الشهوة والغضب:
الشهوة والغضب صفتان جبليّتان وقوّتان فطريتان في بني آدم، وهما أصل قوّة الطلب والدفع في القلب الذي هو محلّ الإرادة.
فالشهوة جامعة لكلّ ما تميل إليه النفس من متع الحياة، والغضب باعثه إرادة دفع المضرة كما يتصوّرها صاحبها.
ولذلك فإنّ الشهوة والغضب هما الأصلان الجامعان لأمراض القلوب، وبهما ينصب الشيطان شراكه لبني آدم، فمن هذّبهما، وفطن لحبائل الشيطان فيهما، وصرفهما فيما أذن الله به، فقد وقي شرّهما، ومن وقي شرّهما فقد وقي من آفات كثيرة، وبلايا عظيمة.
- قال ابن القيم رحمه الله: (الله سبحانه قد اقتضت حكمته: أن ركب الإنسان - بل وسائر الحيوان - على طبيعة محمولة على قوتين: غضبية وشهوانية، وهي الإرادية.
وهاتان القوتان هما الحاملتان لأخلاق النفس وصفاتها، وهما مركوزتان في جِبلّةِ كل حيوان:
فبقوة الشهوة والإرادة: يجذب المنافع إلى نفسه.
وبقوة الغضب: يدفع المضار عنها
فإذا استعمل الشهوة في طلب ما يحتاج إليه: تولد منها الحرص.
وإذا استعمل الغضب في دفع المضرة عن نفسه: تولد منه القوة والغيرة.
فإذا عجز عن ذلك الضار: أورثه قوة الحقد.
وإن أعجزه وصول ما يحتاج إليه، ورأى غيره مستبدا به: أورثه الحسد.
فإن ظفر به: أورثته شدة شهوته وإرادته: خلق البخل والشح.
وإن اشتد حرصه وشهوته على الشيء، ولم يمكنه تحصيله إلا بالقوة الغضبية، فاستعملها فيه: أورثه ذلك العدوان، والبغي والظلم، ومنه يتولد: الكبر والفخر والخيلاء؛ فإنها أخلاق متولدة من بين قوتي الشهوة والغضب، وتزوج أحدهما بصاحبه)ا.هـ.
فأمّا الشهوة فهي مصدر شَهِيتُ الشيءَ واشتهيته شهوة واشتهاءً، ثمّ أطلق على كل ما يُشتهى اسم "الشهوة" من باب تسمية المفعول باسم المصدر، فلذلك تطلق الشهوة على فعل المشتهي بقلبه، وعلى ما يشتهيه فهو شهوة له، والجمع شَهَوات.
والشهوات على أنواع منها: شهوة الطعام، وشهوة الشراب، وشهوة النكاح، وشهوة المال، وشهوة الملبس، وشهوة المركب، وشهوة الكلام، وشهوة النظر، وشهوة السمع، وشهوة الرئاسة، وشهوة المجالسة، وشهوة الفضول، وغيرها.
قال الله تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآَبِ (14)}
وهذه أصول ما يشتهيه بنو آدم من متع الحياة بما جُبلوا عليه، ثم من الناس من تفسد فطرته وتنتكس فيشتهي ما ينكره أصحاب الفطر السليمة.
وبُني الفعل "زُيّن" لما لم يُسّم فاعله لاختلاف أحوال الناس فيما يُزيّن لهم ، فأصحاب الفطر السليمة والتقوى إنما زُيّن لهم منها ما أباحه الله، واستعملوه فيما أذن الله به، والله تعالى هو الذي زيّن لهم منّة منه عليهم، ولولا ذلك ما طابت حياتهم، ولا وجدوا متعة فيما يتناولون من الشهوات المباحة.
ومن الناس من يُزيّن له الشيطان أو تزيّن له نفسه الأمّارة بالسوء ما حُرّم عليه أو يُبالغ له في تزيين ما هو مباح في الأصل.
فما كان من التزيين متمحضاً للخير والصلاح فهو من تزيين الله تعالى، وما كان من تزيين محرّم أو مغالاة في مباح الأصل فهو من تزيين النفس والشيطان، والله تعالى لا يُنسب إليه الشر.
ولذلك إذا ذكر الخير المحض صرّح بنسبته إلى الله تعالى لأنّه هو المانّ به كما في قول الله تعالى: { وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ}
وإذا ذكر الشرّ المحض صرّح بنسبته إلى من هو أهله إلا لفائدة أجلّ، كما في قول الله تعالى: { وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ}
وقوله: {وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38)}
وقوله: {وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ (24)}
وإن كان لا يقع شيء في ملكوت الله تعالى إلا بإذنه وتقديره، ولذلك لما أريد بالتزيين الأمر الكوني القدري في قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (4)} ، وقوله: { كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ} صُرّح فيه بإسناد التزيين إلى الله تعالى خلقاً وتقديراً.
وفي هذه المسألة بسط ليس هذا موضعه.
ومن الشهوات ما هو خفيّ غير ظاهر، وقد تختل إلى القلب في ثوب القصد الصالح وحقيقتها شهوة دنيوية خفية.
- قال شداد بن أوس رضي الله عنه: (إن أكثر ما أن أخاف على هذه الأمة الرياء والشهوة الخفية، إنكم والله لتؤتون من قبل الرؤوس الذين إذا أمروا بخير أطيعوا، وإذا أمروا بشرّ أطيعوا). رواه أبو داوود في الزهد من طريق الزهري عن محمود بن الربيع عن شداد، وإسناده صحيح.
- قال أبو داود: (الشهوة الخفية: حب الرياسة).
قلت: هذا من باب التمثيل، كأن يُنكر المنكر لأجل أن يُسمع كلامه ويطاع أمره فيترأس على من حوله بذلك، والشهوات الخفيات كثير ويجمعها أن يعمل عملاً صالحاً ثم تداخله شهوة محرمة في نيته فتنقص أجره أو تحبطه.
والشهوات على صنفين:
الصنف الأول: شهوات مباحة في أصلها ما لم يتعدّ المشتهي فيها حدود الله عزّ وجل.
والصنف الثاني: شهوات محرّمة، وهي أن يشتهي محرّما لا يحلّ له أن يشتهيه.
فالشهوة إذا جاوزت القدر المباح فهي مرض؛ كما قال الله تعالى: {فيطمع الذي في قلبه مرض}.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (هو مرض الشهوة؛ فإن القلب الصحيح لو تعرضت له المرأة لم يلتفت إليها بخلاف القلب المريض بالشهوة؛ فإنه لضعفه يميل إلى ما يعرض له من ذلك بحسب قوة المرض وضعفه؛ فإذا خضعن بالقول طمع الذي في قلبه مرض).
والشهوة باعثها خَطْرة تهيج رغبة كامنة في القلب، ثم تتولّد منها الفكرة ثم تنتج الإرادة ثم تقوى تلك الإرادة فتكون عزيمة ثم يتمّ الفعل.
وتناول المرء ما يشتهيه من المباحات لا يضرّه ما دام قلبه سليماً من التعلّق بها، ذاكراً ربّه، مؤدّياً شكر نعمه، لكن إذا انصرف الفكر إلى شهوة محرّمة أو أسرفَ في شهوة مباحة سرت إلى قلبه غفلة بحسب مبلغ تلك الشهوة وتمكنها من قلبه؛ فإن تمادى ولم يكفّها بسلطان التذكّر والتبصّر أمدّه الشيطان بالوساوس والخطرات والتزيين حتى يقع في الغيّ، كما قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (201) وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ (202)}
وإذا تعلّق القلب بالشهوة وأدمن تذكّرها وانقطع فكره إليها حتى تكون هي غذاء قلبه فيسكر بها سُكْرَاً أشدّ من سُكْرِ شارب الخمر، فإنّ شارب الخمر يسكر ساعات ثمّ يفيق، وأما المولع بالشهوة فإنه لا يفيق من سكرته ما دام سلطانها عليه كما قال الله تعالى في قوم لوط: {لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون}
وهذه السكرة تحجب البصيرة، فيغفل القلب ويقسو، وتولع صاحبها بما اشتهاه وتعلّق قلبه به، حتى يذهل عن نفسه وما يصيبها من ألم ومشقة في سبيل تلك الشهوة لم يكن ليحتملها لولا قوّة سلطان الشهوة على قلبه.
وإذا فقد تلك الشهوة وجد لفقدها ألماً لا يحتمله قلبه؛ فتتأثّر به الروح، وتضطرب، وربّما بكى من شدّة ما يجد، وذهل عمّا حوله، بل ربّما أصابه خلل في عقله إذا اشتدّ به البلاء ولم يوفّق لما يشفيه أو يخففه أو يسليه عنه، كما هو حال كثير من العشّاق.
