دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > علوم القرآن الكريم > مكتبة التفسير وعلوم القرآن الكريم > جامع علوم القرآن > جمال القراء وكمال الإقراء

 
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 19 ذو القعدة 1431هـ/26-10-2010م, 10:32 AM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي الكتاب العاشر: علم الاهتداء في معرفة الوقف والابتداء


بسم الله الرحمن الرحيم
الكتاب العاشر
علم الاهتداء
في
معرفة الوقف والابتداء

حدثني الإمام أبو الفضل محمد بن يوسف الغزنوي رحمه الله، حدثني أبو الفتح عبد الملك بن أبي القاسم، حدثني أبو عامر الأزدي وأبو نصر الترياقي وأبو بكر الفورجي، قالوا: حدثنا أبو محمد عبد الجبار بن محمد الجراحي، ثنا أبو العباس محمد بن أحمد المحبوبي عن أبي عيسى الترمذي، حدثنا علي بن حجر، ثنا يحيى بن سعيد الأموي عن ابن جريح عن ابن أبي مليكة عن أم سلمة قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقطع قراءته، يقرأ: {الحمد لله رب العالمين} ثم يقف {الرحمن الرحيم} ثم يقف".
وحدثني أبو المظفر الجوهري، حدثني أبو الفضل بن ناصر، حدثني أبو طاهر محمد بن أحمد بن أبي الصقر الأنباري، حدثني علي بن الحسين بن ميمون بن محمد بن عبد الغفار، حدثني أبو الحسن محمد بن عبد الله بن زكريا بن حيويه عن أبي عبد الرحمن أحمد بن شعيب بن علي النسائي، أخبرنا قتيبة بن سعيد، ثنا الليث بن سعد، عن عبد الله بن أبي مليكة، عن يعلى بن مملك أنه "سأل أم سلمة عن قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم وصلاته فقالت: ما لكم وصلاته، ثم نعتت قراءة مفسرة حرفا حرفا".
ومعنى قوله: (مفسرة حرفا حرفا) ما سبق في الحديث الأول من الوقف على رأس الآية.
[2/548]
وحدثني الغزنوي رحمه الله بالإسناد المتقدم، قال أبو عيسى: ثنا أحمد بن منيع، ثنا الحسن بن موسى، قال: ثنا شيبان عن عاصم عن زر بن حبيش عن أبي بن كعب قال: (لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل فقال: ((يا جبريل، إني بعثت إلى أمة أميين، منهم العجوز، والشيخ الكبير، والغلام، والجارية، والرجل الذي لم يقرأ كتابا قط. قال: يا محمد، إن القرآن أنزل على سبعة أحرف)).
قال أبو عيسى: وفي الباب عن عمر، وحذيفة بن اليمان، وأبي هريرة، وأم أيوب – وهي امرأة أبي أيوب الأنصاري، وسمرة، وابن عباس، وأبي جهم بن الحارث ابن الصمة. ثم قال: هذا حديث حسن صحيح، قد روي عن أبي بن كعب من غير وجه.
وإنما ذكرت هذا الحديث في هذا الموضع لأني رويته عن شيخي أبي القاسم رحمه الله بزيادة تليق بهذا المكان، حدثني شيخنا أبو القاسم الشاطبي رحمه الله، ثنا أبو الحسن بن هذيل، ثنا أبو داود سليمان بن نجاح، ثنا أبو عمرو عثمان بن سعيد الداني رحمه الله، ثنا فارس بن أحمد المقرئ، ثنا أحمد بن محمد وعبد الله بن محمد قالا: ثنا علي بن الحسين قال: ثنا يوسف بن موسى، ثنا هشام بن عبد الملك، حدثنا همام، ثنا قتادة عن يحيى بن يعمر عن سليمان بن صرد الخزاعي عن أبي بن كعب قال: أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((إن الملك كان معي فقال: اقرأ القرآن، فعد حتى بلغ سبعة أحرف. فقال: ليس منها إلا شاف كاف ما لم تختم آية عذاب برحمة وتختم رحمة بعذاب)).
[2/549]
وقال أبو عمرو: حدثنا فارس بن أحمد بن موسى المقرئ، ثنا أحمد بن محمد وعبيد الله بن محمد قالا، ثنا علي بن الحسين القاضي قال: ثنا يوسف بن موسى القطان، ثنا عفان بن مسلم، ثنا حماد بن سلمة، وسمعته منه قال: أخبرنا علي بن زيد بن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه " أن جبريل عليه السلام أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: اقرأ على حرف، فقال ميكائيل: استزده، فقال: اقرأ على حرفين. قال ميكائيل: استزده، حتى بلغ سبعة أحرف كل كاف شاف ما لم تختم آية عذاب بآية رحمة أو آية رحمة بآية عذاب".
وقال أبو عمرو أيضا: حدثنا خلف بن أحمد القاضي، ثنا زياد بن عبد الرحمن، ثنا محمد بن يحيى بن حميد، ثنا محمد بن يحيى بن سلام عن أبيه عن حماد بن سلمة عن علي بن زيد، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله، إلا أنه قال: "ما لم تختم آية رحمة بعذاب، أو آية عذاب بمغفرة".
قال أبو عمرو الداني رحمه الله عقيب هذا الحديث: فهذا تعليم التمام من رسول الله صلى الله عليه وسلم عن جبريل عليه السلام، إذ ظاهره دال على أنه ينبغي أن يقطع على الآية التي فيها ذكر النار والعقاب وتفصل مما بعدها إذا كان بعدها ذكر الجنة والثواب، وكذلك يلزم أن يقطع على الآية التي فيها ذكر الجنة والثواب وتفصل مما بعدها أيضا إن كان بعدها ذكر النار والعقاب.
وليس الأمر كما ذكر أبو عمرو، بل الحديث يدل على أن القارئ يقف حيث شاء لقوله " كل كاف شاف" ولم يرد بالفصل وترك الوصل أن الكلام قد تم، وإنما أراد أن القارئ إذا وصل غير المعنى وقلبه، لأنه إذا قال: {تلك عقبى الذين اتقوا وعقبى الكافرين} غير المعنى، وصير الجنة عقبى الكافرين، ألا ترى أنه لو قرأ {يغفر لمن يشاء ويعذب} لم يكن في ذلك شيء وإن كان قد وصل المغفرة
[2/550]
بالعذاب، وإنما الممنوع تغيير المعنى بسبب الوصل، ويدخل في هذا نحو قوله عز وجل: {ولا يحزنك قولهم إن العزة لله جميعا} إذ في وصله ما يوهم أنهم قالوا: إن العزة لله جميعا، وأن قولهم ذلك قد أحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس كل أحد يعلم المراد، فيقع اللبس على من لا علم له، لا سيما غير العرب، فيوقف على قوله عز وجل: {ولا يحزنك قولهم} ويبتدأ {إن العزة لله جميعا}.
وليس كل التمام على هذه الصفة فيكون هذا تعليم للتمام، إنما هذا تعليم للمعنى، ولهذا الحديث أجاز حمزة رحمه الله الوقف حيث ينقطع النفس إلا نحو قوله عز وجل: {وقالوا اتخذ الله ولدا} لا يقف على {قالوا}، وكذلك لا يقف على {اليهود} في قوله عز وجل: {وقالت اليهود عزير ابن الله} ولا على {اليهود} في قوله عز وجل: {وقالت اليهود يد الله...} ولا على {النصارى} في قوله عز وجل: {وقالت النصارى المسيح ابن الله}.
وحدثني شيخنا أبو اليمن زيد بن الحسن الكندي رحمه الله، وقرأه علي وسمعته من لفظه وقال لي: نقلته من كلام أبي الكرم المبارك بن فاخر النحوي البغدادي ومن خطه، وكتب به إلى شيخنا أبي محمد رحمه الله قال: الجملة التأليفية المركبة على الاستقلال المتساند بعضها إلى بعض من غير إخلال،
[2/551]
إذا تعولم إجراءها في محالها ومواضعها، وتعورف أركازها في مراكزها وأماكنها بكثرة الدور والكرور والطروق والمرور أهاب كل منها بما يليه فأجابه بما يقتضيه قبله أو بعده على حسب ما يقتضيه قصده، فاقتضى الموقوف عليه ما بدئ به بعده، والمبدوء به ما وقف عليه قبله اقتضاء اللاجئ من يلجأ إليه، والمحيل من يحيل عليه، فإذا ضرب المتكلم عن أيهما كان صفحا، وأضرب وذهب عن ذكره ونكب، قام ببيانه ما منه في النفس، وشهد بمكانه ما أدركه الحس، فكان في حكم المذكور وإن كان مطويا غير منشور، فاستوى فيه الناقص والتام والموفى النظام والنيف عن التمام، فجاز أن يوقف على كل منهن كما يبدأ به، ويبدأ به كما يوقف عليه، إلا أن الأحسن أن يوقف على الأتم وما يقدر به وما أناف عليه، ثم الأحسن، وأن لا يوقف على الناقص ولا ما يقدر به، ولا القبيح إلا على استكراه أو ضرورة، فإذا فرض ذلك في التنزيل – جل المتكلم به – اختلف الناس فيه، فذهب الجمهور إلى تقدير الوقف على ثمانية أضرب: تام، وشبيه به، وناقص، وشبيه به، وحسن، وشبيه به، وقبيح، وشبيه به. وصنفوا في ذلك كتبا مدونة، وذكروا فيها أصولا مجملة، وفروشا في الآي مفصلة، فمنها ما آثروه عن أئمة كل عصر، ومنها ما آثروه عن أئمة العربية من النحويين من كل مصر، ومنها ما استنبطوه على وفاق الأثر أو خلافه، ومنها ما اقتدوا فيه بالأثر فقط، كالوقف على أواخر الآي، وهو وقف النبي صلى الله عليه وسلم.
وذهب أبو يوسف القاضي صاحب أبي حنيفة رحمهما الله إلى أن تقدير الموقوف عليه من القرآن بالتام أو الناقص أو الحسن أو القبيح، وتسميته بذلك – بدعة، ومسميه بذلك ومتعمد الوقف على نحوه مبتدع، قال: لأن القرآن معجز، وهو كالقطعة الواحدة، وكله قرآن وبعضه قرآن، وكله تام حسن وبعضه تام حسن.
حدثنا بذلك شيخنا أبو القاسم بن برهان، قال شيخنا أبو اليمن رحمه الله نقلت هذا الفصل من تعليقة بخطه – يعني أبا الكرم المبارك بن فاخر.
[2/552]
وليس الأمر كما ذكر أبو يوسف؛ فإن الكلمة الواحدة ليست من الإعجاز في شيء، وإنما المعجز الرصف العجيب، والنظم الغريب، وليس ذلك لبعض الكلمات. وقوله: إن بعضه تام حسن كما أن كله تام حسن – يقال له: لو قال قارئ: (إذا جاء) ووقف، أهذا تام وقرآن؟ فإن قال نعم، قيل: فما يحتمل أن يكون القائل أراد: إذا جاء الشتاء، وكذلك كل ما يفرده من كلمات القرآن موجود في كلام البشر، فإذا اجتمع وانتظم انحاز عن غيره وامتاز وظهر ما فيه من الإعجاز.
ففي معرفة الوقف والابتداء الذي دونه العلماء تبيين معاني القرآن العظيم، وتعريف مقاصده، وإظهار فوائده، وبه يتهيأ الغوص على درره وفرائده، فإن كان هذا بدعة فنعمت البدعة هذه.
وأجاز جماعة من القراء الوقف على رؤوس الآي عملا بالحديث، فيقولون "الحمد لله رب العالمين" ثم يقولون: "الرحمن الرحيم"، وهو مذهب يؤيده الحديث والمعنى: أما الحديث فقد ذكر، وأما المعنى فإن هذه الفواصل إنما أنزل القرآن بها ليوقف عليها، وتقابل أختها، وإلا فما المراد بها ! ألا ترى أن {بمصيطر} تقابل {إنما أنت مذكر}. وكذلك {الأكبر} تماثل {من تولى وكفر}.
إلا أن من الفواصل ما لا يحسن الوقف عليه كقوله عز وجل: {فويل للمصلين} لأن المراد: فويل للساهين عن صلاتهم المرائين فيها، فلا يتم هذا المعنى إلا بالوصل. وليس الوقف على قوله: {والضحى} كالوقف على ما جاء في الحديث، فاعلم هذا.
[2/553]
وعن أبي عمرو بن العلاء رحمه الله الوقف على نحو قوله عز وجل: {يؤمنون بالغيب} ويبتدئ {ويقيمون الصلاة} لأن الثاني منفصل عن الأول؛ لأن إقامة الصلاة معنى غير الإيمان بالغيب، وكذلك كل ما كان مثله.
وقد اختار العلماء وأئمة القراء تبيين معاني كلام الله عز وجل وتكميل معانيه، وجعلوا الوقف منبها على المعنى، ومفصلا بعضه عن بعض، وبذلك تلذ التلاوة، ويحصل الفهم والدراية، ويتضح منهاج الهداية، ولا يقفون على مبتدأ دون خبره، ولا على موصوف دون صفته إلا أن يكون الكلام في الوقف على الموصوف مستقلا مفيدا مفهوما فيجيزون الوقف عليه، ولا يجيزون الابتداء بما بعده ويسمونه الوقف الحسن، وسيأتي بيان ذلك إن شاء الله، ولا على المبدل منه دون البدل، إلا كقوله عز وجل: {اهدنا الصراط المستقيم} فإنه يوقف عليه ولا يبتدأ بما بعده كما تقدم في الصفة، ولا على الشرط دون جزائه كقوله عز وجل: {ومن يتق الله} وهذا الوقف قبيح لأنه كلام غير مفهوم حتى يتصل بقوله عز وجل: {يجعل له مخرجا}، وكذلك جواب (لو) نحو {لو استطعنا لخرجنا}، وكذلك (لولا) كقوله: {ولولا دفع الله الناس...}، وقد يكون جوابهما محذوفا فيوقف حينئذ، كقوله عز وجل: {ولو أنهم آمنوا واتقوا} الوقف على {واتقوا} وتبتدئ: {لمثوبة}، وكذلك: {ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله تواب حكيم}، ولا على الأمر دون جوابه إلا أن يكون
[2/554]
الكلام مفهوما مفيدا فيوقف عليه ولا يبتدأ بما بعده، كقوله عز وجل: {وأطيعون * يغفر لكم}، وكذلك: {استغفروا ربكم إنه كان غفارا}، تقف عليه ولكن لا تبتدئ {يرسل السماء} وكذلك النهي كقوله عز وجل: {فلا تدع مع الله آلها آخر} تبتدئ {فتكون من المعذبين}، وكذلك الدعاء كقوله عز وجل. {ربنا أخرنا إلى أجل قريب} لا يبتدأ بما بعده فيقال: {نجب دعوتك}.
قال مصنفو الوقف والابتداء: وكذلك الاستفهام، قالوا: لا يوقف على {حقا} من قوله عز وجل: {فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا} حتى يصله بقوله عز وجل: {قالوا نعم} لأنه جواب، وليس هذا عندي كجواب الشرط ولا كجواب الأمر في قبح الابتداء بالجواب، بل الابتداء به حسن سائغ.
وكذلك التمني لا يوقف عليه دون الجواب كقوله عز وجل: {يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيما} ولا على القسم دون جوابه كقوله عز وجل: {والليل إذا يغشى} وما بعده، لا يوقف على {الأنثى} لأن الفائدة في المقسم عليه وهو قوله عز وجل: {إن سعيكم لشتى}. وكذلك قوله عز وجل: {والضحى} لا يوقف دون: {ما ودعك ربك وما قلى}، وكذلك: {والذاريات
[2/555]
ذورا}، {والتين والزيتون} وما أشبهه.
وأما قوله تعالى: {والنازعات غرقا} فإنه يوقف على قوله عز وجل: {فالمدبرات أمرا} لأن الجواب محذوف والتقدير: لتبعثن، هذا إن جعلت {يوم ترجف الراجفة} منصوبا بفعل مضمر، أي: اذكر يوم، وإن قدرته ظرفا للفعل المقدر، أي: لتبعثن يوم، لم تقف على {المدبرات أمرا} وقد زعم قوم أن الجواب {يوم ترجف الراجفة} وقال آخرون: الجواب: إن في ذلك لعبرة، والأول قول أجلاء العلماء.
والاستثناء على ضربين: متصل ومنقطع، فالمتصل قالوا: لا يوقف على المستثنى منه دون المستثنى كقوله عز وجل {إن الإنسان لفي خسر} لأن الإنسان يراد به هاهنا جميع الناس. قال بعض المفسرين: أراد بالخسر دخول النار، وقيل: لفي خسر من التجارة {إلا الذين آمنوا} فإنهم اشتروا الآخرة بالدنيا فربحوا، وغيرهم تجر خلاف تجارتهم فخسر. قال أبو عبيدة: لفي مهلكة ونقصان.
والمنقطع: ما كان المستثنى فيه ليس من الأول، كقوله عز وجل في سورة الانشقاق: {فبشرهم بعذاب أليم} قال ابن الأنباري: هو استثناء منقطع، كأنه قال: لكن الذين آمنوا وعملوا الصالحات، كما قال في سورة البقرة: {لئلا
[2/556]
يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم} قال: معناه: لكن الذين ظلموا منهم فإنهم لا حجة لهم، وكذلك يروى عن ابن مجاهد أنه كان يقف على {أجر غير ممنون} وقال: معناه: لكن، ولا مانع من القضاء باتصاله، أي: إلا الذين آمنوا من المذكورين وعملوا الصالحات.
وقوله عز وجل في سورة البقرة: {اسجدوا لآدم فسجدوا} يسوغ فيه الأمران، وكيف ما كان فالوقف عليه سائغ، إلا أنه لا يبتدأ بما بعده إذا قدرته متصلا.
ومما عدوه من المنقطع قوله تعالى: {إلا أذى} في "آل عمران"، و{إلا بحبل من الله وحبل من الناس}، وقوله عز وجل: {وكيلا * إلا رحمة من ربك}، في "بني إسرائيل"، و{إني لا يخاف لدي المرسلون إلا من ظلم}، و{لست عليهم بمسيطر * إلا من تولى وكفر}، وقوله عز وجل في سورة والتين والزيتون: {أسفل سافلين * إلا الذين آمنوا} فأجازوا الابتداء بـ (إلا) في هذه المواضع. وقال ابن النحاس في قوله عز وجل: {لدي المرسلون} تام، لأن {إلا من ظلم} استثناء ليس من الأول بمعنى لكن.
قال أبو عمرو الداني: فسبيل ما ورد في كتاب الله عز وجل من هذا الضرب من الاستثناء في كون الوقف قبله تاما سبيل هذين الموضعين، يعني {إلا من ظلم} و{إلا الذين آمنوا} في "الانشقاق" وذكر جميع المواضع التي ذكرتها.
[2/557]
فأقول وبالله التوفيق: أما قوله عز وجل: {لن يضروكم إلا أذى} فإن جماعة من المفسرين ذهبوا إلى أنه منقطع، والقول بأنه متصل ظاهر، والمعنى: لن يضروكم ضررا إلا نوعا واحدا من الضرر وهو الأذى، وهو ما تفوه به ألسنتهم من الباطل والسب ونحو ذلك، فأما الغلبة والتسليط عليكم فلا {وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثم لا ينصرون}، وهذا كقوله عز وجل: {وإذن لا يلبثون خلافك إلا قليلا} أي: إلا زمنا أو وقتا قليلا. ولو قدر أنه منقطع لم يكن الوقف قبله تاما لأن المعنى بعد (إلا) له تعلق بما قبلها، فلو قيل: إن الوقف قبل (إلا) كاف كان أحسن.
وأما قوله عز وجل: {إلا بحبل من الله} فذهب بعض البصريين إلى أنه استثناء منقطع، قال: لأن قوله {أينما ثقفوا} تمام، ثم قال: {إلا بحبل من الله}، أي: لكنهم يعتصمون بحبل من الله. وقال أبو القاسم: {إلا بحبل من الله} في محل النصب على الحال، أي: إلا معتصمين أو متمسكين. قال: وهو استثناء من أعم عام الأحوال، والمعنى: ضربت عليهم الذلة في عامة الأحوال إلا في حال اعتصامهم بحبل الله وحبل الناس، يعني ذمة الله وذمة المسلمين، أي: لا عز لهم قط إلا بهذه الواحدة، وهي التجاؤهم إلى الذمة لما بذلوه من الجزية.
وقال قوم من الكوفيين: التقدير: إلا أن يعتصموا بحبل من الله، ولذلك دخلت الباء وهي متعلقة بهذا الفعل المحذوف. وقال بعضهم أيضا: هو استثناء من
[2/558]
الأول، محمول على المعنى، لأن معنى الكلام: ضربت عليهم الذلة بكل مكان إلا بموضع من الله – والصحيح قول من قال: إنه متصل.
وأما قوله عز وجل: {ثم لا تجد لك به علينا وكيلا * إلا رحمة من ربك} فيجوز أن يكون منقطعا، ومع كونه منقطعا فليس الوقف على قوله: {وكيلا} بتام، لأن المعنى: ولكن رحمة ربك تركته باقيا لم يذهب به، فيكون الوقف كافيا لتعلق بعض الكلام ببعض. وقد أجيز أن يكون متصلا، أي لو شئنا لذهبنا بالقرآن فمحوناه من المصحف ومن الصدور ثم لا تجد لك حينئذ وكيلا يتوكل علينا برده وإعادته على الحال التي كان عليها، {إلا رحمة من ربك} كأن رحمته سبحانه تتوكل بالرد. فعلى هذا لا يوقف على قوله {وكيلا}.
وأما قوله عز وجل: {إني لا يخاف لدي المرسلون * إلا من ظلم} فقد قيل: إنه منقطع، وهو قول البصريين، قالوا: وذلك أن الاستثناء المتصل يكون ما بعده مخالفا لما قبله من المعنى، وقوله: {إني لا يخاف لدي المرسلون} تأمين، وقوله: {إلا من ظلم} إلى قوله عز وجل: {فإني غفور رحيم} تأمين أيضا: قالوا: فقد اتحد المعنى فيهما فوجب ألا يكون من الأول. قالوا: ومثله من كلامهم: ما اشتكى إلا خيرا، لأن الثاني مثل الأول في حصول الخير، لأن ما اشتكى يدل على حصول الخير، وقوله: إلا خيرا مثل الأول، وكأنه قال: ما أدرك إلا خيرا. قالوا: وإلا بمعنى لكن – أي لكن من ظلم من المرسلين وغيرهم ثم تاب فإني غفور رحيم.
وقال أبو القاسم: (إلا) بمعنى لكن، قال: لأنه لما أطلق نفى الخوف عن الرسل كان ذلك مظنة لطروء الشبهة فاستدرك ذلك، والمعنى: ولكن من ظلم منهم، أي فرطت منه صغيرة مما يجوز على الأنبياء، كالذي فرط من آدم، ويونس، وداود، وسليمان، وإخوة يوسف، ومن موسى عليه السلام بوكزه القبطي، ويوشك أن
[2/559]
يقصد بهذا التعريض ما وجد من موسى عليه السلام، وهو من التعريضات التي يلطف مأخذها، وسماه ظلما كما قال موسى عليه السلام: {رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي}. والوقف على هذين الوجهين كاف، لأن المعنى بعد (إلا) فيه تعلق بما قبلها.
وقال الفراء: يجوز أن تجعل الاستثناء من الذين تركوا في الكلمة، لأن المعنى: لا يخاف المرسلون، إنما الخوف على غيرهم، ثم استثنى فقال: {إلا من ظلم} فإن هذا لا يخاف، يقول كان مشركا فتاب وعمل حسنا، فذلك مغفور له ليس بخائف.
ورد عليه هذا القول وقيل: الاستثناء (من) محذوف لا يجوز، لأنه لا يعلم ما هو، قالوا: ولو جاز هذا لجاز: لا أضرب القوم إلا زيدا، على معنى: وأضرب غيرهم إلا زيدا، وهذا ضد البيان ونقض الكلام. وليس هذا الرد بشيء، لأن قوله: {لا يخاف لدي المرسلون} يدل على خوف غيرهم، وقوله: {إلا من ظلم} يدل على أن المعنى: إنما يخاف الظالمون، إلا من ظلم ثم بدل حسنا بعد سوء فإني غفور رحيم، أي: فإني أغفر له فلا يخاف، ففي الكلام ما يدل على ما صار إليه الفراء، وليس في المثال الذي ضربوه له دليل، فعلى هذا يكون الاستثناء متصلا، ويكون الوقف على {المرسلون} كافيا و(إلا) متعلق بمحذوف، ويجوز الابتداء بـ (إلا) كأن المحذوف قد ابتدئ به معها كما يبتدأ بقوله تعالى: {قادرين} في "القيامة"، والتقدير: نجمعها قادرين. قال الفراء: وقد قال بعض النحويين إن (إلا) في اللغة بمنزلة الواو، وإنما معنى هذه الآية: لا يخاف لدي المرسلون ولا من ظلم ثم بدل حسنا، قال: وجعلوا مثله قول الله تبارك وتعالى: {لئلا يكون للناس عليكم حجة} ولا الذين ظلموا منهم. قال:
[2/560]
ولم أجد العربية تحتمل ما قالوا، لأني لا أجيز: قام الناس إلا عبد الله وهو قائم، إنما الاستثناء أن نخرج الاسم الذي بعد (إلا) من معنى الأسماء قبل (إلا) وقد أراه جائزا أن تقول: لي عليك ألف سوى ألف أخر، فإن وضعت (إلا) في هذا الموضع صلحت، وكانت (إلا) في تأويل ما قالوا، فأما مجردة قد استثنى قليلها من كثيرها فلا، ولكن مثله مما يكون معنى (إلا) كمعنى الواو، وليست بها قوله عز وجل: {خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك} هو في المعنى: إلا الذي شاء ربك من الزيادة فلا يجعل (إلا) بمنزلة الواو، ولكن بمنزله سوى، فإذا كانت سوى في موضع إلا صلحت بمعنى الواو، لأنك تقول: عندي مال كثير سوى هذا. أي: هذا عندي، كأنك قلت: عندي مال كثير وهذا، وهو في سوى أبعد منه في إلا، لأنك قد تقول: عندي سوى هذا، ولا تقول: إلا هذا، والقول الراجح إنه متصل، والمعنى لا يخاف لدي المرسلون إلا من ظلم، أي إلا الذي ظلم وخاف ثم بدل حسنا، يعني إلا من هذه صفته فإنه قد خاف لدي، ويتصل قوله: {فإني غفور رحيم} بقوله عز وجل: {لا يخاف لدي المرسلون} أي: إلا من عمل بغير إذن، ويؤيد ذلك قول ابن جريج: لا يخاف الأنبياء إلا بذنب يغشاه أحدهم، فإن أصابه أخافه الله. وقول الحسن: كانت الأنبياء تذنب فتعاقب، وإنما أخيف لقتله النفس، لأنه لو اقتصر على قوله: {لا يخاف لدي المرسلون} لقال قائل: فقد خاف موسى عليه السلام حين قال: {رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي}، فقال عز وجل: {إلا من ظلم} أي: إلا من فعل مثل ما فعلت ثم بدل حسنا فإنه قد خاف لدي. وقد كان يكفي قوله: {إلا من ظلم} وإنما قال: {ثم بدل حسنا بعد سوء} لطفا بموسى عليه السلام ليطمئن بغفران ذلك الذنب بالتوبة.
[2/561]
وأما قوله عز وجل: {لست عليهم بمصيطر * إلا من تولى وكفر} فقد قيل: إنه متصل، أي: فذكر قومك إلا من تولى عنك وأعرض عن الإيمان وكفر، فـ (من) على هذا في موضع نصب، و{لست عليهم بمصيطر} اعتراض، وقيل: إنه منقطع، أي: لست عليهم بمصيطر، أي لست بقاهر لهم، لكن من تولى وكفر فالله مصيطر عليه وقاهر له، فيعذبه العذاب الأكبر، عذاب جهنم.
وقوله تعالى: {ثم رددناه أسفل سافلين * إلا الذين آمنوا} فقد قيل: هو متصل، و{أسفل سافلين} إما أن يراد به في تغيير الخلقة بالنار، أي إن أهل النار في قبح الصورة أسفل من كل من سفل في ذلك إلا الذين آمنوا فإنهم لم يردوا إلى ذلك، أو: أسفل من كل سافل في المنزلة، وأهل النار كذلك. وقيل: هو منقطع، ومعنى {أسفل سافلين} أرذل العمر، لكن الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون، يعني الجنة.
ولا يوقف على المعلل دون العلة: كقوله عز وجل: {فولوا وجوهكم شطره} وكقوله: {وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم ليقطع}، وكقوله {وأنزلنا إليك الذكر} لأن {لتبين للناس} علة الإنزال، وكذلك: {وابن السبيل كيلا يكون دولة}. ولا يوقف دون لام الحجد كقوله عز وجل: {وما كان الله ليضيع إيمانكم}.
[2/562]

رد مع اقتباس
 

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
العاشر, الكتاب

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 02:43 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir