ص: (مسألَةٌ: اللفظُ والمعنَى إنِ اتَّحَدَا فإنْ مَنَعَ تَصَوُّرَ مَعْنَاهُ الشركةُ، فجُزْئِيٌّ وإلاَّ فَكُلِّيٌّ).
ش: هذه المسألةُ في تَقْسيمِ اللفْظِ المُفْرَدِ باعتبارِ نِسْبَتِه إلى المعنَى، وهو أربعةُ أقسامٍ:
الأوَّلُ: أنْ يَتَّحِدَ اللفظُ والمعنَى، فإنْ مَنَعَ تَصَوُّرُ معنَاهُ من وقوعِ الشركةِ في مَفْهُومِه، فهو جُزْئِيٌّ كالعَلَمِ نحوَ: زَيدٌ، وغيرُه من سائرِ الأعْلامِ؛ فإنَّه لا يُشَارِكُه فيه غيرُه، وإنْ لم يَمْنَعْ تَصَوُّرُ معناهُ من وقوعِ الشركةِ فيه، فهو الكُلِّيُّ كالحيوانِ والإنسانِ.
واعْلَمْ أنَّ الجُزْئِيَّ والكُلِّيَّ بالذاتِ هو ذلك المعنَى، وإنَّما يُقَالُ للَّفْظِ الدَّالِ عليه: كُلِّيٌّ وجُزْئِيٌّ بالعَرَضِ والتَّبِعَيَّةِ تَسْمِيةٌ للدَّالِ باسمِ المَدْلُولِ، وغيرُ المُصَنِّفِ قالَ: نَفْسُ تَصَوُّرِ معناهُ، وإنَّما قَيَّدَ التَّصَوُّرَ؛ ليَخْرُجَ بعضُ أقسامِ الكًُلِّيِّ، وهو ما تَمْتَنِعُ فيه الشركةُ لا لِنَفْسِ مَفْهُومِه، بل لأمْرٍ خارجٍ كواجِبِ الوجودِ، والمُصَنِّفُ حَذَفُه؛ لأنَّه ظَنَّ تَمَامَ الحَدِّ= بدونِه وليسَ كذلكَ، فإنَّه لَمَّا أَخَذَ التَّصُوُّرَ في تعريفِ الكُلِّيُّ، عَلِمْنا أنَّ الكُلْيَّةَ والجُزْئِيَّةَ من عوارِضِ الصُّوَرِ الذِّهْنِيَّةِ، فيهما تَوَهَّمٌ؛ أنَّه لو كانَ من الصُّوَرِ الذهنِيَّةِ مالا يَمْنَعُ الشرِكَةُ، كانَتْ حَقِيقَتُها الخارجِيَّةِ كذلك؛ لأنَّ الصَّورَ الذهنِيَّةَ مُطَابِقَةٌ للخَارِجِ، فأُزِيلَ هذا الوَهْمُ، فإنْ مَنَعَ التَّصَوُّرَ الذِّهْنِيَّ للشركةِ وعَدَمَ منعِه ليسَ بالنَّظَرِ إلى ذاتِها بل من حيثُ تَصَوَّرِها.
وقولُه: (لاَ يَمْنَعُ تَصَوُّرَهُ مِن الشركَةِ) أعمٌّ من أنْ يكونَ قَابِلاً للشركةِ أو غيرِ قابلٍ؛ لأنَّ عَدَمَ المَنْعِ أَعَمٌّ من القبولِ، وبهذا يَظْهَرُ حُسْنُ التعبيرِ بنَفْسِ التَّصَوُّرِ؛ لأنَّ المقصودَ أنَّه لا يُشْتَرَطُ كُونُ الشركةِ مُمْكِنَةً عقلاً، بل لم يُنْظَرْ في وَضْعِه إلى الشرِكَةِ، ولا إلى الوقوعِ في الخارجِ، فإنَّ الكُلَّ قد لا يَقْبَلُ الوجودَ بالكُلْيَّةِ كالمُسْتَحِيلِ، وقد يَقْبَلَهُ، ولم يُوجَدْ واحِدٌ من أفرادِه، كبحرٍ من زِئْبَقٍ، أو وُجِدَ واحدٌ إمَّا مع إمْكانِ غيرِه, كالشَّمْسِ عندَ مَن يُجَوِّزُ وُجودَ شَمْسٍ أُخْرَى, أو امتناعِ غيرِه كهي عندَ مَن لا يُجَوِّزُه، كذا قالَه الهِنْدِيُّ، وغيرُه، وقالَ الآمِدِيُّ في (رُمُوزِ الكُنُوزِ) لفظُ الشمْسِ والقَمَرِ كُلِّيَّانِ إلاَّ أنْ يُرَادَ به هذا الشمسُ وهذا القمرُ.
