حرّر القول في واحدة من المسألتين التاليتين:
2: معنى "الحصور" في قوله تعالى: {وسيّدا وحصورا ونبيّا من الصالحين}.
ذكر الكثير من المفسرين بأن معنى (حصورا) أي : الذي لا يأتي النساء , ثم اختلفوا لماذا كان لا يأتي النساء , على خمسة أقوال:
القول الأول : إنه كان لا يأتي النساء لأنه لم يكن له ما يأتي به النساء، فالذي كان معه مثل الهدبة أو مثل النواة .
توجيه القول:
وهو على هذا القول فعول بمعنى مفعول , يعني الممنوع من النساء.
قال النحاس: وفعول بمعنى مفعول كثير في كلام العرب , من ذلك حلوب بمعنى محلوبة , قال الشاعر:
فيها اثنثان وأربعون حلوبة = سواد كخافية الغراب الأسحم
وقد قال هذا القول عبد الله بن عمرو بن العاص وقاله سعيد بن المسيب .
واستندوا في قولهم هذا على أحاديث رويت مرفوعة للنبي -عليه الصلاة والسلام- مثل قوله عليه الصلاة والسلام: (كل بني آدم يأتي يوم القيامة وله ذنبٌ، إلا ما كان من يحيى بن زكريا. قال: ثم دلَّى رسول الله ﷺ يدَه إلى الأرض، فأخذ عُوَيْدًا صغيرًا، ثم قال: وذلك أنه لم يكن له ما للرجال إلا مثل هذا العود، وبذلك سماه الله"سيدًا وحصُورًا).
تخريج الحديث:
رواه الطبري عن ابن حميد عن سلمة، عن ابن إسحاق، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب عن ابن العاص عن النبي عليه الصلاة والسلام.
رواه ابن ابي حاتم عن أبي جعفر محمد بن غالب البغدادي، عن سعيد بن سليمان، عن ابن العوام، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب، عن ابن العاص -لا يدرى عبد الله أو عمرو- عن النبي عليه الصلاة والسلام.
قال عبد الله بن عمرو بن العاص : ليس أحد يلقى الله إلا يلقاه بذنب غير يحيى بن زكريا , ثمّ تلا: {وسيّدًا وحصورًا} ثمّ رفع شيئًا صغيرًا من الأرض، فقال: ما كان معه مثل هذا، ثمّ ذبح ذبحًا).
التخريج:
رواه أبو بكرٍ عبدُ الله بنُ محمدٍ ابنُ أبي شيبةَ العبسيُّ عن أبي خالدٍ الأحمر، عن يحيى بن سعيدٍ، عن سعيد بن المسيّب، عن عبد الله بن عمرٍو.
رواه الطبري عن أحمد بن الوليد القرشي عن عمر بن جعفر عن شعبة، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب عن ابن العاص.
رواه ابن ابي حاتم هن أحمد بن سنان، عن يحيى بن سعيد القطان، عن يحيى بن سعيد الأنصاري، أنه سمع سعيد بن المسيب يذكرما سمعه عن عبدالله بن عمرو.
وعلق ابن كثير على هذا الحديث بقوله: (فَهَذَا مَوْقُوفٌ وَهُوَ أَقْوَى إِسْنَادًا مِنَ الْمَرْفُوعِ، بَلْ وَفِي صِحَّةِ الْمَرْفُوعِ نَظَرٌ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ).
وقال سعيد بن المسيب في قوله:"وحصورًا" قال: الحصور الذي لا يشتهي النساء. ثم ضرب بيده إلى الأرض فأخذ نواة فقال: ما كان معه إلا مثل هذه.
التخريج:
رواه الطبري عن سعيد بن عمرو السكوني عن بقية بن الوليد، عن عبد الملك، عن يحيى بن سعيد عنه.
القول الثاني : قالوا بأن معنى (حصورا) الذي لا يولد له وليس له ماء أي: لا ينزل الماء.
وهو قول ابن عباس وقاله الضحاك.
وروي عن أبي العالية، والربيع بن أنس قولهما : الذي لا يولد له. ذكره ابن ابي حاتم ونسبه لهما ولم يسنده.
قال ابن عباس : الحصور الذي لا ينزل الماء.
التخريج:
رواه الطبري عن ابن حميد عن جرير، عن قابوس، عن أبيه، عنه.
قال الضحاك في قوله:"وحصورًا"، قال: هو الذي لا ماء له.
التخريج:
رواه الطبري عن الحسين بن الفرج عن أبي معاذ عن عبيد بن سليمان عنه.
ورواه ابن ابي حاتم عن عن أبي سعيد الأشج، عن الوليد بن القاسم، عن جويبر، عن الضحاك .
القول الثالث : قالوا بأنه كان لا يأتي النساء بسبب انثناء ذكره.
قال عطاء ﴿وسيدا وحصورا﴾ قال: منثني الذكر.
التخريج:
رواه ابن ابي حاتم عن أبيه، عن إبراهيم بن محمد بن يوسف الفريابي، عن ضمرة، عن عثمان بن عطاء، عن أبيه .
القول الرابع : قالوا بأن المراد ب(حصورا) الهيوب الذي لا يريد النساء , فهو جبان عن النكاح . ذكره مكي بن أبي طالب.
قال السدي في قوله :"وحصورًا"، قال: الحصور، الذي لا يريد النساء.
التخريج:
رواه الطبري عن موسى عن عمرو عن أسباط، عنه.
القول الخامس: هو الذي لا يأتي النساء لأنه يمنع نفسه شهواتها.
قاله قتادة , وابن المسيب , والحسن , وابن زيد , ومجاهد , والرقاشي .
واستدلوا بما جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام- حيث قال:( ما أذنب يحيى بن زكريا ذنبا ولا هم بامرأة).
تخريج الحديث:
رواه عبدالرزاق الصنعاني عن معمر عن قتادة عن الحسن عن النبي عليه الصلاة والسلام.
والحديث مرسل.
وقال سعيد بن جبيرٍ : الحصور: (الذي لا يأتي النساء). رواه البخاري.
قال مجاهدٍ :( والحصور: الّذي لا يقرب النّساء).
التخريج:
رواه مُحَمَّدُ بنُ أَحمدَ بنِ نَصْرٍ الرَّمْلِيُّ عن أحمد بن محمّدٍ القوّاس المكّيّ، عن مسلم بن خالد الزنجي، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهد.
قَالَ عَبْدُ الرَّحْمنِ بنُ الحَسَنِ الهَمَذَانِيُّ عن إبراهيم عن آدم عن ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد .
قال قتادة :(الحصور الذي لا يأتي النساء).
التخريج:
رواه عبدالرزاق الصنعاني عن معمر عن قتادة .
توجيه القول:
قال الثعالبي: فالحصور في قول ابن مسعود وابن عباس وابن جبير وقتادة وعطاء وأبي الشعثاء والحسن والسدي وابن زيد: الذي لا يأتي النساء ولا يقربهنّ، فهو على هذا القول: مفعول بمعنى فاعل يعني: أنه يحصر نفسه عن الشهوات .
قال ابن فارس في المقاييس : من معاني الحصر في اللغة الحبس والمنع .
قال:" ومن الباب : الحصور الذي لا يأتي النساء ، فقال قوم : هو فعول بمعنى مفعول ، كأنه حصر أي حُبِس . وقال آخرون : هو الذي يأبى النساء ، كأنه أحجم هو عنهن ".
وقد ذكر المفسرون أقوالا اخرى في معنى (حصورا) لا تتعلق بإتيان النساء :
القول الأول: قيل الحصور هو الفقير الذي لا مال له. ذكره البغوي ولم ينسبه لأحد.
وهو قول بعيد ليس له مستند لغوي ولا يدل عليه السياق , فليس في الفقر مدح إلا ما يكون من الصبر عليه , وهذا لم يذكر في الآية التي خرجت مخرج المدح والثناء.
القول الثاني: وقيل الحصور هنا هو الذي لا يأتي الذنوب كأنه محصور عنها أي: ممنوعاً منها. ذكره مكي بن ابي طالب.
توجيه القول:
ما ذكره مكي هو أحد معاني الحصور:
قال المبرد: الحصور الذي لا يدخل في اللعب والعبث والأباطيل، وأصله من قول العرب الذي لا يدخل في الميسر حصور. قال الأخطل:
وشارب مربح بالكأس نادمني ... لا بالحصور ولا فيها بسوار
وقال النحاس في معنى (حصورا) : قيل: هو الحابس نفسه عن معاصي الله عز وجل .
الترجيح:
أولا : بانسبة لما ورد من أحاديث مرفوعة للنبي عليه الصلاة والسلام:
حكم ابن كثير على معظم الأحاديث المروية في تفسير هذه الآية والمذكورة في معظم التفاسير بإختلاف ألفاظها وأسانيدها بالغرابة الشديدة .
ولقد سُئِلَ الشيخ المحدث سليمان العلوان عن هذه الأحاديث والأقوال فقال: (( الأحاديث التي تصف ذَكَر يحيى عليه الصلاة والسلام وأنه كان عقيماً جميعها غير صحيحة ، والموقوف منها فيه نظر ، والصحيح أنه لايصح في هذا الباب شيء)) .
ثانيا : الراجح:
جاءت الآية في سياق البشرى لزكريا عليه السلام , كذلك خرج الكلام مخرج المدح والثناء للابن المنتظر , فالمراد هنا-والله اعلم- هو الذي لا يأتي الذنوب كأنه محصور عنها , ويدخل في هذا القول قول من قال بأن المعنى هو الحصور الذي يمنع نفسه عن النساء .
لذا ضعف البغوي في تفسيره ما جاء عن يحيى-عليه السلام- بأنه كان عنينا أو مجبوبا , واختار هذا القول فقال :اختار قوم هذا القول لوجهين ﴿أحدهما﴾ : لأن الكلام خرج مخرج الثناء، وهذا أقرب إلى استحقاق الثناء، و ﴿الثاني﴾ : أنه أبعد من إلحاق الآفة بالأنبياء.
وهذا من حفظ الله لأوليائه ورعايته لهم و وتثبيته إياهم , فيصرف قلوبهم عن الميل إلى ما يبغض الله , ويحبب إليهم الإيمان ويزينه في قلوبهم , ويكره إليهم الكفر والفسوق والعصيان , كما قال تعالى وأخبرنا ذلك .
لذا كانَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليْهِ وسلَّمَ يُكثِرُ أن يقولَ: (يا مقلِّبَ القلوبِ ثبِّت قلبي على دينِكَ) كما أخبر بذلك أنس رضي الله عنه , ولما سأله فقال:(يا نبيَّ اللَّهِ آمنَّا بِكَ وبما جئتَ بِهِ فَهل تخافُ علَينا ؟ ) .قالَ: (نعَم إنَّ القلوبَ بينَ إصبَعَينِ من أصابعِ اللَّهِ يقلِّبُها كيفَ شاءَ) رواه الترمذي.
وكما قال في شأن يوسف عليه السلام: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ } , وكما قال عليه الصلاة والسلام :( احفظ الله يحفظك , احفظ الله تجده تجاهك...).
وقال ابن حجر معلقا على كلام ابن جبير: (وأصل الحصر الحبس والمنع , يقال لمن لا يأتي النّساء أعمّ من أن يكون ذلك بطبعه كالعنّين أو بمجاهدة نفسه وهو الممدوح والمراد في وصف السّيّد يحيى عليه السّلام).
قال الرازي: (والقول الثاني: وهو اختيار المحققين أنه الذي لا يأتي النساء لا للعجز بل للعفة والزهد، وذلك لأن الحصور هو الذي يكثر منه حصر النفس ومنعها كالأكول الذي يكثر منه الأكل وكذا الشروب، والظلوم، والغشوم، والمنع إنما يحصل أن لو كان المقتضي قائماً، فلولا أن القدرة والداعية كانتا موجودتين، وإلا لما كان حاصراً لنفسه فضلاً عن أن يكون حصوراً، لأن الحاجة إلى تكثير الحصر والدفع إنما تحصل عند قوة الرغبة والداعية والقدرة، وعلى هذا الحصور بمعنى الحاصر فعول بمعنى فاعل.)
ولا يمنع هذا من كون يحيى -عليه السلام- قد تزوج وأتى النساء بما أحل الله له , فهذه من الطيبات التي أحلها الله , لذا قال ابن كثير: (وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ مَدَحَ يَحْيَى بِأَنَّهُ حَصُورٌ لَيْسَ أَنَّهُ لَا يَأْتِي النِّسَاءَ، بَلْ مَعْنَاهُ كَمَا قَالَهُ هُوَ وَغَيْرُهُ: أَنَّهُ مَعْصُومٌ عَنِ الْفَوَاحِشِ وَالْقَاذُورَاتِ، وَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ مِنْ تَزْوِيجِهِ بِالنِّسَاءِ الْحَلَالِ وَغَشَيَانِهِنَّ وَإِيلَادِهِنَّ، بَلْ قَدْ يُفْهَمُ وُجُودُ النَّسْلِ لَهُ مِنْ دُعَاءِ زَكَرِيَّا الْمُتَقَدِّمِ حَيْثُ قَالَ: ﴿هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً﴾ كَأَنَّهُ قَالَ: وَلَدًا لَهُ ذُرِّيَّةٌ وَنَسْلٌ وعَقِب، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.).