دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > علوم الحديث الشريف > متون علوم الحديث الشريف > بلوغ المرام > كتاب الحدود

موضوع مغلق
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 24 محرم 1430هـ/20-01-2009م, 09:47 AM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي باب حد الشارب وبيان المسكر (1/5) [حد شارب الخمر]


بابُ حدِّ الشارِبِ وبَيانِ الْمُسْكِرِ
عنْ أَنَسِ بنِ مالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أنَّ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ برجُلٍ قدْ شَرِبَ الخمْرَ، فجَلَدَهُ بِجَرِيدَتَيْنِ نحوَ أربعينَ. قالَ: وفَعَلَهُ أبو بكرٍ. فلَمَّا كانَ عمرُ استشارَ الناسَ، فقالَ عبدُ الرحمنِ بنُ عَوْفٍ: أَخَفُّ الحدودِ ثمانونَ. فأَمَرَ بهِ عُمَرُ. مُتَّفَقٌ عليهِ.
ولمسلِمٍ: عنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، في قِصَّةِ الوليدِ بنِ عُقبةَ: جَلَدَ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أربعينَ، وأبو بكرٍ أربعينَ، وعُمرُ ثمانينَ، وكلٌّ سُنَّةٌ، وهذا أَحَبُّ إليَّ. وفي هذا الحديثِ: أنَّ رَجُلًا شَهِدَ عليهِ أنَّهُ رَآهُ يَتَقَيَّأُ الْخَمْرَ، فقالَ عُثمانُ: إنَّهُ لمْ يَتَقَيَّأْهَا حتَّى شَرِبَها.

  #2  
قديم 24 محرم 1430هـ/20-01-2009م, 11:39 AM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي سبل السلام للشيخ: محمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني


بَابُ حَدِّ الشَّارِبِ وَبَيَانِ الْمُسْكِرِ
1/1163 - عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِرَجُلٍ قَدْ شَرِبَ الْخَمْرَ، فَجَلَدَهُ بِجَرِيدَتَيْنِ نَحْوَ أَرْبَعِينَ. قَالَ: وَفَعَلَهُ أَبُو بَكْرٍ. فَلَمَّا كَانَ عُمَرُ اسْتَشَارَ النَّاسَ، فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ: أَخَفُّ الْحُدُودِ ثَمَانُونَ، فَأَمَرَ بِهِ عُمَرُ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
(عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِرَجُلٍ قَدْ شَرِبَ الْخَمْرَ، فَجَلَدَهُ بِجَرِيدَتَيْنِ نَحْوَ أَرْبَعِينَ. قَالَ أَنَسٌ: وَفَعَلَهُ أَبُو بَكْرٍ، فَلَمَّا كَانَ عُمَرُ اسْتَشَارَ النَّاسَ، فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ: أَخَفُّ الْحُدُودِ ثَمَانُونَ، فَأَمَرَ بِهِ عُمَرُ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ).
الْخَمْرُ: مَصْدَرُ خَمَرَ؛ كَضَرَبَ وَنَصَرَ، خَمْراً، يُسَمَّى بِهِ الشَّرَابُ الْمُعْتَصَرُ مِن الْعِنَبِ إذَا غَلَى وَقُذِفَ بِالزَّبَدِ، وَهِيَ مُؤَنَّثَةٌ، وَتُذَكَّرُ. وَيُقَالُ: خَمْرَةٌ.
وَفِي الْحَدِيثِ مَسَائِلُ:
الأُولَى: أَنَّ الْخَمْرَ يُطْلَقُ عَلَى مَا ذُكِرَ حَقِيقَةً إجْمَاعاً، وَيُطْلَقُ عَلَى مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ، وَهُوَ مَا أَسْكَرَ مِن الْعَصِيرِ، أَوْ مِن النَّبِيذِ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ. وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ هَلْ هَذَا الإِطْلاقُ حَقِيقَةٌ أَوْ لا؟ قَالَ صَاحِبُ الْقَامُوسِ: الْعُمُومُ أَصَحُّ؛ لأَنَّهَا حُرِّمَتْ وَمَا بِالْمَدِينَةِ خَمْرُ عِنَبٍ، مَا كَانَ إلاَّ الْبُسْرُ وَالتَّمْرُ، انْتَهَى.
وَكَأَنَّهُ يُرِيدُ أَنَّ الْعُمُومَ حَقِيقَةٌ. وَسُمِّيَتْ خَمْراً، قِيلَ: لأَنَّهَا تُخَمِّرُ الْعَقْلَ؛ أَيْ: تَسْتُرُهُ، فَيَكُونُ بِمَعْنَى اسْمِ الْفَاعِلِ؛ أَي: السَّاتِرَةِ لِلْعَقْلِ. وَقِيلَ: لأَنَّهَا تُغَطَّى حَتَّى تَشْتَدَّ، يُقَالُ: خَمَرَهُ؛ أَيْ: غَطَّاهُ، فَيَكُونُ بِمَعْنَى اسْمِ الْمَفْعُولِ. وَقِيلَ: لأَنَّهَا تُخَالِطُ الْعَقْلَ؛ مِنْ خَامَرَهُ إذَا خَالَطَهُ، وَمِنْهُ: هَنِيئاً مَرِيئاً غَيْرَ دَاءٍ مُخَامِرٍ؛ أَيْ: مُخَالِطٍ. وَقِيلَ: لأَنَّهَا تُتْرَكُ حَتَّى تُدْرِكَ، وَمِنْهُ: اخْتَمَرَ الْعَجِينُ؛ أَيْ: بَلَغَ إدْرَاكَهُ. وَقِيلَ: إنَّها مَأْخُوذَةٌ مِن الْكُلِّ؛ لاجْتِمَاعِ الْمَعَانِي هَذِهِ فِيهَا.
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: الأَوْجُهُ كُلُّهَا مَوْجُودَةٌ فِي الْخَمْرِ؛ لأَنَّهَا تُرِكَتْ حَتَّى أَدْرَكَتْ وَسَكَنَتْ، فَإِذَا شُرِبَتْ خَالَطَت الْعَقْلَ حَتَّى تَغْلِبَ عَلَيْهِ وَتُغَطِّيَهُ.
قُلْتُ: فَالْخَمْرُ تُطْلَقُ عَلَى عَصِيرِ الْعِنَبِ الْمُشْتَدِّ حَقِيقَةً إجْمَاعاً. وَفِي النَّجْمِ الْوَهَّاجِ: الْخَمْرُ بِالإِجْمَاعِ الْمُسْكِرُ مِنْ عَصِيرِ الْعِنَبِ وَإِنْ لَمْ يُقْذَفْ بِالزَّبَدِ. وَاشْتَرَطَ أَبُو حَنِيفَةَ أَنْ يُقْذَفَ، وَحِينَئِذٍ لا يَكُونُ مُجْمَعاً عَلَيْهِ.
وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي وُقُوعِ الْخَمْرِ عَلَى الأَنْبِذَةِ حَقِيقَةً، فَقَالَ الْمُزَنِيُّ وَجَمَاعَةٌ بِذَلِكَ؛ لأَنَّ الاشْتِرَاكَ فِي الصِّفَةِ يَقْتَضِي الاشْتِرَاكَ فِي الاسْمِ، وَهُوَ قِيَاسٌ فِي اللُّغَةِ، وَهُوَ جَائِزٌ عِنْدَ الأَكْثَرِ، وَهُوَ ظَاهِرُ الأَحَادِيثِ. وَنَسَبَ الرَّافِعِيُّ إلَى الأَكْثَرِينَ أَنَّهُ لا يَقَعُ عَلَيْهَا إلاَّ مَجَازاً.
قُلْتُ: وَبِهِ جَزَمَ ابْنُ سِيدَهْ فِي الْمُحْكَمِ، وَجَزَمَ بِهِ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ مِن الْحَنَفِيَّةِ؛ حَيْثُ قَالَ: الْخَمْرُ عِنْدَنَا مَا اعْتُصِرَ مِنْ مَاءِ الْعِنَبِ إذَا اشْتَدَّ، وَهُوَ الْمَعْرُوفُ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ وَأَهْلِ الْعِلْمِ.
وَرَدَّ ذَلِكَ الْخَطَّابِيُّ؛ حَيْثُ قَالَ: زَعَمَ قَوْمٌ أَنَّ الْعَرَبَ لا تَعْرِفُ الْخَمْرَ إلاَّ مِن الْعِنَبِ، فَيُقَالُ لَهُمْ: إنَّ الصَّحَابَةَ الَّذِينَ سَمَّوْا غَيْرَ الْمُتَّخَذِ مِن الْعِنَبِ خَمْراً عَرَبٌ فُصَحَاءُ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ هذا الاسْمُ صَحِيحاً لَمَا أَطْلَقُوهُ.
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: الأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ عَنْ أَنَسٍ وَغَيْرِهِ عَلَى صِحَّتِهَا وَكَثْرَتِهَا تُبْطِلُ مَذْهَبَ الْكُوفِيِّينَ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ الْخَمْرَ لا تَكُونُ إلاَّ مِن الْعِنَبِ، وَمَا كَانَ مِنْ غَيْرِهِ لا يُسَمَّى خَمْراً، وَلا يَتَنَاوَلُهُ اسْمُ الْخَمْرِ، وَهُوَ قَوْلٌ مُخَالِفٌ لِلُغَةِ الْعَرَبِيِّ، وَلِلسُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ، وَلِفَهْمِ الصَّحَابَةِ؛ لأَنَّهُمْ لَمَّا نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ فَهِمُوا مِن الأَمْرِ بِاجْتِنَابِها تَحْرِيمَ كُلِّ مُسْكِرٍ، وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ مَا يُتَّخَذُ مِن الْعِنَبِ وَبَيْنَ مَا يُتَّخَذُ مِنْ غَيْرِهِ، بَلْ سَوَّوْا بَيْنَهُمَا، وَحَرَّمُوا مَا كَانَ مِنْ عَصِيرٍ غَيْرِ الْعِنَبِ، وَهُمْ أَهْلُ اللِّسَانِ، وَبِلُغَتِهِمْ نَزَلَ الْقُرْآنُ، فَلَوْ كَانَ عِنْدَهُمْ فِيهِ تَرَدُّدٌ لَتَوَقَّفُوا عَن الإِرَاقَةِ حَتَّى يَسْتَفْصِلُوا، وَيَتَحَقَّقُوا التَّحْرِيمَ، وَيَأْتِي حَدِيثُ عُمَرَ: أَنَّهُ نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ، وَهِيَ مِنْ خَمْسَةٍ.. الْحَدِيثَ.
وَعُمَرُ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ، وَإِنْ كَانَ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ بَيَانَ مَا تَعَلَّقَ بِهِ التَّحْرِيمُ، لا أَنَّهُ الْمُسَمَّى فِي اللُّغَةِ؛ لأَنَّهُ بِصَدَدِ بَيَانِ الأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، وَلَعَلَّ ذَلِكَ صَارَ اسْماً شَرْعِيًّا لِهَذَا النَّوْعِ، فَيَكُونُ حَقِيقَةً شَرْعِيَّةً. وَيَدُلُّ لَهُ حَدِيثُ مُسْلِمٍ عَن ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ، وَكُلُّ خَمْرٍ حَرَامٌ)).
قَالَ الْخَطَّابِيُّ: إنَّ الآيَةَ لَمَّا نَزَلَتْ فِي تَحْرِيمِ الْخَمْرِ، وَكَانَ مُسَمَّاهَا مَجْهُولاً لِلْمُخَاطِبِينَ، بَيَّنَ أَنَّ مُسَمَّاهَا هُوَ مَا أَسْكَرَ، فَيَكُونُ مِثْلَ لَفْظِ الصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَغَيْرِهِمَا مِن الْحَقَائِقِ الشَّرْعِيَّةِ. انْتَهَى.
قُلْتُ: هَذَا يُخَالِفُ مَا سَلَفَ عَنْهُ قَرِيباً، وَلا يَخْفَى ضَعْفُ هَذَا الْكَلامِ؛ فَإِنَّ الْخَمْرَ كَانَتْ مِنْ أَشْهَرِ أَشْرِبَةِ الْعَرَبِ، وَاسْمَهَا أَشْهَرُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ عِنْدَهُمْ، وَلَيْسَتْ كَالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ، وَأَشْعَارُهُمْ فِيهَا لا تُحْصَى، فَكَأَنَّهُ يُرِيدُ أَنَّهُ مَا كَانَ تَعْمِيمُ الاسْمِ بِلَفْظِ الْخَمْرِ لِكُلِّ مُسْكِرٍ مَعْرُوفاً عِنْدَهُمْ، فَعَرَّفَهُمْ بِهِ الشَّرْعُ؛ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يُسَمُّونَ بَعْضَ الْمُسْكِرِ بِغَيْرِ لَفْظِ الْخَمْرِ؛ كَالأَمْزَارِ يُضِيفُونَهَا إلَى مَا يُتَّخَذُ مِنْهُ مِنْ ذُرَةٍ وَشَعِيرٍ وَنَحْوِهِمَا، ولا يُطْلِقُونَ عَلَيْهِ لَفْظَ الْخَمْرِ في الشَّرْعِ بِتَعْمِيمِ الاسْمِ لِكُلِّ مُسْكِرٍ.
فَيَتَحَصَّلُ مِمَّا ذُكِرَ جَمِيعاً أَنَّ الْخَمْرَ حَقِيقَةٌ لُغَوِيَّةٌ فِي عَصِيرِ الْعِنَبِ الْمُشْتَدِّ الَّذِي يُقْذَفُ بِالزَّبَدِ، وَفِي غَيْرِهِ مِمَّا يُسْكِرُ حَقِيقَةٌ شَرْعِيَّةٌ، أَوْ قِيَاسٌ فِي اللُّغَةِ، أَوْ مَجَازٌ؛ فَقَدْ حَصَلَ الْمَقْصُودُ مِنْ تَحْرِيمِ مَا أَسْكَرَ مِنْ مَاءِ الْعِنَبِ أَوْ غَيْرِهِ؛ إمَّا بِنَقْلِ اللَّفْظِ إلَى الْحَقِيقَةِ الشَّرْعِيَّةِ، أَوْ بِغَيْرِهِ.
وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّهُ أَطْلَقَ عُمَرُ وَغَيْرُهُ مِن الصَّحَابَةِ الْخَمْرَ عَلَى كُلِّ مَا أَسْكَرَ، وَهُمْ أَهْلُ اللِّسَانِ، وَالأَصْلُ الْحَقِيقَةُ، وقَدْ أَحْسَنَ صَاحِبُ الْقَامُوسِ بِقَوْلِهِ: وَالْعُمُومُ أَصَحُّ.
وَأَمَّا الدَّعَاوَى الَّتِي تَقَدَّمَتْ عَلَى اللُّغَةِ، كَمَا قَالَهُ ابْنُ سِيدَهْ وَشَارِحُ الْكَنْزِ، فَمَا أَظُنُّهَا إلاَّ بَعْدَ تَقَرُّرِ هَذِهِ الْمَذَاهِبِ، فكُلٌّ تَكَلَّمَ عَلَى مَا يَعْتَقِدُهُ وَنَزَلَ فِي قَلْبِهِ مِنْ مَذْهَبِهِ، ثُمَّ جَعَلَهُ لأَهْلِ اللُّغَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: فَجَلَدَ بِجَرِيدَتَيْنِ نَحْوَ أَرْبَعِينَ، فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى ثُبُوتِ الْحَدِّ عَلَى شَارِبِ الْخَمْرِ. وَادَّعَى فِيهِ الإِجْمَاعَ، وَنُوزِعَ فِي دَعْوَاهُ؛ لأَنَّهُ قَدْ نُقِلَ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُ لا يَجِبُ فِيهِ إلاَّ التَّعْزِيرُ؛ لأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَنُصَّ عَلَى حَدٍّ مُعَيَّنٍ، وَإِنَّمَا ثَبَتَ عَنْهُ الضَّرْبُ الْمُطْلَقُ.
وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَكُونُ الْجَلْدُ بِالْجَرِيدِ، وَهُوَ سَعَفُ النَّخْلِ.
وَقَد اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ هَلْ يَتَعَيَّنُ الْجَلْدُ بِالْجَرِيدِ عَلَى ثَلاثَةِ أَقْوَالٍ؛ أَقْرَبُهَا جَوَازُ الْجَلْدِ بِالْعُودِ غَيْرِ الْجَرِيدِ، وَيَجُوزُ الاقْتِصَارُ عَلَى الضَّرْبِ بِالْيَدَيْنِ وَالنِّعَالِ.
قَالَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: أَجْمَعُوا عَلَى الاكْتِفَاءِ بِالْجَرِيدِ وَالنِّعَالِ وَأَطْرَافِ الثِّيَابِ. ثُمَّ قَالَ: وَالأَصَحُّ جَوَازُهُ بِالسَّوْطِ.
وَقَالَ الْمُصَنِّفُ: تَوَسَّطَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ، فَعَيَّنَ السَّوْطَ لِلْمُتَمَرِّدِينَ، وَأَطْرَافَ الثِّيَابِ وَالنِّعَالَ لِلضُّعَفَاءِ، وَمَنْ عَدَاهُمْ بِحَسَبِ مَا يَلِيقُ بِهِمْ.
وَقَدْ عَيَّنَ قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ: " نَحْوَ أَرْبَعِينَ" مَا أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ وَأَحْمَدُ بِلَفْظِ: فَأَمَرَ قَرِيباً مِنْ عِشْرِينَ رَجُلاً، فَجَلَدَهُ كُلُّ وَاحِدٍ جَلْدَتَيْنِ بِالْجَرِيدِ وَالنِّعَالِ. قَالَ الْمُصَنِّفُ: وَهَذَا يَجْمَعُ مَا اخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى تَشَعُّبِهِ، وَأَنَّ جُمْلَةَ الضَّرْبِ كَانَتْ أَرْبَعِينَ، لا أَنَّهُ جَلَدَهُ بِجَرِيدَتَيْنِ أَرْبَعِينَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: فَلَمَّا كَانَ عُمَرُ اسْتَشَارَ النَّاسَ... إلَى آخِرِهِ. سَبَبُ اسْتِشَارَتِهِ مَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ، أَنَّ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ كَتَبَ إلَى عُمَرَ: إنَّ النَّاسَ قَد انْهَمَكُوا فِي الْخَمْرِ، وَتَحَاقَرُوا الْعُقُوبَةَ، قَالَ: وَعِنْدَهُ الْمُهَاجِرُونَ وَالأَنْصَارُ، فَسَأَلَهُمْ، فَأَجْمَعُوا عَلَى أَنْ يَضْرِبَ ثَمَانِينَ.
وَأَخْرَجَ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ عَنْ ثَوْرِ بْنِ يَزِيدَ، أَنَّ عُمَرَ اسْتَشَارَ فِي الْخَمْرِ، فَقَالَ لَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عليهِ السَّلامُ: نَرَى أَنْ تَجْلِدَهُ ثَمَانِينَ؛ فَإِنَّهُ إذَا شَرِبَ سَكِرَ، وَإِذَا سَكِرَ هَذَى، وَإِذَا هَذَى افْتَرَى، فَجَلَدَ عُمَرُ فِي الْخَمْرِ ثَمَانِينَ.
وَهَذَا حَدِيثٌ مُعْضَلٌ، وَلِهَذَا الأَثَرِ طُرُقٌ عَنْ عَلِيٍّ، وَقَدْ أَنْكَرَهُ ابْنُ حَزْمٍ كَمَا سَلَفَ، وَفِي مَعْنَاهُ نَكَارَةٌ؛ لأَنَّهُ قَالَ: وإذَا هَذَى افْتَرَى، وَالْهَاذِي لا يُعَدُّ قَوْلُهُ فِرْيَةً؛ لأَنَّهُ لا عَمْدَ لَهُ، وَلا فِرْيَةَ إلاَّ عَنْ عَمْدٍ.
وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: جَاءَت الأَخْبَارُ مُتَوَاتِرَةً عَنْ عَلِيٍّ عليهِ السَّلامُ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَسُنَّ فِي الْخَمْرِ شَيْئاً. وَلا يَخْفَى أَنَّ الْحَدِيثَ الآتِيَ يُؤَيِّدُهُ.
(2/1164) - وَلِمُسْلِمٍ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فِي قِصَّةِ الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ: جَلَدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْبَعِينَ، وَجَلَدَ أَبُو بَكْرٍ أَرْبَعِينَ، وَجَلَدَ عُمَرُ ثَمَانِينَ، وَكُلٌّ سُنَّةٌ، وَهَذَا أَحَبُّ إلَيَّ.
وَفِي الْحَدِيثِ: أَنَّ رَجُلاً شَهِدَ عَلَيْهِ أَنَّهُ رَآهُ يَتَقَيَّأُ الْخَمْرَ، فَقَالَ عُثْمَانُ: إنَّهُ لَمْ يَتَقَيَّأْهَا حَتَّى شَرِبَهَا.
(وَلِمُسْلِمٍ عَنْ عَلِيٍّ فِي قِصَّةِ الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ)، حَقَّقْنَاهَا فِي مِنْحَةِ الْغَفَّارِ حَاشِيَةِ ضَوْءِ النَّهَارِ، وَفِيهَا: أَنَّ عُثْمَانَ أَمَرَ عَلِيًّا بِجَلْدِ الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ فِي الْخَمْرِ، فَقَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ: اجْلِدْهُ، فَجَلَدَهُ، فَلَمَّا بَلَغَ أَرْبَعِينَ قَالَ: أَمْسِكْ.
(جَلَدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْبَعِينَ، وَجَلَدَ أَبُو بَكْرٍ أَرْبَعِينَ، وَجَلَدَ عُمَرُ ثَمَانِينَ، وَكُلٌّ سُنَّةٌ، وَهَذَا أَحَبُّ إلَيَّ)، يُعارِضُهُ، وَهُوَيُرِيدُ أَنَّهُ أَحَبُّ إلَيْهِ مَعَ جُرْأَةِ الشَّارِبِينَ، لا أَنَّهُ أَحَبُّ إلَيْهِ مُطْلَقاً، فَلا يُرَدُّ أَنَّهُ كَيْفَ يَجْعَلُ فِعْلَ عُمَرَ أَحَبَّ إلَيْهِ مِنْ فِعْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَإِنَّ ظَاهِرَ الإِشَارَةِ إلَى فِعْلِ عُمَرَ، وَهُوَ الثَّمَانُونَ، وَلَكِنَّهُ يُقَالُ: إنَّ ظَاهِرَ قَوْلِهِ: أَمْسِكْ، بَعْدَ الأَرْبَعِينَ، دَالٌّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ إلاَّ الأَحَبَّ إلَيْهِ.
وَأُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ الْخِيَارِ، أَنَّ عَلِيًّا جَلَدَ الْوَلِيدَ ثَمَانِينَ، وَالْقِصَّةُ وَاحِدَةٌ، وَالَّذِي فِي الْبُخَارِيِّ أَرْجَحُ، وَكَأَنَّهُ بَعْدَ أَنْ قَالَ: وَهَذَا أَحَبُّ إلَيَّ، أَمَرَ عَبْدَ اللَّهِ بِتَمَامِ الثَّمَانِينَ.
وَهَذِهِ أَوْلَى مِن الْجَوَابِ الآخَرِ، وَهُوَ أَنَّهُ جَلَدَهُ بِسَوْطٍ لَهُ رَأْسَانِ، فَضَرَبَهُ أَرْبَعِينَ، فَكَانَت الْجُمْلَةُ ثَمَانِينَ؛ فَإِنَّ هَذَا ضَعِيفٌ؛ لِعَدَمِ مُنَاسَبَةِ سِيَاقِهِ لَهُ.
وَالرِّوَايَاتُ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ جَلَدَ فِي الْخَمْرِ أَرْبَعِينَ، كَثِيرَةٌ، إلاَّ أَنَّ فِي أَلْفَاظِهَا: نَحْوَ أَرْبَعِينَ، وَفِي بَعْضِهَا بِالنِّعَالِ، فَكَأَنَّهُ فَهِمَ الصَّحَابَةُ أَنَّ ذَلِكَ يَتَقَدَّرُ بِنَحْوِ أَرْبَعِينَ جَلْدَةً.
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ؛ فَذَهَبَت الْهَادَوِيَّةُ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَأَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يَجِبُ الْحَدُّ عَلَى السَّكْرَانِ ثَمَانِينَ جَلْدَةً، قَالُوا: لِقِيَامِ الإِجْمَاعِ عَلَيْهِ فِي عَهْدِ عُمَرَ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ وَدَاوُدُ أَنَّهُ أَرْبَعُونَ؛ لأَنَّهُ الَّذِي رُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِعْلُهُ، وَلأَنَّهُ الَّذِي اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ الأَمْرُ فِي خِلافَةِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَمَنْ تَتَبَّعَ مَا فِي الرِّوَايَاتِ وَاخْتِلافِهَا عَلِمَ أَنَّ الأَحْوَطَ الأَرْبَعُونَ، وَلا يُزَادُ عَلَيْهَا.
( وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ: أَنَّ رَجُلاً شَهِدَ عَلَيْهِ)؛ أيْ: عَلَى الْوَلِيدِ، (أَنَّهُ رَآهُ يَتَقَيَّأُ الْخَمْرَ، فَقَالَ عُثْمَانُ: إنَّهُ لَمْ يَتَقَيَّأْهَا حَتَّى شَرِبَهَا).
فِي مُسْلِمٍ: أَنَّهُ شَهِدَ عَلَيْهِ رَجُلانِ؛ أَحَدُهُمَا: حُمْرَانُ، أَنَّهُ شَرِبَ الْخَمْرَ، وَشَهِدَ عَلَيْهِ آخَرُ أَنَّهُ رَآهُ يَتَقَيَّؤُهَا.. الحَدِيثَ.
قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: هَذَا دَلِيلٌ لِمَالِكٍ وَمُوَافِقِيهِ فِي أَنَّ مَنْ تَقَيَّأَ الْخَمْرَ يُحَدُّ حَدَّ شَارِبِ الْخَمْرِ، وَمَذْهَبُنَا أَنَّهُ لا يُحَدُّ بِمُجَرَّدِ ذَلِكَ؛ لاحْتِمَالِ أَنَّهُ شَرِبَهَا جَاهِلاً كَوْنَهَا خَمْراً، أَوْ مُكْرَهاً عَلَيْهَا، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِن الأَعْذَارِ الْمُسْقِطَةِ لِلْحُدُودِ. وَدَلِيلُ مَالِكٍ قَوِيٌّ؛ لأَنَّ الصَّحَابَةَ اتَّفَقُوا عَلَى جَلْدِ الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ الْمَذْكُورِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ. ا هـ.
قُلْتُ: بِمِثْلِ مَا قَالَهُ مَالِكٌ قَالَتْهُ الْهَادَوِيَّةُ، ثُمَّ لا يَخْفَى أَنَّ اقْتِصَارَ الْمُصَنِّفِ عَلَى الْشاهِدِ على الْقَيْءِ وَحْدَهُ تَقْصِيرٌ؛ لإِيهَامِهِ أَنَّهُ جَلَدَ الْوَلِيدَ بِشَهَادَةِ وَاحِدٍ عَلَى القَيْءِ.
ولَيْسَ كَذَلِكَ كَمَا عَرَفْنَا، لا بِمَا ذَكَرَهُ مُسْلِمٌ مِن الروايَةِ، فلا يَتِمُّ الدَّلِيلُ علَى أَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى الفَيْءِ كَافِيَةٌ فِي ثُبُوتِ الحَدِّ، إِلاَّ أَنْ يَقُومَ دَلِيلٌ غَيْرُها هُنَا.


  #3  
قديم 24 محرم 1430هـ/20-01-2009م, 11:41 AM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي توضيح الأحكام للشيخ: عبد الله بن عبد الرحمن البسام


بَابُ حَدِّ الشَّارِبِ وَبَيَانِ المُسْكِرِ
مُقَدِّمَةٌ

المُسْكِرُ: اسْمُ فَاعِلٍ، مِنْ: أَسْكَرَ الشَّرَابُ فَهُوَ مُسْكِرٌ؛إِذَا جَعَلَ صَاحِبَهُ سَكْرَانَ، أَوْ كَانَتْ فِيهِ قُوَّةٌ تَفْعَلُ ذَلِكَ، وَجَمْعُ السَّكْرَانِ: سَكْرَى وَسُكَارَى، وَالسُّكْرُ: اخْتِلاطُ الْعَقْلِ.
وَيُسَمَّى كُلُّ شَرَابٍ أَسْكَرَ: خَمْراً، مِنْ أَيِّ شَيْءٍ كَانَ مِنَ الأَشْرِبَةِ.
والخَمْرُ لَهُ ثَلاثَةُ مَعَانٍ فِي اللُّغَةِ:
أحدُهَا: التَّغْطِيَةُ،وَمِنْهُ: خِمَارُ الْمَرْأَةِ، وَهُوَ غِطَاءُ رَأْسِهَا.
الثَّانِي: المُخَالَطَةُ، يُقَالُ: خَالَطَهُ بِمَعْنَى مَازَجَهُ.
الثالثُ: الإِدْرَاكُ، وَمِنْهُ قَوْلُهمْ: خَمَرَتِ العَجِينَ؛ أَيْ: تَرَكَتْهُ حَتَّى أَدْرَكَ.
وَمِنْ هَذِهِ الْمَعَانِي الثلاثِ أُخِذَ اسْمُ الْخَمْرِ؛ لأَنَّهَا تُغَطِّي الْعَقْلَ وَتُخَالِطُهُ، وَلأَنَّهَا تُتْرَكُ حَتَّى تُدْرِكَ وَتَسْتَوِيَ.
وَتَعْرِيفُهَا شَرْعاً: أَنَّهَا اسْمٌ لِكُلِّ مَا خَامَرَ الْعَقْلَ وَغَطَّاهُ، مِنْ أَيِّ نَوْعٍ مِنَ الأشربةِ؛ لحديثِ: ((كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ، وَكُلُّ خَمْرٍ حَرَامٌ)).
وَهُوَ مُحَرَّمٌ بِالْكِتَابِ، والسُّنَّةِ، وَإِجْمَاعِ الأُمَّةِ:
أَمَّا الْكِتَابُ:
فقولُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}. [المائدة: 90] فَقَرَنَهُ مَعَ عِبَادَةِ الأصنامِ، الَّتِي هِيَ الشِّرْكُ الأَكْبَرُ بِاللَّهِ تَعَالَى.
وَأَمَّا السُّنَّةُ:
فَأَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ:
مِنْهَا مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ: ((كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ، وَكُلُّ خَمْرٍ حَرَامٌ)).
وَأَمَّا الإجماعُ:
فَأَجْمَعَتِ الأُمَّةُ عَلَى تَحْرِيمِهَا.
وَحِكْمَةُ تَحْرِيمِهَا التشريعيَّةُ لا يَحْتَمِلُ المقامُ هُنَا ذِكْرَ مَا عَلِمْنَاهُ، وَوَقَفْنَا عَلَيْهِ مِن المفاسدِ، الَّتِي تَجُرُّهَا وَتُسَبِّبُهَا، وَيَكْفِيكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ}. [المائدة: 91] فَذَكَرَ أَنَّهُ سَبَبُ كُلِّ شَرٍّ، وَعَائِقٌ عَنْ كُلِّ خَيْرٍ.
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((الْخَمْرُ أُمُّ الْخَبَائِثِ)). فَجَعَلَهَا أُمًّا وَأَسَاساً لِكُلِّ شَرٍّ، وَخَبِيثٍ.
أَمَّا مَضَرَّتُهَا الدِّينِيَّةُ والأخلاقيَّةُ والعقليَّةُ فَهِيَ مِمَّا لا يَحْتَاجُ إِلَى بيانٍ وَتَفْصِيلٍ.
أَمَّا مَضَرَّتُهَا البَدَنِيَّةُ فَقَدْ أَجْمَعَ عَلَيْهَا الأَطِبَّاءُ؛ لأَنَّهُمْ وَجَدُوهَا سَبَباً فِي كَثِيرٍ مِن الأمراضِ الخطيرةِ المُسْتَعْصِيَةِ، وَإنَّ مَا تَجُرُّهُ هَذِهِ الجَرِيمَةُ المُنْكَرَةُ مِنَ المفاسدِ وَالشُّرُورِ لَيَطُولُ عَدُّهُ، وَيَصْعُبُ حَصْرُهُ.
وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا إِلاَّ ذَهَابُ الْعَقْلِ، لَكَفَى سَبَباً لِلتَّحْرِيمِ، فَكَيْفَ يَشْرَبُ المرءُ تِلْكَ الآثِمَةَ، الَّتِي تُزِيلُ عَقْلَهُ، فَيَكُونُ بِحَالٍ يَضْحَكُ مِنْهَا الصِّبْيَانُ، وَيَتَصَرَّفُ تَصَرُّفَ المَجَانِينِ؟!.
فَدَاءٌ هَذَا بَعْضُ أَعْرَاضِهِ كَيْفَ يَرْضَاهُ عَاقِلٌ لِنَفْسِهِ؟!.
وَلِعِظَمِ خَطَرِهَا، وَكَثْرَةِ ضَرَرِهَا، حَارَبَتْهَا الحكوماتُ فِي الْوِلايَاتِ المُتَّحِدَةِ الأَمْرِيكِيَّةِ وَغَيْرِهَا.
ولكنَّ كثيراً مِن النَّاسِ لا يَعْقِلُونَ، فَتَجِدُهُمْ يُتْلِفُونَ بِهَا عُقُولَهُم، وَأَدْيَانَهُم، وَأَعْرَاضَهُمْ، وَأَمْوَالَهُم، وَشِيمَتَهُم، وَصِحَّتَهُم، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
قَالَ الشَّيْخُ عَبْدُ القادرِ عُودَةُ: حَرَّمَتِ الشريعةُ الإسلاميَّةُ الْخَمْرَ تَحْرِيماً قَاطِعاً؛ لأَنَّهَا تَعْتَبِرُ الْخَمْرَ أُمَّ الخَبَائِثِ، وَتَرَاهَا مَضْيَعَةً للنَّفْسِ، والعقلِ، والصِّحَّةِ، وَالمالِ، وَلَقَدْ حَرَّمَتِ الشريعةُ الْخَمْرَ مِنْ أَرْبَعَةَ عَشَرَ قَرْناً، وَوُضِعَ التحريمُ مَوْضِعَ التنفيذِ مِنْ يَوْمِ نُزُولِ النصوصِ المُحَرِّمَةِ، وَظَلَّ الْعَالَمُ الإِسْلامِيُّ يُحَرِّمُ الْخَمْرَ حَتَّى أَوَاخِرِ القرنِ التاسعَ عَشَرَ، وَأَوَائِلِ القرنِ العِشْرِينَ؛ حَيْثُ بَدَأَتِ الْبِلادُ الإِسْلامِيَّةُ تُطَبِّقُ الْقَوَانِينَ الوَضْعِيَّةَ، وَتُعَطِّلُ الشَّرِيعَةَ الإِسْلامِيَّةَ، فَأَصْبَحَتِ الْخَمْرُ – بِمُوجِبِ هَذِهِ القوانينِ المُعْلَنَةِ – مُبَاحَةً لِشَارِبِهَا.
وَفِي نَفْسِ الوقتِ الَّذِي يَسْتَبِيحُ فِيهِ المُسْلِمُونَ الْخَمْرَ، تَنْتَشِرُ الدعوةُ إِلَى تحريمِ الْخَمْرِ فِي كُلِّ الْبِلادِ غَيْرِ الإسلاميَّةِ، فَلا تَجِدُ بَلَداً لَيْسَ فِيهِ جَمَاعَةٌ، أَوْ جَمَاعَاتٌ إِلاَّ تَدْعُو إِلَى تحريمِ الْخَمْرِ، وَتُبَيِّنُ بِكُلِّ الوسائلِ أَضْرَارَهَا العَظِيمَةَ، الَّتِي تَعُودُ عَلَى شَارِبِهَا بِصِفَةٍ خَاصَّةٍ، وَعَلَى الشعوبِ بِصِفَةٍ عَامَّةٍ.
وَقَدْ تَرَتَّبَ عَلَى الدعوةِ القَوِيَّةِ لِتَحْرِيمِ الْخَمْرِ أَنِ ابْتَدَأَتِ الدولُ غَيْرُ الإسلاميَّةِ تَضَعُ فِكْرَةَ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ مَوْضِعَ التنفيذِ، فالعالَمُ غَيْرُ الإسلاميِّ أَصْبَحَ الْيَوْمَ يَتَهَيَّأُ لِفِكْرَةِ تحريمِ الْخَمْرِ بَعْدَ أَنْ ثَبَتَ عِلْمِيًّا أَنَّهَا تَضُرُّ بالشعوبِ ضَرَراً بَلِيغاً، بَيْنَمَا المُسْلِمُونَ يَغِطُّونَ فِي نَوْمِهِمْ، عَاجِزِينَ عَن الشعورِ بِمَا حَوْلَهُمْ، وَسَيَأْتِي قَرِيباً الْيَوْمُ الَّذِي يُصْبِحُ فِيهِ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ عَامًّا فِي كُلِّ الدولِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَتَتِمُّ معجزةُ الشريعةِ الإسلاميَّةِ فِيهَا.
1078 - عَنْ أَنَسِ بنِ مالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ؛ أَنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ برجُلٍ قَدْ شَرِبَ الخمْرَ، فجَلَدَه بِجَرِيدَتَيْنِ نَحْوَ أَرْبَعِينَ. قالَ: وَفَعَلَه أَبُو بكرٍ، فلَمَّا كَانَ عُمَرُ اسْتَشَارَ الناسَ، فقالَ عبدُ الرحمنِ بنُ عَوْفٍ: أَخَفُّ الحدودِ ثَمَانُونَ. فأَمَرَ بِهِ عُمَرُ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَلِمُسْلِمٍ عَنْ عَلِيٍّ فِي قِصَّةِ الوليدِ بنِ عُقْبَةَ:جَلَدَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْبَعِينَ، وَجَلَدَ أَبُو بكرٍ أَرْبَعِينَ، وَجَلَدَ عُمَرُ ثَمَانِينَ، وَكُلٌّ سُنَّةٌ، وَهَذَا أَحَبُّ إليَّ. وَفِي الحديثِ: أَنَّ رَجُلاً شَهِدَ عَلَيْهِ أَنَّهُ رَآهُ يَتَقَيَّأُ الْخَمْرَ. فَقَالَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: إِنَّهُ لَمْ يَتَقَيَّأْهَا حَتَّى شَرِبَهَا.
مُفْرَدَاتُ الْحَدِيثِ:
- بِجَرِيدَتَيْنِ: الْجَرِيدَةُ: سَعَفَةُ النَّخْلِ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ؛ لأَنَّهَا مُجَرَّدَةٌ مِنَ الخُوصِ: وَالخُوصُ وَرَقُ النَّخْلِ.
- قِصَّةُ الْوَلِيدِ: هُوَ الْوَلِيدُ بْنُ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ، شَرِبَ الْخَمْرَ فِي زَمَنِ عُثْمَانَ، فَشَهِدَ عَلَيْهِ رَجُلٌ أَنَّهُ شَرِبَهَا، وَشَهِدَ الآخَرَانِ أَنَّهُ يَتَقَيَّؤُهَا، فَأُقِيمَ عَلَيْهِ الحدُّ.
- يَتَقَيَّأْهَا: التَّقَيُّؤُ: لَفْظُ مَا فِي المَعِدَةِ.
مَا يُؤْخَذُ مِنَ الْحَدِيثِ:
1- ثُبُوتُ الحدِّ فِي الْخَمْرِ، هُوَ مَذْهَبُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ.
2- أَنَّ حَدَّهُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ نَحْوُ أَرْبَعِينَ جَلْدَةً، وَتَبِعَهُ أَبُو بَكْرٍ عَلَى هَذَا.
3- أَنَّ عُمَرَ – بَعْدَ اسْتِشَارَةِ الصَّحَابَةِ – جَعَلَهُ ثَمَانِينَ.
4- الاجتهادُ فِي المسائلِ، وَمُشَاوَرَةُ الْعُلَمَاءِ عَلَيْهَا، وَهَذَا دَأْبُ أَهْلِ الْحَقِّ، وَطَالِبِي الصَّوَابِ.
أَمَّا الاستبدادُ فَعَمَلُ المُعْجَبِينَ بِأَنْفُسِهِم، المُتَكَبِّرِينَ الَّذِينَ لا يُرِيدُونَ الحقائقَ.
5- أَنَّ مَنْ تَقَيَّأَ الْخَمْرَ، فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ شَرِبَهَا، فَيُقَامُ عَلَيْهِ حَدُّ الشربِ.
خِلافُ الْعُلَمَاءِ:
اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي حَدِّ الْخَمْرِ: هَلْ هُوَ ثَمَانُونَ أَوْ أَرْبَعُونَ، أَوْ أَنَّ مَا بَيْنَ الأَرْبَعِينَ وَالثَّمَانِينَ يَكُونُ مِنْ بَابِ التعزيرِ، إِنْ رَأَى الحاكمُ الزيادةَ، وإلاَّ اقْتَصَرَ عَلَى الأَرْبَعِينَ؟
ذَهَبَ الأَئِمَّةُ: أَحْمَدُ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، والثَّوْرِيُّ، وَمَنْ تَبِعَهُم مِن الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ الحدَّ ثَمَانُونَ.
وَدَلِيلُهُمْ عَلَى ذَلِكَ: إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ، لَمَّا اسْتَشَارَهُم عُمَرُ، فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عوفٍ: اجْعَلْهُ كَأَخَفِّ الْحُدُودِ ثَمَانِينَ، فَجَعَلَهُ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إِلَى: أَنَّ الحدَّ أَرْبَعُونَ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنِ الإمامِ أَحْمَدَ، اخْتَارَهَا جُمْلَةٌ مِنَ الحنابلةِ: مِنْهُمْ أَبُو بَكْرٍ، وَشَيْخُ الإِسْلامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ، وَابْنُ القَيِّمِ، وَشَيْخُنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ السعْدِيُّ رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى.
قَالَ شيخُ الإِسْلامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ فِيمَا نُقِل عَنْهُ فِي (الاخْتِيَارَاتِ):
والصحيحُ فِي حَدِّ الْخَمْرِ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ المُوَافِقَةُ لِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ: أَنَّ الزيادةَ عَلَى الأَرْبَعِينَ إِلَى الثَّمَانِينَ لَيْسَتْ وَاجِبَةً عَلَى الإطلاقِ، بَلْ يُرْجَعُ فِيهَا إِلَى اجتهادِ الإمامِ، كَمَا جَوَّزْنَا لَهُ الاجتهادَ فِي صِفَةِ الضَّرْبِ فِيهِ.
وَقَالَ فِي (المُغْنِي): وَلا يَنْعَقِدُ الإجماعُ عَلَى مَا خَالَفَ فِعْلَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسلامُ، وَأَبِي بَكْرٍ، فَتُحْمَلُ الزيادةُ مِنْ عُمَرَ عَلَى أَنَّهَا تَعْزِيرٌ، يَجُوزُ فِعْلُهَا إِذَا رَآهُ الإمامُ.
وَيُقْصَدُ بِهَذَا الرَّدُّ عَلَى مَنْ قَالَ: إِنَّ الثَّمَانِينَ كَانَتْ بِإِجْمَاعٍ مِنَ الصَّحَابَةِ.
أَمَّا مجلسُ هَيْئَةِ كبارِ الْعُلَمَاءِ، فَجَاءَ فِي قَرَارِهِ رَقْمِ (53) فِي 4/4/1397 هـ.
1- أَنَّ عُقُوبَةَ شَارِبِ الْخَمْرِ الحدُّ لا التعزيرُ بالإجماعِ.
2- أَنَّ الحدَّ ثَمَانُونَ جَلْدَةً، وَذَلِكَ بالأَكْثَرِيَّةِ.
3- وَقَرَّرَ الْمَجْلِسُ استيفاءَ الحدِّ جُمْلَةً وَاحِدَةً، وَعَدَمَ تَجْزِئَتِهِ.
وَقَدْ أَجْمَعَتِ الأُمَّةُ عَلَى أَنَّ الشاربَ إِذَا سَكِرَ بِأَيِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ السُّكْرِ، فَعَلَيْهِ الحَدُّ، وَأَجْمَعَتْ أيضاً عَلَى أَنَّهُ مَنْ شَرِبَ عَصِيرَ العِنَبِ المُتَخَمِّرَ، فَعَلَيْهِ الحَدُّ، وَلَوْ لَمْ يُسْكِرْ شَارِبَهُ.
وَذَهَبَ جَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ مِن السَّلَفِ والخَلَفِ إِلَى: أَنَّ مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ، مِنْ أَيِّ نوعٍ مِنْ أنواعِ المُسْكِرَاتِ؛ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ مِنْ عصيرِ العِنَبِ، أَو التَّمْرِ، أَو الحِنْطَةِ، أَو الشعيرِ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ.
وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عُمَرَ، وعَلِيٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، وَعَائِشَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
وبهِ قَالَ عَطَاءٌ، وَمُجَاهِدٌ، وَطَاوُسٌ، والقاسمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَقَتَادَةُ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الأَئِمَّةِ الثلاثةِ: أَحْمَدُ، والشَّافِعِيُّ، ومالكٌ، وَأَتْبَاعُهُم، وَذَهَبَ إِلَيْهِ أَبُو ثَوْرٍ، وإسحاقُ، وَهُوَ المُفْتَى بِهِ عِنْدَ مُتَأَخِّرِي الحَنَفِيَّةِ.
وَأَمَّا أَهْلُ الْكُوفَةِ: فَيَرَوْنَ أَنَّ الأَشْرِبَةَ المُسْكِرَةَ مِنْ غَيْرِ العِنَبِ لا يُحَدُّ شَارِبُهَا، مَا لَمْ تَبْلُغْ حَدَّ الإِسْكَارِ.
أَمَّا مَعَ الإسكارِ فَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الإجماعَ عَلَى إِقَامَةِ الحدِّ.
وَلَيْسَ لِهَؤُلاءِ مِن الأَدِلَّةِ إِلاَّ أَنَّ اسْمَ الْخَمْرِ حَقِيقَةً لا يُطْلَقُ عِنْدَهُمْ إِلاَّ عَلَى عصيرِ العِنَبِ، أَمَّا غَيْرُهُ فَيُلْحَقُ بِهِ مَجَازاً، وَاسْتَدَلُّوا عَلَى مَذْهَبِهِم بِأَحَادِيثَ.
قَالَ الْعُلَمَاءُ، وَمِنْهُم الأَثْرَمُ وَابْنُ الْمُنْذِرِ: إِنَّهَا مَعْلُولَةٌ ضعيفةٌ.
أَمَّا أَدِلَّةُ جَمَاهِيرِ الأُمَّةِ، عَلَى أَنَّ كُلَّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ، يَحْرُمُ قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ: فَمِنَ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ، والسُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ، واللُّغَةِ الفَصِيحَةِ.
فَأَمَّا الْكِتَابُ: فَعُمُومُ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ والنَّهْيِ عَنْهَا.
والخمرُ: مَا خَامَرَ الْعَقْلَ، وَغَطّاهُ مِنْ أَيِّ نَوْعٍ.
وَأَمَّا السُّنَّةُ: فَقَدْ صَحَّ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: ((كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ، وَكُلُّ خَمْرٍ حَرَامٌ)).
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ، فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ)). رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالأَثْرَمُ.
وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: (نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ، وَهِيَ مِنَ الْعِنَبِ، والتَّمْرِ، والعَسَلِ، والحِنْطَةِ، والشعيرِ، والخَمْرُ مَا خَامَرَ الْعَقْلَ). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَأَمَّا اللُّغَةُ: فَقَدْ قَالَ صَاحِبُ (الْقَامُوسِ): الْخَمْرُ: مَا أَسْكَرَ مِنْ عَصِيرِ العِنَبِ، أَوْ هُوَ عَامٌّ، والعمومُ أَصَحُّ؛ لأَنَّهَا حُرِّمَتْ وَمَا بالمَدِينَةِ خَمْرُ عِنَبٍ، وَكَانَ شَرَابُهُم البُسْرَ، والتَّمْرَ.
وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: زَعَمَ قَوْمٌ أَنَّ الْعَرَبَ لا تَعْرِفُ الْخَمْرَ إِلاَّ مِنَ العِنَبِ، فَيُقَالُ لَهُمْ: إِنَّ الصَّحَابَةَ الَّذِين سَمَّوْا غَيْرَ المُتَّخَذِ مِنَ الْعِنَبِ خَمْراً عَرَبٌ فُصَحَاءُ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ هَذَا الاسمُ صَحِيحاً لَمَا أَطْلَقُوهُ.
وَمِنْ أَحْسَنِ مَا يُنْقَلُ مِنْ كَلامِ الْعُلَمَاءِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَا قَالَهُ القُرْطُبِيُّ: الأَحَادِيثُ الواردةُ عَنْ أَنَسٍ وَغَيْرِهِ عَلَى صِحَّتِهَا وَكَثْرَتِهَا تُبْطِلُ مَذْهَبَ الْكُوفِيِّينَ، القَائِلِينَ بِأَنَّ الْخَمْرَ لا يَكُونُ إِلاَّ مِنَ الْعِنَبِ، وَمَا كَانَ مِنْ غَيْرِهِ لا يُسَمَّى خَمْراً، وَلا يَتَنَاوَلُهُ اسْمُ الْخَمْرِ.
وَهُوَ قَوْلٌ مُخَالِفٌ للغةِ الْعَرَبِ، وَللسُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ، وللصحابةِ؛ لأَنَّهُمْ لَمَّا نَزَلَ تحريمُ الْخَمْرِ فَهِمُوا مِنْهُ اجْتِنَابَ كُلِّ مَا يُسْكِرُ.
وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ مَا يُتَّخَذُ مِنَ العنبِ، وَبَيْنَ مَا يُتَّخَذُ مِنْ غَيْرِهِ، بَلْ سَوَّوْا بَيْنَهَا، وَحَرَّمُوا كُلَّ مَا يُسْكِرُ نَوْعُهُ.
وَلَمْ يَتَوَقَّفُوا، وَلَمْ يَسْتَفْصِلُوا، وَلَمْ يُشْكِلْ عَلَيْهِمْ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ، بَلْ بَادَرُوا إِلَى إتلافِ كُلِّ مُسْكِرٍ، حَتَّى مَا كَانَ مِنْ غَيْرِ عَصِيرِ الْعِنَبِ، وَهُمْ أَهْلُ اللِّسَانِ، وَبِلُغَتِهِم نَزَلَ الْقُرْآنُ.
فَلَوْ كَانَ عِنْدَهُمْ تَرَدُّدٌ لَتَوَقَّفُوا عَن الإِرَاقَةِ حَتَّى يَسْتَفْصِلُوا، وَيَتَحَقَّقُوا التَّحْرِيمَ.
ثُمَّ سَاقَ القُرْطُبِيُّ الأَثَرَ المُتَقَدِّمَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَهَذَا كَلامٌ جَيِّدٌ، يَقْطَعُ شُبْهَةَ الْمُخَالِفِ، وَاللَّهُ المُوَفِّقُ.

موضوع مغلق

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
باب, حد

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 12:56 AM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir