دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > علوم الحديث الشريف > متون علوم الحديث الشريف > عمدة الأحكام > القصاص والحدود

موضوع مغلق
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 10 ذو القعدة 1429هـ/8-11-2008م, 06:33 AM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,453
افتراضي باب حد السرقة

بَابُ حَـدِّ السَّـرِقَةِ
عن عبدِ اللهِ بنِ عمرَ رَضِيَ اللهُ عنهُمَا، (( أنَّ النَّبِيَّ صَلى اللهُ عليهِ وسلمَ قَطَعَ في مِجَنٍّ، قِيمَتُهُ –وَفي لفظٍ : ثَمَنُهُ- ثَلاَثَةُ دَرَاهِمَ )) .
وعن عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنهَا، أنَّهَا سَمِعَتْ رسولَ اللهِ صَلى اللهُ عليهِ وسلمَ يقولُ: ((تُقْطَعُ الْيَدُ فِي رُبْعِ دِينَارٍ، فَصَاعِدًا)).
وعن عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنهَا، ((أَنَّ قُرَيْشًا أَهَمَّهُمْ شَأَنُ المَخْزُومِيَّةِ الَّتِي سَرَقَتْ، فَقَالُوا: مَن يُكَلِّمُ فِيهَا رَسُولَ اللهِ صَلى اللهُ عليهِ وسلمَ؟ فَقَالُوا: وَمَن يَجْتَرِئُ عَلَيْهِ إِلاَّ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، حِبُّ رَسُولِ اللهِ صَلى اللهُ عليهِ وسلمَ؟ فَكَلَّمَهُ أُسَامَةُ، فقالَ: أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِن حُدُودِ اللهِ؟ ثُمَّ قَامَ، فَاخْتَطَبَ فقالَ: ((إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ، أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ وَأَيْمُ اللهِ، لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا)) .
وفي لفظٍٍ : (( كانت امْرَأَةٌ تَسْتَعِيرُ المَتَاعَ وَتَجْحَدُهُ، فأَمَرَ النَّبِيُّ صَلى اللهُ عليهِ وسلمَ بِقَطْعِ يَدِهَا)) .

  #2  
قديم 17 ذو القعدة 1429هـ/15-11-2008م, 09:46 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي تصحيح العمدة للإمام بدر الدين الزركشي (النوع الثاني: التصحيح اللغوي)

الْمِجَنِّ: بكسْرِ الميمِ وفتْحِ الجيمِ التُّرْسُ وعندَ سيبويهِ أن ميمَه أصليَّةٌ وأنه فعْلٌ وخالَفَه الناسُ في ذلك وجَعَلُوه مِفْعَلَةً من جَنذَ إذا سَتَرَ وهو الذي أَوْرَدَه الجوهريُّ في ( الصحاحِّ ) في فِعْلِ جَنَنَ يعني أن الميمَ زائدةً .
قولُه : فصاعدًا هو منصوبٌ على الحالِ .
قالَ ابنُ جِنِّيٍّ : وهي حالٌ مؤكِّدةٌ كقولِهم : أخَذْتُه بدرهمٍ فصاعدًا أي فزَادَ الثمَنُ صاعدًا ومعلومٌ أنه إذا زادَ الثمَنُ لم يكنْ إلا صاعدًا .
وقالَ في ( المُحكَمِ ) : ولا يَجوزُ أن يأتيَ بالواوِ عِوَضَ الفاءِ قالَ : وثم مِثلُ الفاءِ .
قولُه : لا يُثَرِّبُ هو بالثاءِ المثَلَّثَةِ .
أي لا يَقتصِرُ من الحَدِّ على التثريبِ كما يُقالُ في المتوضِّئِ : فغَسَلَ رجليه ولا يَمسَحُ ليس المرادُ النهيَ عن المسْحِ بل عن الاقتصارِ عليه .
قولُه : حِبُّ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ .
هو بكسْرِ الحاءِ أي محبوبُه .
قولُه : وأَيْمُ اللهِ
بكسْرِ الهمزةِ وفتْحِها والميمُ مضمومةٌ فيهما وحَكَى الأخفشُ كسْرَ الميمِ مع كسْرِ الهمزةِ ولغاتُها نحوُ العشرين لكثرةِ استعمالِ العربِ بها في القِسمِ .
قولُه : فقالَ عبدُ الرحمنِ بنُ عوْفِ : أخَفُّ الحدودِ ثمانين .
قالَ الشيخُ : يُرْوَى بالنصْبِ على إضمارِ فِعْلٍ أي اجْعَلْه ثمانين والأَوْلَى تقديرُ أَرَى ليُطابِقَ السؤالُ الجوابَ لأنه قالَ في روايةٍ : ما أرى ونَقَلَه القاضي عِياضٌ في ( المشارِقِ ) في الجَلْدِ .
واجْلِدْهُم أخَفَّ الحدودِ فأخَفُّ مفعولٌ ثانٍ (1) وثمانينَ بدَلٌ منه قالَ ورُوِيَ ثمانون والأوَّلُ أفصَحُ .
__________________________
(1) من هنا يوجَدُ سقْطٌ في المخطوطِ الواضحِ حتى قُبَيْلَ الآخِرِ بقليلٍ .


  #3  
قديم 17 ذو القعدة 1429هـ/15-11-2008م, 09:48 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي خلاصة الكلام للشيخ: عبد الله بن عبد الرحمن البسام

بابُ حدِّ السَّرِقَةِ

الْحَدِيثُ الثَّامِنُ والأربعونَ بَعْدَ الثَّلَاثِمِائَةٍ
عنْ عبدِ اللَّهِ بنِ عمرَ رَضِيَ اللَّهُ عنهُمَا، ((أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَطَعَ في مِجَنٍّ، قِيمَتُهُ –وَفي لفظٍ: ثَمَنُهُ- ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ)).


الْحَدِيثُ التَّاسِعُ والأربعونَ بَعْدَ الثَّلَاثِمِائَةٍ
وعنْ عائشةَ رَضِيَ اللَّهُ عنهَا، أنَّهَا سَمِعَتْ رسولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقولُ: ((تُقْطَعُ الْيَدُ فِي رُبْعِ دِينَارٍ، فَصَاعِدًا)).

فِيهِمَا مَسَائِلُ:
الأُولَى: قَطْعُ يدِ السارقِ الذي أَخَذَ المالَ منْ حِرزِهِ على وجهِ الخِفْيَةِ.
الثَّانِيَةُ: أنَّ نِصَابَ القطعِ رُبْعُ دِينَارٍ من الذهبِ، أوْ ما قِيمَتُهُ ثلاثةُ دَرَاهِمَ من الفِضَّةِ.
الثَّالِثَةُ: لِهَذَا الحُكْمِ السَّامِي حِكْمَتُهُ التشريعيَّةُ العُظْمَى منْ قَمْعِ المُعْتَدِينَ واسْتِتْبَابِ الأَمْنِ.

بابٌ في إنكارِ الشفاعةِ في الحدودِ

الْحَدِيثُ الخمسونَ بَعْدَ الثَّلَاثِمِائَةٍ
وعنْ عائشةَ رَضِيَ اللَّهُ عنهَا، ((أَنَّ قُرَيْشًا أَهَمَّهُمْ شَأَنُ المَخْزُومِيَّةِ الَّتِي سَرَقَتْ، فَقَالُوا: مَنْ يُكَلِّمُ فِيهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالُوا: وَمَنْ يَجْتَرِئُ عَلَيْهِ إِلَّا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، حِبُّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَكَلَّمَهُ أُسَامَةُ، فقالَ: أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ؟ ثُمَّ قَامَ، فَاخْتَطَبَ فقالَ: ((إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ، أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ وَأَيْمُ اللَّهِ، لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا)).
وفي لفظٍ: ((كانت امْرَأَةٌ تَسْتَعِيرُ المَتَاعَ وَتَجْحَدُهُ، فأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَطْعِ يَدِهَا)).

المُفْرَدَاتُ:
قَوْلُهُ: (حِبُّ رَسُولِ اللَّهِ). بِكَسْرِ الحاءِ، أيْ: مَحْبُوبُهُ.
قَوْلُهُ: (وَأَيْمُ اللَّهِ). بفتحِ الهمزةِ وكسرِهَا وَضَمِّ الميمِ، وهوَ مرفوعٌ بالابتداءِ وخبرُهُ محذوفٌ تقديرُهُ قَسَمِي أوْ عَيْنِي.

فِيهِ مَسَائِلُ:
الأُولَى: تحريمُ الشفاعةِ في الحدودِ والإنكارُ على الشافعِ.
الثَّانِيَةُ: أنَّ جَاحِدَ العاريَّةِ حُكْمُهُ حُكْمُ السارقِ فَيُقْطَعُ.
الثَّالِثَةُ: وُجُوبُ العدلِ والمساواةِ بينَ الناسِ؛ غَنِيِّهِم وفقيرِهِم، شَرِيفِهِم وَوَضِيعِهِم؛ فإنَّ إِقَامَتَهَا على الفقراءِ دونَ الأغنياءِ سَبَبُ الهلاكِ.

  #4  
قديم 17 ذو القعدة 1429هـ/15-11-2008م, 09:51 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي تيسير العلام للشيخ: عبد الله بن عبد الرحمن البسام

