بسم الله الرحمن الرحيم
رسالة فى قوله تعالى "فأقم وجهك للدين حنيفا فطرت الله التى فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون"
تضمنت هذه الآية الكريمة عدة مسائل:
مناسبة الآية
بعد بيان أدلة الوحدانية والقدرة الإلهية على كل شىء ومنه الحشر والبعث وبعد توطين عزيمة الرسول صلى الله عليه وسلم على الاعتزاز بدعوته وعدم الاهتمام بموقف المشركين منها وترك الإلتفات إليهم ؛أمر الله تعالى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم بمتابعة دين الإسلام والثبات عليه والإخلاص فى العمل الذى اشتمل عليه
فقوله تعالى :"فأقم وجهك"الخطاب للنبى صلى الله عليه وسلم والمؤمنون معه كما يؤذن به قوله بعده "منيبين إليه واتقوه"بصيغة الجمع
قال القرطبى :فدخل فى هذا الخطاب أمته باتفاق من أهل التأويل
والأمر فى قوله "فأقم"مستعمل فى طلب الدوام والمقصود لا تهتم بإعراضهم
ومعنى الإقامة كما قال بن عاشور :جعل الشىء قائما
وإقامة الوجه تقويمه وتعديله باتجاهه قبالة نظره غير ملتفت يمينا ولا شمالا وهو تمثيل لحالة الإقبال على الشىء والتمحض للشغل به بحال قصر النظر إلى صوب قبالته غير ملتفت يمنة ولا يسرة
قال القرطبى :وإقامة الوجه هو تقويم المقصد والقوة على الجد فى أعمال الدين
وهذا كقوله تعالى :"فقل أسلمت وجهى لله ومن اتبعن"أى أعطيته لله وذلك معنى التمحيض لعبادة الله وألا يلتفت لمعبود غيره
وكقوله تعالى حكاية عن ابراهيم عليه السلام"إنى وجهت وجهى للذى فطر السموات والأرض حنيفا"
وقوله "وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد وادعوه مخلصين له الدين"
ونظير آية الروم آية يونس وقوله تعالى "وأن أقم وجهك للدين حنيفا ولا تكونن من المشركين"
ويلاحظ فى كل الآيات السابقة التى فيها الأمر بإقامة الوجه للدين أنها أتت فى سياق بيان بطلان الشرك بالأدلة والبراهين ثم أتى الأمر بالإخلاص والتوحيد من خلال التعبير بإقامة الوجه
وخص الوجه بالذكر لأنه جامع حواس الإنسان وأشرفه ولان إقبال الوجه تبع لإقبال القلب وعلى إقبالهما يترتب سعى البدن
ومعنى قوله "فأقم وجهك للدين" أى محض وجهك للدين ،ولا تجعل لغير الدين شريكا فى توجهك وأخلص اعمالك الظاهرة والباطنة واقم جميع شرائع الدين حنيفا
والمقصود بالدين :دينهم الذى هم عليه وهو الإسلام والإيمان والإحسان
وقوله "حنيفا"صيغة مبالغة فى الإتصاف بالحنف وهو الميل وغلب استعمال هذا الوصف فى الميل عن الباطل أى بالعدول عنه بالتوجه إلى الحق أى مستقيما عليه غير معوج
والمعنى أقم نفسك على دين الإسلام معتدلا مائلا عن جميع الأديان المحرفة المنسوخة باتباع الدين الحنيف
وأما قوله تعالى "فطرت الله التى فطر الناس عليها"
فطرت :على النصب قال الزجاج منصوب بمعنى اتبع فطرت الله لأن معنى فأقم وجهك للدين :اتبع الدين الحنيف واتبع فطرت الله
وقال الطبرى :فطرت الله مصدر أى فطر الله الناس ذلك فطرة
وعلى هذين القولين لايكون الوقف على قوله "حنيفا"وقفا تاما
وقال بن عاشور:فطرت الله"بدل اشتمال من "حنيفا" وفيه إفادة أن هذا الدين موصوف بوصفين :التبرؤ من الشرك"حنيفا"وموافقته الفطرة"فطرت الله" فيفيد أنه دين سمح سهل لا عنت فيه ونظيره قوله تعالى "ولم يجعل له عوجا قيما"
ومعنى إضافة الفطرة إلى الله تعالى لقوله بعدها "التى فطر الناس عليها " فهو الذى فطر الناس وحده لا شريك له
والمقصود ب"فطرت الله" هو الدين لأن التوحيد هو الفطرة والإشراك تبديل الفطرة
وسميت الفطرة دينا :لأن الناس يخلقون له قال تعالى "وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون"
والفطرة فى اللغة:اسم هيئة من الفطر وهو الخلق مثل الخلقة كما بينه قوله تعالى "التى فطر الناس عليها" أى جبل الناس وخلقهم عليها أى متمكنين منها فحرف الإستعلاء إشارة لتمكن ملابسة الصفة بالموصوف تمكن يشبه تمكن المعتلى على شىء كما قال تعالى "أولئك على هدى من ربهم"
وأما حقيقة الفطرة: قال بن عطية :والذى يعتمد عليه فى تفسير هذه اللفظة أنها الخلقة والهيئة التى فى نفس الإنسان التى هى معدة ومهيئة لأن يميز بها مصنوعات الله ويستدل بها على ربه ويعرف شرائعه ويؤمن به
قال بن عاشور:والفطرة هى النظام الذى أوجده الله فى كل مخلوق،والفطرة التى تخص نوع الإنسان هى ما خلقه الله عليه جسدا وعقلا فمشى الإنسان برجليه فطرة جسدية ومحاولته ان يتناول الأشياء برجليه خلاف الفطرة الجسدية ،واستنتاج المسببات من أسبابها والنتائج من مقدماتها فطرة عقلية ومحاولة استنتاج أمر من غير سببه خلاف الفطرة العقلية
قال القرطبى :اختلف العلماء فى معنى الفطرة المذكورة فى الكتاب والسنة على أقوال منها:الإسلام وهو قول معروف عند عامة السلف من أهل التأويل واحتجوا بهذه الآية وبحديث أبى هريرة رضى الله عنه"كل مولود يولد على الفطرة"وعضدوا ذلك بحديث عياض بن حمار المجاشعى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للناس يوما:"ألا احدثكم بما حدثنى الله فى كتابه ،إن الله خلق آدم وبنيه حنفاء مسلمين،وأعطاهم المال حلالا لا حرام فيه فجعلوا مما أعطاهم الله حلالا وحراما....الحديث
وإن الله تعالى خلق قلوب بنى آدم مؤهلة لقبول الحق كما خلق أعينهم وأسماعهم قابلة للمرئيات والمسموعات ، فمادامت باقية على ذلك القبول وتلك الأهلية أدركت الحق ودين الإسلام وهو دين الحق
وقد دل على صحة هذا المعنى قوله صلى الله عليه وسلم فى الحديث"يولد الولد على الفطرة ثم يكون أبواه هما اللذان يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء "يعنى أن البهيمة تلد ولدها كامل الخلقة سليما من الآفات فلو ترك على أصل الخلقة لبقى كاملا بريئا من العيوب لكن يتصرف فيه بجدع أذنه ويوسم وجهه فتطرأعليه الىفات والنقائص فيخرج عن الأصل وكذلك الإنسان فجعل النبى صلى الله عليه وسلم اليهودية والنصرانية مخالفة الفطرة ،أى فى تفاريعهما ؛قال بن عاشور وكون الإسلام هو الفطرة وملازمة أحكامه لمقتضيات الفطرة صفة اختص بها الإسلام من بين سائر الأديان فى تفاريعه أما فى أصوله فاشتركت فيها الأديان الإلهية.
وقال آخرون:الفطرة هى البداءة التى ابتدأهم الله عليها أى ما فطر الله عليه خلقه من انه ابتدأهم للحياة والموت والسعادة والشقاوة وإلى ما يصيرون عند البلوغ
قال البغوى:معنى حديث "كل مولود يولد على الفطرة أى على خلقته التى جبل عليها فى علم الله من السعادة والشقاوة فكل منهم صائر فى العاقبة إلى ما فطر عليه وعامل فى الدنيا بالعمل المشاكل لها
وقوله تعالى "لا تبديل لخلق الله" قيل هذا خبر بمعنى الطلب أى الزموا دين الله ولا تبدلوا التوحيد بالشرك
وقيل :هو خبر على بابه ومعناه أن الله تعالى ساوى بين خلقه كلهم فى الفطرة على الجبلة المستقيمة لا يولد أحد إلا على ذلك ولا تفاوت بين الناس فى ذلك
ولهذا فسر كثير من السلف قوله تعالى "لا تبديل لخلق الله"كابن عباس ومجاهد وبن جبير وعكرمة وقتادة وبن زيد وغيرهم أى لا تبديل لدين الله
وقال البخارى قوله "لا تبديل لخلق الله"لدين الله ،وخلق الأولين والدين والفطرة :الإسلام
وقيل :"لاتبديل لخلق الله "أى ما جبل عليه الإنسان من السعادة والشقاء لا يتبدل فلا يصير السعيد شقيا ولا الشقى سعيدا
وقيل "لا تبديل لخلق الله" لا تغيير لخلق الله من البهائم (الإخصاء) وهذا القول روى عن بن عباس أنه لما سأله رجل عن الإخصاء تلا هذه الآية
وقوله تعالى "ذلك الدين القيم"
اسم الإشارة "ذلك" يعود على إقامة الوجه للدين حنيفا والمعنى أن إقامتك وجهك للدين حنيفا غير مبدل ولا مغير هو الدين القيم أى المستقيم الذى لا عوج فيه عن الإستقامة من الحنيفية إلى اليهودية والنصرانية وغير ذلك من الضلالات والبدع المحدثة
وأما الحكمة من وصف الدين بالقيم:
فإن القيام حقيقته الإنتصاب ضد القعود والإضطجاع ويطلق مجازا على انتفاء الإعوجاج فإطلاق القيم على الدين تشبيه انتفاء الخطأ عنه بإستقامة العود
ويطلق القيم أيضا على الرعاية والمراقبة والكفالة بالشىء لأنها تستلزم القيام والتعهد قال تعالى "أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت" ويطلق القيم على المهيمن والحافظ فهذا الدين به قوام أمر الأمة
قال عمر بن الخطاب لمعاذ بن جبل رضى الله عنهما يا معاذ:ما قوام هذه الأمة؟قال: الإخلاص وهو الفطرة التى فطر الله الناس عليها والصلاة وهى الدين والطاعة وهى العصمة فقال عمر:صدقت
يريد معاذ بالإخلاص :التوحيد كقوله تعالى "مخلصين له الدين حنفاء"
وقوله "ولكن أكثر الناس لا يعلمون" استدراك فكأن متوهم يقول :إذا كان هذا هو دين الفطرة وهو القيم ،فكيف أعرض كثير من الناس عنه بعد تبليغه فاستدرك ذلك بأنهم جهال لا علم عندهم فإن كان قد بلغهم فقد جهلوا معانيه لإعراضهم عن التأمل فالفعل لازم غير متطلب مفعولا
قال القرطبى :أى لا يتفكرون فيعلمون ان لهم خالقا معبودا وإلها قديما قد سبق قضاؤه ونفذ حكمه
والمراد بأكثر الناس :المشركون إذاعرضوا عن دعوة الإسلام وأهل الكتاب إذ ابوا اتباع الرسول ومفارقة أديانهم بعد إبطالها
فوائد من الآيات الكريمة:
1-الاسلام دين الفطرة والتوحيد فهو دين يلائم أصل الفطرة السوية التى فطر الله الناس عليها
2- أمر الله باتباع دين الفطرة النقية لأنه دين التوحيد والدين المستقيم الذى لا عوج فيه ولا انحراف وهو دين الإسلام وحذر من تبديله وتغييره فلا يصح تبديل دين الله ،كما حذر تعالى من الميل لأى دين آخر غير ملة الإسلام بقوله"حنيفا" ومعناه معتدلا مائلا عن جميع الاديان المحرفة المنسوخة
3-أن أكثر الناس لا يتفكرون فيعلمون أن لهم خالقا ومعبودا واحدا وأن الإسلام هو الدين المستقيم
المصادر:
-تفسير الطبرى ،بن كثير،البغوى،السعدى ،القرطبى ،بن عاشور ،وهبة الزحيلى