا وَالدُّرَّ فِي ثَغْرِهِ
لَمْ يَحْكِ بَدْرَ التِّمِّ فِي حُسْنِهِ = حَتَّى حَكَى الزُّنْبُورَ فِي خَصْرِهِ
فَهَلْ يُجِيزُ الشَّرْعُ تَقْبِيلَهُ = لِمُسْتَهَامٍ خَافَ مِنْ وِزْرِهِ
أَمْ هَلْ عَلَى المُشْتَاقِ فِي ضَمِّهِ = مِنْ غَيْرِ إدْنَاءٍ إلَى صَدْرِهِ
إثْمٌ إذَا مَا لَمْ يَكُنْ مُضْمِرًا = غَيْرَ الَّذِي قُدِّمَ مِنْ ذِكْرِهِ
فَأَجَابَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَرَضِيَ عَنْهُ‏:‏

يَا أَيُّهَا الشَّيْخُ الأَدِيبُ الَّذِي = قَدْ فَاقَ أَهْلَ العَصْرِ فِي شِعْرِهِ
تَسْأَلُ عَنْ تَقْبِيلِ بَدْرِ الدُّجَى = وَعَطْفِ زَنْدَيْك عَلَى نَحْرِهِ
هَلْ وَرَدَ الشَّرْعُ بِتَحْلِيلِهِ = لِمُسْتَهَامٍ خَافَ مِنْ وِزْرِهِ
مَنْ قَارَفَ الفِتْنَةَ ثُمَّ ادَّعَى ال = عِصْمَةَ قَدْ نَافَقَ فِي أَمْرِهِ
هَلْ فِتْنَةُ المَرْءِ سِوَى الضَّمِّ وَالَتَّ = قْبِيلِ لِلْحِبِّ عَلَى ثَغْرِهِ
وَهَلْ دَوَاعِي ذَلِكَ المُشْتَهَى = إلَّا عِنَاقُ البَدْرِ فِي خِدْرِهِ
وَبَذْلُهُ ذَاكَ لِمُشْتَاقِهِ = يُزْرِي عَلَى هَارُوتَ فِي سِحْرِهِ
وَلَا يُجِيزُ الشَّرْعُ أَسْبَابَ مَا = يُوَرِّطُ المُسْلِمَ فِي حَظْرِهِ
فَانْجُ وَدَعْ عَنْك صُدَاعَ الهَوَى = عَسَاك أَنْ تَسْلَمَ مِنْ شَرِّهِ
هَذَا جَوَابُ الكُلُوذَانِيِّ قَدْ = جَاءَ يَرْجُو اللَّهَ فِي أَجْرِهِ
قَالَ الإِمَامُ ابْنُ القَيِّمِ بَعْدَ إيرَادِهِ لِمَا ذَكَرْنَا‏:‏ فَهَذَا جَوَابُ أَهْلِ العِلْمِ وَهُوَ مُطَابِقٌ لِمَا ذَكَرْنَا، يَعْنِي مِنْ عَدَمِ إبَاحَةِ النَّظَرِ لِلْمَحْبُوبِ، حَيْثُ زَعَمَ أَنَّ النَّظَرَ رُبَّمَا يُذْهِبُ مَا التَاعَ بِهِ فُؤَادُهُ المَحْجُوبُ، فَإِنَّ احْتِمَالَ مَفْسَدَةِ أَلَمِ الحُبِّ مَعَ غَضِّ البَصَرِ وَعَدَمِ تَقْبِيلِهِ وَضَمِّهِ أَقَلُّ مِنْ مَفْسَدَةِ النَّظَرِ وَنَحْوِهِ، فَإِنَّ هَذِهِ المَفْسَدَةَ أَعْنِي مَفْسَدَةَ النَّظَرِ وَنَحْوِهِ تَجُرُّ إلَى هَلَاكِ القَلْبِ وَفَسَادِ الدِّينِ، وَغَايَةُ مَا يُقَدَّرُ مِنْ مَفْسَدَةِ الإِمْسَاكِ عَنْ ذَلِكَ سَقَمُ الجَسَدِ أَوْ المَوْتُ تَفَادِيًا عَنْ التَّعَرُّضِ لِلْحَرَامِ ‏.‏
فَأَيْنَ إحْدَى المَفْسَدَتَيْنِ مِنْ الأُخْرَى‏؟‏ عَلَى أَنَّ النَّظَرَ وَنَحْوَهُ لَا يَمْنَعُ السَّقَمَ وَالمَوْتَ الحَاصِلَ بِسَبَبِ الحُبِّ بَلْ يَزِيدُ الحُبُّ بِذَلِكَ كَمَا قَالَ المُتَنَبِّي‏:‏ فَمَا صَبَابَةُ مُشْتَاقٍ عَلَى أَمَلٍ مِنْ الوِصَالِ كَمُشْتَاقٍ بِلَا أَمَلِ وَفِي الدَّاءِ وَالدَّوَاءِ لِلْإِمَامِ ابْنِ القَيِّمِ أَنَّ أَبَا الخَطَّابِ سُئِلَ أَيْضًا بِمَا لَفْظُهُ‏:‏ قُلْ لِلْإِمَامِ أَبِي الخَطَّابِ مَسْأَلَةً جَاءَتْ إلَيْك وَمَا خَلْقٌ سِوَاك لَهَا مَاذَا عَلَى رَجُلٍ رَامَ الصَّلَاةَ فَمُذْ لَاحَتْ لِنَاظِرِهِ ذَاتُ الجَمَالِ لَهَا فَأَجَابَهُ تَحْتَ سُؤَالِهِ‏:‏ قُلْ لِلْأَدِيبِ الَّذِي وَافَى بِمَسْأَلَةٍ سَرَّتْ فُؤَادِي لَمَّا أَنْ أَصَخْت لَهَا إنَّ الَّذِي فَتَنَتْهُ عَنْ عِبَادَتِهِ خَرِيدَةٌ ذَاتُ حُسْنٍ فَانْثَنَى وَلَهَا إنْ تَابَ ثُمَّ قَضَى عَنْهُ عِبَادَتَهُ فَرَحْمَةُ اللَّهِ تَغْشَى مَنْ عَصَى وَلَهَا وَمِنْهَا أَنَّ مُحَمَّدًا أَبَا بَكْرِ بْنَ دَاوُدَ الظَّاهِرِيَّ العَالِمَ المَشْهُورَ فِي فَنِّ العُلُومِ مِنْ الفِقْهِ وَالحَدِيثِ وَالتَّفْسِيرِ وَالأَدَبِ وَلَهُ قَوْلٌ فِي الفِقْهِ ‏.‏
قَالَ فِي الدَّاءِ وَالدَّوَاءِ‏:‏ هُوَ مِنْ أَكَابِرِ العُلَمَاءِ التَقَى هُوَ وَأَبُو العَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ الإِمَامُ المَشْهُورُ فِي مَجْلِسِ أَبِي الحَسَنِ عَلِيِّ بْنِ عِيسَى الوَزِيرِ، فَتَنَاظَرَا فِي مَسْأَلَةٍ مِنْ الإِيلَاءِ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ سُرَيْجٍ‏:‏ أَنْتَ بِأَنْ تَقُولَ مَنْ دَامَتْ لَحَظَاتُهُ كَثُرَتْ حَسَرَاتُهُ أَحْذَقُ مِنْك بِالكَلَامِ عَلَى الفِقْهِ، فَقَالَ‏:‏ لَئِنْ كَانَ ذَلِكَ فَإِنِّي أَقُولُ‏:

أُنَزِّهُ فِي رَوْضِ المَحَاسِنِ مُقْلَتِي = وَأَمْنَعُ نَفْسِي أَنْ تَنَالَ مُحَرَّمَا
وَأَحْمِلُ مِنْ ثِقْلِ الهَوَى مَا لَوْ انَّهُ = يُصَبُّ عَلَى الصَّخْرِ الأَصَمِّ تَهَدَّمَا
وَيَنْطِقُ طَرْفِي عَنْ مُتَرْجِمِ خَاطِرِي = فَلَوْلَا اخْتِلَاسِي وُدَّهُ لَتَكَلَّمَا
رَأَيْت الهَوَى دَعْوَى مِنْ النَّاسِ كُلِّهِمْ = فَلَسْت أَرَى وُدًّا صَحِيحًا مُسَلَّمَا
فَقَالَ لَهُ أَبُو العَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ بِمَ تَفْخَرُ عَلَيَّ وَلَوْ شِئْت لَقُلْت‏:‏
وَمُطَاعِمٌ كَالشَّهْدِ فِي ثَغَمَاتِهِ = قَدْ بِتُّ أَمْنَعُهُ لَذِيذَ سِنَاتِهِ
صَبًّا بِهِ وَبِحُسْنِهِ وَحَدِيثِهِ = وَأُنَزِّهُ اللَّحَظَاتِ فِي وَجَنَاتِهِ
حَتَّى إذَا مَا الصُّبْحُ لَاحَ عَمُودُهُ = وَلَّى بِخَاتَمِ رَبِّهِ وَبَرَاتِهِ
فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ‏:‏ يَحْفَظُ عَلَيْهِ الوَزِيرُ مَا أَقَرَّ بِهِ حَتَّى يُقِيمَ شَاهِدَيْنِ عَلَى أَنَّهُ وَلَّى بِخَاتَمِ رَبِّهِ وَبَرَاتِهِ، فَقَالَ سُرَيْجٌ‏:‏ يَلْزَمُنِي فِي هَذَا مَا يَلْزَمُك فِي قَوْلِك‏:‏
أُنَزِّهُ فِي رَوْضِ المَحَاسِنِ مُقْلَتِي = وَأَمْنَعُ نَفْسِي أَنْ تَنَالَ مُحَرَّمَا
فَضَحِكَ الوَزِيرُ وَقَالَ: لَقَدْ جَمَعْتُمَا لُطْفًا وَظُرْفًا ‏.‏
وَذَكَرَ ابْنُ القَيِّمِ فِي الدَّاءِ وَالدَّوَاءِ أَنَّ ابْنَ دَاوُدَ هَذَا رُفِعَتْ إلَيْهِ فُتْيَا مَضْمُونُهَا‏:‏

يَا ابْنَ دَاوُدَ يَا فَقِيهَ العِرَاقِ = أَفْتِنَا فِي فَوَاتِك الأَحْدَاقِ
هَلْ عَلَيْهَا بِمَا أَتَتْ مِنْ جُنَاحٍ = أَمْ حَلَالٌ لَهَا دَمُ العُشَّاقِ
فَكَتَبَ الجَوَابَ بِخَطِّهِ تَحْتَ البَيْتَيْنِ‏:‏

عِنْدِي جَوَابُ مَسَائِلِ العُشَّاقِ = فَاسْمَعْهُ مِنْ قَرِحِ الحَشَا مُشْتَاقِ
لَمَّا سَالتَ عَنْ الهَوَى هَيَّجْتنِي = وَأَرَقْت دَمْعًا لَمْ يَكُنْ بِمُرَاقِ
إنْ كَانَ مَعْشُوقٌ يُعَذِّبُ عَاشِقًا = كَانَ المُعَذَّبُ أَنْعَمَ العُشَّاقِ ‏.‏
قَالَ صَاحِبُ كِتَابِ مَنَازِلِ الأَحْبَابِ شِهَابُ الدِّينِ مَحْمُودُ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنُ فَهْدٍ صَاحِبُ الإِنْشَاءِ، وَقُلْت فِي جَوَابِ البَيْتَيْنِ عَلَى وَزْنِهِمَا مُجِيبًا لِلسَّائِلِ‏:‏

قُلْ لِمَنْ جَاءَ سَائِلاً عَنْ لِحَاظٍ = هُنَّ يَلْعَبْنَ فِي دَمِ العُشَّاقِ
مَا عَلَى السَّيْفِ فِي الوَرَى مِنْ جُنَاحٍ = إنْ ثُنِيَ الحَدُّ عَنْ دَمٍ مِهْرَاقٍ
وَسُيُوفُ اللِّحَاظِ أَوْلَى بِأَنْ نَصْـ = فَحَ عَمَّا جَنَتْ عَلَى العُشَّاقِ
إنَّمَا كُلُّ مَنْ قَتَلْنَ شَهِيدٌ = وَلِهَذَا يَفْنَى ضَنًا وَهُوَ بَاقٍ
وَمِنْهَا مَا ذَكَرَهُ الإِمَامُ ابْنُ القَيِّمِ فِي كِتَابِهِ رَوْضَةُ المُحِبِّينَ وَنُزْهَةُ المُشْتَاقِينَ عَنْ الإِمَامِ الحَافِظِ ابْنِ الجَوْزِيِّ أَنَّهُ قَالَ‏:‏ بَلَغَنِي عَنْ بَعْضِ الأَشْرَافِ أَنَّهُ اجْتَازَ بِمَقْبَرَةٍ وَإِذَا بِجَارِيَةٍ حَسْنَاءَ كَأَنَّهَا البَدْرُ أَوْ أَسْنَى وَعَلَيْهَا ثِيَابٌ سُودٌ، فَنَظَرَ إلَيْهَا فَعَلَقَتْ بِقَلْبِهِ فَكَتَبَ إلَيْهَا‏:‏

قَدْ كُنْت أَحْسَبَ أَنَّ الشَّمْسَ وَاحِدَةٌ = وَالبَدْرَ فِي نَظَرِي بِالحُسْنِ مَوْصُوفٌ
حَتَّى رَأَيْتُك فِي أَثْوَابِ ثَاكِلَةٍ = سُودٍ وَصَدْغُك فَوْقَ الخَدِّ مَعْطُوفٌ
فَرُحْت وَالقَلْبُ مِنِّي هَائِمٌ دَنِفٌ = وَالكَبِدُ حَرَّى وَدَمْعُ العَيْنِ مَذْرُوفٌ
رُدِّي الجَوَابَ فَفِيهِ الشُّكْرُ وَاغْتَنِمِي = وَصْلَ المُحِبِّ الَّذِي بِالحُبِّ مَشْغُوفٌ
وَرَمَى بِالرُّقْعَةِ إلَيْهَا، فَلَمَّا رَأَتْهَا كَتَبَتْ‏:‏

إنْ كُنْت ذَا حَسَبٍ ذَاكَ وَذَا نَسَبٍ = إنَّ الشَّرِيفَ بِغَضِّ الطَّرْفِ مَعْرُوفٌ
إنَّ الزُّنَاةَ أُنَاسٌ لَا خَلَاقَ لَهُمْ = فَاعْلَمْ بِأَنَّك يَوْمَ الدِّينِ مَوْقُوفٌ
وَاقْطَعْ رَجَاك لَحَاكَ اللَّهُ مِنْ رَجُلٍ = فَإِنَّ قَلْبِي عَنْ الفَحْشَاءِ مَصْرُوفٌ
فَلَمَّا قَرَأَ الرُّقْعَةَ زَجَرَ نَفْسَهُ وَقَالَ‏:‏ أَلَيْسَ امْرَأَةٌ تَكُونُ أَشْجَعَ مِنْك، ثُمَّ تَابَ وَلَبِسَ مِدْرَعَةً مِنْ الصُّوفِ وَالتَجَأَ إلَى الحَرَمِ، فَبَيْنَمَا هُوَ فِي الطَّوَافِ وَإِذَا بِتِلْكَ المَرْأَةِ عَلَيْهَا جُبَّةٌ مِنْ صُوفٍ، فَقَالَتْ لَهُ مَا أليَقَ هَذَا بِالشَّرِيفِ هَلْ لَك فِي المُبَاحِ‏؟‏ فَقَالَ قَدْ كُنْت أَرُومُ هَذَا قَبْلَ أَنْ أَعْرِفَ اللَّهَ وَأُحِبَّهُ ‏.‏ وَالآنَ فَقَدْ شَغَلَنِي حُبُّهُ عَنْ حُبِّ غَيْرِهِ، فَقَالَتْ لَهُ‏:‏ أَحْسَنْت، ثُمَّ طَافَتْ وَأَنْشَدَتْ‏:‏

فَطُفْنَا فَلَاحَتْ فِي الطَّوَافِ لَوَائِحٌ = غَنِينَا بِهَا عَنْ كُلِّ مَرْأى وَمِسْمَعِ
وَفِيهِ أَنَّ الحَسَنَ بْنَ زَيْدٍ قَالَ‏:‏ وَلَّيْنَا عَلَى بِلَادِ مِصْرَ رَجُلاً، فَوَجَدَ عَلَى بَعْضِ عُمَّالِهِ فَحَبَسَهُ وَقَيَّدَهُ، فَأَشْرَفَتْ عَلَيْهِ ابْنَةُ الوَالِي فَهَوِيَتْهُ فَكَتَبَتْ إلَيْهِ‏:‏

أَيُّهَا الزَّانِي بِعَيْنَيْـ = ـهِ وَفِي الطَّرْفِ الحُتُوف
إنْ تُرِدْ وَصْلاً فَقَدْ = أَمْكَنَك الظَّبْيُ الأَلُوف
فَأَجَابَهَا الفَتَى‏:‏

إنْ تَرَيْنِي زَانِيَ الـ = ـعَيْنَيْنِ فَالفَرْجُ عَفِيف
لَيْسَ إلَّا النَّظَرُ الفَا = تِرُ وَالشِّعْرُ الظَّرِيفُ
فَكَتَبَتْ إلَيْهِ‏:‏

قَدْ أَرَدْنَاك فَالـ = ـفَيْنَاك إنْسَانًا عَفِيفًا
فَتَأَبَّيْت فَلَا زِلْـ = ـت لِقَيْدَيْك حَلِيفًا
فَكَتَبَ إلَيْهَا‏:‏

مَا تَأَبَّيْت لِأَنِّي = كُنْت لِلظَّبْيِ عَيُوفًا
غَيْرَ أَنِّي خِفْت رَبًّا = كَانَ بِي بَرًّا لَطِيفًا
فَذَاعَ الشِّعْرُ، وَبَلَغَتْ القِصَّةُ الوَالِيَ، فَدَعَا بِهِ فَزَوَّجَهُ إيَّاهَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ‏.‏ وَهَذِهِ عَادَةُ اللَّهِ فِي خَلْقِهِ، مَنْ تَرَكَ شَيْئًا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَوَّضَهُ اللَّهُ خَيْرًا مِنْهُ أَوْ بِعَيْنِهِ، وَاَللَّهُ المُوَفِّقُ ‏.‏
مطلب يَنْقَسِمُ النَّظَرُ إلَى أَقْسَامٍ
‏(‏تَنْبِيهٌ‏)‏ النَّظَرُ يَنْقَسِمُ إلَى أَقْسَامٍ، مِنْهَا مَا هُوَ مُحَرَّمٌ وَهُوَ جُلُّ المَقْصُودِ فِي هَذَا المَوْضِعِ، كَالنَّظَرِ إلَى الأَجْنَبِيَّةِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ تُبِيحُ لَهُ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يَحْرُمُ النَّظَرُ إلَى جَمِيعِهَا فِي ظَاهِرِ كَلَامِ الإِمَامِ أَحْمَدَ رضي الله عنه ‏.‏
قَالَ رضي الله عنه‏:‏ لَا يَأْكُلُ مَعَ مُطَلَّقَتِهِ، هُوَ أَجْنَبِيٌّ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَنْظُرَ إلَيْهَا فَكَيْفَ يَأْكُلُ مَعَهَا يَنْظُرُ إلَى كَفِّهَا، لَا يَحِلُّ لَهُ ذَلِكَ وَقَالَ القَاضِي‏:‏ يَحْرُمُ عَلَيْهِ النَّظَرُ إلَى مَا عَدَا الوَجْهَ وَالكَفَّيْنِ لِأَنَّهُ عَوْرَةٌ، وَيُبَاحُ لَهُ النَّظَرُ إلَيْهِمَا مَعَ الكَرَاهَةِ إذَا أَمِنَ الفِتْنَةَ، وَكَانَ نَظَرُهُ مِنْ غَيْرِ شَهْوَةٍ انْتَهَى وَفِي الفُرُوعِ‏:‏ أَنَّ مَا قَالَهُ القَاضِي رِوَايَةٌ ذَكَرَهَا شَيْخُنَا يَعْنِي الإِمَامَ ابْنَ تَيْمِيَّةَ رضي الله عنه قَالَ وَالمَذْهَبُ لَا، يَعْنِي لَا يُبَاحُ وَنَقَلَ أَبُو طَالِبٍ‏:‏ ظُفْرُ المَرْأَةِ عَوْرَةٌ وَقَالَ فِي الإِنْصَافِ عَنْ قَوْلِ القَاضِي إنَّهُ لَا يَسَعُ النَّاسَ غَيْرُهُ خُصُوصًا الجِيرَانَ، وَحُرِّمَ نَظَرٌ لِشَهْوَةٍ أَوْ مَعَ خَوْفِ ثَوَرَانِهَا ‏.‏
قَالَ شَيْخُ الإِسْلَامِ‏:‏ وَمَنْ اسْتَحَلَّهُ لِشَهْوَةٍ ‏(‏أَيْ النَّظَرَ‏)‏ كَفَرَ إجْمَاعًا وَيَحْرُمُ النَّظَرُ بِشَهْوَةٍ إلَى كُلِّ أَحَدٍ سِوَى الزَّوْجَيْنِ وَأَمَتِهِ غَيْرِ المُزَوَّجَةِ، فَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الأَجْنَبِيَّةُ، وَالأَمْرَدُ وَاَلَّذِي لَهُ لِحْيَةٌ، وَأَمَةُ غَيْرِهِ، وَذَوَاتُ المَحَارِمِ، وَالعَجُوزُ، وَالبَرْزَةُ، وَالَذَى يَنْظُرُ إلَيْهَا عِنْدَ الشَّهَادَةِ عَلَيْهَا، وَالبَيْعِ وَالشِّرَاءِ، وَاَلَّتِي يَخْطُبُهَا ‏.‏
وَكَذَا نَظَرُ المَرْأَةِ إلَى الرَّجُلِ وَالطَّبِيبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَهَذَا كُلُّهُ حَرَامٌ إذَا كَانَ مَعَهُ شَهْوَةٌ وَفِي الغَايَةِ كَغَيْرِهَا وَحُرِّمَ نَظَرٌ لِدَابَّةٍ يَشْتَهِيهَا، وَخَلْوَةٌ بِهَا، كَقِرْدٍ تَشْتَهِيهِ المَرْأَةُ وَمَعْنَى الشَّهْوَةِ التَّلَذُّذُ بِالنَّظَرِ كَمَا فِي الإِنْصَافِ.


 

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
البصر, غض

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 09:19 AM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir