والأنساك: تمتع، وإفراد، وقران([1]) (وأَفضل الأنساك التمتع) فالإفراد، فالقران([2]).
قال أحمد: لا أَشك أنه عليه السلام كان قارنا، والمتعة أحب إلي. انتهى([3]) وقال: لأنه آخر ما أَمر به النبي صلى الله عليه وسلم([4]).
ففي الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم: أمر أصحابه – لما طافوا وسعوا – أن يجعلوها عمرة إلا من ساق هديًا.([5]) وثبت على إحرامه لسوقه الهدي. وتأَسف بقوله «لو استقبلت من أَمري ما استدبرت ما سقت الهدي، ولأَحللت معكم»([6]) (وصفته) أَي التمتع (أَن يحرم بالعمرة في أشهر الحج([7]) ويفرغ منها([8]) ثم يحرم بالحج في عامه) من مكة، أَو قربها، أَو بعيد منها([9]).
والإفراد أن يحرم بحج، ثم بعمرة بعد فراغه منه([10]) والقران أن يحرم بهما معًا([11]) أو بها ثم يدخله عليها قبل شروعه في طوافها([12]) ومن أحرم به، ثم أدخلها عليه لم يصح إحرامه بها([13]).
([1]) وهو مخير بينها، ذكره جماعة إجماعًا، لحديث عائشة «من أراد منكم أن يهل بحج فليفعل، ومن أراد أن يهل بحج وعمرة، فليفعل، ومن أراد أن يهل بعمرة فليفعل» قالت: وأهل بالحج، وأهل به ناس معه، وأهل ناس بالعمرة والحج، وأهل ناس بالعمرة. متفق عليه.
([2]) فأما التمتع فهو أفضل، لأن الله نص عليه في كتابه العزيز، وقال عمران: نزلت آية التمتع في كتاب الله، وأمرنا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم لم تنزل آية تنسخها، ولم ينه عنها، حتى مات، أخرجاه، وأحاديث التمتع متواترة، رواها عنه صلى الله عليه وسلم أكابر الصحابة، وهو قول عمر، وابن عباس، وجمع، وهو المذهب، ومذهب الشافعي.
وقال الترمذي: أهل الحديث يختارون التمتع بالعمرة في الحج وهو قول الشافعي، وأحمد، وإسحاق ولإتيانه بأفعالهما كاملة، على وجه اليسر والسهولة، والتمتع مأخوذ من المتاع أو المتعة، وهو الانتفاع والنفع، وأما القران فهو أفضل لمن ساق الهدي، اختاره الشيخ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم حج قارنًا، وقال: ((من كان معه هدي فليهل بالحج مع العمرة، ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعًا)).
وقال ابن القيم: محال أن يكون حج أفضل من حج خير القرون، وأفضل العالمين مع نبيهم، وقد أمرهم أن يجعلوها عمرة، إلا من ساق الهدي، فمن المحال أن يكون غيره أفضل منه إلا حج من قرن، وساق الهدي، كما اختاره الله لنبيه، فأي حج أفضل من هذين، وقد ذهب طائفة من السلف والخلف إلى إيجاب القران على من ساق الهدي، والتمتع على من لم يسقه، منهم ابن عباس، لفعله، وأمره صلى الله عليه وسلم، وأما الإفراد فلأن فيه إكمال النسكين، وهو أفضلها عند مالك، والشافعي، فهو أفضل بهذا الاعتبار.
قال الشيخ: والتحقيق أنه يتنوع باختلاف حال الحاج، فإن كان يسافر سفرة للعمرة، وللحج سفرة أخرى، أو يسافر إلى مكة قبل أشهر الحج، ويعتمر، ويقيم بها، فهذا: الإفراد له أفضل، باتفاق الأئمة، وأما إذا فعل ما يفعله غالب الناس، وهو أن يجمع بين العمرة والحج، في سفرة واحدة، ويقدم مكة في أشهر الحج، فهذا إن ساق الهدي فالقران أفضل له، وإن لم يسق الهدي فالتحلل من إحرامه بعمرة أفضل.
فإنه قد ثبت بالنقول المستفيضة، التي لم يختلف في صحتها أهل العلم بالحديث، أن النبي صلى الله عليه وسلم لما حج حجة الوداع هو وأصحابه، أمرهم جميعهم أن يحلوا من إحرامهم، ويجعلوها عمرة، إلا من ساق الهدي، فإنه أمره أن يبقى على إحرامه حتى يبلغ الهدي محله يوم النحر، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد ساق الهدي، هو وطائفة من أصحابه، وقرن هو بين الحج والعمرة.
ولم يعتمر بعد الحج أحد ممن كان مع النبي صلى الله عليه وسلم إلا عائشة وحدها، لأنها كانت قد حاضت، فلم يمكنها الطواف، فأمرها أن تهل بالحج، وتدع أفعال العمرة، لأنها كانت متمتعة، ثم إنها طلبت من النبي صلى الله عليه وسلم أن يعمرها، فأرسلها مع أخيها عبد الرحمن، فاعتمرت من التنعيم.
ولم يكن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين أحد يخرج من مكة ليعتمر إلا لعذر، لا في رمضان، ولا في غيره، والذين حجوا معه، ليس فيهم من اعتمر بعد الحج من مكة إلا عائشة، ولا كان هذا من فعل الخلفاء الراشدين، والذين استحبوا الإفراد من الصحابة، إنما استحبوا أن يحج في سفره، ويعتمر في أخرى، ولم يستحبوا أن يحج ويعتمر بعد ذلك عمرة مكية، بل هذا لم يكونوا يفعلونه قط، إلا أن يكون شيئًا نادرًا، وتنازع السلف هل تجزئه عن عمرة الإسلام أو لا؟
([3]) وقال: إذا دخل بعمرة، يكون قد جمع الله له حجة وعمرة ودمًا.
([4]) أي أمر به أصحابه، الذين كانوا معه في حجة الوداع، لما طافوا طواف القدوم.
([5]) فليبق على إحرامه، وإن لم يسق الهدي يجعل الحج عمرة، ويصير حلالاً بعد فراغه من أفعال العمرة، ولا ينقلهم إلا إلى الأفضل، وقال ((انظروا ما آمركم به فافعلوا)) وأخبرهم ((أنه لأبد الأبد)) فلم ينسخ، ومن ساق الهدي فالأفضل له البقاء على إحرامه، كما فعله صلى الله عليه وسلم، وأمر به، وفضل سوق الهدي مشهور.
وزمن إشعار الهدي إذا وصل إلى الميقات، إن كان ساقه مسافرًا به، وإن أرسله مع غيره فمن بلده. وعن ابن عباس: قلد نعلين، وأشعر الهدي في الشق الأيمن، بذي الحليفة، وأماط عنه الدم. صححه الترمذي، وقال: العمل عليه عند أهل العلم، من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم.
قال وكيع: لا تنظروا إلى قول أهل العراق في هذا، فإن الإشعار سنة، وقولهم بدعة. وقال أحمد: لا ينبغي أن يسوقه حتى يشعره، ويجلله بثوب أبيض، ويقلده نعلاً، أو علاقة قربة، سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وتقليد الغنم مذهب العلماء، إلا مالكًا، ولعله لم يبلغه الحديث، فعن عائشة: كنت أفتل قلائد هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم كلها غنمًا. صححه الترمذي وقال: العمل عليه عند بعض أهل العلم. واتفقوا على أنها لا تشعر، لضعفها عن الجرح, ولاستتاره بالصوف.
وأما البقر فيستحب عند الشافعي ومن وافقه الجمع بين الإشعار والتقليد كالإبل، والمذهب أنه إن كان لها أسنمة أشعرت، وإلا فلا، لأنه تعذيب لها، وللترمذي فيما عطب «انحرها، ثم اغمس نعلها في دمها، ثم خل بين الناس وبينها فيأكلوها» وصححه وقال: العمل عليه عند أهل العلم.
([6]) بفتح الهمزة، وسكون الحاء، وفي لفظ «لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت، لم أسق الهدي، وجعلتها عمرة، فمن كان منكم ليس معه هدي فليحل، وليجعلها عمرة» ولا يتحلل إلا بالطواف والسعي والتقصير أو الحلق إجماعًا، ولا يتأسف إلا على الأفضل، فدل على أنه الأفضل إلا لمن ساق الهدي، وهو مذهب الجمهور.
([7]) لأنه لو لم يحرم بها في أشهر الحج، لم يجمع بين النسكين فيه، ولم يكن متمتعًا.
([8]) أي يتحلل بعد فراغه من أعمالها، لأنه لو أحرم بالحج قبل التحلل من العمرة لكان قارنا، فإذا فرغ منها، ولم يكن معه هدي، أقام بمكة حلالاً، وتجزئه هذه العمرة بلا خلاف.
([9]) لقول عمر: إذا اعتمر في أشهر الحج ثم أقام فهو متمتع، وإن خرج ورجع فليس بمتمتع. وعن ابن عمر نحوه، ولأنه لو أحرم بالعمرة في غير أشهر الحج، ثم رجع من عامه، لا يكون متمتعًا، فلأن لا يكون متمتعًا إذا لم يحج من عامه، بطريق الأولى، ويشترط أن يحج في عامه اتفاقًا، لقوله{فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ}وظاهره في عامه، وجزم بعدم التقييد في المنتهى وغيره، وعليه أكثر الأصحاب.
([10]) أي يحرم بالحج وحده من الميقات، ثم يقف بعرفة، ويفعل أفعال الحج، فإذا تحلل فقالوا: يخرج إلى التنعيم، فيحرم بالعمرة، ويفعل أفعالها، إن لم يكن أتى بها قبل. وقال المجد: لا يأتي في أشهر الحج بغيره. قال الزركشي: وهو أجود. وتقدم أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم يعتمروا بعد الحج، إلا ما كان من عائشة، وأن الذين استحبوا الإفراد من الصحابة، إنما استحبوا أن يحج في سفرة، ويعتمر في أخرى، ولم يستحبوا أن يحج ويعتمر بعد ذلك، حتى تنازعوا: هل تجزئه أو لا؟
([11]) أي جميعًا، ينوي بالحج والعمرة من الميقات، ويطوف لهما، ويسعى، لفعله صلى الله عليه وسلم، كما هو مستفيض في بضعة وعشرين حديثًا، صحيحة، صريحة في ذلك، ومن ذكر أنه متمتع، فالمراد متعة القران، وهو لغة القرآن، والقران مصدر من: قرنت بين الشيئين.
([12]) أي العمرة قبل شروعه في طوافها، إلا لمن معه هدي، فيصح ولو بعده، وسواء كان في أشهر الحج، أولا، لقول عائشة: أهللنا بالعمرة، ثم أدخلنا عليها الحج. وفي الصحيح أنه أمرها بذلك، وفعله ابن عمر، وقال: هكذا صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم. متفق عليه، ويقتصر على أفعال الحج وحده، وهذا مذهب مالك، والشافعي.
([13]) أي ومن أحرم بالحج، ثم أدخل عليه العمرة، لم يصح إحرامه بها، لأنه لم يرد به أثر، ولم يستفد به فائدة، ولم يصر قارنا، بل مفردًا، لأنه لا يلزمه بالإحرام الثاني شيء، وعمل القارن، كعمل المفرد في الإجزاء، ويسقط ترتيب العمرة، ويصير الترتيب للحج، وتندرج أفعال العمرة في الحج، قال الشيخ، وابن القيم وغيرهما: إذا التزم المحرم أكثر مما كان لزمه جاز، باتفاق الأئمة، فلو أحرم بالعمرة، ثم أدخل عليها الحج، جاز بلا نزاع، وإذا أحرم بالحج، ثم أدخل عليه العمرة، لم يجز عند الجمهور، وهو مذهب مالك، والشافعي، وأحمد، وجوزه أبو حنيفة، بناء على أن القارن يطوف ويسعى مرتين، أما لو أراد أن يفسخ الحج إلى عمرة مفردة، لم يجز بلا نزاع، وإنما الفسخ جائز، لمن نيته أن يحج بعد العمرة، والمتمتع من حين يحرم بالعمرة فهو داخل في الحج.