بابُ حدِّ السَّرِقَةِ (174)
الحَديثُ الخَمْسُونَ بَعْدَ الثلَاثِمِائَةٍ
350- عن عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رضي اللهُ عنهما، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَطَعَ في مِجَنٍّ, قِيمَتُهُ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ. وفي لَفْظٍ : ثَمَنُهُ ثَلاَثَةُ دَرَاهِمَ.
الحَديثُ الحادِي والخَمْسُونَ بَعْدَ الثلَاثِمِائَةٍ
351- عن عائِشَةَ رضي اللهُ عنها، أنَّها سَمِعَتْ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقولُ:((تُقْطَعُ الْيَدُ فِي رُبْعِ دِينَارٍ، فَصَاعِدًا))(175).
بَابٌ في إنْكارِ الشفَاعَةِ في الحُدُودِ
والنَّهْيِ عَنْها
الحَديثُ الثانِي والخَمْسُونَ بَعْدَ الثلَاثِمِائَةٍ
352- عن عائِشَةَ رضي اللهُ عنها، أَنَّ قُرَيْشًا أَهَمَّهُمْ شَأَنُ المَخْزُومِيَّةِ الَّتِي سَرَقَتْ، فَقَالُوا : مَنْ يُكَلِّمُ فِيهَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ فَقَالُوا: وَمَنْ يَجْتَرِئُ عَلَيْهِ إِلَّا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، حِبُّ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ فَكَلَّمَهُ أُسَامَةُ، فَقَالَ: أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللهِ ؟ ثمَّ قَامَ، فَاخْتَطَبَ فَقالَ : ((إِنَّما أَهْلَكَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ، أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكوهُ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الضَّعِيفُ، أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ وَأَيْمُ اللهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا)).
وفي لَفْـظٍ : كانتِ امْـرَأَةٌ تَسْتَعِيرُ المَتَاعَ وَتَجْحَدُهُ، فأَمَرَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَطْعِ يَدِهَا))(176)
___________________
(174) الأصْلُ في القَطْعِ، الكِتابُ، والسُّنَّةُ، والإجْماعُ، والقِياسُ. قال تعالى:
(وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) .
والسُّنَّةُ ما يَأْتِي مِن الأحادِيثِ.
وأَجْمَعَ عَلَيْهِ العُلَماءُ اسْتِنادًا إلى هذه النُّصوصِ.
والقِياسُ، والحِكْمَةُ تَقْتَضِي إقامَةَ الحُدودِ كُلِّها، كَما أَمَرَ اللهُ تعالى؛ حِفْظًا لِلأَنْفُسِ، والأعْراضِ، والأمْوالِ.
ولِذا نَرى البِلَادَ التي عَمِلَتْ بِحُدودِ اللهِ، ونَفَّذَتْ حُدودَهُ، اسْتَتَبَّ فيها الأمْنُ، ولو كانَتْ ضَعِيفَةَ العُدَّةِ.
ونَرَى الفَوْضَى وقَتْلَ الأنْفُسِ، وانْتِهاكَ الأعْراضِ، وسَلْبَ الأمْوَالِ، في البِلادِ التي حَكَّمَت القَوانِينَ؛ [ رَحْمَةً بالجُناةِ المُعْتَدِينَ، مِن جَهْلِهِمْ بالرَّحْمَةِ ومَوْضِعِها]، ولو كانَتْ قَوِيَّةً مُتَمَدْيِنَةً، فَمَضَتْ حَياتُها ما بَيْنَ سَلْبٍ ونَهْبٍ.
(175) الغَرِيبُ:
القَطْعُ: يُرادُ بِهِ الأمْرُ بالقَطْعِ.
قَيمَتُهُ: ما تَنْتَهِي إليهِ الرغْبَةُ مِن الثمَنِ.
الثمَنُ: ما يُقابَلُ بِهِ المَبِيعُ.
المِجَنُّ: بِكَسْرِ الميمِ، وفَتْحِ الجيمِ، بَعْدَها نُونٌ مُشَدَّدَةٌ، هُوَ التُّرْسُ الذي يُتَّقَى بِهِ وَقْعُ السيْفِ، مَأْخُوذٌ مِن الاجْتِنانِ والاخْتِفاءِ، لِأَنَّ الفارِسَ يَخْتَفِي بهِ، وكُسِرَتْ مِيمُهُ؛ لِأَنَّهُ اسْمُ آلَةٍ.
المَعْنى الإجْمالِيُّ:
أمَّنَ اللهُ عَزَّ وجَلَّ دِماءَ الناسِ، وأَعْراضَهُمْ، وأَمْوالَهُمْ، بِكُلِّ ما يَكْفُلُ رَدْعَ المُفْسِدِينَ المُعْتَدِينَ.
فكانَ أَنْ جَعَلَ عُقُوبَةَ السارِقِ [الذي يَأْخُذُ المَالَ مِن حِرْزِهِ على وَجْهِ الاخْتِفاءِ ] قَطْعَ العُضْوِ الذي تَنَاوَلَ بِهِ المالَ المَسْرُوقَ؛ لِيُكَفِّرَ القَطْعُ ذَنْبَهُ.
وليَرْتَدِعَ هُوَ وغَيْرُهُ عن الطُّرُقِ الدَّنِيئَةِ، ويَنْصَرِفُوا إلى اكْتِسابِ المالِ مِن الطُّرُقِ الشَّرْعِيَّةِ الكَريمَةِ، فَيَكْثُرُ العَمَلُ، وتُسْتَخْرَجُ الثِّمارُ، فَيَعْمُرُ الكَوْنُ، وتَعِزُّ النفُوسُ.
ومِن حِكْمَتِهِ تعالى أنْ جَعَلَ النِّصَابَ الذي تُقْطَعُ فيهِ اليَدُ، ما يُعادِلُ رُبْعَ دِينارٍ مِن الذَّهَبِ، حِمايَةً للأمْوالِ، وصِيانَةً للحَيَاةِ، لِيَسْتَتِبَّ الأمْنُ، وتَطْمَئِنَّ النفُوسُ، ويَنْشُرَ الناسُ أَمْوَالَهُمْ للكَسْبِ والاسْتِثْمارِ.
ما يُسْتَفادُ مِن الحَديثِ:
1- قَطْعُ يَدِ السارِقِ، والمُرادُ بالسارِقِ [الذي يَأْخُذُ المَالَ مِن حِرْزِهِ على وَجْهِ الاخْتِفاءِ، ] ولَيْسَ مِنْهُ الغاصِبُ والمُنْتَهِبُ والمُخْتَلِسُ.
قالَ القاضي عِيَاضٌ رَحِمَهُ اللهُ :((صانَ اللهُ الأمْوَالَ بإيجابِ القَطْعِ على السارِقِ، ولم يَجْعَلْ ذلكَ في غَيْرِ السرِقَةِ، كالاخْتِلَاسِ، والانْتِهابِ، والغَصْبِ؛ لِأَنَّ ذلكَ قَليلٌ بالنسْبَةِ إلى السرِقَةِ، ولِأَنَّهُ يُمْكِنُ اسْتِرْجاعُ هذا النوْعِ بالاسْتِدْعاءِ إلَى وُلَاةِ الأمْرِ، وتَسْهُلُ إِقامَةُ البَيِّنَةِ علَيْهِ، بِخِلافِ السَّرِقَةِ فإنَّهُ تَنْدُرُ إقامَةُ البَيِّنَةِ عَلَيْها، فَعَظُمَ أَمْرُها، واشْتَدَّتْ عُقُوبَتُها؛ لِيَكُونَ أَبْلَغَ في الزجْرِ عَنْها.
وقَدْ أَجْمَعَ المُسْلِمونَ على قَطْعِ السارِقِ في الجُمْلَةِ.
2- في الحَديثَيْنِ أنَّ نِصـابَ القَطْـعِ رُبْعُ دِينَـارٍ مِن الذهَبِ، أو ما قِيمَتُهُ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ مِن الفِضَّـةِ، ويأْتِي قريبًا مَذاهِبُ العُلَماءِ في بَيانِ النِّصابِ.
3- قالَ ابْنُ دَقِيقِ العِيدِ: القِيمَةُ والثَّمَنُ مُخْتَلِفانِ في الحَقيقَةِ، فلو اخْتَلَفَتِ القِيمَةُ والثَّمَنُ الذي اشْتَراهُ بِهِ مالِكُهُ لم تُعْتَبَرْ إلَّا القِيمَةُ.
4- للعُلَماءِ شُروطٌ في قَطْعِ يَدِ السارِقِ تَقَدَّمَ بَعْضُها:
وَأَهَمُّ الباقِي أنْ يَكونَ المَسْروقُ مِن حِرْزِ مِثْلِهِ، والحِرْزُ يَخْتَلِفُ باخْتِلافِ الأمْوَالِ، والبُلْدانِ، والحُكَّامِ.
ومَرْجِعُ الحِرْزِ العُرْفُ فَلَا قَطْعَ في سَرِقَةٍ مِن غَيْرِ حِرْزِ مِثْلِها.
وأنْ تَنْتَفِيَ الشُّبْهَةُ، فَلَا قَطْـعَ مِن مالٍ، لهُ فيهِ شُبْهَةٌ، كَسَـرِقَةِ الابْنِ مِن أبِيهِ، أو الأبِ مِن ابْنِهِ، والفَقيرِ مِن غَلَّةٍ وَقْفٍ على الفُقَراءِ، أو مِن مالٍ لهُ فيهِ شُرَكاءُ، وأنْ تَثْبُتَ السرِقَةُ إمَّا بإقْرَارٍ مِن السارِقِ مُعْتَبَرٍ، أو شاهِدَيْنِ عَدْلَيْنِ.
5- لِهذا الحُكْمِ السامِي حِكْمَتُهُ التشْرِيعِيَّةُ العُظْمَى.
فالحُدودُ كُلُّها - على وَجْهِ العُمومِ - رَحْمَةٌ ونِعْمَةٌ؛ فإنَّ في المَجْمُوعَةِ البَشَرِيَّةِ أَفْرادًا، أُشْرِبَتْ نُفُوسُهُمْ حُبَّ الأذَى، وإقْلاقِ الناسِ، وإفْزاعِهِمْ في أَنْفُسِهِمْ، وأَعْراضِهِمْ، وأَمْوَالِهِمْ، وأنَّهُ إذا لم يُجعَلْ لِهَؤلاءِ المُجْرِمِينَ رادِعٌ مِن التأْدِيبِ والعُقوبَةِ، اضْطَرَبَت الأَحْوالُ، وخافَ الناسُ، وتَقَطَّعَت السُّبُلُ.
ومِن رَحْمَتِهِ تعالى أنْ جَعَلَ عُقُوباتٍ تُناسِبُ هذه الجَرائِمَ؛ لِيَرْتَدِعَ بها المُجْرِمُ، ولِيَكُفَّ عن الجَرائِمِ مَن يُحاوِلُ غِشْيَانَها،
ومِن ذلكَ قَطْعُ يَدِ السارِقِ.