تنبيهان:
أحدُهما: هذا التعريفُ أَحْسَنُ من تعريفِ ابنِ الحَاجِبِ؛ فإنَّ الاشتراكَ ليسَ بشَرْطٍ، وتعبيرُ ابنُ الحَاجِبِ يُوهِمُ شَرْطِيَّتَه، ولا بُدَّ أنْ يَلْحَظَ في الجُزْئِيِّ قَيْدَ التشْخِيصِ والتَّعْيينِ، فإنَّ مع انْتِفاءِ ذلك، لا بُدَّ أنْ يَشْتَرِكا ولو في أَخَصِّ صفاتِ النَّفْسِ.
الثاني: قالَ التَّسْتَرِيُّ، في حَدِّ الكًُلِّيِّ، في حالِ الإيجابِ، قالَ: فإنَّ زيداً يَشْتَرِكُ كثيرُونَ في سَلْبِه عن مَفْهُومِه معَ أنَّه ليسَ بِكُلِّيٍّ، وفيه نَظَرٌ؛ لأنَّ تَصَوُّرَ معناهُ غيرُ الحُكْمِ عليه بالإيجابِ والسَّلْبِ.
ص: (مُتَوَاطِئٌ إنِ اسْتَوَى، ومُشَكِّكٌ إنْ تَفَاوَتَ).
ش: يَنْقَسِمُ الكُلِّيُّ إلى مُتَوَاطِئٍ ومُشَكِّكٍ؛ لأنَّه إنْ كانَ حُصُولُ معناهُ في أفْرَادِه على التَّساوِي، فهو المُتَواطِئُ كدلالَةِ الإنسانِ على زَيدٍ وعمرٍو ونحوِه، إذِ كُلُّ فَرْدٍ من أَفْرَادِه لا يَزِيدُ على الآخَرِ في الإنسانِيَّةِ، فإنَّ الإنسانِيَّةَ التي في زَيدٍ مَثَلاً ليْسَتْ بِأَسَدٍ ولا أَوْلَى ولا أَقْدَمُ منها في عمرٍو، سُمِّيَ بذلك لمُطَابَقَةِ كلِّ واحدٍ من أفرادِه معناهُ، والمُوَاطَأَةُ: المُوَافَقَةُ، وإنْ كانَ حُصُولُ ذلك المعنَى في بعضِ أفْرَادِه يَتَفَاوتُ في مَفْهُومِه لشِدَّةٍ أو ضَعْفٍ، أو تَقَدُّمٍ أو تَأَخُّرٍ ـ فهو المُشَكِّكُ، كإطلاقِ الأبَيضِ على الثَّلْجِ والعَاجِّ ونحوِه، فإنَّ البَياضَ الذي في الثَّلْجِ أَشَدُّ منه في العَاجِّ، سُمِّيَ مُشَكِّكاً؛ لأنَّه يُشَكِّكُ النَّاظِرَ هل هو مُتَوَاطِئٌ لوحِدَةِ الحقيقَةِ فيه، أو مُشْتَرِكٌ لِمَا بينَهُما من الاختلافِ؟ وجَوَّزَ الهِنْدِيُّ فَتْحَ الكافِّ على أنَّه اسمُ مفعولٍ، لكونِ الناظرِ يَتَشَكَّكُ فيه، في ذلكَ، وقد أَوْرَدَ عليه أنَّ الأَبْيَضَ مثلاً، إذا أُطْلِقَ على الثَّلْجِ فإمَّا أنْ يَكُونَ اسْتِعْمَالُه فيه مع ضَمِيمَةِ تلكَ الزيادَةِ، أو لا، فإنَّ لم تَكُنْ فهو المُتَوَاطِئُ، وإنْ كانَ فهو المْشَتَرِكُ، فإذا لا حقيقةَ لهذا القِسْمِ المُسَمَّى بالمُشَكِّكِ، وأُجِيبَ بأنَّ تركيبَ الشَّبَهَيْنِ يُحْدِثُ له طبيعَةً أُخْرَى، كالخُنْثَى لا ذَكَرَ ولا أُنْثَى، واعْلَمْ أنَّه رُبَّما اتَّفَقَ في الاسم الواحدِ بالنَّظَرِ إلى مُسَمِّيَيْنِ؛ التَّوَاطُؤِ والاشِتراكِ من جِهَتَيْنِ كالأسودِ إذا قيلَ على شَيْئَيْنِ مُلَوَّنَيْنِ بالسوادِ فإنَّه مُشْتَرِكٌ إنْ جُعِلَ لَقَباً لهما ومُتَوَطِّئَينِ إنْ دَلَّ عليْهِما باعتبارِ سَوَادَيْهِما.
