القارئ:بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد و على آله وصحبه أجمعين . قال المؤلف رحمنا الله تعالى وإياه:
باب حد السرقة
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما , أن النبي صلى الله عليه وسلم قطع في مجن قيمته . وفي لفظ: ثمنه ثلاثة دراهم.
وعن عائشة رضي الله عنها أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((تقطع اليد في ربع دينار فصاعد)) .
وعن عائشة رضي الله عنها أن قريشا أهمهم شأن المخزومية التي سرقت , فقالوا: من يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقالوا: ومن يجترأ عليه إلا أسامة بن زيد ؛ حب رسول الله صلى الله عليه وسلم , فكلمه أسامة فقال: ((أتشفع في حد من حدود الله تعالى)) . ثم قام فاختطب فقال: ((إنما هلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد ،وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها)) . وفي لفظ: كانت امرأة تستعير المتاع وتجحده, فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقطع يدها .
الشيخ: هذا يتعلق بالسرقة , حدُّ السرقة ، والسرقة: هي أخذ المال من حرزه على وجه الاختفاء ، ويسمى الآخذ له لصا ، والمتلصص هو الذي يسرق الأموال . وأخْذُ المال له عدة مسميات ، فالذي يغتصبه: يأخذه بالقوة وبالغلبة وبالقهر ، هذا يسمى غاصبا ، يأتي على الإنسان ويقول: أعطني كذا من المال وإلا قتلتك ، أو يقاومه فيأخذ ما معه من نقود مثلا أومن أية مال , هذا هو الغاصب , وحدُّه التعزير , إذا قدر عليه فإنه يعزر , فيرد المال الذي أخذه ، ويعاقب عقوبة تردعه ، وتردع أمثاله , سواء بجلد ، أو بحبس ، أو بتنكيل ، أو بأخذ مال أو نحو ذلك ؛ حتى لا يجرأ أحد على أخذ المال بغير حق ، وإذا تكرر ذلك منه جاز تعزيره ولو بالقتل ، ولو بأن يقتل ؛ زجرا له ولأمثاله .
النوع الثاني: الاختطاف والنهب , وهو أن يهتبل غفلة الإنسان فيخطف ما معه , إذا كان الإنسان عنده مال قد نشره في الأرض يبيعه مثلا , فجاء إنسان واختطف منه شيئا وهرب به , فمثل هذا يسمَّى مختطفا ومنتهبا ، وهذا النهب لا شكَّ أنه ذنب كبير , حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا ينتهب نهبة ذات شرف يرفع الناس إليه فيها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن)). ومتى قدر على هذا المنتهب فإنه يعاقب , يعاقب بما يرتدع به ، فيرد المال الذي انتهبه ويجلد ، أو يحبس أو يعزر أو يغرم مالا , أو نحو ذلك .
الثالث: المختلس , المختلس هو الذي يهتبل غفلة الإنسان الذي عنده مال ، ويأخذه وهو لا يدري, يدخل دكانه مثلا , فإذا رآه قد صد أخذ منه ثوبا ، أونعلا ، أوقدحا أونقدا ، أو نحو ذلك بخفيه , وخرج كأنه لم يأخذ شيئا ، ولم يتفطن له صاحب المال , فهذا يسمى مختلسا , فإذا عُرف أو اعترف , أو شهد عليه ورآه من شهد عليه , فلابد أيضا من عقوبته ، عقوبته أن يعزر بما يرتدع به هو وأمثاله ، ويرد المال أيضا الذي اختلسه .
الرابع: السارق , السارق هو الذي تقطع يده , هو الذي ذكر في قوله تعالى: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} , وذُكر في سورة يوسف في قوله تعالى: {قالوا جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه كذلك نجزي الظالمين} , كانت عقوبتهم عقوبة أولاد يعقوب أنههم يسترقون السارق , إذا سرق فإن المسروق منه يؤخذ رقيقا يتصرف فيه صاحب المال .
وجاء الشرع بقطع يد السارق حفظا للمال , أي: من باب المحافظة على أموال المسلمين شرع قطع يد من سرق . ومعلوم أن قطعها يشين صاحبها , إذا قطعت يده فإنه يبقى مشلولا , يبقى عائبا ليس له إلا يد واحدة ،ولذلك لما رفع بعض السراق إلى بعض الولاة وعزم على قطع يده أنشد يقول:
يدي يا أمـير المؤمنين أعيذها بعدلك أن تلقى عقــابا يشينها
فلا خـير في الدنيـا ولا في حياتهاإذا ما شمال فارقتها يمينها
يمثل أنه إذا عاش بلا يمين , فإن في عيشته وحياته حياة تعس وبؤس , ولكن الله تعالى شرع العقوبة هذه ؛ حفظا للأموال ؛ وذلك لأنه إذا عرف بأنه مقابل هذا المال القليل ستقطع يده الثمينة انزجر وارتدع , وخاف على يده فترك السرقة ولم يتعد , فأمن الناس عند ذلك على أموالهم ، فهذا هو السبب , وإلا فإن اليد ذات شرف , اليد ديتها نصف دية الإنسان , اليد الواحدة ديتها الآن خمسون ألفا ، ومع ذلك تقطع في ثلاثة دراهم أو نحوها ؛ وما ذاك إلا أنها لما كانت أمينة كانت ثمينة، فلما خانت هانت , صغرت وذلت وهانت .
ذكروا أن أبا العلاء المعري اعترض على الشرع فقال: كيف تقطع اليد بربع دينار ، وديتها خمسمائة دينار من العسجد , يعني من الذهب , وأنشد قوله:
يد بخمسمائة من عسجد وديت مابالها قطعت في ربع دينار
فردوا عليه وقالوا: حماية الدم أغلاها وأرخصها صيانة المال ، فانظر حكمة الباري . ونكمل بعد الأذن .
ثم ذكروا للقطع شروطا لابد منها حتى يلزم القطع:
الشرط الأول: تكليف ذلك السارق , التكليف هو أن يكون بالغا عاقلا ملتزما , فإذا سرق الصبي فلا قطع عليه ؛ لأنه لم يتكامل عقله الذي يزجره عن السرقة ، وكذلك إذا سرق المجنون فلا قطع عليه ، وأما إذا سرق الحربي فإنه .. فإن المحارب يأخذ من مال المحاربين ما يقدر عليه , فلا يقطع إذا قدر عليه ، ولكن يعاقب إذا كان كافرا محاربا بأن يقتل .
الشرط الثاني: أن يكون المال محترما , فإذا كان غير محترم ، أولم يكن له قيمة , فلا قطع عليه ، فإذا سرق خمرا فلا قطع عليه ؛ لأنه لا قيمة لها , ومثلها سائر المحرمات كالدخان والقات والنرجيل ، وما أشبهها , لا قيمة لها في الشرع , فلا قطع على من سرقها , وكذلك لو سرق آلات الملاهي كالعود والطنبور والطبول ، وما أشبهها , وكذلك لو سرق ما يجب إتلافه كالصور والأفلام التي فيها صور خليعة , وكتب الزندقة والإلحاد , والمجلات التي فيها خلاعة ومجون ، وفيها إلحاد وزندقة , هذه إذا سرقت لا قطع على من سرقها ؛ لأنه لا قيمة لها شرعا , ولو أنها مقرة وتباع .
لكن من شروط القطع بلوغ النصاب ,وهو الشرط الثالث: أن يكون المسروق نصابا . وقدر النصاب بأنه مقدار ربع دينار أو ثلاثة دراهم ، والدينار هو أربعة أسباع الجنيه , المقدار من الذهب يقدر بأربعة أسباع الجنيه ، وربعه معروف , ربع الدينارهذا نصاب السرقة , ومن الدراهم الفضة ثلاثة دراهم , والدرهم قطعة من الفضة صغيرة , فإذا بلغ المسروق نصابا , أوما قيمته نصاب , فإنه يقطع , يكون نصابا .
والمجن الذي قطع فيه النبي صلى الله عليه وسلم ثمنه ثلاثة دراهم ، والثلاثة الدراهم ربع دينار ؛ لأن صرف الدينار في ذلك الوقت اثني عشر درهما .المجن: هو الترس الذي يلبسه المقاتل فوق رأسه , يسمى مجنا ، ويسمى ترسا ، ويسمى مغفرا ؛ لأنه يستر الراس , يكون على الرأس وعلى الأذنين ونحوها , من حديد ، فهو له ثمن ، هذا الرجل الذي سرق هذا الترس ، أو هذا المجن , قطع بهذه السرقة , فدل على أن هذا نصاب . ومعلوم أن آلات الملاهى ليس لها قيمة ، لا درهم ولا ربع دينار ولا دراهم , ليس لها قيمة في الشرع ، فلأجل ذلك لا قطع في سرقتها ولا يغرمها من أتلفها , هكذا شرعا .
الشرط الرابع: الحرز , المسروق لابد أن يكون محرزا , فإذا أخذه من الشوارع والطرق فلا يسمى سارقا ، وكذلك إذا وجد الباب مفتوحا فدخل وأخذ قدحا مثلا أو ثوبا فلا يسمى سارقا , وهكذا لو دخل الدكان فأخذ إناء مثلا أو أخذ نعلا أو شيئا من المال قيمته نصاب سرقة فلا قطع عليه ؛ وما ذاك إلا أنه لا يسمى سارقا لأنه لم يسرقه من الحرز .
معلوم أن الأبوب التي تغلق تحرز ما في داخل البيت , فإذا كسر الباب ودخل فهذا قد أخذ من الحرز , ومعلوم أن الأسوار حروز , فإذا صعد مع السور وقفز ودخل الدار فهذا قد هتك الحرز , ومعلوم مثلا أن الصناديق الكبيرة حروز , فإذا كسر الصندوق وأخذ مما فيه فإنه قد أخذ من الحرز , فيعتبر قد انطبق عليه اسم السارق الذي أخذ من الحرز ، إذا وجد الغنم مثلا في زريبة ففتح الباب عليها مثلا وأخذ منها فقد أخذ من الحرز ، وإذا وجدها مع الراعي فإن الراعي أيضا هو الحرز , فإذا اهتبل غفلته وأخذ فإنه قد أخذها من الحرز ، وإذا مثلا وجد مالا محرزا فيما يحرز فيه عادة يعني كحجرة مثلا أو دار مقفلة أو نحو ذلك , فهتك ذلك الحرز وأخذ , فإنه يصدق عليه أنه قد أخذ من الحرز , فيجب قطعه .
الشرط الخامس: انتفاء الشبهة , فإذا كان له شبهة في هذا المال فلا قطع عليه , فإذا ادعى أن هذا المال وقف على المساكين , وأنا منهم من المساكين , وصار صحيحا فلا قطع عليه ، وإذا سرق من مال الغنيمة و هو من جملة الغانمين والمال محرز , مال الغنائم قبل أن يقسم , فلا قطع عليه ؛ وذلك لأن له شبهة . وكذلك لو كان ولده من جملة المقاتلين , كما إذا سرق من مال له فيه حق كبيت المال , إذا كان له حق من جملة المستحقين ، أو وقف على فئة وهو منهم , كالوقف على المساكين أو على الفقراء , أو على هؤلاء المسمين وهو من جملتهم , فلا قطع في مال له فيه شبهة ، لابد أن تنتفي الشبهة .
الشرط السادس: ثبوت السرقة , وتثبت بأحد أمرين: بالبينة وبالاعتراف ، فإذا أقر واعترف بأنه الذي سرق فإنه تقطع يده ، وإذا أنكر وجحد ، ولكن شهد عليه شاهدان , فإنه تقطع يده ، ولا بد في الشاهدين من العدالة , العدالة هي أن يكون الشاهد ذكرا عدلا موثوقا مقبولا خبره ، فلا تقبل شهادة عدو له مثلا ؛ لأنه يطعن فيه ويقول: هذا يحب الإضرار بي ، وكذلك لا يشهد عليه فاسق غير مقبول عند المسلمين , غير مقبول الشهادة عند الحاكم .
إذا ثبتت وتمت هذه الشروط فإنها تقطع يده اليمنى , تقطع من المفصل ، من مفصل الكف , أي يقتصر على قطع الكف من المفصل ، ولا يؤخذ شيء من الذراع ، وذكروا أيضا أنها تعلق ؛ حتى ينتشر خبره , فقيل: تعلق في صدره مدة ، وقيل: تعلق في خشبة أمام الناس ؛ حتى يشتهر أمره .
وإذا قطعت فبعد ساعة القطع تحسم , الحسم: هو أن تغمس في زيت مغلى حار حتى يسد مجاري العروق ؛ لئلا يجري دمه فيموت ، فهذا الحسم يوقف الدم . وإذا وجد في هذه الأزمنة علاجا يوقف الدم غير الزيت المغلي استعمل لإيقاف الدم ؛ لأن المطلوب قطع يده ليس المطلوب إماتته ؛ لأنه غالبا لو ترك فسال دمه ولم يتوقف لقضى على حياته , يسيل دمه إلى أن ينقضي فيموت , بخلاف ما إذا حسم فإنه يتوقف , هذا هو الأصل .
لا شك أن القطع خاص كما ذكرنا بالسرقة التي ورد فيها هذه الشروط وهذه الصفات , هذا هو , أما بقية الأشياء التي ذكرنا فإنه لا قطع فيها , وإنما فيها عقوبة تزجر عن أمثال هذا .
ولا شك أن القطع حد شرعي ، ولأجل ذلك شرع لأجل حفظ الأموال ، فإن السارق إذا عرف أنها ستقطع يده هانت عليه هذه الأموال التي سيتحصل عليها , ولكن الكثير من الناس لا ينتبهون لعاقبة الأمور , فيقدم ويعتقد أنه سيسلم فيفتضح ، وتقطع يده , ثم لا ينتبه مرة أخرى , لا ينتبه إلى هذا فيعود ويسرق , بعدما تقطع يده يسرق بيده الأخرى , فماذا يفعل به , إذا سرق للمرة الثانية فإنها تقطع قدمه , يقطع نصف القدم ، ويترك العرقوب وما يحاذي الساق من القدم ؛ حتى يطأ عليه , يقطع نصف القدم . ولو قدر مثلا أنه سرق للمرة الثالثة فالصحيح أنه لا تقطع يده ؛ لأنه إذا قطعت يداه بقي حسيرا لا يستطيع أن يأكل ، ولا أن يتناول حاجة , وهو بحاجة إلى إحدى يديه يأكل بها ويتنظف بها ويستنجي بها ويتطهر , فإذا قطعتا تحسر , فإذا سرق للمرة الثالثة فإنه إما أن يعزر , و إما أن يحبس إلى أن يتوب . وما روي من قطع يده اليسرى وقطع رجله اليمنى , إذا تكرر منه , هذه لعلها عقوبات خاصة بذلك الشخص .
و بكل حال نعرف من هذا حماية الشريعة الإسلامية لمصالح المسلمين , فإنهم بحاجة إلى من يحمي لهم مصالحهم ، فهم بحاجة إلى من يحمي لهم أموالهم ، فشرع القتل لحماية الأموال ، وبحاجة إلى من يحمي لهم دماءهم ، فشرع القصاص ؛ حماية للدماء , وبحاجة إلى من يحمي لهم أعراضهم , أعراضهم يعني سمعتهم , فشرع الجلد , الجلد الذي هوحد الفرية وحد القذف ؛ حماية للأعراض ، وبحاجة إلى من يحمي لهم أنسابهم , إلى حماية الأنساب ، فشرع الرجم , رجم الزاني أو جلده ؛ حماية للأنساب ؛ لأن الزنا يسبب اختلاط الأنساب , يسبب أنهم تختلط الأنساب , هذا بهذا , إذا زنى هذا بامرأة هذا وحملت صار ينفق على غير ولده ، وينتسب له غير ولده , فحماية الأنساب أمر يهتم به المسلمون .
كذلك أيضا حماية العقول , شرع عقوبة تزجر من يتهاون بعقله ، وهو حد الشرب ؛ لأن الخمر تزيل العقل , فشرعت العقوبة التي تحفظ على المسلم عقله , بجلد من شرب حتى يتوب ، وهذا ونحوه دليل على كمال هذه الشريعة . أما قصة الشفاعة في الحد فنؤجلها إلىالدرس الآتي إن شاء الله .
الوجـه الثانـي
القارئ: بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين . قال المؤلف رحمنا الله تعالى وإياه:
عن عائشة رضي الله عنها أن قريشا أهمهم شأن المخزومية التي سرقت , فقالوا: من يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقالوا: ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد ؛ حب رسول الله صلى الله عليه وسلم . فكلمه أسامة , فقال: ((أتشفع في حد من حدود الله تعالى)) . ثم قام فاختطب فقال: ((إنما هلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه , وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد , وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها)) . وفي لفظ: كانت امرأة تستعير المتاع وتجحده ، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقطع يدها .
الشيخ: هذه قصة وقعت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم , امرأة من بني مخزوم سرقت وثبتت عليها السرقة ، بنو مخزوم قبيلة من أشراف قريش , من أكابر قريش ومشهوريهم لهم مكانة ، ولهم شهرة ولهم شرف في قومهم , ولما ثبتت السرقة على هذه المرأة تحتم أن يقام عليها الحد ، وأن يطبق عليها الشرع ، وأن تقطع يدهاكما تقطع يد غيرها ، ولكن أكابر قريش عظم عليهم ذلك ، فأهمهم شأنها , وصعب عليهم أن تقطع يدها حتى قالوا: نفديها يا رسول الله , نفديها ولو بعشرة آلاف دينار ، نفديها بعشرين حتى وصلوا إلى أربعين ألف دينار , مع أن الدية ألف , الدية في ذلك الوقت ألف دينار، ولكنهم قالوا: نفديها بأربعين ألف أي بأربعين دية ؛ وذلك خوفًا عليهم من العار ، وأن تكون هذه المرأة التي هي من أشرافهم تكون عارًا عليهم .ولكن النبي صلى الله عليه وسلم لا شك أنه يغار على حدود الله , يغار على حرماته .
ولمَّا ثبتت سرقة هذه المرأة المخزومية ، وثبت عليها إقامة الحد , عزم على قطع يدها مهما كانت , ولو كانت شريفة ، ولو كانت كبيرة , ولو كانت من ذوي قوم لهم منزلة ؛ فإن حدود الله يستوي فيها الشريف والطريف , يستوي فيها الصغير والكبير , يستوي فيها الغني والفقير , كلهم على حد سواء ؛ و ذلك لأن الله تعالى سوى بينهم في عبادته ، فكذلك في سائر حقوقه .
لذلك لما أنهم سمعوا بأنه قد عزم على إقامة الحد , وقطع يدها , التمسوا من يشفع لهم في إعفائها وفي ترك قطع يدها، وفي قبول الفدية التي هي أربعون ألفا , فلم يجدوا إلا أسامة ، وعرفوا أنه حب النبي صلى الله عليه وسلم وابن حبه ؛ لأنه كان مولاه صلى الله عليه وسلم ,ولما ولاه مرة على جيش وكان صغيرا طعنوا في ولايته وإمارته ، فقال صلى الله عليه وسلم: ((إن تطعنوا في ولايته , أو في إمارته , فقد طعنتم في إمارة أبيه من قبله , وأيم الله إنه لخليق للإمارة ، وإنه لمن أحب الناس إلي , وإن هذا لمن أحب الناس إلي بعده)) . فشهد له بأنه يحبه, فصار يقال له: حب النبي أي محبوب النبي صلى الله عليه وسلم , يحبه لشهامته ، ويحبه لفضله ، ويحبه لتقواه , ويحبه لقرابته لكونه مولاه ، وقد كان أبوه يسمى زيد بن محمد ،ولكنه بعدما نزل قول الله تعالى {ادعوهم لآبائهم} قال: أنا زيد بن حارثة .
والحاصل أنهم توسلوا بأسامة , وقالوا له: كلمه لعله يعفو عنهم ,اشفع له لعله يسقط هذا الحد , فلما كلمه غضب صلى الله عليه وسلم ؛ حيث أن قريشا لشرفهم أرادوا ألا يقام هذا الحد عليهم ، ويكون هذا إسقاطا لحد من حدود الله , فغضب وقال أتشفع في حد من حدود الله , أتطلب تعطيل حد الله الذي أمر به وفرضه في قوله تعالى: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا} .
فرض الله أو أمر الله بقطع بيد السارق في هذه الآية , فلابد من تنفيذ أمر الله ، وإلا يكون الوالي معطلا لحد من حدود الله , ولا شك أن إقامة حدود الله تعالى عمارة للأرض , ورد في حديث:((لحد يقام في الأرض خير من أن يمطروا أربعين صباحا)) . أي أنه إذا أقيم حد في بلد فإن البلد تأمن , تأمن على وطنها وعلى أنفسها ، وكذلك يأمنون من عقاب الله ، ويأمنون من تسليط الله الأعداء عليهم ، أو تسليط اللصوص ونحوهم إذا أقاموا الحدود , فإذن الحدود أمنة الله أمنة البلاد، لذلك يتأكد إقامتها ويحرم أن يتوسط أحد في تعطيلها , ولو كان الذي يحد شريفا أو أميرا أو وزيرا أو قرشيا أو نسيبا, أو مهما كانت درجته , يسوى في الحدود بين الصغير والكبير .
ولهذا ثبت أنه صلى الله عليه وسلم كان ينهى بتأكد عن الشفاعة في الحدود , ويقول: ((إذا بلغت الحدود السلطان فلعن الله الشافع والمشفع)) . ويقول: ((إذا بلغت الحدود السلطان)) . أي:إذا وصلت إلى القاضي ، أو وصلت إلى الأمير , فقد وجبت ووجب تنفيذها , ولا يجوز بعد ذلك الشفاعة فيها , ولا يجوز قبول شفاعة أي كان , سواء كان والدا ، أو كبيرا أوصغيرا ، ترد شفاعة من شفع في إبطال هذه الحدود , قد توعده بهذا الوعيد: اللعن , ((لعن الله الشافع والمشفع)) وعيد شديد .
ويقول صلى الله عليه وسلم: ((تعافوا الحدود فيما بينكم , فما بلغني من حد فقد وجب)). ما بلغني, إذا بلغني الحد, يقول: متى وصلني وجب تنفيذه ؛ وذلك لأنه عرف أنه ثبت عنده هذا الحد , فلم يمكنه تعطيله , بل يتحتم إقامته , هكذا أخبر عليه السلام .
أما قبل أن يأتي ويرفع إليه فإن أهل الحدود أو أهل الحقوق إذا تنازلوا وأسقطوا حقهم لم يلزمهم شيء .ولهذا ذكروا أن صفوان بن أمية كان نائما في المسجد , وقد توسد رداءه:جعله كالوسادة له , فجاءه لص ، فأخذ الرداء من تحت رأسه ، وجعل تحت رأسه لبنة , ولما أخذه نذر به صفوان فاستيقظ ، ثم قبض عليه . الرداء يساوي نحو ثلاثين درهما , أي أقل من ثلاثة دنانير , فلما قبضه ذهب به حتى أوصله إلى النبي صلى الله عليه وسلم , فأمر بقطع يده , فقال صفوان: إني قد عفوت عنه . فقال: ((هلا قبل أن تأتيني به)) . أي: لماذا لم تسقط الحد عنه قبل أن تأتيني ؟ لماذا لم تعفو عنه قبل أن ترفعه إلي؟ أما بعدما رفعته إلي وعرفت أنا أنه سارق فلابد من قطع يده ؛ وذلك لأنه اتصف بالسرقة .
فهذا مثال في أنه يتعافى في الحدود قبل أن ترفع إلى السلطان , فلو مثلا قبضت على سارق في بيتك أوقد خرج بالسرقة ، ووجدته ..وجدتها عنده ، ثم عفوت عنه وطلبت منه أن يرد إليك مالك . أو مثلا سرق منك ..من جيبك مثلا ، أو من مخبئك نقودا ، ثم قبضت عليه وعرفت أنه هو الذي سرق واعترف بذلك , وعفوت عنه فيما بينك وبينه , ولم ترفع بأمره فلا حرج عليك ، أما إذا رفعت بأمره فلا يفيدك تنازلك , لا تتنازل عنه بعد ذلك ؛ لأن حق الله تعالى وجب ، والسرقة فيها حق لله ؛ لأنه حد من حدوده , وفيها حق للآدمي؛ لأنه الذي اعتدي عليه .
وأما القذف فإنه حق لآدمي, فله أن يسقطه ، وأما الزنا فإنه حق لله ؛ وذلك لما فيه من انتهاك الحرام ، وحق للزوج مثلا وحق للأولياء , فليس لهم أن يتسامحوا ويتغاضوا عن مثل هذه الحقوق .
والحاصل أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن الشفاعة في الحدود ، وأمرهم بأن يحرصوا على إقامة الحدود:على رجم الزاني أو جلده, ورجم القاذف , ورجم الشارب للخمر ، وكذلك رجم المنتهب والمعتدي أو جلده , جلد كل من أتى حدا فيه جلد , كخمر يجلد كما سيأتي ، أو زنا من غير إحصان يجلد ، أو قذفا يجلد ، أونحو ذلك ، لابد من إقامتها إذا وصلت السلطان , ولا يجوز التعطيل , ولا تجوز الشفاعة , ولا تجوز الوساطة , لا يجوز أن يصيروا وسطاء في إبطال حق لله ، وحد من حدود الله .
ولهذا أنكر النبي صلى الله عليه وسلم بشدة على أسامة , ثم قام فخطب وأخبر بأن الأمم الذين قبلنا أهلكهم الله وعاقبهم بأسباب , وكان من تلك الأسباب تعطيل حدود الله: تعطيل حد الزنا ، وتعطيل حد السرقة , يقول: إنه إذا سرق فيهم الضعيف قطعوا يده , قطعوه وإذا سرق فيهم الشريف تركوه ؛ لشرفه وخوفا من منصبه , كان مثلا ذا منصب ، أو كان أميرا ، أو كان وزيرا , أو كان ابن أمير , أو ابن ذي شرف ، أو نحو ذلك ، فلا يقتلونه إن قتلَ ، ولا يقطعونه إن سرق، ولا يرجمونه إن زنى أو نحو ذلك .
وهذا بلا شك تعطيل لحدود الله , أخبر صلى الله عليه وسلم بأن الله عاقبهم بسبب تساهلهم في هذه الحدود , إقامتها على الصعفاء دون الأشراف ونحوهم ، ثم أقسم صلى الله عليه وسلم فقال: ((وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها)) . فاطمة ابنته عليه الصلاة والسلام سيدة نساء أهل الجنة ، وابنة المصطفى صلى الله عليه وسلم , والبتول وأم الحسن والحسين , وزوجة عليرضي الله عنه , لا شك أن لها منزلتها , ومع ذلك وحاشاها أن تسرق ، ولكنه ضرب مثالا , لم يكن عنده أغلى منها ، ولا أقرب منها ؛ لكونها ابنته , يقول: لو سرقت لقطع محمد يدها . هذا هو العدل , هذا هو المساواة , هذا هو التسوية بين الناس: ألا يترك أحد لمنزلة ولا لشرف , هكذا هذاهو الذي أهلك الأمم قبلنا عدم التسوية .
كذلك أيضا في الزنا , ذكر في التاريخ أن اليهود كانوا من شريعتهم رجم الزاني إذا كان محصنا , وأنه زنى رجل من أشرافهم , ولما زنى تركوا إقامة الحد ورجمه لشرفه ، ولشرف قومه , أهل ثروة وأهل منصب , فلم يرجموه ، ولما كان بعد أيام أو بعد أشهر زنى رجل من أطراف الناس ومن ضعفائهم ، فعزموا على أن يرجموه , فحال دونه قومه وقالوا: لا نتركه يرجم حتى ترجموا فلانا الذي هو ذي شرف , فعند ذلك عزموا على إلغاء هذا الحد الذي هو الرجم وتبديله , اتفقوا على أنه متى زنى لا يرجم ، ولكن يحمم , فيسودون وجهه ويطوفون به على حمار ، أو يطوفون بالزاني والزانية منكثينِ, أي: كل منهما ظهره إلى ظهر الآخر ويشهرون أمرهما ، ولا يجلدون ، ولا يرجمون , وقالوا: نجعل هذا حدا يستوي فيه الشريف والطريف .
وفي عهد النبي صلى الله عليه وسلم زنى يهودي ويهودية , فمر علي بهما محممين فقال: ((ما هذا))؟ قالوا: قد زنيا. فقال:((ما تجدون في كتابكم))؟ قالوا: الجلد والتحميم . وكان عبد الله بن سلام قد عرف ما في كتابهم ، وكان من مسلمة اليهود , فقال: كذبتم , بل تجدون في كتابكم الرجم . فأمرهم أن يحضروا التوراة ، فأحضروها , ولما أحضروها قرأ ما قبل آية الرجم وما بعدها وسترها بإصبعه ، أو بيده , فقال عبد الله:ارفع يدك . فرفعها فإذا فيها آية الرجم , فقالوا: صدق يا محمد , فيها الرجم , ولكنه كثر في أشرافنا , أي: كثر الزنا في أشرافنا , فخفنا ألا نسوي بين الناس , فتركنا الرجم وعدلنا إلى التحميم . فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((اللهم إني أول من أحيا سنة قد أماتوها)).
وفي بعض الروايات أنه لما وقع فيهم الزنا ، وأرادوا أن يقيموا الحد على ذينك الزانيين , قالوا: اسألوا محمدا, فإن أفتاكم بالرجم فلا تقبلوا منه ، وإن أفتاكم بالجلد فاقبلو منه . نزل في ذلك قول الله تعالى .. قوله تعالى: {وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم} وخيره قبل ذلك في قوله تعالى: {فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين وكيف يحكمونك وعندهم التوارة فيهاحكم الله} .
وبكل حال فالرجم والقطع من حدود الله تعالى التي أمر بأن تقام على من اقترف جرما من هذه الجرائم ؛ حتى تأمن البلاد ، وحتى يأمن الناس على أنفسهم وعلى أموالهم , وحتى يرتدعوا عن فعل مثل هذه الجرائم التي هي محرمة . فإن كانت هذه الجرائم أقيمت مع توبة الفاعل وندمه فإن هذا الحد يمحو عنه أثر الذنب , وإن كان أقيم كرها وهو لم يتب فإنه يعاقب في الدنيا بهذا الحد ،ويعاقب في الآخرة على ذلك الذنب .
هذه المرأة المخزومية في أكثر الروايات أنها سرقت ، وفي بعض الروايات أنها كانت تستعير المتاع فتجحده ، وأنها استعارت حليا , جاءت إلى قوم وقالت: إن آل فلان أرسلوني لأستعير منكم حليًّا ؛ ليتجملوا به في عرس لهم ، ثم لما أعطوها ذلك الحلي ذهبت به وباعته , فسألوها وقالوا: إنا أعرناك . فقالت: ما أعرتموني, وجحدت ذلك , ثم وُجد الحلي عند أولئك الذين اشتروه , فقالوا: نعم اشتريناه من فلانة, هذه المخزوميةكان اسمها فاطمة , اشتريناه منها .فاعترفت بعد ذلك أنها أخذته من أولئك وباعته ، وأنه ليس لها وجحدته , فلما ثبت عليها هذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقطع يدها , فقيل: إنها ما قطعت إلا بسرقة سرقتها غير هذا المتاع ، أو غير هذا الحلي, وقيل:إنه سمي الجحد للعارية سرقة ؛ وذلك لأنه أخذ لمال بغير حق .
وقد اختلف العلماء في قطع جاحدِ العارية , فذهب الإمام أحمد إلى أنه يقطع , تقطع يد من جحد العارية إذا كانت تلك العارية نصابا ، أو أكثرمن النصاب , لهذا الحديث ؛ وذلك لأنه لا يمكن التحرز منه , فإنه يحمل الناس إذا جحد العارية على قطع الإحسان ، وعلى قطع المعروف , فإن الإعارة من فعل الخير , فإذا كان الإنسان إذا أعار إنسانا قِدرا مثلا ، أو أعاره ثوبا ، أو أعاره مشلحا مثلا يتجمل به ، أو أعاره متاعا يتمتع به أدى ذلك إلى أنه يجحده ، وإذا جحده سلم من الإثم ،وسلم من العقوبة , ولو وجدت عنده , وسلم من إقامة الحد , تتابع الناس في جحد هذه العواري ، فعند ذلك يقل من يعير , كل من كان عنده متاع يقول: لا أعيرك ؛ أخشى أن تجحدني كما جحد فلان ، وكما جحدني فلان ، فينقطع الإحسان وينقطع المعروف . بخلاف ما إذا أقيم عليه الحد , على جاحد العارية , وقطعت يده , فإن الناس يرتدعون فلا يقدم أحد على جحد العارية . هكذا ذهب الإمام أحمد إلى أنه يقطع جاحد العارية .
وأما الأئمة الباقون فقالوا: لا يقطع جاحد العارية , وقالوا: إن هذه المخزومية ما قطعت إلا لأنها سرقت , لم تقطع لجحد العارية , هي جمعت بين الأمرين:بين السرقة وبين جحد العارية , قالوا: من شروط السرقة أخذها خفية , أخذ المال خفية ، وأخذه من حرز وهو أن يكسر الأبواب مثلا والصناديق , ويأتي على حين غفلة , ويتسلق الحيطان ويأخذ المال المحرز المحفوظ , فهذا هو السارق حقا . والذي يستعير لا يسمى سارقا , بل يسمى مستعيرا , وإذا جحد فيسمَّى جاحدا, كجاحد الدين , وكما لا يقطع المنتهب ، ولا المختلس ، ولا الغاصب , ونحوه .ولكن المعمول به هنا أنه يقطع جاحد العارية ، وذلك لعدم ، أو لمشقة التحفظ عنه وعن أمثاله .
وبكل حال فإن قطع يد السارق , كما ذكرنا , حد من حدود الله تعالى , يقام ؛ حتى يأمن الناس على أموالهم , وحتى لا يعتدي أحد على مال أخيه بغير حق .