وبعض من يُصاب بهذا الداء ثمّ يسلو مدّة قد يهيّجه إليه أدنى شيء يذكّره به، كما قال جران العود:
ذكرت الصبا فانهلّت العين تذرف ... ..وراجعك الشوق الذي كنت تعرف
وكان فؤادي قد صحا ثم هاجني ..... حمائم ورقٌ بالمدينة هُتف
فهيّجه على العشق صوت هديل الحمام لما فيه من الحزن.
ومن العُشّاق من يشتدّ به العشق حتى يُجنّ به، وأخبار العشّاق في ذلك كثيرة، والعشق مرض يأتي الحديث عنه إن شاء الله.
والذين يتبعون الشهوات على صنفين:
الصنف الأول: من يفضي بهم اتّباعهم للشهوات إلى الكفر بترك الصلوات أو ارتكاب نواقض أخرى؛ فهؤلاء لا نجاة لهم إلا بالتوبة الإيمان والعمل الصالح كما قال الله تعالى: { فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا (60)}
ومعنى إضاعة الصلوات في هذه الآية قد اختلف فيه المفسرون على قولين، أرجحهما ما رجّحه ابن جرير أنه بمعنى تركها.
وأما من أخّر الصلاة عن وقتها من غير أن يتركها فهو مفرّط ظالم لنفسه بتأخيرها، وقد شابه هؤلاء الذين ذمّهم الله فيُخشى عليه أن يعاقب ببعض عقابهم.
والصنف الثاني: من يفضي بهم اتّباعه للشهوات إلى أنواع من الفسوق والعصيان لا تبلغ بهم الكفر، ولهم مع ذلك أعمال صالحة؛ فهؤلاء من الذين خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً.
وشفاء المخلّطين في سبعة أمور أرشد الله تعالى إليها بقوله: { وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (102) خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104) وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)}
فأولها: الاعتراف بالذنب.
والثاني: حسن الظنّ بالله ورجاء مغفرته ورحمته، دلّ عليه قول الله تعالى: {عسى الله أن يتوب عليهم إن الله غفور رحيم}
والثالث: تطهير القلب وتزكيته بالصدقة.
والرابع: الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ، ولها أثر عجيب في تسكين القلب، فإنّ من قارف ذنوب الشهوات وفي قلبه حياة اضطرب قلبه ووجد للمعصية ألماً وانزعاجاً شديداً يحتاج معه إلى تسكين، ومن صلى على النبي صلى الله عليه وسلم صلاة واحدة صلّى الله عليه بها عشراً.
والخامس: التوبة الصادقة ورجاء القبول من الله، والتصديق برحمته وتوبته على عباده وقبوله للصدقات.
والسادس: العمل الصالح، وصحبة المؤمنين.
والسابع: مراقبة عالم الغيب والشهادة، ومحاسبة النفس قبل القدوم على الله في يوم ينبّئ العباد فيه بما كانوا يعملون.
فمن استكمل هذه الأشفية السبعة شُفي من آثار تخليط الأعمال الصالحة بالأعمال السيئة، وصار لقلبه من القوّة والعزيمة على الاستقامة ما يرجى له به صلاح قلبه وعمله.
وكلام العلماء في الشفاء من الشهوة المحرمة ودفع شِرَّتها عن القلب يتلخّص في أمور:
أولها: التوكل على الله والاستعانة به؛ فإنّه لا شفاء إلا به جلّ وعلا.
والثاني: تقوى الله بتهذيب الشهوة وصرفها فيما أباحه الله من غير إسراف ولا تعلّق قلب، فليس المطلوب استئصال الشهوة كما غلط في ذلك من غلط، وإنما المطلوب تهذيبها.
وإذا ابتلي المؤمن بأمر يهيّج عليه شهوته فليأت مما أباحه الله ما يقطع عنه نهمة النفس واشتغال القلب بهذه الشهوة، وفي صحيح مسلم من حديث أبي الزبير، عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى امرأة فأتى امرأته زينب وهي تمعس منيئة لها؛ فقضى حاجته، ثم خرج إلى أصحابه، فقال: «إن المرأة تقبل في صورة شيطان، وتدبر في صورة شيطان، فإذا أبصر أحدكم امرأة فليأت أهله، فإن ذلك يرد ما في نفسه».
والمنيئة: الجلد أول ما يوضع في الدباغ، والمعس: الدلك، أي أنها كانت تعمل في شأن بيتها.
ويُعمل في سائر أنواع الشهوات بمثل هذه السنّة.
والثالث: مراقبة الله مدافعة الخطرات المهيجة للشهوات المحرمة؛ فإنّ مدافعتها أيسر من مدافعة ما بعدها، وصيانة القلب بحفظ الجوارح؛ ومن ذلك غضّ البصر.
- قال إسحاق بن سويد: سمعت العلاء بن زياد يقول: «لا تتبع بصرك حسن رداء المرأة؛ فإن النظر يجعل الشهوة في القلب» رواه ابن أبي شيبة في المصنف وابن أبي الدنيا في كتاب الورع ووقع عنده "ردف" بدل "رداء"
والرابع: تغيير ما في النفس، ومن ذلك قطع العلائق الداعية للشهوات المحرمة، واستجلاب علائق صالحة تعين على الأعمال الصالحة؛ فمن كان في بلد اعتادت نفسه فيه على أعمال الفساد ودربت عليها خطواته وصارت له به علائق تشدّه إلى الشهوات المحرمة، وخشي من ضعف نفسه فعليه أن ينتقل منه إلى بلد أصلح لقلبه، وكذلك يُقال في أنواع العلائق الأخرى.
والخامس: تغذية القلب بغذائه الذي يقوّيه، من ذكر الله والعمل الصالح وأفضله الصلاة على وقتها وإقامتها كما أمر الله بطهارة قلب وإقبال على الله؛ فإنها من أعظم ما يقوّي القلب ويعينه على دفع الأدواء، والشهوة المحرمة لا تتسلّط على القلب إلا على حين ضعف منه، وقد قال الله تعالى: {واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين}
والسادس: الصبر، وهو رأس الإيمان، ولما أباح الله تعالى نكاح الإماء لمن لم يجد طولا للحرائر وخشي على نفسه العنت قال: {وأن تصبروا خير لكم }
والسابع: التفكّر في العواقب، وهو خاصّية العقلاء.
- قال ابن القيم: (وأما الشهوة فدواؤها صحة العلم والمعرفة بأن إعطاءها شهواتها أعظم أسباب حرمانها إياها ومنعها منها وحميتها أعظم أسباب اتصالها إليها فكلما فتحت عليها باب الشهوات كنت ساعيا في حرمانها إياها وكلما أغلقت عنها ذلك الباب كنت ساعيا في إيصالها إليها على أكمل الوجوه).
فصل في العشق:
ومما يتصل بالحديث عن الشهوة المحرمة الحديث عن العشق، وهو داء وبلاء عظيم، وهو حبّ زائد مفرط ناتج عن طغيان المحبوب على القلب، واستيلاؤه على التفكير؛ فيؤثره بالحبّ والتذكّر والطاعة، حتى يرتكب لأجله بعض المحرّمات، أو يفرّط في بعض الواجبات.
وقد اختلف في العشق؛ فقيل: هو فساد في الإرادة وهو المشهور، وقيل: فساد في التصوّر.
والتحقيق أن منشأه فساد في الإرادة ثمّ يؤول إلى فساد التصوّر، فأوّله حبّ فاسد؛ ثم يستحكم حتى يكون حبّا مضراً يؤثّر في بدن العاشق وعقله ويفسد قلبه؛ فيولع به صاحبه مع معرفته بضرره، ولذلك يعدّه بعضهم من الأمراض النفسية؛ لأن صاحبه كالمريض الذي يشتهي ما يضرّه فإن تناوله أضرّه، وإن منع منه تألّم لحرمانه منه.
ويزداد العشق باتّصال العاشق بمعشوقه مشاهدةً أو ملامسةً أو سماعاً، ويضرّه التفكير فيه، والتخيّل له.
وعدّ العشقُ من أمراض القلوب لأنّه يفسدها فساداً عظيماً، ولو كان المعشوق مما تباح محبّته في الأصل كالزوجة، وإذا كان في محبّة الممنوع كان ضرره وإفساده أعظم.
والشفاء من العشق يكون بأمور ترجع إلى ما تقدّم ذكره من علاج الشهوة، لكن البلاء فيه أشدّ، وقد لا يملك العاشق نفسه إلا أن يمنّ الله تعالى عليه فيعينه على ما يشفيه به.
ومن أجود ما قيل في علاج العشق وأجمعه قول أمّ الضحّاك المحاربية، وكانت قد تزوجت رجلا أحبّته حبّا عظيماً ثمّ طلّقها وارتحل، فهامت به عشقا، وأنشدت فيه القصائد، حتى أضرّ بها حبّه، وسألت عن الشفاء فنظمت ما أُجيبت به في أبيات حسنة ذكرها أبو علي القالي في أماليه، قالت فيها:
سألتُ المحبين الذين تحمَّــــلــــــــــــــــــــــــــوا ..... تباريح هذا الحبّ من سالف الدهر
فقلت لهم ما يذهب الحــــب بعـــدما ..... تبوأ ما بين الجوانـــــــــــــــح والصـــــــــــــدر
فقالوا شفـــــــــــــاء الحب حبٌّ يزيلــــه ..... لآخر أو نأيٌّ طويـــــــــــــلٌ عَلَى هجـــــــــر
أو اليأس حتى تذهل النفس بعدما ..... رجَتْ طمعاً واليأس عونٌ عَلَى الصبر
فذكرت أدوية ثلاثة:
أولها: مزاحمة الحبّ بحبّ آخر يزيله، والحبّ الفاسد يُزال بالحبّ الصالح؛ فإنّ القلبَ لا يترك محبوباً إلا لمحبوب أعظم منه أو خوف ضرر تجرّه عليه تلك المحبّة؛ فتكون السلامة أحبّ إليه؛ فإذا تفكّر في ضرر العشق وتفويته محبّة ما هو خير له وأنفع أعانه ذلك على التعافي من العشق، ومن سعادة المرء أن يكفيه الله بحلاله عن حرامه.
والدواء الثاني: الهجر والنأي الطويل، وهو من قطع العلائق التي تقدّم ذكرها؛ ولا بدّ مع البعد عمّا يهيّج الحبّ من احتمال ما يكون من الألم في أوّل الأمر إلى أن ينتزع هذا الحبّ من قلبه، وهو كمثل الشوكة الكبيرة المؤلمة التي داخلت الجسد فلا بدّ من الصبر على ألم نزعها.
والدواء الثالث: اليأس والسلوّ بذهول النفس عن المحبوب، فاليأس يزيل الطمع؛ فيضعف الحبّ لانقطاع إمداده الذي يغذّيه ويقوّيه، واليأس عون على الصبر كما ذكَرَتْ، وهذا لا يتأتّى إلا بقطع العلائق.
وإذا سلا العاشقُ خفّ ما به كما قال كثيّر عزة:
فيا عجباً للقــــلب كيف اعترافه ..... وللنفس لما وطّنت كيــــــف ذلّت
وللعين أســــــراب إذا ما ذكرتهــــا ….. وللقلب وسواس إذا العين ملّت
وإني وتهيــــــــــــــامــــي بعزة بعـــدمـــــــــا ... .تخــــــــــــــــــــليت مما بيننـــــــــا وتخــــــــلت
لكالمرتجى ظــــــــــل الغمامة كلــــــما ..... تبوأ منها للمقيـــــــــــــل اضمحلـت
كأني وإياها سحـــــــــــــــابةُ ممحــــــــــل ..... رجاها فلما جـــــــــــــاوزته استهلت
فإن ســـــــأل الواشون فيم هجرتها ..... فقل نفس حــــــــرّ سليت فتسلت
ولا يتمّ شفاء العاشق إلا بزوال الحبّ المذموم من قلبه، كما لا يتم شفاء المريض إلا بزوال مرضه.
ومِن أعظم ما يصون القلب عن العشق الصدق في محبة الله تعالى ومداومة ذكره؛ فإنّ القلب إذا كان محبّا لله تعالى وحده لم يُبتل بحبّ غيره أصلاً، فضلاً عن أن يبتلى بالعشق.
ومَن ابتلي بالعشق فلنقصٍ محبّته لله وحده، وتوحيده إيّاه، ولذلك سلم يوسف عليه السلام من العشق، وشقيت به امرأة العزيز مدّة من عمرها.
والقلب الصالح فيه صارفان يصرفانه عن العشق: صدق محبّته لله، وخوفه منه؛ فما دام هذان الصارفان يعملان في قلبه فهو في عافية من العشق بإذن الله، ومن ضعف في بعض أحواله فعشق ثم عفّ وصبر أثيب على صبره وتقواه لله.
وأمّا الغضب فهو صفة جبليّة في النفس البشرية، يبعثها رغبة دفع المضرّة والأذى عن النفس كما يتصوّرهما صاحبها؛ فإذا رأى ما يكره أن يؤذيه غضب ليدفع ذلك الأذى، والأصل في الغضب أنه صفة كمال إذا كان بالعدل وفي مواضعه الصحيحة، لأنّها من قوام النفس البشرية، وإنما ينشأ الخلل في الغضب في حالين:
أحدهما: أن يغضب في غير موضع صحيح للغضب.
والآخر: أن يجاوز في غضبه الحدّ المشروع له فيحمله ذلك على الظلم والعدوان وأذى النفس والعماية عن مقتضى البصيرة.
ولذلك فإنّ تهذيب الغضب لا يكون بطلب استئصاله من القلب، وإنما يكون بأمرين:
أحدهما: صرف هذه القوّة إلى الغضب في المواضع المشروعة وهي إما واجبة وإما مندوبة وإما مأذون بها.
والآخر: إلزام النفس بالعدل في الغضب؛ فلا يتعدّى حدود الله ولا يظلم، وإن كان غضبه لله في الأصل، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يسأل ربّه "العدل في الغضب والرضا" وفي رواية "كلمة الحق" وفي رواية أخرى "كلمة الحكم" ، وهي روايات تأتلف ولا تختلف، وقد رواها الإمام أحمد وابن أبي شيبة والنسائي وأبو يعلي والطبراني وابن حبان وغيرهم من طرق عن عمّار بن ياسر رضي الله عنه.
وفي الصحيحين من حديث الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ليس الشديد بالصُّرَعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب».
فمن ألزم نفسه العدل والتقوى في غضبه لم يكن عليه بأس منه
والاعتدال في الغضب كمال بين نقيصتين، وهدى بين ضلالتين:
أحدهما: الاعتداء في الغضب ومجاوزة الحدّ المشروع بقول أو فعل.
والآخر: ذهاب الغيرة لمحارم الله.
فمن كان لا يتمعّر وجهه في الله، ولا يغضب لله إذا رأى محارمه تُنتهك فهو ضعيف الإيمان أو عازبه.
- قال ابن القيّم رحمه الله: (وأي دين وأي خير فيمن يرى محارم الله تنتهك، وحدوده تضاع، ودينه يترك، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم يرغب عنها، وهو بارد القلب ساكت اللسان شيطان أخرس؟!! كما أن المتكلم بالباطل شيطان ناطق، وهل بلية الدين إلا من هؤلاء الذين إذا سلمت لهم مآكلهم ورياساتهم فلا مبالاة بما جرى على الدين؟ وخيارهم المتحزّن المتلمّظ، ولو نوزع في بعض ما فيه غضاضة عليه في جاهه أو ماله بذلَ وتبذل وجدَّ واجتهد، واستعمل مراتب الإنكار الثلاثة بحسب وسعه، وهؤلاء - مع سقوطهم من عين الله ومقت الله لهم - قد بُلوا في الدنيا بأعظم بلية تكون وهم لا يشعرون، وهو موت القلوب؛ فإنه القلب كلما كانت حياته أتم كان غضبه لله ورسوله أقوى، وانتصاره للدين أكمل، وقد ذكر الإمام أحمد وغيره أثرا «أن الله سبحانه أوحى إلى ملك من الملائكة أن اخسف بقرية كذا وكذا، فقال: يا رب كيف وفيهم فلان العابد؟ فقال: به فابدأ؛ فإنه لم يتمعر وجهه في يوما قط» )ا.هـ.
وكثير من العلماء الذين رفعهم الله وجعلهم أئمة يُقتدى بهم كان من أسباب رفعتهم وتوفيقهم قيامهم بأمر الله، والقيام بأمر الله يقتضي حياة القلب وغضبه لله غضباً يدفعه إلى العمل والاجتهاد في نصرة دين الله وردّ عدوان المعتدين على دينه وأوليائه ما استطاع إلى ذلك سبيلاً.
والمقصود أنّ الغضب إذا كان لله وقام صاحبه بالحقّ من غير تعدٍّ كان غضبه محموداً ، وقد صحّ أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قد غضب في مواضع، وكلّها لله تعالى، وكان هديه فيها أحسن الهدي.
- قالت عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمرهم، أمرهم من الأعمال بما يطيقون، قالوا: إنا لسنا كهيئتك يا رسول الله، إن الله قد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فيغضب حتى يعرف الغضب في وجهه، ثم يقول: «إن أتقاكم وأعلمكم بالله أنا» رواه البخاري من حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة.
- وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: «أهدى إلي النبي صلى الله عليه وسلم حلة سيراء، فلبستها، فرأيت الغضب في وجهه فشققتها بين نسائي» رواه البخاري ومسلم من حديث شعبة بن الحجاج عن عبد الملك بن ميسرة عن زيد بن وهب، عن علي.
- وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: قسم النبي صلى الله عليه وسلم قسما، فقال رجل: إن هذه لقسمة ما أريد بها وجه الله، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فتمعّر وجهه، وفي رواية فغضب حتى رأيت الغضب في وجهه، ثم قال: (( يرحم الله موسى، قد أوذي بأكثر من هذا فصبر )). رواه البخاري من حديث أبي وائل شقيق بن سلمة عن ابن مسعود.
- وقال أبو مسعود الأنصاري رضي الله عنه: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني لأتأخر عن صلاة الصبح من أجل فلان، مما يطيل بنا؛ فما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم غضب في موعظة قط أشد مما غضب يومئذ فقال: «يا أيها الناس إنَّ منكم منفّرين، فأيكم أمَّ الناسَ، فليوجز فإن من ورائه الكبيرَ والضعيفَ وذا الحاجة» رواه أحمد والبخاري ومسلم من حديث إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم عن أبي مسعود.
وهذه الأحاديث إنما ذكرتها للتمثيل ، وبيان هدي النبي صلى الله عليه وسلم، وأنّه كان يغضب لله، لكن لم يكن يحمله غضبه على تعدٍّ ولا ظلم، حاشاه صلى الله عليه وسلم.
وهذا كلّه في شأن الغضب لله.
وأما الغضب للنفس فهو المقصود هنا وهو على درجتين:
الدرجة الأولى: غضب لا يًلام عليه العبد إذا كان له سبب صحيح ولم يحمله على ظلم واعتداء، فإنْ كظم غيظه وعفا فهو من أهل الإحسان، كما قال الله تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134)}
وقال تعالى: { فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36) وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37)}
فهؤلاء قد وُقوا شرّ فتنتي الشهوة والغضب.
والدرجة الثانية: الغضب المذموم، وهو الذي وردت النصوص في النهي عنه، والتحذير منه، وهو المرض الذي إذا سرى في القلب وتمكن منه جرّ على صاحبه مصائب عظيمة في دينه ودنياه، وحرمه خيراً كثيراً.
وكم من إنسان هوَت به بعض غضباته إلى مهاوي الردى؛ فبقي سنوات من عمره في مكابدة بعض آثار تلك الغضبات، وذلك لأنّه لم يملك غضبه فاعتدى بقول أو فعل، وربما كان غضبه على أمرٍ لا يسوغ له الغضب فيه أصلاً.
ومن الناس من يكون في طبعه حدّة فيكون سريع الغضب، فإنْ ملك غضبه وكتم غيظه فهو من المتقين، ومنهم من تبدر منه بوادر اعتداء بقول أو فعل؛ فمنهم من يكون سريعة الفيئة والرجوع والتحلل ممن اعتدى عليه؛ فهذا أقرب إلى السلامة، ومنهم من يكون بطيء الفيئة فيُخشى عليه من مغبّة تعدّيه في غضبه.
وقد روي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال: (صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما صلاة العصر بنهارٍ، ثم قام خطيبا فلم يدع شيئا يكون إلى قيام الساعة إلا أخبرنا به، حفظه من حفظه، ونسيه من نسيه، وكان فيما قال: فذكر أحاديث، ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: (ألا إنَّ الغضب جمرة توقد في جوف ابن آدم، ألا ترون إلى حمرة عينيه وانتفاخ أوداجه، فإذا وجد أحدكم شيئا من ذلك فالأرض الأرض، ألا إن خير الرجال من كان بطيء الغضب سريع الرضا، وشر الرجال من كان سريع الغضب بطيء الرضا، فإذا كان الرجل بطيء الغضب بطيء الفيء وسريع الغضب سريع الفيء فإنها بها). رواه أبو داوود الطيالسي والحميدي ومعمر بن راشد، وأحمد بن حنبل، والترمذي وغيرهم من طرق عن علي بن زيد بن جدعان عن أبي نضرة العبدي عن أبي سعيد، وقد رواه عن عليّ بن زيد بن جدعان: حماد بن سلمة، وحماد بن زيد، وسفيان بن عيينة، ومعمر بن راشد، وعلي بن زيد ضعّفه بعض أهل العلم، لكنّه لم ينفرد به، تابعه عطاء بن ميسرة عند الطبراني في الأوسط وصرّح بالتحديث، وله شاهد من حديث عبد الرحمن بن شريك عن أبيه عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة عند البزار والطبراني في الأوسط وغيرهما؛ فالحديث حسن إن شاء الله.
وقد دلّ هذا الحديث على سبب الغضب وأنّه جمرة توقد في جوف ابن آدم، ولذلك فإنّ الغضبان يجد حرارة في نفسه، ومنهم من يحسّ كأنّ في جوفه جمرة، وهي من شأن الأرواح ، لكن لما للروح من اتّصال بالجسد فإنّ أثر هذه الجمرة يظهر على الجسد.
والغضب نزغة شيطان، وهو من حبائل الشيطان التي اصطاد بها كثيراً من بني آدم فأزلّهم حتى أوقعهم في سفك الدماء، وعقوق الوالدين، وقطيعة الأرحام، واللعن، والسباب، والهجر، والتدابر، وغيرها من المعاصي.
ومن وصايا النبي صلى الله عليه وسلم المحفوظة عنه الوصية بترك الغضب، وهو محمول على الغضب المذموم.
- قال أبو هريرة رضي الله عنه: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: مُرْني بأمر، قال: (( لا تغضب ))
قال: فمرَّ أو فذهب، ثم رجع، قال: (مرني بأمر)
قال: ((لا تغضب))
قال: فردد مرارا كل ذلك يرجع، فيقول: ((لا تغضب)). رواه أحمد والبخاري من حديث أبي بكر بن عياش عن أبي حصين عن أبي صالح عن أبي هريرة.
وقد ذكر بعض أهل العلم في مقاصد وصايا النبي صلى الله عليه وسلم وتنوّعها لمن استوصاه أنه كان يوصي كلّ رجل بما هو أصلح لحاله، وقد يكون في الأمّة من يكونون على هذه الأصناف.
وقد فسّر قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تغضب) بمعنيين صحيحين:
أحدهما: لا يقع منك غضب، وهو بمعنى الأمر بالتحلّم حتى يكون حليماً، ويعينه على ذلك اجتناب أسباب إثارة الغضب وكظم غيظه عند نزغ الشيطان له.
والثاني: لا تكن كصاحب الغضب المذموم الذي يتملّكه غضبه فيقوده إلى الظلم والعدوان، بل املك نفسك عند الغضب، ولا تعمل بمقتضى غضبك، فالغضب إذا تملّك كان كالسلطان الآمر الناهي وقد قال الله تعالى في شأن غضب موسى عليه السلام: {ولمّا سكت عن موسى الغضب}
وعلاج الغضب على مراتب:
المرتبة الأولى: وقاية النفس منه قبل وقوعه بالتحلّم واجتناب أسباب إثارة الغضب، والاستعاذة بالله من شر الغضب، وصحبة أولى الحلم، ونحو ذلك.
والمرتبة الثانية: مداواة الغضب إذا بدرت بادرته، وأحسّ الإنسان بنزغ الشيطان له، وذلك بأمور منها: الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم، وكظم الغيظ، وذكر الله، والوضوء، والصمت عما يهيّج الغضب ويزيده من السباب ونحوه، والنأي بالنفس عن حالة الانتقام؛ فإن كان قائماً جلس فإن ذهب عنه الغضب وإلا فليضطجع.
وقد روي في أكثر هذه الأدوية أحاديث.
والمرتبة الثالثة: مداواة الغضب بعد نفاذه وحصول المكروه من الاعتداء بالقول أو العمل، وذلك بإسراع الفيئة، والتوبة إلى الله، والتحلل من المعتدى عليه، وإتباع السيئة الحسنة.
ومن جاهد نفسه على ترك الغضب المذموم رُجي له أن يوفّق لتركه، والله المستعان.