ص: (وإنْ تَعَدَّدَا فمُتَبَايُنٌ).
ش: القِسمُ الثاني: أنْ يَتَعَدَّدَ اللَّفْظُ والمعنَى، فهي الألفاظُ المُتَبايِنَةٌ كالإنسانِ والفَرَسِ والبَقَرِ، وغيرِ ذلك من الألفاظِ المُخْتَلِفَةِ المَوْضُوعَةِ لمَعانٍ مُخْتَلِفَةٍ، سُمِّيَ بذلك لتَبَايُنِها في الدلالَةِ والألفاظِ.
ص: (وإنْ اتَّحَدَ المعنَى دونَ اللفظِ فمُتَرادِفٌ).
ش: الثالثُ: أنْ يكونَ اللفظُ كثيراً والمعنَى واحدٌ، فهي الألفاظُ المترادفِةُ، كالإنسانِ والبَشَرِ لِواحدٍ، قالَ الآمِدِيُّ: واتِّحادُ موضوعِ المُسَمِّياتِ المُنْفِرِدَةِ لا يُوجِبُ الترادُفَ، كالسيفِ والصارمِ والهِنْدِيِّ، بل هي مُتَبَايَنَةٌ.
ص: (وعَكْسُه إنْ كانَ حَقِيقَةٌ فيهما فمُشْتَرَكٌ، وإلاَّ فحقيقةٌ ومجازٌ).
ش: الرابعُ: أنْ يَتَّحِدَ اللفظُ ويَتَكَثَّرَ المعنَى، وهو يَشْتَمِلُ على أقسامٍ، لأنَّه وُضِعَ لمَعْنَيَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ أو أَزْيدَ دَفْعَةَ فهو المُشْتَرِكُ، كالعَيْنِ: للبَاصِرَةِ والجَارِيَةِ والدينارِ وغيرِها، وإنْ وُضِعَ لمعنًى ثمَّ نُقِلَ عنه إلى معنًى آخَرَ لعَلاقَةٍ ولم يَغْلُبْ اسْتِعْمَالُه في المَنْقُولِ إليه ـ فهو بالنِّسْبَةِ إلى المعنَى الأوَّلِ حقيقةٌ، وإلى الثاني مجازٌ، كالأسَدِ الموضوعِ للحيوانِ المُفْتَرِسِ المَنْقُولِ إلى الرجُلِ الشجاعِ للمُنَاسبَةِ بينَهما، وهي القَوْلَةُ؛ فإنْ غَلَبَ سُمِّيَ لفظاً مَنْقُولاً، وقَسَّمُوهُ باعتبارِ الناقلِ إلى ثلاثةِ أقسامٍ؛ لأنَّه إمَّا الشرعُ أو العُرْفُ العامُّ أو الخاصُّ، وسُمِّيَتِ المنقولةُ مجازاً، اشْتِقاقاً من التجاوزِ، وهو التَّعَدِّي، إذِ التَّجَوَّزُ يَتَعَدَّى المعنى الحقيقيَّ.
ص: (والعَلَمُ: ما وُضِعَ لمُعَيِّنٍ لا يَتَنَاولُ غيرَه).
ش: هذا منه بيانٌ لبعضِ أقسامِ الجزئيِّ، وعَرَّفَه تَوْطِئَةً لِمَا سيَذْكُرُه من الفرقِ بينَ الشخْصِيِّ منه والجِنْسِيِّ، فقولُه: (ما وُضِعَ لمُعَيِّنٍ) جِنْسٌ يَتَنَاولُ جميعَ المعارفِ، وخَرَجَ عن المنكراتِ.
وقولُه: (لا يَتَنَاولُ غيرَه) فَصَلَ خَرَجَ به ما عَدَاهُ من المعارفِ؛ فإنَّ اسمَ الإشارةِ صَالِحٌ لكلِّ مُشَارٍ إليه، والضميرُ صالِحٌ لكلِّ مُتَكَلِّمٍ ومُخَاطَبٍ وغَائِبٍ، وهذا الحدُّ ذَكَرَهُ ابنُ الحَاجِبِ في مُقَدِّمَتِه النَّحْوِيَّةِ، وزَادَ فيه: بوَضْعٍ واحدٍ، لئلاَّ يَتَوَهَّمَ أنَّ زيداً إذا سُمِّيَ به رجُلاً ثمَّ سُمِّيَ به آخَرَ فهو مُتَنَاولٌ لغَيْرِه فلا يكونُ الحَدُّ جامعاً، فلمَّا قالَ: بوَضْعٍ واحدٍ، دَخَلَ ذلك؛ فإنَّه وإنْ تَنَاولَ غيرَه، لكنْ ليسَ بوَضْعٍ واحدٍ بل بأوضاعٍ.
وقالَ في شَرْحِه: خَرَجَ بقولِه: لا يَتَنَاولُه غيرَه، قولُكَ: أنتَ وأنتَ مُخَاطِبٌ زيداً، فإنَّه يَصِحُّ أنْ يُقالَ: وأنتَ، لعَمْرٍو إذا خَاطَبْتُه أيضاً، ومُرادُه بذلك أنَّ (أنتَ) يُوضَعُ لشيءٍ بعَيْنِه، وهو معَ ذلكَ مُتَنَاولٌ لغيرِ ما وُضِعَ له على التَّعْيينِ، واعْتُرِضَ عليه؛ بأنَّ هذا اللفظَ وُضِعَ للمُخَاطَبِ على التَّعْيينِ، فهو لا يَتَنَاولُ غيرَه، لكنْ قد يَعِرضُ الاشتراكَ بحَسَبِ مُخَاطَبَيْنِ أو ثلاثةٍ، وهذا بعينِه.
فقالَ: في العَلَمِ؛ لأنَّ زيداً أيضاً قد يَقَعُ فيه الاشتراكُ بحَسَبِ الاتفاقِ، وذلكَ لا عِبْرَةَ له؛ لأنَّ واضِعَ اللُّغَةِ جَعَلَ النَّكِرَاتَ شَائِعَةً في نوعِها أو جِنْسِها من غيرِ نَظَرٍ إلى فَرْدٍ من أفرادِها، وجَعَلَ المَعْرَفَةَ لشيءٍ له بعينِه, ثم إنَّ العَالَمَ بلُغَتِه يَسْتَعْمَلَ ألفاظَ المعارِفِ بعدَ عَدَمِ أشخاصِها لأشخاصٍ أُخَرَ، معَ مُرَاعَاةِ غَرِضِ الواضِعِ، وهو التَّّعْيينُ في الأصْلِ، والحقُّ أنَّ الضَّمِيرَ كُلِّيٌّ باعتبارِ صلاحيتِه لكلِّ مُتَكَلِّمٍ ومُخَاطَبٍ وغَائِبٍ، وجُزْئِيٍّ باعتبارِ عُروضِ الجُزْئِيَّةِ والشخْصِيَّةِ بسَبَبِ قَصْدُكَ به مُعِيناً فقولُهم: إنَّه وُضِعَ لمعنًى، إنَّما هو باعتبارِ العارضِ.
ص: (فإنْ كانَ التَّعْيينُ خارجيًّا، فعَلَمُ الشَّخْصُ، وإلاَّ: فعَلَمُ الجِنْسِ، وإنَّ للمَاهِيَّةِ من حيثُ هي: فاسمُ جِنْسٍ).
ش: العَلَمُ إمَّا مُسَمَّاهُ جُزْئِيٌّ مخصوصٌ كزيدٍ، ويُسَمَّى عَلَمُ الشخصِ، أو كُلِّيٌّ شائعٌ، كأُسَامَةَ للأسدِ، وثُعَالَةَ للثَّعْلَبِ، ويُسَمَّى عَلَمُ الجِنْسِ، وهو عَلَمٌ لفظاً، نَكِرَةٌُ معنًى، فاسمُ أُسَامَةَ صَالِحٌ لكلِّ أَسَدٍ، بخلافِ عَلَمُ الجِنْسِ، وقد كَثُرَ كلامُ الناسِ في الفرقِ بينَ هذه الثلاثةِ، أعْنِي عَلَمُ الشَّخْصِ، وعَلَمُ الجِنْسِ، واسمُ الجِنْسِ النَّكِرَةِ كأسدٍ، وهو من نَفَائِسِ المَبَاحِثِ، قالَ القِرَافِيُّ: وكانَ الخسروشاهيُّ يُقَرِّرُهُ، ولم أَسْمَعْه من أَحَدٍ إلاَّ منهُ، وكانَ يقولُ: ما في البلادِ المصريَّةِ مَن يَعِرِفُه، وفَرَّقَ بينَ العَلَمَيْنِ، بأنَّ عَلَمَ التَّشَخُّصِ مَوْضوعٌ للحقيقَةِ بقَيْدِ التَّشَخُّصِ الخارجيِّ، وعَلَمَ الجِنْسِ مَوْضوعٌ للمَاهِيَّةِ بقَيْدِ التَّشَخُّصِ الذِّهْنِيِّ، وفَرَّقَ بينَ اسمِ الجِنْسِ وعَلَمِ الجِنْسِ بخصوصِ الصُّوَرِ الذِّهْنِيَّةِ، فإنْ وُضِعَ لها من حيثُ خُصُوصُها فهو عَلَمُ الجِنْسِ، أو من حيثُ عُمُومُها فاسمُ الجِنْسِ، وعلى هذا الفَرْقِ مَشَى المُصَنِّفُ، أنَّ اسمَ الجِنْسِ هو الموضوعُ للحقيقةِ الذِّهْنِيَّةِ من حيثُ هي، فـ (أَسَدٌ) موضوعٌ للحقيقةِ من غيرِ اعتبارِ قَيْدٍ مَعَهَا أَصْلاً، وعَلَمُ الجِنْسِ مَوْضوعٌ للحقيقةِ باعتبارِ حضورِها الذِّهْنِيِّ، الذي هو نَوْعُ تَشَخُّصٍ لها مع قَطْعِ النَّظَرِ عن أَفْرَادِها، ونَظِيرُه المُعَرَّفَةُ باللاَّمِ التي هي للحقيقةِ والماهِيَّةِ، فإنَّ الحقيقةَ الحاضِرَةُ في الذِّهْنِ وإنْ كانَتْ عامَّةٌ بالنسْبَةِ إلى أفرادِها، فهي باعتبارِ حُضُورِها فيه أَخَصٌّ من مُطْلَقِ الحقيقةِ، فإذا اسْتَحْضَرَ الواضِعُ صورةَ الأسَدِ، ليَضَعَ لها تلكَ الصورةَ الكائنَةَ في ذِهْنِه، جُزْئِيَّةً بالنسبَةِ إلى مُطْلَقٍ صورةِ الأسدِ، فإنَّ هذه الصورةَ واقِعَةٌ لهذا الشَّخْصِ في زمانٍ، ومِثْلُها يَقَعُ في زمانٍ آخَرَ، وفي ذِهْنٍ آخَرَ والجميعُ مُشْتَرِكٌ في مُطْلَقِ صُورَةِ الأسَدِ، وفي كلامِ سِيبَوَيْهِ إشارةٌ إلى هذا الفَرْقِ، فإنَّه قالَ في بابِ تَرْجَمَتِه (هذا بابُ مِن المَعْرِفَةِ يكونُ الاسمُ الخاصُّ فيه شائعاً في أُمَّتِه، ليسَ واحداً منها بأَوْلَى من الآخَرِ) ما نَصَّهُ: إذا قلتَ: هذا أَبُو الحَارِثَ، إنَّما تُرِيدُ هذا الأسدُ، أي: هذا الذي سَمِعْتَ باسْمِه لو عَرَفْتَ أشْبَاهَه، ولا تُرِيدُ أنْ تُشِيرَ إلى شيءٍ قد عَرَفْتَه كزيدٍ، ولكنَّه أَرَادَ هذا الذي كلَّ واحدٍ من أمَّتِه له هذا الاسمِ. انتهى.
فجَعَلَه بمَنْزِلَةِ المُعَرَّفِ باللاَّمِ التي للحقيقةِ، وقولًُه: (هذا) إشارَةٌ إلى شيءٍ بعَيْنِه، فصَارَ أُسَامَةُ يُغْنِي عن هذا، كما أنَّ زيداً يُغْنِي عن قولِك: الرجُلُ المعروفِ بكذا وكذا، وكونُ أُسَامَةَ وَاقِعٌ على كلِّ أَسَدٍ إنَّما كانَ؛ لأنَّ التعريفَ فيه للحقيقةِ، وهي مَوْجُودَةٌ فيه كذا قَرَّرَهُ ابنُ عَمْرُونَ قالَ: ونَظِيرُه: يا رُجُلَ، إذا أَرَدْتَ مُعَيَّناً، فأيُّ رَجُلٍ أَقْبَلْتَ عليه ونَادَيْتَه، كانَ مُعَرَّفَةٌ لوجودِ القَصْدِ إليه، فكذا أُسَامَةُ؛ أي: أَسَدٌ رَأَيْتَه، فإنَّك تُرِيدُ هذه الحقيقةَ المَعْرُوفَةَ بكذا، فالتَّعَدُّدِ ليسَ بطريقِ الأصلِ. انتهى.
وقالَ ابنُ مَالِكٍ بعدَ ذِكْرِه نَصَّ= سِيبَوَيْهِ هذا: جَعَلَه خَاصًّا شائعاً في حالةٍ واحدةٍ مَخْصُوصَةٍ، باعتبارِ تَعْيينِه الحقيقَةُ= في الذِّهْنِ، وشِيَاعُه باعتبارِ أنَّ لِكُلِّ شَخْصٍ من أشخاصِ نَوْعِه قِسْطاً من تلك الحقيقةِ في الخارجِ، والذي اخْتَارَهُ والدُ المُصَنِّفِ أنَّ عَلَمَ الجِنْسِ: ما قُصِدَ به تَمْييزُ الجِنْسِ عن غيرِه مع قَطْعِ النَّظَرِ عن أفرادِه.
واسمُ الجِنْسِ: ما قُصِدَ به مُسَمَّى الجِنْسِ باعتبارِ وقُوعِه على الأفرادِ، حتى إذا دَخَلَتْ عليه الألِفُ واللاَّمُ الجِنْسِيَّةُ، صَارَ مُساوياً لعَلَمِ الجِنْسِ؛ لأنَّ الألِفَ واللاَّمَ الجِنْسِيَّةَ لتَعْرِيفِ المَاهِيَّةِ، وفَرَّعَ على ذلك أنَّ عَلَمَ الجِنْسِ لا يُثَنَّى ولا يُجْمَعُ، لأنَّ الحقيقةَ من حيثُ هي لا تَقْبَلُ جمعاً ولا تَثْنِيَةً؛ لأنَّ التَّثْنِيَةَ والجَمْعُ إنَّما هو للأفرادِ، لكنْ صَرَّحَ ابنُ السَّمْعَانِيِّ في (القواطعِ) أنَّ الألِفَ واللاَّمَ الداخِلَةِ على اسمِ الجِنْسِ، لعَهْدِ الجَنْسِ لا للتَّعْرِيفِ.
وقالَ ابنُ الحَاجِبِ في (شَرْحِ المُفَصَّلِ) في الفَرْقِ بينَ أُسَامَةَ وزَيدٍ: إنَّ أسداً مَوْضُوعٌ لفَرْدٍ من أفرادِ النَّوْعِ لا بعَيْنِه، فالتَّعَدُّدُ فيه من أَصْلِ الوَضْعِ، وأُسَامَةَ موضوعٌ للحقيقةِ المُتَّحِدَةِ في الذِّهْنِ، فإذا أَطْلَقْتَ أسداً على واحدٍ أَطْلَقْتَه على أَصْلِ وَضْعِه، وإذا أَطْلَقْتَ أُسَامَةَ على الواحدِ فإنَّما أَرَدْتَ الحقيقةَ، ويَلْزَمُ من ذلك التَّعَدُّدُ في الخارجِ، فالتَّعَدُّدُ فيه ضِمْناً لا قَصْداً بالوَضْعِ، وهذه الفروقُ إنْ أُرِيدَ بها أنَّ وَضْعَ اللُّغَةِ ذلك فيَحْتَاجُ إلى دليلٍ وإلاَّ فهِيَ تَحَكُّمَاتٍ.