فهذا المُعْتَدِي الذي تَرَكَ ما أَباحَ اللهُ تعالى لهُ، واسْتَحْسَنَهُ الناسُ مِن المَكاسِبِ الشرِيفَةِ، التي تَعُودُ عليهِ وعلى مُجْتَمَعِهِ بالصالِحِ العامِّ، فَأَقْدَمَ على أَمْوَالِ الناسِ بِغَيْرِ حَقٍّ، وأَفْزَعَهُمْ وأَخافَهُمْ، يُناسِبُهُ في العُقوبَةِ أنْ تُقْطَعَ يَدُهُ؛ لِأَنَّها الآلَةُ الوَحِيدَةُ [لِعَمَلِيَّةِ الإجْرامِ].
ولَكِنَّا - مَعَ الأسَفِ - ابْتُلِينا بِهذِهِ الطوَائِفِ المُتَزَنْدِقَةِ التي عَشِقَت القَوانِينَ الأُورُوبِّيَّةَ الآثِمَةَ، تِلْكَ القَوانِينُ التي لم تَحْجِزِ المُجْرِمِينَ عن إفْسادِهِمْ في الأرْضِ، وإخافِةِ الأبْرِياءِ في بُيُوتِهِمْ وسُبُلِهِمْ.
عَشِقُوا تِلْكَ القَوانِينَ التي حاوَلَتْ إصْلَاحَ المُجْرِمِينَ المُفْسِدينَ بِغَيْرِ ما أَنْزَلَ اللهُ تعالى عَلَيْهِمْ مِن العِلَاجاتِ الشافِيَةِ لَهُمْ، ولِمَنْ في قَلْبِهِ مَرَضٌ مِن أَمْثالِهِمْ، فلم تُفْلِحْ، بَلْ زادَتْ عِنْدَهُمْ الجَرائِمُ والمَفاسِدُ؛ لِأَنَّ عِقابَهُمْ وعِلَاجَهُمْ السَّجْنُ مَهْمَا عَظُمَت المَعْصِيَةُ، وكَبُرَ الإجْرامُ.
والسَّجْنُ يَلَذُّ لِكَثِيرٍ مِن المُفْسِدينَ العاطِلِينَ، الذينَ يَجِدونَ فيهِ الطَّعامَ والشَّرَابَ، وفي خارِجِهِ الجُوعُ والبَطَالَةُ.
وبالتَّجارِبِ وَجَدْنَا حُكومَتَنَا [ السُّعودِيَّةَ ] وفَّقَها اللهُ، لَمَّا حَكَمَتْ - وللهِ الحَمْدُ - بالشرْعِ الشَّرِيفِ، خَفَّتْ عِنْدَها أَعْمالُ الإجْرامِ، لا سِيَّما سَلْبُ الأمْوالِ.
بَيْنَمَا غَيْرُها مِن الأُمَمِ القَوِيَّةِ، تَعِجُّ بالمُنْكَراتِ، وعِصاباتِ المُجْرِمينَ، وقُطَّاعِ الطرِيقِ، والمُهاجِمِينَ، أَعادَ اللهُ المُسْلِمينَ إلى حَظِيرَةِ دِينِهِمْ، والعَمَلِ بما فيهِ مِن الخَيْرِ والبَرَكَةِ.
اخْتِلافُ العُلَماءِ:
اخْتَلَفَ العُلَماءُ في قَدْرِ النِّصابِ الذي تُقْطَعُ فِيهِ يَدُ السارِقِ.
فَذَهَبَ الظَّاهِرِيَّةُ إلى أنَّهُ في القَلِيلِ والكَثِيرِ، مُسْتَدِلِّينَ بقولِ اللهِ تعالى: (* وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا) وهِيَ مُطْلَقَةٌ في سَرِقَةِ القَلِيلِ والكَثِيرِ.
وبِما أَخْرَجَهُ البُخارِيُّ، مِن حَديثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، قالَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم : ((لَعَنَ اللهُ السَّارِقَ، يَسْرِقُ البَيْضَةَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ، ويَسْرِقُ الحَبْلَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ )).
وذَهَبَ جُمْهُورُ العُلَماءِ إلى أنَّهُ لابُدَّ في القَطْعِ مِن نِصابِ السرِقَةِ، مُسْتَدِلِّينَ بالأحادِيثِ الصحِيحَةِ في تَحْدِيدِ النِّصابِ،
وأَجابُوا عن أَدِلَّةِ الظاهِرِيَّةِ بِأَنَّ الآيَةَ مُطْلَقَةٌ في جِنْسِ المَسْرُوقِ وقَدْرِهِ، والحَديثُ بَيانٌ لَها.
وأمَّا حَديثُ البَيْضَةِ والحَبْلِ، فالمُرادُ بذلكَ بَيَانُ سَخَفِ، وضعفِ عَقْلِ السارِقِ وخَساسَتِهِ ودَناءَتِهِ، فإنَّهُ يُخاطِرُ بِقَطْعِ يَدِهِ للأشْيَاءِ الحَقِيرَةِ التافِهَةِ.
فهذا التعْبِيرُ نَوْعٌ مِن أَنْواعِ البلَاغَةِ، فيهِ التنْفِيرُ، والتبْشِيعُ، وتَصْويرُ عَمَلِ المَعاصِي بالصُّورَةِ المَكْرُوهَةِ المُسْتَقْبَحَةِ.
ثُمَّ اخْتَلَفَ الجُمْهُورُ في تَحْدِيدِ قَدْرِ النِّصابِ الذي يُقْطَعُ فيهِ، على أقْوَالٍ كَثِيرَةٍ، نَذْكُرُ مِنها القَوِيَّ.
فَذَهَبَ مالِكٌ، وأَحْمَدُ، وإسْحاقُ إلى أنَّ النِّصابَ رُبْعُ دِينارٍ، أو ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ، أو عَرَضٌ تَبْلُغُ قِيمَتُهُ أَحَدَهُما.
وذَهَبَ الشافِعِيُّ إلى أنَّ النِّصابَ رُبْعُ دِينارٍ ذَهَبًا، أو ما قِيمَتُهُ رُبْعُ دِينارٍ مِن الفِضَّةِ أو العُرُوضِ، وبهِ قالَ كَثيرٌ مِن العُلَماءِ، مِنْهُمْ عائِشَةُ، وعُمْرُ بْنُ عَبْدِالعَزِيزِ، والأوْزاعِيُّ، واللَّيْثُ، وأبُو ثَوْرٍ.
وذَهَبَ أبُو حَنِيفَةَ وأصْحابُهُ، وسُفْيانُ الثَّوْرِيُّ إلى أنَّ النِّصابَ عَشْرَةُ دَرَاهِمَ مَضْرُوبَةٍ، أو ما يُعادِلُها مِن ذَهَبٍ أوْ عُرُوضٍ.
اسْتَدَلَّ الإمامُ أَحْمَدُ، ومالِكٌ، بِما رَوَاهُ أَحْمَدُ ومُسْلِمٌ، أنَّ النبِيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قالَ : ((لا تُقْطَعُ يَدُ السارِقِ إلَّا في رُبْعِ دِينارٍ فَصَاعِدًا )).
وكانَ رُبْعُ الدِّينارِ يَوْمَئِذٍ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ، والدِّينارُ اثْنَيْ عَشَرَ دِرْهَمًا. رَوَاهُ أَحْمَدُ عن ابْنِ عُمَرَ.
وكمَا في حَديثِ البابِ، عن ابْنِ عُمَرَ، أنَّهُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: [قَطَعَ في مِجَنٍّ قَيمَتُهُ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ].
واسْتَدَلَّ الشافِعِيُّ، والجُمْهُورُ بالحَديثِ السابِقِ: [ لا قَطْعَ إلَّا في رُبْعِ دِينارٍ فَصَاعِدًا ]. فإنَّهُ جَعَلَ الذَّهَبَ أَصْلًا يُرْجَعُ إليه في النِّصابِ.
ولا يُنافِي حَديثَ ابْنِ عُمَرَ، فإنَّ قِيمَةَ الدَّرَاهِمِ الثلَاثَةِ في ذلكَ الوَقْتِ رُبْعُ دِينارٍ؛ لِأَنَّ صَرْفَ الدِّينارِ اثْنَا عَشَرَ دِرْهَمًا.
واسْتَدَلَّ أَبُو حَنِيفَةَ وأَتْبَاعُهُ، بمَا ثَبَتَ في الصَّحِيحَيْنِ مِن أنَّهُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قَطَعَ في مِجَنٍّ، وقَد اخْتُلِفَ في قِيمَةِ هذه المِجَنِّ، حتَّى جاءَ بِما أَخْرَجَهُ البَيْهَقِيُّ، والطَّحاوِيُّ، مِن حَديثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أنَّهُ كانَ ثَمَنُ المِجَنِّ على عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عَشْرَةَ دَرَاهِمَ.
وهذه الروايَةُ وإنْ خالَفَتْ ما في الصحِيحَيْنِ مِن أنَّ قَيمَتَهُ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ، فالواجِبُ الاحْتِياطُ فيما يُسْتَباحُ بِهِ قَطْعُ العُضْوِ المُحَرَّمِ، فَيَجِبُ الأخْذُ بِهِ، وهُوَ الأكْثَرُ.
وبِما أَخْرَجَهُ عَمْـرُو بْنُ شُعَيْبٍ، عن أَبيهِ، عن جَـدِّهِ، عن النبِيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّهُ قالَ :((لا قَطْعَ إلَّا في عَشْرَةِ دَرَاهِمَ )). وضَعَّفَ العُلَماءُ هذا الحَدِيثَ.
واخْتَلَفَ العُلَماءُ في حَقِيقَةِ اليَدِ التي تُقْطَعُ على أقْوالٍ، وأَصَحُّها ما ذَهَبَ إليهِ الجُمْهُورُ، بَلْ نُقِلَ فيهِ الإجْماعُ, مِن أنَّها الكَفُّ التي تَبْتَدِئُ مِن الكُوعِ، فالآيَةُ الكَريمَةُ ذَكَرَتْ قَطْعَ اليَدِ، واليَدُ عِنْدَ الإطْلَاقِ هِيَ الكَفُّ فَقَطْ، ومعَ هذا فَقَدْ بَيَّنَتْها السُّنَّةُ، فإنَّ اللهَ تعالى قالَ : (فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ ). والنبِيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مَسَحَ على كَفَّيْهِ فَقَطَ، ثُمَّ إنَّ الجُمْهُورَ ذَهَبُوا إلى أنَّ أَوَّلَ ما يُقْطَعُ اليَدُ اليُمْنَى، وبِهِ قَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ: (فاقْطَعُوا أَيْمَانَهُما ) فإنْ سَرَقَ ثانيًا قُطِعَتِ الرِّجْلُ اليُسْرَى، ثُمَّ إنْ سَرَقَ قُطِعَ اليَدُ اليُسْرَى، ثُمَّ إنْ سَرَقَ فالرِّجْلُ اليُمْنَى، هذا عِنْدَ الجُمْهُورِ، وذَكَرُوا أَدِلَّتَهُمْ في المُطَوَّلَاتِ.

(176) الغَرِيبُ:
أَهَمَّهُمْ: جَلَبَ لَهُمْ هَمًّا، أو صَيَّرَهُمْ ذَوِي هَمٍّ.
المَخْزُومِيَّةِ: هِيَ فاطِمَةُ بِنْتُ الأسْوَدِ بْنِ عَبْدِ الأَسَدِ، بِنْتُ أَخِي أبِي سَلَمَةَ.
وبَنُو مَخْزُومٍ أَحَدُ أَفْخَاذِ قُرَيْشٍ، وهُمْ مِن أَشْرَافِ تلكَ القَبِيلَةِ الشرِيفَةِ، فَيُسَمُّونَهُمْ رَيْحَانَةَ قُرَيْشٍ.
مَنْ يُكَلِّمُ؟ أَيْ: مَنْ يَشْفَعُ فِيها بِتَرْكِ قَطْعِ يَدِها.
حِبُّ رَسُولِ اللهِ: بِكَسْرِ الحاءِ، أَيْ: مَحْبُوبُهُ.
وايْمُ اللهِ: بِفَتْحِ الهَمْزَةِ وكَسْرِها وضَمِّ المِيمِ، وهُوَ اسْمٌ مُفْرَدٌ، ولِذا فإنَّ هَمْزَتَهُ هَمْزَةُ قَطْعٍ، وإعْرَابُهُ هُنا: أنَّهُ مَرْفُوعٌ بالابْتِداءِ، وخَبَرُهُ مَحْذُوفٌ, تَقْدِيرُهُ: قَسَمِي، أو يَمِينِي.
المَعْنى الإجْمالِيُّ:
كانَت امْرَأَةٌ مِن بَنِي مَخْزُومٍ تَسْتَعِيرُ المَتاعَ مِن الناسِ احْتِيَالًا، ثُمَّ تَجْحَدُهُ،
فاسْتَعارَتْ مَرَّةً حُلِيًّا فَجَحَدَتْهُ، فَوُجِدَ عِنْدَها، وبَلَغَ أَمْرُها النبِيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فَعَزَمَ على تَنْفِيذِ حَدِّ اللهِ تعالى بِقَطْعِ يَدِهَا، وكانَتْ ذاتَ شَرَفٍ، ومِن أُسْرَةٍ عَرِيقَةٍ في قُرَيْشٍ.
فاهْتَمَّتْ قُرَيْشٌ بِها وبِهذا الحُكْمِ الذي سَيُنَفَّذُ فِيها، وتَشَاوَرُوا فِيمَنْ يَجْعَلُونَهُ واسِطَةً إلى النبِيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ لِيُكَلِّمَهُ في خَلَاصِها، فلَمْ يَرَوْا أَوْلَى مِن أُسامَةَ بْنِ زَيْدٍ، فإنَّهُ المُقَرَّبُ المَحْبُوبُ للنبِيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فَكَلَّمَهُ أُسَامَةُ.
فَغَضِبَ مِنْهُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وقالَ لهُ مُنْكِرًا عليْهِ : أَتَشْفَعُ في حَدٍّ مِن حُدودِ اللهِ ؟ ثُمَّ قامَ خَطِيبًا في الناسِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ خُطُورَةَ مِثْلِ هذه الشَّفَاعَةِ التي تُعَطَّلُ بِها حُدُودُ اللهِ، ولِأَنَّ المَوْضُوعَ يَهُمُّ الكَثِيرَ مِنْهُمْ، فَأَخْبَرَهُمْ أنَّ سَبَبَ هَلَاكِ مَن قَبْلَنا في دِينِهِمْ وفي دُنْيَاهُمْ أنَّهُمْ يُقِيمُونَ الحُدُودَ على الضُّعَفَاءِ والفُقَرَاءِ، ويَتْرُكُونَ الأقْوِياءَ والأغْنِياءَ، فَتَعُمُّ فيهِم الفَوْضَى، ويَنْتَشِرُ الشَّرُّ والفَسادُ، فَيَحِقُّ عَلَيْهِم غَضَبُ اللهِ وعِقابُهُ.
ثُمَّ أَقْسَمَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم - وهُوَ الصَّادِقُ المَصْدُوقُ - : لو وَقَعَ هذا الفِعْلُ مِن سَيِّدَةِ نِساءِ العالَمِينَ؛ ابْنَتِهِ فاطِمَةَ- أَعاذَها اللهُ مِن ذلكَ- لَنَفَّذَ فيها حُكْمَ اللهِ تعالى.
ما يُسْتَفادُ مِن الحَديثِ:
1- تَحْرِيمُ الشفاعَةِ في الحُدودِ، والإنْكارُ على الشافِعِ، وذلكَ قَبْلَ أنْ تَبْلُغَ الحَاكِمَ. قالَ ابْنُ دَقِيقِ العِيدِ: وفي الحَديثِ دَلِيلٌ على امْتِناعِ الشفَاعَةِ في الحَدِّ بَعْدَ بُلُوغِهِ السُّلْطَانَ، وفَيهِ تَعْظيمُ أَمْرِ المُحابَاةِ لِلأشْرَافِ في حُقُوقِ اللهِ تعالى.
قُلْتُ: في تَقْييدِ ذلكَ بِـ((قَبْلَ بُلُوغِها الحَاكِمَ )) لَيْسَ مَأْخُوذًا مِن هذا الحَديثِ الذي مَعَنَا، وإنَّما يُؤْخَذُ مِن نُصوصٍ أُخَرَ، مِثْلِ ما أَخْرَجَهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ، وأَحْمَدُ ، عن صَفْوانَ بْنِ أُمَيَّةَ، أنَّ النبِيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قالَ، لَمَّا أَمَرَ بِقَطْعِ الذي سَرَقَ رِداءَهُ فَشُفِّعَ فيهِ : ((هَلَّا كانَ ذلكَ قَبْلَ أَنْ تَأْتِيَنِي بِهِ؟ ))
أمَّا قَبْلَ بُلُوغِ الحاكِمِ، فَهَلْ يَرْفَعُهُ أو يَتْرُكُهُ؟
الأَوْلَى أَنْ يَنْظُرَ في ذلكَ إلى ما يَتَرَتَّبُ على ذلكَ مِن المَصالِحِ أو المَفاسِدِ،
فإنْ كانَ لَيْسَ مِن أَهْلِ الشَّرِّ والأذَى، فالنبِيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال :((أَقِيلُوا ذَوِي الهَيْئَاتِ زَلَّاتِهِمْ)).
فإنْ كانَ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِن المَفاسِدِ فَمِثْلُ هذا الأحْسَنُ عَدَمُ رَفْعِهِ.
وإنْ كانَ في تَرْكِهِ مَفْسَدَةٌ، وهُوَ مِن أَهْلِ الأَذَى، ونَحْوِ ذَلكَ مِن دَواعِي الرَّفْعِ، فالأَوْلَى رَفْعُهُ.
2- أنَّ جَاحِدَ العَارِيَّةِ حُكْمُهُ حُكْمُ السارِقِ فَيُقْطَعُ، ويأْتِي الخِلافُ فيهِ.
3- وجُوبُ العَدْلِ والمُساوَاةِ بَيْنَ الناسِ ، سَوَاءٌ مِنْهُمْ الغَنِيُّ أو الفَقِيرُ، والشَّرِيفُ أو الوَضِيعُ، في الأحْكامِ والحُدُودِ، وفِيما هُمْ مُشْتَرِكُونَ فيهِ.
4- أنَّ إقامَةَ الحُدُودِ على الضُّعَفَاءِ وتَعْطِيلَها في حَقِّ الأقْوِياءِ سَبَبُ الهَلَاكِ والدَّمارِ، وشَقَاوَةِ الدارَيْنِ.
5- القَسَمُ في الأُمُورِ الهامَّةِ، لِتَأْكِيدِها وتَأْيِيدِها.
6- جَوَازُ المُبالَغَةِ في الكَلَامِ، والتَّشْبِيهِ والتَّمْثِيلِ؛ لِتَوْضِيحِ الحَقِّ وتَبْيِينِهِ وتَأْكِيدِهِ.
7- مَنْقَبَةٌ كُبْرَى لِأُسَامَةَ، إذْ لم يَرَوْا أَوْلَى مِنْهُ للشَّفاعَةِ عِنْدَ النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم, وقَدْ وَقَعَت الحادِثَةُ في فَتْحِ مَكَّةَ.
اخْتِلافُ العُلَمَاءِ :
اخْتَلَفَ العُلَماءُ في جَاحِدِ العارِيَّةِ: هَلْ يُقْطَعُ أو لا؟.
فَذَهَبَ جُمْهُورُ العُلَماءِ، ومِنْهُمْ الأئِمَّةُ الثلاثَةُ؛ أبُو حَنِيفَةَ، ومالِكٌ، والشافِعِيُّ إلى أَنَّهُ لا يُقْطَعُ، وهُوَ رِوايَةٌ عن الإمامِ أَحْمَدَ، اخْتَارَها مِن أَصْحَابِهِ الخِرَقِيُّ، وأبُو الخَطَّابِ، و((ابْنُ قُدَامَةَ)) صاحِبُ الشَّرْحِ الكَبيرِ؛ لِقَوْلِهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم : ((لا قَطْعَ على خَائِنٍ )).
وأَجابُوا عن حَديثِ البابِ بِأَنَّها ذُكِرَتْ بِجَحْدِ العَارِيَّةِ للتَّعْرِيفِ، لا لِأَنَّها قُطِعَتْ مِن أَجْلِهِ ، وقَدْ قُطِعَتْ لِأَجْلِ السَّرِقَةِ، ولِذا وَرَدَتْ لَفْظَةُ [السَّرِقَةِ] في الحَديثِ.
وأَجَابُوا بِغَيْرِ ذلكَ، ولَكِنَّها أَجْوِبَةٌ غَيْرُ ناهِضَةٍ.
والروايَةُ الثانِيَةُ عن الإمامِ أَحْمَدَ: أنَّهُ يُقْطَعُ، وهِيَ المَذْهَبُ.
قالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ الإمامِ أَحْمَدَ: سَأَلْتُ أَبِي، فَقُلْتُ لهُ: تَذْهَبُ إلى هذا الحَديثِ؟
فقالَ : لا أَعْلَمُ شَيْئًا يَدْفَعُهُ.
وبِهذا القولِ قالَ إسْحاقُ، والظَّاهِرِيَّةُ، وانْتَصَرَ لهُ ابْنُ حَزْمٍ.
واسْتَدَلُّوا بهذا الحَديثِ الذي جاءَ في قِصَّةِ المَخْزُومِيَّةِ، وجَعَلُوا حَدِيثَ: ((لا قَطْعَ على خائِنٍ )). مُخَصَّصًا بِغَيْرِ خائِنِ العَارِيَّةِ؛ لِحَديثِ البابِ.
والمَعْنى المَوْجُودُ في السارِقِ مَوْجُودٌ مِثْلُهُ في جَاحِدِ العارِيَّةِ، بَل الأخِيرُ أَعْظَمُ؛ لِأَنَّهُ لا يُمْكِنُ التحَرُّزُ مِنْهُ.
والمُعِيرُ مُحْسِنٌ، والجاحِدُ يُريدُ قَطْعَ الإحْسانِ والمَعْرُوفِ بَيْنَ الناسِ، فَهُوَ مُسِيءٌ مِن جِهاتٍ.

تَنْبِيهٌ:
بإجْماعِ العُلَماءِ أنَّ الغاصِبَ والمُخْتَلِسَ والمُنْتَهِبَ لا يُقْطَعُونَ، ولَيْسَ ذلكَ؛ لِأَنَّهُمْ غَيْرُ مُجْرِمِينَ أو مُفْسِدِينَ، بَلْ هُمْ آثِمونَ، ويَجِبُ عَلَيْهِم التَّعْزِيرُ، وقَدْ يَكونُ تَعْزِيرُهُمْ بَلِيغًا، ويَجِبُ عَلَيْهِمْ رَدُّ ما أَخَذُوهُ.
وإنَّما لم يُقْطَعُوا لِمَا نَقَلْنَاهُ في أَوَّلِ البابِ عن القاضِي عِيَاضٍ، ولِحِكَمٍ أيْضًا، لا يَعْلَمُها إلَّا الذي شَرَعَ للناسِ ما يُصْلِحُ حالَهُمْ.

  #5  
قديم 18 ذو القعدة 1429هـ/16-11-2008م, 12:37 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي إحكام الأحكام لتقي الدين ابن دقيق العيد

بابُ حدِّ السَّرِقَةِ
355 - الحديثُ الأوَّلُ: عن عبدِ اللَّهِ بنِ عُمَرَ رضيَ اللَّهُ عنهما: أنَّ النبيَّ صلى اللَّهُ عليهِ وسلمَ قطعَ فى مِجَنٍّ قِيمَتُهُ -وفى لفظٍ: ثمَنُهُ- ثلاثَةُ دَرَاهِمَ".
اختلفَ الفقهاءُ فى النِّصَابِ فى السَّرِقَةِ، أصْلًا وقدْرًا. أمَّا الأصلُ: فجُمْهُورُهم على اعتبارِ النِّصَابِ، وشَذَّ الظَّاهِرِيَّةُ فلمْ يَعْتَبِرُوهُ، ولمْ يُفَرِّقُوا بينَ القليلِ والكثيرِ. وقالوا بالْقَطْعِ فيهما. ونُقِلَ فى ذلكَ وجهٌ فى مذهبِ الشافعيِّ.
والاستدلالُ بهذا الحديثِ على اعتبارِ النِّصَابِ ضعيفٌ؛ فإنَّهُ حكايةُ فِعْلٍ، ولا يَلْزَمُ من القطعِ فى هذا المقدارِ فعلًا عدمُ القطعِ فيما دُونَهُ نُطْقًا.
وأمَّا المِقْدَارُ: فإنَّ الشافعيَّ يَرَى أنَّ النصابَ رُبُعُ دينارٍ لحديثِ عائشةَ الآتي. يُقَوَّمُ ما عدا الذهبَ بالذهبِ. وأبو حنيفةَ يقولُ: إنَّ النصابَ عَشَرَةُ دراهمَ، وَيُقَوَّمُ ما عدا الفضَّةَ بالفضَّةِ. ومالكٌ يرَى أنَّ النصَابَ رُبُعُ دينارٍ من الذهبِ، أو ثلاثةُ دراهمَ، وكلاهما أصلٌ، ويُقَوَّمُ ما عداهما بالدرهمِ. وكِلا الحدِيثَيْنِ يدُلُّ علَى خلافِ مذهبِ أبي حنيفةَ.
وأمَّا هذا الحديثُ، فإنَّ الشافعيَّ بيَّنَ أنَّهُ لا يُخَالِفُ حديثَ عائشةَ، وأنَّ الدينارَ كانَ اثنيْ عشَرَ درهمًا، وربُعُهُ ثلاثةُ دراهمَ، أعْنِي صرْفَهُ؛ ولهذا قُوِّمَتْ الدِّيَةُ باثنيْ عشرَ ألفًا من الْوَرِقِ، وألفِ دينارٍ من الذهبِ.
وهذا الحديثُ يُسْتَدَلُّ بهِ لمذهبِ مالكٍ فى أنَّ الفضَّةَ أصلٌ فى التَّقْوِيمِ؛ فإنَّ الْمَسْرُوقَ لمَّا كانَ غيرَ الذهبِ والفضَّةِ، وَقُوِّمَ بالفضَّةِ دونَ الذهبِ دلَّ على أنَّها أصْلٌ فى التقويمِ؛ وإلا كانَ الرجـوعُ إلى الذهبِ -الذي هوَ الأصلُ- أَوْلَى وأَوْجَبُ، عندَ مَن يرى التقويمَ بهِ. والحنفيَّةُ فى مثلِ هذا الحديثِ وفِيمَن روَى فى حديثِ عائشةَ "القَطْعُ فى رُبُعِ دينارٍ فصاعدًا" يقولونَ -أو مَن قالَ منهُم- فى التأويلِ ما معناهُ: إنَّ التقويمَ أمْرٌ ظَنِّيٌّ تَخْمِينِيٌّ. فيجوزُ أنْ تكونَ قيمَتُهُ عندَ عائشةَ رُبُعَ دينارٍ، أو ثلاثَةَ دراهمَ، ويكونَ عندَ غيرِها أكثرَ. وقدْ ضعَّفَ غيرُهم هذا التأويلَ وشَنَّعَهُ عليهم، بما معناهُ: أَنَّ عائشةَ لم تكُنْ لِتُخْبِرَ بما يدُلُّ على مقدارِ ما يُقْطَعُ فيهِ، إلا عن تحقيقٍ؛ لِعِظَمِ أمْرِ القَطْعِ.
و" الْمِجَنُّ" بكسرِ الميمِ وفتحِ الجيمِ: التُّرْسُ. مِفْعَلٌ من معنى الاجتنانِ، وهوَ الاستتارُ والاختفاءُ، وما يُقَارِبُ ذلكَ. ومنهُ "الْجِنُّ" وكُسِرَتْ ميمُهُ؛ لأنَّهُ آلةٌ فى الاجتنانِ، كأنَّ صاحبَهُ يَسْتَتِرُ بهِ عمَّا يُحَاذِرُهُ. قالَ الشاعرُ:
فَكَانَ مِجَنِّي دُونَ مَا كُنْتُ أَتَّقِي ثَلَاثَ شُخُوصٍ: كَاعِبَانِ وَمُعْصِرُ
والقِيمَةُ والثَّمَنُ: مُخْتَلِفَانِ فى الحقيقةِ. وَتُعْتَبَرُ القيمةُ، وما وردَ فى بعضِ الرواياتِ من ذِكْرِ "الثَّمَنِ" فلَعَلَّهُ لِتَسَاوِيهِمَا عندَ الناسِ فى ذلكَ الوقتِ، أو فى ظنِّ الرَّاوِي. أو باعتبارِ الغَلَبَةِ، وإلا فلو اختلَفَت القيمةُ والثمنُ الذي اشتراهُ بهِ مالِكُهُ لم تُعْتَبَرْ إلا القيمةُ.
356 - الحديثُ الثاني: عن عائشةَ رضيَ اللَّهُ عنها، أنَّها سمعَتْ رسولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليهِ وسلمَ يقولُ: "تُقْطَعُ الْيَدُ فِي رُبُعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا".
هذا الحديثُ اعتمادُ الشافعيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فى مقدارِ النصابِ. وقد رُوِيَ عن عائشةَ عن النبيِّ صلى اللَّهُ عليهِ وسلمَ فعلًا وقولًا. وهذهِ الروايةُ قولٌ، وهوَ أقْوَى فى الاستدلالِ من الفعلِ؛ لأنَّهُ لا يلزمُ من القطعِ فى مِقْدَارٍ مُعَيَّنٍ -اتُّفِقَ أنَّ السارقَ الذي قُطِعَ سَرَقَهُ- أنْ لا يُقْطَعَ مَن سَرَقَ ما دُونَهُ. وأمَّا القولُ الذي يدُلُّ على اعتبارِ مقدارٍ مُعَيَّنٍ فى القطعِ فإنَّهُ يدُلُّ على عدمِ اعتبارِ ما زادَ عليهِ فى إباحَةِ القطعِ؛ فإنَّهُ لو اعتبرَ فى ذلكَ لم يَجُز القطعُ فيما دُونَهُ. وأيضًا فروايةُ الفِعْلِ يَدْخُلُ فيها ما ذَكَرْنَاهُ من التأويلِ المُسْتَضْعَفِ فى أنَّ التقويمَ أمْرٌ ظَنِّيٌّ إلى آخرِهِ.
واعْلَمْ أنَّ هذا الحديثَ قويٌّ في الدَّلَالةِ على أصحابِ أبي حنيفةَ؛ فإنَّهُ يقتضي صريحُهُ القطْعَ فى هذا المقدارِ الذي لا يقولونَ بجوازِ القطعِ بهِ. وأمَّا دَلالتُهُ على الظاهرِ فليسَ من حيثُ النُّطْقُ، بلْ من حيثُ المفهومُ. وهوَ داخلٌ فى مفهومِ العددِ، ومرتبَتُهُ أقْوَى من مَرْتَبَةِ مفهومِ اللقبِ.
357 - الحديثُ الثالثُ: عن عائشةَ رضيَ اللَّهُ عنها، أنَّ قُرَيْشًا أَهَمَّهُمْ شَأْنُ المَخْزُومِيَّةِ التي سَرَقَتْ، فقالوا: مَن يُكَلِّمُ فيها رسولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليهِ وسلمَ؟ فقالوا: ومَن يَجْتَرِئُ عليهِ إلا أُسامةُ بنُ زيدٍ حِبُّ رسولِ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليهِ وسلمَ؛ فكلَّمَهُ أُسامةُ. فقالَ: "أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ؟ ثُمَّ قامَ فاختطبَ فقالَ: "إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ، وَايْمُ اللَّهِ، لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا".
وفى لفظٍ: "كانتِ امرأةٌ تَسْتَعِيرُ المتاعَ وتَجْحَدُهُ، فأَمَرَ النبيُّ صلى اللَّهُ عليهِ وسلمَ بقطْعِ يدِها".
قد أطلقَ فى هذا الحديثِ على هذهِ المرأةِ لفظَ: “السرقةِ" ولا إشكالَ فيه. وإنَّمَا الإشكالُ فى الروايةِ الثانيةِ. وهو إطلاقُ جحْدِ العاريةِ على المرأةِ، وليسَ في لفظِ هذا الحديثِ ما يدلُّ على أنَّ المعبَّرَ عنه امرأةٌ واحدةٌ، ولكنْ فى عبارةِ المصنِّفِ ما يُشعِرُ بذلكَ. فإنَّه جعلَ الذي ذَكَرَهُ ثانيًا روايةً. وهو يقتضِي من حيثُ الإشعارُ العاديُّ: أنَّهما حديثٌ واحدٌ، اختُلِفَ فيه: هل كانت هذهِ المرأةُ المذكورةُ سارقةً، أو جاحدةً؟ وعن أحمدَ: أنَّهُ أوجبَ القطْعَ فى صورةِ جحودِ العاريةِ، عملًا بتلكَ الروايةِ، فإذا أُخِذَ بطريقٍ صناعيٍّ -أعنِي فى صَنْعَةِ الحديثِ- ضَعُفَت الدَّلالةُ على مسألةِ الجحودِ قليلًا، فإنَّه يكونُ اختلافًا في واقعةٍ واحدةٍ، فلا يثبتُ الحكمُ المُرتَّبُ على الجحودِ؛ حتى يتبيَّنَ ترجيحُ روايةِ مَن روَى في هذا الحديثِ "أنَّها كانتْ جاحدةً" علَى روايةِ مَن روَى "أنَّهَا كانتْ سارقةً".
وأظهرَ بعضُ الشافعيَّةِ النكيرَ والتعجُّبَ ممَّنْ أوَّلَ حديثَ عائشةَ في القطْعِ في رُبْعِ دينارٍ – الذي رُوِيَ فعلًا – بأن اعتمدَ علَى روايةِ مَن رواهُ قولًا. فإنَّه كانَ مخْرَجُ الحديثِ مختلفًا، فالأمرُ كما قالَ. فإنَّ أحدَ الحديثيْنِ حينئذٍ يدلُّ علَى القطعِ فعلًا في هذا المقدارِ. والثانِي: يدلُّ عليه قولًا. ولا يتأتَّى فيه تأويلُ احتمالِ الغلطِ في التقويمِ، وإنْ كانَ مخرجَ الحديثِ واحدًا. ففيه من الكلامِ ما أشرْنَا إليهِ الآنَ، إلا إنَّه ههنا قويٌّ؛ لأنَّه لا يجوزُ للراوِي، إذا كانَ سمِعَهُ لروايةِ الفعلِ: أنْ يُغيِّرَهُ إلَى روايةِ القولِ. فيظهرُ من هذا: أنَّهما حديثانِ مختلفَا اللفظِ، وإن كانَ مخرجُهما واحدًا.
وفي هذا الحديثِ دليلٌ علَى امتناعِ الشفاعةِ في الحدِّ، بعد بلوغِهِ السلطانَ. وفيهِ تعظيمُ أمرِ المحاباةِ للأشرافِ في حقوقِ اللَّهِ تعالَى.
ولفظةُ: "إنَّمَا" ههنا دالَّةٌ علَى الحصرِ. والظاهرُ: أنَّهُ ليسَ للحصرِ المطلقِ مع احتمالِ ذلك. فإنَّ بنِي إسرائيلَ كانت فيهم أمورٌ كثيرةٌ تقتضِي الإهلاكَ، فيُحمَلُ ذلكَ علَى حصْرٍ مخصوصٍ، وهو الإهلاكُ بسببِ المحاباةِ في حدودِ اللَّهِ، فلا ينحصرُ ذلك في هذا الحدِّ المخصوصِ.
وقد يُستدلُّ بقولِهِ عليهِ السلامُ: "وايمُ اللَّهِ، لَوْ أنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا" علَى أنَّ ما خرجَ هذا المخرجِ، من الكلامِ الذي يقتضِي تعليقَ القولِ بتقديرِ أمرٍ آخرَ: لا يمنعُ. وقد شدَّدَ جماعةٌ في مثلِ هذا. ومراتبُهُ في القبحِ مختلفةٌ.

  #6  
قديم 18 ذو القعدة 1429هـ/16-11-2008م, 12:38 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 14,351
افتراضي شرح عمدة الأحكام لسماحة الشيخ: عبد العزيز بن عبد الله ابن باز (مفرغ)

..........................................

  #7  
قديم 16 محرم 1430هـ/12-01-2009م, 05:42 AM
حفيدة بني عامر حفيدة بني عامر غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
الدولة: بلاد الحرمين .
المشاركات: 2,423
افتراضي شرح عمدة الأحكام للشيخ: عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين (مفرغ)

القارئ:بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد و على آله وصحبه أجمعين . قال المؤلف رحمنا الله تعالى وإياه:
باب حد السرقة

عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما , أن النبي صلى الله عليه وسلم قطع في مجن قيمته . وفي لفظ: ثمنه ثلاثة دراهم.
وعن عائشة رضي الله عنها أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((تقطع اليد في ربع دينار فصاعد)) .
وعن عائشة رضي الله عنها أن قريشا أهمهم شأن المخزومية التي سرقت , فقالوا: من يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقالوا: ومن يجترأ عليه إلا أسامة بن زيد ؛ حب رسول الله صلى الله عليه وسلم , فكلمه أسامة فقال: ((أتشفع في حد من حدود الله تعالى)) . ثم قام فاختطب فقال: ((إنما هلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد ،وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها)) . وفي لفظ: كانت امرأة تستعير المتاع وتجحده, فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقطع يدها .
الشيخ: هذا يتعلق بالسرقة , حدُّ السرقة ، والسرقة: هي أخذ المال من حرزه على وجه الاختفاء ، ويسمى الآخذ له لصا ، والمتلصص هو الذي يسرق الأموال . وأخْذُ المال له عدة مسميات ، فالذي يغتصبه: يأخذه بالقوة وبالغلبة وبالقهر ، هذا يسمى غاصبا ، يأتي على الإنسان ويقول: أعطني كذا من المال وإلا قتلتك ، أو يقاومه فيأخذ ما معه من نقود مثلا أومن أية مال , هذا هو الغاصب , وحدُّه التعزير , إذا قدر عليه فإنه يعزر , فيرد المال الذي أخذه ، ويعاقب عقوبة تردعه ، وتردع أمثاله , سواء بجلد ، أو بحبس ، أو بتنكيل ، أو بأخذ مال أو نحو ذلك ؛ حتى لا يجرأ أحد على أخذ المال بغير حق ، وإذا تكرر ذلك منه جاز تعزيره ولو بالقتل ، ولو بأن يقتل ؛ زجرا له ولأمثاله .
النوع الثاني: الاختطاف والنهب , وهو أن يهتبل غفلة الإنسان فيخطف ما معه , إذا كان الإنسان عنده مال قد نشره في الأرض يبيعه مثلا , فجاء إنسان واختطف منه شيئا وهرب به , فمثل هذا يسمَّى مختطفا ومنتهبا ، وهذا النهب لا شكَّ أنه ذنب كبير , حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا ينتهب نهبة ذات شرف يرفع الناس إليه فيها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن)). ومتى قدر على هذا المنتهب فإنه يعاقب , يعاقب بما يرتدع به ، فيرد المال الذي انتهبه ويجلد ، أو يحبس أو يعزر أو يغرم مالا , أو نحو ذلك .
الثالث: المختلس , المختلس هو الذي يهتبل غفلة الإنسان الذي عنده مال ، ويأخذه وهو لا يدري, يدخل دكانه مثلا , فإذا رآه قد صد أخذ منه ثوبا ، أونعلا ، أوقدحا أونقدا ، أو نحو ذلك بخفيه , وخرج كأنه لم يأخذ شيئا ، ولم يتفطن له صاحب المال , فهذا يسمى مختلسا , فإذا عُرف أو اعترف , أو شهد عليه ورآه من شهد عليه , فلابد أيضا من عقوبته ، عقوبته أن يعزر بما يرتدع به هو وأمثاله ، ويرد المال أيضا الذي اختلسه .
الرابع: السارق , السارق هو الذي تقطع يده , هو الذي ذكر في قوله تعالى: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} , وذُكر في سورة يوسف في قوله تعالى: {قالوا جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه كذلك نجزي الظالمين} , كانت عقوبتهم عقوبة أولاد يعقوب أنههم يسترقون السارق , إذا سرق فإن المسروق منه يؤخذ رقيقا يتصرف فيه صاحب المال .
وجاء الشرع بقطع يد السارق حفظا للمال , أي: من باب المحافظة على أموال المسلمين شرع قطع يد من سرق . ومعلوم أن قطعها يشين صاحبها , إذا قطعت يده فإنه يبقى مشلولا , يبقى عائبا ليس له إلا يد واحدة ،ولذلك لما رفع بعض السراق إلى بعض الولاة وعزم على قطع يده أنشد يقول:
يدي يا أمـير المؤمنين أعيذها بعدلك أن تلقى عقــابا يشينها
فلا خـير في الدنيـا ولا في حياتهاإذا ما شمال فارقتها يمينها
يمثل أنه إذا عاش بلا يمين , فإن في عيشته وحياته حياة تعس وبؤس , ولكن الله تعالى شرع العقوبة هذه ؛ حفظا للأموال ؛ وذلك لأنه إذا عرف بأنه مقابل هذا المال القليل ستقطع يده الثمينة انزجر وارتدع , وخاف على يده فترك السرقة ولم يتعد , فأمن الناس عند ذلك على أموالهم ، فهذا هو السبب , وإلا فإن اليد ذات شرف , اليد ديتها نصف دية الإنسان , اليد الواحدة ديتها الآن خمسون ألفا ، ومع ذلك تقطع في ثلاثة دراهم أو نحوها ؛ وما ذاك إلا أنها لما كانت أمينة كانت ثمينة، فلما خانت هانت , صغرت وذلت وهانت .
ذكروا أن أبا العلاء المعري اعترض على الشرع فقال: كيف تقطع اليد بربع دينار ، وديتها خمسمائة دينار من العسجد , يعني من الذهب , وأنشد قوله:
يد بخمسمائة من عسجد وديت مابالها قطعت في ربع دينار
فردوا عليه وقالوا: حماية الدم أغلاها وأرخصها صيانة المال ، فانظر حكمة الباري . ونكمل بعد الأذن .
ثم ذكروا للقطع شروطا لابد منها حتى يلزم القطع:
الشرط الأول: تكليف ذلك السارق , التكليف هو أن يكون بالغا عاقلا ملتزما , فإذا سرق الصبي فلا قطع عليه ؛ لأنه لم يتكامل عقله الذي يزجره عن السرقة ، وكذلك إذا سرق المجنون فلا قطع عليه ، وأما إذا سرق الحربي فإنه .. فإن المحارب يأخذ من مال المحاربين ما يقدر عليه , فلا يقطع إذا قدر عليه ، ولكن يعاقب إذا كان كافرا محاربا بأن يقتل .
الشرط الثاني: أن يكون المال محترما , فإذا كان غير محترم ، أولم يكن له قيمة , فلا قطع عليه ، فإذا سرق خمرا فلا قطع عليه ؛ لأنه لا قيمة لها , ومثلها سائر المحرمات كالدخان والقات والنرجيل ، وما أشبهها , لا قيمة لها في الشرع , فلا قطع على من سرقها , وكذلك لو سرق آلات الملاهي كالعود والطنبور والطبول ، وما أشبهها , وكذلك لو سرق ما يجب إتلافه كالصور والأفلام التي فيها صور خليعة , وكتب الزندقة والإلحاد , والمجلات التي فيها خلاعة ومجون ، وفيها إلحاد وزندقة , هذه إذا سرقت لا قطع على من سرقها ؛ لأنه لا قيمة لها شرعا , ولو أنها مقرة وتباع .
لكن من شروط القطع بلوغ النصاب ,وهو الشرط الثالث: أن يكون المسروق نصابا . وقدر النصاب بأنه مقدار ربع دينار أو ثلاثة دراهم ، والدينار هو أربعة أسباع الجنيه , المقدار من الذهب يقدر بأربعة أسباع الجنيه ، وربعه معروف , ربع الدينارهذا نصاب السرقة , ومن الدراهم الفضة ثلاثة دراهم , والدرهم قطعة من الفضة صغيرة , فإذا بلغ المسروق نصابا , أوما قيمته نصاب , فإنه يقطع , يكون نصابا .
والمجن الذي قطع فيه النبي صلى الله عليه وسلم ثمنه ثلاثة دراهم ، والثلاثة الدراهم ربع دينار ؛ لأن صرف الدينار في ذلك الوقت اثني عشر درهما .المجن: هو الترس الذي يلبسه المقاتل فوق رأسه , يسمى مجنا ، ويسمى ترسا ، ويسمى مغفرا ؛ لأنه يستر الراس , يكون على الرأس وعلى الأذنين ونحوها , من حديد ، فهو له ثمن ، هذا الرجل الذي سرق هذا الترس ، أو هذا المجن , قطع بهذه السرقة , فدل على أن هذا نصاب . ومعلوم أن آلات الملاهى ليس لها قيمة ، لا درهم ولا ربع دينار ولا دراهم , ليس لها قيمة في الشرع ، فلأجل ذلك لا قطع في سرقتها ولا يغرمها من أتلفها , هكذا شرعا .
الشرط الرابع: الحرز , المسروق لابد أن يكون محرزا , فإذا أخذه من الشوارع والطرق فلا يسمى سارقا ، وكذلك إذا وجد الباب مفتوحا فدخل وأخذ قدحا مثلا أو ثوبا فلا يسمى سارقا , وهكذا لو دخل الدكان فأخذ إناء مثلا أو أخذ نعلا أو شيئا من المال قيمته نصاب سرقة فلا قطع عليه ؛ وما ذاك إلا أنه لا يسمى سارقا لأنه لم يسرقه من الحرز .
معلوم أن الأبوب التي تغلق تحرز ما في داخل البيت , فإذا كسر الباب ودخل فهذا قد أخذ من الحرز , ومعلوم أن الأسوار حروز , فإذا صعد مع السور وقفز ودخل الدار فهذا قد هتك الحرز , ومعلوم مثلا أن الصناديق الكبيرة حروز , فإذا كسر الصندوق وأخذ مما فيه فإنه قد أخذ من الحرز , فيعتبر قد انطبق عليه اسم السارق الذي أخذ من الحرز ، إذا وجد الغنم مثلا في زريبة ففتح الباب عليها مثلا وأخذ منها فقد أخذ من الحرز ، وإذا وجدها مع الراعي فإن الراعي أيضا هو الحرز , فإذا اهتبل غفلته وأخذ فإنه قد أخذها من الحرز ، وإذا مثلا وجد مالا محرزا فيما يحرز فيه عادة يعني كحجرة مثلا أو دار مقفلة أو نحو ذلك , فهتك ذلك الحرز وأخذ , فإنه يصدق عليه أنه قد أخذ من الحرز , فيجب قطعه .
الشرط الخامس: انتفاء الشبهة , فإذا كان له شبهة في هذا المال فلا قطع عليه , فإذا ادعى أن هذا المال وقف على المساكين , وأنا منهم من المساكين , وصار صحيحا فلا قطع عليه ، وإذا سرق من مال الغنيمة و هو من جملة الغانمين والمال محرز , مال الغنائم قبل أن يقسم , فلا قطع عليه ؛ وذلك لأن له شبهة . وكذلك لو كان ولده من جملة المقاتلين , كما إذا سرق من مال له فيه حق كبيت المال , إذا كان له حق من جملة المستحقين ، أو وقف على فئة وهو منهم , كالوقف على المساكين أو على الفقراء , أو على هؤلاء المسمين وهو من جملتهم , فلا قطع في مال له فيه شبهة ، لابد أن تنتفي الشبهة .
الشرط السادس: ثبوت السرقة , وتثبت بأحد أمرين: بالبينة وبالاعتراف ، فإذا أقر واعترف بأنه الذي سرق فإنه تقطع يده ، وإذا أنكر وجحد ، ولكن شهد عليه شاهدان , فإنه تقطع يده ، ولا بد في الشاهدين من العدالة , العدالة هي أن يكون الشاهد ذكرا عدلا موثوقا مقبولا خبره ، فلا تقبل شهادة عدو له مثلا ؛ لأنه يطعن فيه ويقول: هذا يحب الإضرار بي ، وكذلك لا يشهد عليه فاسق غير مقبول عند المسلمين , غير مقبول الشهادة عند الحاكم .
إذا ثبتت وتمت هذه الشروط فإنها تقطع يده اليمنى , تقطع من المفصل ، من مفصل الكف , أي يقتصر على قطع الكف من المفصل ، ولا يؤخذ شيء من الذراع ، وذكروا أيضا أنها تعلق ؛ حتى ينتشر خبره , فقيل: تعلق في صدره مدة ، وقيل: تعلق في خشبة أمام الناس ؛ حتى يشتهر أمره .
وإذا قطعت فبعد ساعة القطع تحسم , الحسم: هو أن تغمس في زيت مغلى حار حتى يسد مجاري العروق ؛ لئلا يجري دمه فيموت ، فهذا الحسم يوقف الدم . وإذا وجد في هذه الأزمنة علاجا يوقف الدم غير الزيت المغلي استعمل لإيقاف الدم ؛ لأن المطلوب قطع يده ليس المطلوب إماتته ؛ لأنه غالبا لو ترك فسال دمه ولم يتوقف لقضى على حياته , يسيل دمه إلى أن ينقضي فيموت , بخلاف ما إذا حسم فإنه يتوقف , هذا هو الأصل .
لا شك أن القطع خاص كما ذكرنا بالسرقة التي ورد فيها هذه الشروط وهذه الصفات , هذا هو , أما بقية الأشياء التي ذكرنا فإنه لا قطع فيها , وإنما فيها عقوبة تزجر عن أمثال هذا .
ولا شك أن القطع حد شرعي ، ولأجل ذلك شرع لأجل حفظ الأموال ، فإن السارق إذا عرف أنها ستقطع يده هانت عليه هذه الأموال التي سيتحصل عليها , ولكن الكثير من الناس لا ينتبهون لعاقبة الأمور , فيقدم ويعتقد أنه سيسلم فيفتضح ، وتقطع يده , ثم لا ينتبه مرة أخرى , لا ينتبه إلى هذا فيعود ويسرق , بعدما تقطع يده يسرق بيده الأخرى , فماذا يفعل به , إذا سرق للمرة الثانية فإنها تقطع قدمه , يقطع نصف القدم ، ويترك العرقوب وما يحاذي الساق من القدم ؛ حتى يطأ عليه , يقطع نصف القدم . ولو قدر مثلا أنه سرق للمرة الثالثة فالصحيح أنه لا تقطع يده ؛ لأنه إذا قطعت يداه بقي حسيرا لا يستطيع أن يأكل ، ولا أن يتناول حاجة , وهو بحاجة إلى إحدى يديه يأكل بها ويتنظف بها ويستنجي بها ويتطهر , فإذا قطعتا تحسر , فإذا سرق للمرة الثالثة فإنه إما أن يعزر , و إما أن يحبس إلى أن يتوب . وما روي من قطع يده اليسرى وقطع رجله اليمنى , إذا تكرر منه , هذه لعلها عقوبات خاصة بذلك الشخص .
و بكل حال نعرف من هذا حماية الشريعة الإسلامية لمصالح المسلمين , فإنهم بحاجة إلى من يحمي لهم مصالحهم ، فهم بحاجة إلى من يحمي لهم أموالهم ، فشرع القتل لحماية الأموال ، وبحاجة إلى من يحمي لهم دماءهم ، فشرع القصاص ؛ حماية للدماء , وبحاجة إلى من يحمي لهم أعراضهم , أعراضهم يعني سمعتهم , فشرع الجلد , الجلد الذي هوحد الفرية وحد القذف ؛ حماية للأعراض ، وبحاجة إلى من يحمي لهم أنسابهم , إلى حماية الأنساب ، فشرع الرجم , رجم الزاني أو جلده ؛ حماية للأنساب ؛ لأن الزنا يسبب اختلاط الأنساب , يسبب أنهم تختلط الأنساب , هذا بهذا , إذا زنى هذا بامرأة هذا وحملت صار ينفق على غير ولده ، وينتسب له غير ولده , فحماية الأنساب أمر يهتم به المسلمون .
كذلك أيضا حماية العقول , شرع عقوبة تزجر من يتهاون بعقله ، وهو حد الشرب ؛ لأن الخمر تزيل العقل , فشرعت العقوبة التي تحفظ على المسلم عقله , بجلد من شرب حتى يتوب ، وهذا ونحوه دليل على كمال هذه الشريعة . أما قصة الشفاعة في الحد فنؤجلها إلىالدرس الآتي إن شاء الله .
الوجـه الثانـي
القارئ: بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين . قال المؤلف رحمنا الله تعالى وإياه:
عن عائشة رضي الله عنها أن قريشا أهمهم شأن المخزومية التي سرقت , فقالوا: من يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقالوا: ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد ؛ حب رسول الله صلى الله عليه وسلم . فكلمه أسامة , فقال: ((أتشفع في حد من حدود الله تعالى)) . ثم قام فاختطب فقال: ((إنما هلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه , وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد , وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها)) . وفي لفظ: كانت امرأة تستعير المتاع وتجحده ، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقطع يدها .
الشيخ: هذه قصة وقعت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم , امرأة من بني مخزوم سرقت وثبتت عليها السرقة ، بنو مخزوم قبيلة من أشراف قريش , من أكابر قريش ومشهوريهم لهم مكانة ، ولهم شهرة ولهم شرف في قومهم , ولما ثبتت السرقة على هذه المرأة تحتم أن يقام عليها الحد ، وأن يطبق عليها الشرع ، وأن تقطع يدهاكما تقطع يد غيرها ، ولكن أكابر قريش عظم عليهم ذلك ، فأهمهم شأنها , وصعب عليهم أن تقطع يدها حتى قالوا: نفديها يا رسول الله , نفديها ولو بعشرة آلاف دينار ، نفديها بعشرين حتى وصلوا إلى أربعين ألف دينار , مع أن الدية ألف , الدية في ذلك الوقت ألف دينار، ولكنهم قالوا: نفديها بأربعين ألف أي بأربعين دية ؛ وذلك خوفًا عليهم من العار ، وأن تكون هذه المرأة التي هي من أشرافهم تكون عارًا عليهم .ولكن النبي صلى الله عليه وسلم لا شك أنه يغار على حدود الله , يغار على حرماته .
ولمَّا ثبتت سرقة هذه المرأة المخزومية ، وثبت عليها إقامة الحد , عزم على قطع يدها مهما كانت , ولو كانت شريفة ، ولو كانت كبيرة , ولو كانت من ذوي قوم لهم منزلة ؛ فإن حدود الله يستوي فيها الشريف والطريف , يستوي فيها الصغير والكبير , يستوي فيها الغني والفقير , كلهم على حد سواء ؛ و ذلك لأن الله تعالى سوى بينهم في عبادته ، فكذلك في سائر حقوقه .
لذلك لما أنهم سمعوا بأنه قد عزم على إقامة الحد , وقطع يدها , التمسوا من يشفع لهم في إعفائها وفي ترك قطع يدها، وفي قبول الفدية التي هي أربعون ألفا , فلم يجدوا إلا أسامة ، وعرفوا أنه حب النبي صلى الله عليه وسلم وابن حبه ؛ لأنه كان مولاه صلى الله عليه وسلم ,ولما ولاه مرة على جيش وكان صغيرا طعنوا في ولايته وإمارته ، فقال صلى الله عليه وسلم: ((إن تطعنوا في ولايته , أو في إمارته , فقد طعنتم في إمارة أبيه من قبله , وأيم الله إنه لخليق للإمارة ، وإنه لمن أحب الناس إلي , وإن هذا لمن أحب الناس إلي بعده)) . فشهد له بأنه يحبه, فصار يقال له: حب النبي أي محبوب النبي صلى الله عليه وسلم‌‌‌‌‌‌ , ‌‌‌‌‌يحبه ‌لشهامته ، ويحبه لفضله ، ويحبه لتقواه , ويحبه لقرابته لكونه مولاه ، وقد كان أبوه يسمى زيد بن محمد ،ولكنه بعدما نزل قول الله تعالى {ادعوهم لآبائهم} قال: أنا زيد بن حارثة .
والحاصل أنهم توسلوا بأسامة , وقالوا له: كلمه لعله يعفو عنهم ,اشفع له لعله يسقط هذا الحد , فلما كلمه غضب صلى الله عليه وسلم ؛ حيث أن قريشا لشرفهم أرادوا ألا يقام هذا الحد عليهم ، ويكون هذا إسقاطا لحد من حدود الله , فغضب وقال أتشفع في حد من حدود الله , أتطلب تعطيل حد الله الذي أمر به وفرضه في قوله تعالى: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا} .
فرض الله أو أمر الله بقطع بيد السارق في هذه الآية , فلابد من تنفيذ أمر الله ، وإلا يكون الوالي معطلا لحد من حدود الله , ولا شك أن إقامة حدود الله تعالى عمارة للأرض , ورد في حديث:((لحد يقام في الأرض خير من أن يمطروا أربعين صباحا)) . أي أنه إذا أقيم حد في بلد فإن البلد تأمن , تأمن على وطنها وعلى أنفسها ، وكذلك يأمنون من عقاب الله ، ويأمنون من تسليط الله الأعداء عليهم ، أو تسليط اللصوص ونحوهم إذا أقاموا الحدود , فإذن الحدود أمنة الله أمنة البلاد، لذلك يتأكد إقامتها ويحرم أن يتوسط أحد في تعطيلها , ولو كان الذي يحد شريفا أو أميرا أو وزيرا أو قرشيا أو نسيبا, أو مهما كانت درجته , يسوى في الحدود بين الصغير والكبير .
ولهذا ثبت أنه صلى الله عليه وسلم كان ينهى بتأكد عن الشفاعة في الحدود , ويقول: ((إذا بلغت الحدود السلطان فلعن الله الشافع والمشفع)) . ويقول: ((إذا بلغت الحدود السلطان)) . أي:إذا وصلت إلى القاضي ، أو وصلت إلى الأمير , فقد وجبت ووجب تنفيذها , ولا يجوز بعد ذلك الشفاعة فيها , ولا يجوز قبول شفاعة أي كان , سواء كان والدا ، أو كبيرا أوصغيرا ، ترد شفاعة من شفع في إبطال هذه الحدود , قد توعده بهذا الوعيد: اللعن , ((لعن الله الشافع والمشفع)) وعيد شديد .
ويقول صلى الله عليه وسلم: ((تعافوا الحدود فيما بينكم , فما بلغني من حد فقد وجب)). ما بلغني, إذا بلغني الحد, يقول: متى وصلني وجب تنفيذه ؛ وذلك لأنه عرف أنه ثبت عنده هذا الحد , فلم يمكنه تعطيله , بل يتحتم إقامته , هكذا أخبر عليه السلام .
أما قبل أن يأتي ويرفع إليه فإن أهل الحدود أو أهل الحقوق إذا تنازلوا وأسقطوا حقهم لم يلزمهم شيء .ولهذا ذكروا أن صفوان بن أمية كان نائما في المسجد , وقد توسد رداءه:جعله كالوسادة له , فجاءه لص ، فأخذ الرداء من تحت رأسه ، وجعل تحت رأسه لبنة , ولما أخذه نذر به صفوان فاستيقظ ، ثم قبض عليه . الرداء يساوي نحو ثلاثين درهما , أي أقل من ثلاثة دنانير , فلما قبضه ذهب به حتى أوصله إلى النبي صلى الله عليه وسلم , فأمر بقطع يده , فقال صفوان: إني قد عفوت عنه . فقال: ((هلا قبل أن تأتيني به)) . أي: لماذا لم تسقط الحد عنه قبل أن تأتيني ؟ لماذا لم تعفو عنه قبل أن ترفعه إلي؟ أما بعدما رفعته إلي وعرفت أنا أنه سارق فلابد من قطع يده ؛ وذلك لأنه اتصف بالسرقة .
فهذا مثال في أنه يتعافى في الحدود قبل أن ترفع إلى السلطان , فلو مثلا قبضت على سارق في بيتك أوقد خرج بالسرقة ، ووجدته ..وجدتها عنده ، ثم عفوت عنه وطلبت منه أن يرد إليك مالك . أو مثلا سرق منك ..من جيبك مثلا ، أو من مخبئك نقودا ، ثم قبضت عليه وعرفت أنه هو الذي سرق واعترف بذلك , وعفوت عنه فيما بينك وبينه , ولم ترفع بأمره فلا حرج عليك ، أما إذا رفعت بأمره فلا يفيدك تنازلك , لا تتنازل عنه بعد ذلك ؛ لأن حق الله تعالى وجب ، والسرقة فيها حق لله ؛ لأنه حد من حدوده , وفيها حق للآدمي؛ لأنه الذي اعتدي عليه .
وأما القذف فإنه حق لآدمي, فله أن يسقطه ، وأما الزنا فإنه حق لله ؛ وذلك لما فيه من انتهاك الحرام ، وحق للزوج مثلا وحق للأولياء , فليس لهم أن يتسامحوا ويتغاضوا عن مثل هذه الحقوق .
والحاصل أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن الشفاعة في الحدود ، وأمرهم بأن يحرصوا على إقامة الحدود:على رجم الزاني أو جلده, ورجم القاذف , ورجم الشارب للخمر ، وكذلك رجم المنتهب والمعتدي أو جلده , جلد كل من أتى حدا فيه جلد , كخمر يجلد كما سيأتي ، أو زنا من غير إحصان يجلد ، أو قذفا يجلد ، أونحو ذلك ، لابد من إقامتها إذا وصلت السلطان , ولا يجوز التعطيل , ولا تجوز الشفاعة , ولا تجوز الوساطة , لا يجوز أن يصيروا وسطاء في إبطال حق لله ، وحد من حدود الله .
ولهذا أنكر النبي صلى الله عليه وسلم بشدة على أسامة , ثم قام فخطب وأخبر بأن الأمم الذين قبلنا أهلكهم الله وعاقبهم بأسباب , وكان من تلك الأسباب تعطيل حدود الله: تعطيل حد الزنا ، وتعطيل حد السرقة , يقول: إنه إذا سرق فيهم الضعيف قطعوا يده , قطعوه وإذا سرق فيهم الشريف تركوه ؛ لشرفه وخوفا من منصبه , كان مثلا ذا منصب ، أو كان أميرا ، أو كان وزيرا , أو كان ابن أمير , أو ابن ذي شرف ، أو نحو ذلك ، فلا يقتلونه إن قتلَ ، ولا يقطعونه إن سرق، ولا يرجمونه إن زنى أو نحو ذلك .
وهذا بلا شك تعطيل لحدود الله , أخبر صلى الله عليه وسلم بأن الله عاقبهم بسبب تساهلهم في هذه الحدود , إقامتها على الصعفاء دون الأشراف ونحوهم ، ثم أقسم صلى الله عليه وسلم فقال: ((وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها)) . فاطمة ابنته عليه الصلاة والسلام سيدة نساء أهل الجنة ، وابنة المصطفى صلى الله عليه وسلم , والبتول وأم الحسن والحسين , وزوجة عليرضي الله عنه , لا شك أن لها منزلتها , ومع ذلك وحاشاها أن تسرق ، ولكنه ضرب مثالا , لم يكن عنده أغلى منها ، ولا أقرب منها ؛ لكونها ابنته , يقول: لو سرقت لقطع محمد يدها . هذا هو العدل , هذا هو المساواة , هذا هو التسوية بين الناس: ألا يترك أحد لمنزلة ولا لشرف , هكذا هذاهو الذي أهلك الأمم قبلنا عدم التسوية .
كذلك أيضا في الزنا , ذكر في التاريخ أن اليهود كانوا من شريعتهم رجم الزاني إذا كان محصنا , وأنه زنى رجل من أشرافهم , ولما زنى تركوا إقامة الحد ورجمه لشرفه ، ولشرف قومه , أهل ثروة وأهل منصب , فلم يرجموه ، ولما كان بعد أيام أو بعد أشهر زنى رجل من أطراف الناس ومن ضعفائهم ، فعزموا على أن يرجموه , فحال دونه قومه وقالوا: لا نتركه يرجم حتى ترجموا فلانا الذي هو ذي شرف , فعند ذلك عزموا على إلغاء هذا الحد الذي هو الرجم وتبديله , اتفقوا على أنه متى زنى لا يرجم ، ولكن يحمم , فيسودون وجهه ويطوفون به على حمار ، أو يطوفون بالزاني والزانية منكثينِ, أي: كل منهما ظهره إلى ظهر الآخر ويشهرون أمرهما ، ولا يجلدون ، ولا يرجمون , وقالوا: نجعل هذا حدا يستوي فيه الشريف والطريف .
وفي عهد النبي صلى الله عليه وسلم زنى يهودي ويهودية , فمر علي بهما محممين فقال: ((ما هذا))؟ قالوا: قد زنيا. فقال:((ما تجدون في كتابكم))؟ قالوا: الجلد والتحميم . وكان عبد الله بن سلام قد عرف ما في كتابهم ، وكان من مسلمة اليهود , فقال: كذبتم , بل تجدون في كتابكم الرجم . فأمرهم أن يحضروا التوراة ، فأحضروها , ولما أحضروها قرأ ما قبل آية الرجم وما بعدها وسترها بإصبعه ، أو بيده , فقال عبد الله:ارفع يدك . فرفعها فإذا فيها آية الرجم , فقالوا: صدق يا محمد , فيها الرجم , ولكنه كثر في أشرافنا , أي: كثر الزنا في أشرافنا , فخفنا ألا نسوي بين الناس , فتركنا الرجم وعدلنا إلى التحميم . فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((اللهم إني أول من أحيا سنة قد أماتوها)).
وفي بعض الروايات أنه لما وقع فيهم الزنا ، وأرادوا أن يقيموا الحد على ذينك الزانيين , قالوا: اسألوا محمدا, فإن أفتاكم بالرجم فلا تقبلوا منه ، وإن أفتاكم بالجلد فاقبلو منه . نزل في ذلك قول الله تعالى .. قوله تعالى: {وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم} وخيره قبل ذلك في قوله تعالى: {فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين وكيف يحكمونك وعندهم التوارة فيهاحكم الله} .
وبكل حال فالرجم والقطع من حدود الله تعالى التي أمر بأن تقام على من اقترف جرما من هذه الجرائم ؛ حتى تأمن البلاد ، وحتى يأمن الناس على أنفسهم وعلى أموالهم , وحتى يرتدعوا عن فعل مثل هذه الجرائم التي هي محرمة . فإن كانت هذه الجرائم أقيمت مع توبة الفاعل وندمه فإن هذا الحد يمحو عنه أثر الذنب , وإن كان أقيم كرها وهو لم يتب فإنه يعاقب في الدنيا بهذا الحد ،ويعاقب في الآخرة على ذلك الذنب .
هذه المرأة المخزومية في أكثر الروايات أنها سرقت ، وفي بعض الروايات أنها كانت تستعير المتاع فتجحده ، وأنها استعارت حليا , جاءت إلى قوم وقالت: إن آل فلان أرسلوني لأستعير منكم حليًّا ؛ ليتجملوا به في عرس لهم ، ثم لما أعطوها ذلك الحلي ذهبت به وباعته , فسألوها وقالوا: إنا أعرناك . فقالت: ما أعرتموني, وجحدت ذلك , ثم وُجد الحلي عند أولئك الذين اشتروه , فقالوا: نعم اشتريناه من فلانة, هذه المخزوميةكان اسمها فاطمة , اشتريناه منها .فاعترفت بعد ذلك أنها أخذته من أولئك وباعته ، وأنه ليس لها وجحدته , فلما ثبت عليها هذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقطع يدها , فقيل: إنها ما قطعت إلا بسرقة سرقتها غير هذا المتاع ، أو غير هذا الحلي, وقيل:إنه سمي الجحد للعارية سرقة ؛ وذلك لأنه أخذ لمال بغير حق .
وقد اختلف العلماء في قطع جاحدِ العارية , فذهب الإمام أحمد إلى أنه يقطع , تقطع يد من جحد العارية إذا كانت تلك العارية نصابا ، أو أكثرمن النصاب , لهذا الحديث ؛ وذلك لأنه لا يمكن التحرز منه , فإنه يحمل الناس إذا جحد العارية على قطع الإحسان ، وعلى قطع المعروف , فإن الإعارة من فعل الخير , فإذا كان الإنسان إذا أعار إنسانا قِدرا مثلا ، أو أعاره ثوبا ، أو أعاره مشلحا مثلا يتجمل به ، أو أعاره متاعا يتمتع به أدى ذلك إلى أنه يجحده ، وإذا جحده سلم من الإثم ،وسلم من العقوبة , ولو وجدت عنده , وسلم من إقامة الحد , تتابع الناس في جحد هذه العواري ، فعند ذلك يقل من يعير , كل من كان عنده متاع يقول: لا أعيرك ؛ أخشى أن تجحدني كما جحد فلان ، وكما جحدني فلان ، فينقطع الإحسان وينقطع المعروف . بخلاف ما إذا أقيم عليه الحد , على جاحد العارية , وقطعت يده , فإن الناس يرتدعون فلا يقدم أحد على جحد العارية . هكذا ذهب الإمام أحمد إلى أنه يقطع جاحد العارية .
وأما الأئمة الباقون فقالوا: لا يقطع جاحد العارية , وقالوا: إن هذه المخزومية ما قطعت إلا لأنها سرقت , لم تقطع لجحد العارية , هي جمعت بين الأمرين:بين السرقة وبين جحد العارية , قالوا: من شروط السرقة أخذها خفية , أخذ المال خفية ، وأخذه من حرز وهو أن يكسر الأبواب مثلا والصناديق , ويأتي على حين غفلة , ويتسلق الحيطان ويأخذ المال المحرز المحفوظ , فهذا هو السارق حقا . والذي يستعير لا يسمى سارقا , بل يسمى مستعيرا , وإذا جحد فيسمَّى جاحدا, كجاحد الدين , وكما لا يقطع المنتهب ، ولا المختلس ، ولا الغاصب , ونحوه .ولكن المعمول به هنا أنه يقطع جاحد العارية ، وذلك لعدم ، أو لمشقة التحفظ عنه وعن أمثاله .
وبكل حال فإن قطع يد السارق , كما ذكرنا , حد من حدود الله تعالى , يقام ؛ حتى يأمن الناس على أموالهم , وحتى لا يعتدي أحد على مال أخيه بغير حق .


موضوع مغلق

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
باب, حد

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 03:47 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir