دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > علوم الحديث الشريف > متون علوم الحديث الشريف > ألفية العراقي

موضوع مغلق
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 26 ذو الحجة 1429هـ/24-12-2008م, 05:56 PM
مسلمة 12 مسلمة 12 غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 1,159
افتراضي فتح المغيث شرح ألفية الحديث للسخاوي

متَى يَصِحُّ تَحَمُّلُ الحديثِ أوْ يُسْتَحَبُّ

وقَبِلُوا مِن مُسْلِمٍ تَحَمَّلا في كُفْرِهِ كذا صَبِيٌّ حُمِّلا
ثمَّ رَوَى بعدَ البُلوغِ ومَنَعْ قَوْمٌ هُنَا وَرُدَّ كالسِّبْطَيْنِ مَعْ
إحضارِ أهْلِ العِلْمِ للصِّبيانِ ثُمّ قَبُولِهِم ما حَدَّثُوا بعدَ الْحُلُمْ
وطَلَبُ الحديثِ في العِشْرِينِ عندَ الزُّبَيْرِيِّ أَحَبُّ حِينِ
وَهْوَ الَّذي عليهِ أهْلُ الكُوفَهْ والعَشْرُ في البَصْرَةِ كالمألُوفَهْ
وفي الثلاثينَ لأَهْلِ الشَّأْمِ ويَنْبَغِي تَقييدُهُ بالفَهْمِ
فكَتْبُهُ بالضبْطِ والسَّماعُ حيثُ يَصِحُّ وبهِ نِزَاعُ
فالْخَمْسُ للجُمهورِ ثمَّ الْحُجَّهْ قِصَّةُ محمودٍ وعَقْلِ الْمَجَّهْ
وَهْوَ ابنُ خَمْسَةٍ وقِيلَ أَرْبَعَهْ وليسَ فيهِ سُنَّةٌ مُتَّبَعَهْ
بلِ الصَّوَابُ فَهْمُهُ الْخِطَابَا مُمَيِّزاً وَرَدُّهُ الجَوَابَا
وقيلَ لابنِ حَنْبَلٍ فَرَجُلُ قالَ لِخَمْسَ عشرةَ التَّحَمُّلُ
يَجوزُ لا في دُونِها فَغَلَّطَهْ قالَ إذا عَلَّقَهُ وَضَبَطَهْ
وقيلَ مَنْ بَيْنَ الْحِمارِ والْبَقَرْ فَرَّقَ سامعٌ ومَنْ لا فَحَضَرْ
قالَ به الْحَمَّالُ وابنُ الْمُقْرِي سَمَّعَ لابنِ أرْبَعٍ ذِي ذُكْرِ
أيْ: هلْ يَصِحُّ حينَ الكُفْرِ والصِّبَا، وهلْ يُستحَبُّ لهُ وقتٌ مَخصوصٌ، ولهُ مُناسَبَةٌ ببابِ مَنْ تُقبَلُ رِوايتُهُ، ولكنْ كانَ تَأخيرُهُ تِلْوَ ثانِي أقسامِ التَّحَمُّلِ أنْسَبَ، كما ذُكِرَ في ثالثِها الإجازةُ للكافرِ والطفلِ ونَحْوِهِما.
(وقَبِلُوا)؛ أيْ: أهلُ هذا الشَّأْنِ، الروايَةَ (مِنْ مُسلِمٍ) مُسْتَكْمِلِ الشروطِ (تَحَمَّلا) الحديثَ (في) حالِ (كُفْرِهِ)، ثمَّ أَدَّاهُ بعدَ إسلامِهِ بالاتِّفاقِ، وإنْ قالَ ابنُ السُّبْكِيِّ في شرْحِ الْمِنهاجِ: إنَّهُ الصحيحُ؛ لعدَمِ اشتراطِهم كَمَالَ الأَهليَّةِ حينَ التحمُّلِ، مُحتَجِّينَ بأنَّ جُبيرَ بنَ مُطعِمٍ رَضِيَ اللَّهُ عنهُ قَدِمَ على النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليهِ وسَلَّمَ في فِداءِ أُسارَى بدْرٍ قَبلَ أنْ يُسلِمَ، فسَمِعَهُ حينئذٍ يَقرأُ في الْمَغرِبِ بالطُّورِ، قالَ جُبيرٌ: " وذلكَ أَوَّلُ ما وَقَرَ الإيمانُ في قَلْبِي ".
وفي لفْظٍ: " فأَخَذَنِي مِنْ قِرَاءتِهِ الكَرْبُ "، وفي آخَرَ: " فكَأَنَّمَا صُدِعَ قَلبِي حينَ سَمِعْتُ القرآنَ "، وكانَ ذلكَ سبباً لإسلامِهِ، ثمَّ أَدَّى هذهِ السُّنَّةَ بعدَ إسلامِهِ، وحُمِلَتْ عنهُ.
وكذلكَ رُؤيتُهُ للنبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليهِ وسَلَّمَ واقِفاً بعَرفةَ قبلَ الْهِجرةِ، ونَحْوُ تَحديثِ أبي سُفيانَ بقِصَّةِ هِرقلَ التي كانتْ قَبلَ إسلامِهِ. بلْ عندَنا لوْ تَحَمَّلَ الكافِرُ والصبيُّ شَهادةً، ثمَّ أَدَّيَاهَا بعدَ زَوالِ الْمَانِعِ قُبِلَ أَيْضاً، سَوَاءٌ سَبَقَ رَدُّهما في تلكَ الحالةِ أمْ لا. نَعَم، الكافرُ الْمُسِرُّ كُفْرَهُ لا تُقبَلُ منهُ إذا أَعَادَها في الأصَحِّ؛ كالفاسقِ غيرِ الْمُعْلِنِ.
قالَ الخطيبُ: وإذا كانَ هذا جائزاً في الشَّهادةِ فهوَ في الروايَةِ أَوْلَى؛ لأنَّ الروايَةَ أَوْسَعُ في الحُكْمِ مِن الشَّهادةِ، معَ أنَّهُ قدْ ثَبَتَتْ رِواياتٌ كثيرةٌ لغَيْرِ واحدٍ مِن الصحابةِ كَانُوا حَفِظُوها قبلَ إسلامِهم، وأَدَّوْهَا بعدَهُ. انتهى.
ومِنْ هنا أَثْبَتَ أهلُ الحديثِ في الطِّباقِ اسمَ مَنْ يَتَّفِقُ حُضورُهُ مَجالِسَ الحديثِ مِن الكُفَّارِ رَجاءَ أنْ يُسْلِمَ ويُؤَدِّيَ ما سَمِعَهُ، كما وَقَعَ في زمَنِ التَّقِيِّ ابنِ تَيْمِيَّةَ أنَّ الرئيسَ الْمُتَطَبِّبَ يوسفَ بنَ عبدِ السَّيِّدِ بنِ الْمُهَذِّبِ إسحاقَ بنِ يَحْيَى الإسرائيليِّ، عُرِفَ بابنِ الدَّيَّانِ، سَمِعَ في حالِ يَهُودِيَّتِهِ معَ أبيهِ مِن الشمسِ محمَّدِ بنِ عبدِ الْمُؤمِنِ الصُّورِيِّ أشياءَ مِن الحديثِ؛ كجُزءِ ابنِ عِتْرَةَ، وكَتَبَ بعضُ الطَّلَبَةِ اسْمَهُ في الطبَقَةِ في جُملةِ السامعينَ، فأُنْكِرَ عليهِ.
وسُئلَ ابنُ تَيْمِيَّةَ عنْ ذلكَ، فأجازَهُ، ولم يُخالِفْهُ أحَدٌ مِنْ أهلِ عَصْرِهِ، بلْ ممَّن أَثْبَتَ اسْمَهُ في الطبَقَةِ الحافظُ الْمِزِّيُّ، ويَسَّرَ اللَّهُ أنَّهُ أَسْلَمَ بعدُ، وسُمِّيَ مُحمَّداً، وأَدَّى فسَمِعُوا منهُ.
ومِمَّنْ سَمِعَ منهُ الحافِظُ الشمسُ الْحُسَيْنِيُّ وغيرُهُ مِنْ أصحابِ المُؤَلَّفِ، ولم يَتيَسَّرْ لهُ هوَ السَّمَاعُ منهُ، معَ أنَّهُ رَآهُ بدِمشقَ، وماتَ في رَجَبٍ سنةَ سبْعٍ وخمسينَ وسبعِمائةٍ. بلْ ومِن الغَريبِ قَوْلُ عليِّ بنِ أبي طالبٍ رَضِيَ اللَّهُ عنهُ: سَمِعْتُ أَبَا طالبٍ، يَعنِي أَبَاهُ، يقولُ: حَدَّثَني محمَّدُ ابنُ أَخِي، وكانَ واللَّهِ صَدُوقاً، فذكَرَ شيئاً.
وروَى مِنْ طريقِ أبي رافِعٍ عنْ أبي طالِبٍ نَحْوَهُ، وكِلاهما عندَ الْخَطيبِ في روايَةِ الأبناءِ عن الآباءِ.
ومِنْ طريقِ عمرِو بنِ سعيدٍ، أنَّ أبا طالِبٍ قالَ: كُنْتُ بذِي الْمَجَازِ معَ ابنِ أَخِي، فأَدْرَكَنِي العَطَشُ، فذكَرَ كَلاماً.
ومِنْ طريقِ عُروةَ بنِ عَمرٍو الفُقَيْمِيِّ عنْ أبي طالبٍ: سَمِعْتُ ابنَ أخِي الأمينَ يقولُ: ((اشْكُرْ تُرْزَقْ، وَلا تَكْفُرْ فَتُعَذَّبْ))، وَلَكِنْ كلُّ هذا لا يَصِحُّ.
و(كَذَا) يُقبَلُ عندَهم فاسقٌ تَحَمَّلَ في حالِ فِسْقِهِ ثمَّ زالَ وأَدَّى مِنْ بابِ أَوْلَى، وَ(صَبِيٌّ حُمِّلا) بالبِناءِ للمَفعولِ في حالِ صِغَرِهِ سَماعاً أوْ حُضوراً، (ثمَّ رَوَى بعدَ البُلوغِ)، وكذا قَبِلَهُ على وَجْهٍ وَصَفَهُ البُلْقِينِيُّ بالشُّذوذِ، قَدَّمْتُ حِكايتَهُ في أوَّلِ فُصولِ مَنْ تُقبَلُ رِوايتُهُ ومَنْ تُرَدُّ.
(وَ) لكنْ قَدْ (مَنَعْ قَومٌ) القَبولَ (هُنَا)؛ أيْ: في مَسألةِ الصَّبِيِّ خاصَّةً، فلم يَقْبَلُوا مَنْ تَحَمَّلَ قَبلَ البُلوغِ؛ لأنَّ الصبِيَّ مَظَنَّةُ عَدَمِ الضبْطِ، وهوَ وجهٌ للشافِعِيَّةِ، وعليهِ أبو منصورٍ محمَّدُ بنُ الْمُنْذِرِ بنِ محمَّدٍ الْمُرَاكِشِيُّ الفقيهُ الشافعيُّ.
فحَكَى ابنُ النَّجَّارِ في تَرجمتِهِ مِنْ تَأْرِيخِهِ أنَّهُ كانَ يَمتَنِعُ مِن الروايَةِ أشَدَّ الامتناعِ، ويقولُ: مَشايِخُنا سَمِعُوا وهُمْ صِغارٌ لا يَفهمونَ، وكذلكَ مَشايِخُهم، وأَنَا لا أَرَى الروايَةَ عمَّنْ هذهِ سَبيلُهُ.
وكذا كانَ ابنُ الْمُبارَكِ يَتوقَّفُ في تَحديثِ الصَّبِيِّ.
فرُوِّينَا مِنْ طريقِ الحسَنِ بنِ عَرَفَةَ قالَ: قَدِمَ ابنُ المُبارَكِ البَصْرةَ، فدَخَلْتُ عليهِ وسَأَلْتُهُ أنْ يُحَدِّثَنِي، فأَبَى وقالَ: أَنْتَ صَبِيٌّ. فأَتَيْتُ حَمَّادَ بنَ زَيْدٍ فقُلْتُ: يا أبا إسماعيلَ، دَخَلْتُ على ابنِ المُبارَكِ فأَبَى أنْ يُحَدِّثَنِي، فقالَ: يا جَارِيَةُ، هَاتِي خُفِّي وطَيْلُسَانِي، وخَرَجَ مَعِي يَتَوَكَّأُ على يَدِي حتَّى دَخَلْنَا على ابنِ المُبَارَكِ، فجلَسَ معهُ على السريرِ وتَحَدَّثَا ساعةً، ثمَّ قالَ لهُ حَمَّادٌ: يا أبا عبدِ الرحمنِ، ألا تُحَدِّثُ هذا الغُلامَ، فقالَ: يا أَبَا إسماعيلَ، هوَ صَبِيٌّ لا يَفْقَهُ ما يَحْمِلُهُ، فقالَ لهُ حَمَّادٌ: يا أبا عبدِ الرحمنِ، حَدِّثْهُ فلَعَلَّهُ واللَّهِ أنْ يكونَ آخِرَ مَنْ يُحَدِّثُ عنكَ في الدُّنْيَا. فحَدَّثَهُ، وكانَ كذلكَ.
ونَحْوُهُ ما رواهُ البَيْهَقِيُّ في الشُّعَبِ مِنْ طريقِ أحمدَ بنِ عبدِ الوَهَّابِ بنِ نَجْدَةَ الْحَوْطِيِّ قالَ: لَمَّا رَحَلَ بي أبِي إلى أبِي الْمُغيرةِ، يعني عبدَ القُدُّوسِ بنَ الْحَجَّاجِ الْخَوْلانيَّ الْحِمْصِيَّ، وكانَ قدْ سَمِعَ منهُ أبِي وأخِي مِنْ قَبْلِي، فلَمَّا رَآنِي أبو الْمُغيرةِ قالَ لأبِي: مَنْ هَذَا؟ قالَ: ابْنِي، قالَ: وما تُرِيدُ بهِ؟ قالَ: يَسْمَعُ منكَ، قالَ: ويَفْهَمُ؟ فقالَ لي أَبِي، وكُنَّا في الْمَسجِدِ: قُمْ فَصَلِّ رَكعتَيْنِ، وارْفَعْ صَوْتَكَ بالتكبيرِ والاستفتاحِ بالقراءةِ والتسبيحِ في الركوعِ والسجودِ والتَّشَهُّدِ. ففَعَلْتُ.
فقالَ لي أَبُو الْمُغيرةِ: أَحسَنْتَ، ثمَّ قالَ لي أبِي: حَدِّثْنَا، فقُلتُ: حَدَّثَنِي أبِي وأخِي عنْ أبي الْمُغِيرةِ عنْ أُمِّ عبدِ اللَّهِ ابْنَةِ خالدِ بنِ مَعْدَانَ عنْ أَبِيهَا قالَ: "مِنْ حَقِّ الْوَلَدِ عَلَى وَالِدِهِ أنْ يُحْسِنَ أَدَبَهُ وتَعليمَهُ، فإذَا بَلَغَ اثْنَتَيْ عَشْرةَ فلا حَقَّ لَهُ"، وقدْ وَجَبَ حقُّ الوالِدِ على وَلَدِهِ، فإنْ هوَ أَرضاهُ فلْيَتَّخِذْهُ شَريكاً، وإنْ لم يُرْضِهِ فلْيَتَّخِذْهُ عَدُوًّا، فقالَ لي أَبُو الْمُغيرةِ: اجْلِسْ بارَكَ اللَّهُ عليكَ، ثمَّ حَدَّثَني بهِ وقالَ: قدْ أَغْنَاكَ اللَّهُ عنْ أَبِيكَ وأَخِيكَ، قُلْ: حَدَّثَنِي أبو الْمُغيرةِ.
وأَعْلَى مِنْ هذا أنَّ زَائدةَ بنَ قُدامةَ كانَ لا يُحَدِّثُ أحَداً حتَّى يَشْهَدَ عندَهُ عُدُولٌ أنَّهُ مِنْ أهْلِ السُّنَّةِ.
وقالَ هِشامُ بنُ عَمَّارٍ: لَقِيتُ شِهابَ بنَ خِراشٍ وأنا شَابٌّ، فقالَ لي: إنْ لم تَكُنْ قَدَرِيًّا ولا مُرْجِئاً حَدَّثْتُكَ، وإلاَّ لم أُحَدِّثْكَ. فقُلْتُ: ما فِيَّ مِنْ هَذَيْنِ شيءٌ. وكانَ عبدُ اللَّهِ بنُ إِدريسَ الأَوْدِيُّ إذا لَحَنَ رجُلٌ عندَهُ في كلامِهِ لم يُحَدِّثْهُ.
(وَرُدَّ) على القائلينَ بعَدَمِ قَبولِ الصَّبِيِّ بإجماعِ الأئمَّةِ على قَبولِ حديثِ جماعةٍ مِنْ صِغارِ الصحابةِ ممَّا تَحَمَّلُوهُ في حالِ الصِّغَرِ، (كالسِّبْطَيْنِ)، وهما الحسَنُ والْحُسَيْنُ ابنَا ابنتِهِ صَلَّى اللَّهُ عليهِ وسَلَّمَ فاطمةَ الزَّهْرَاءِ، والعَبَادِلَةِ: ابنِ جَعفرِ بنِ أبي طالِبٍ، وابنِ الزُّبيرِ، وابنِ عَبَّاسٍ، والنُّعمانِ بنِ بَشيرٍ، والسَّائبِ بنِ يَزيدَ، والْمِسْوَرِ بنِ مَخرَمَةَ، وأَنَسٍ ومَسلمةِ بنِ مَخْلَدٍ، وعُمَرَ بنِ أبي سَلمةَ، ويُوسفَ بنِ عبدِ اللَّهِ بنِ سَلامٍ، وأبي الطُّفَيْلِ وعائشةَ ونَحْوِهم، رَضِيَ اللَّهُ عنْهُم، مِنْ غيرِ فَرْقٍ بينَ ما تَحَمَّلُوهُ قَبْلَ البُلوغِ وبعدَهُ.
(معَ إِحْضَارِ أهْلِ العلْمِ) خَلَفاً وسَلَفاً مِن الْمُحَدِّثينَ وغيرِهم (لِلصِّبْيَانِ) مَجالِسَ العلْمِ، (ثمَّ قَبُولِهِم)؛ أي: العُلماءِ أيضاً، مِن الصِّبيانِ (ما حَدَّثُوا) بهِ مِنْ ذلكَ (بعدَ الْحُلُمْ)؛ أي: البلوغِ. وقدْ رأَى أبو نُعَيْمٍ الفَضْلُ بنُ دُكَيْنٍ أبا جَعفرٍ محمَّدَ بنَ عبدِ اللَّهِ بنِ سُليمانَ الْحَضرميَّ وهوَ يَلعبُ معَ الصِّبيانِ وقدْ طَيَّنُوهُ، وكانَ بينَهُ وبينَ والدِهِ مَوَدَّةٌ، فنظَرَ إليهِ وقالَ: يا مُطَيَّنُ، قدْ آنَ لكَ أنْ تَحْضُرَ مجلِسَ السَّمَاعِ. وكانَ ذلكَ سبباً لِتَلْقِيبِهِ مُطَيَّناً.
وماتَ عبدُ الرزَّاقِ وللدَّبَرِيِّ سِتُّ سنينَ أوْ سَبْعٌ، ثمَّ روَى عنهُ عامَّةَ كُتُبَهُ ونَقَلَها الناسُ عنهُ، وكذا سَمِعَ القاضي أبو عمرَ الهاشميُّ السُّنَنَ لأبي داودَ مِن اللُّؤْلُؤِيِّ ولهُ خمْسُ سنينَ، واعْتَدَّ الناسُ بسَمَاعِهِ وحَمَلُوهُ عنهُ.
وقالَ يَعقوبُ الدَّوْرَقِيُّ: ثنا أبو عاصمٍ قالَ: ذَهَبْتُ بِابْنِي إلى ابنِ جُرَيْجٍ، وسِنُّهُ أقَلُّ مِنْ ثلاثِ سنينَ، فحَدَّثَهُ.
وكَفَى ببَعْضِ هذا مُتَمَسَّكاً في الرَّدِّ فَضْلاً عنْ مَجموعِهِ، بلْ قِيلَ: إنَّ مُجَرَّدَ إحضارِ العُلماءِ للصِّبيانِ يَسلتزِمُ اعتدادَهم برِوايتِهم بعدَ البُلوغِ، لَكِنَّهُ مُتَعَقَّبٌ بأنَّهُ يُمْكِنُ أنْ يكونَ الْحُضورُ لأَجْلِ التمرينِ والبَرَكَةِ، ثمَّ إنَّ ما تَقَدَّمَ مِنْ سَماعِ الصَّبِيِّ هوَ بالنَّظَرِ للصِّحَّةِ سواءٌ بنفسِهِ أوْ بغيرِهِ.
(وَ) أَمَّا (طلَبُ الحديثِ) بنفْسِهِ وكِتابتُهُ، وكذا الرِّحلَةُ فيهِ، فهوَ (في العشرينَ) مِن السِّنِينِ بكسْرِ النُّونِ على لُغَةٍ، حَسْبَما قالَهُ الشارِحُ، معَ إنكارِ بعضِ مُتَأَخِّرِي النُّحاةِ لها، ومِنهُ قولُ الشاعرِ:
وماذا تَبْتَغِي الشُّعَرَاءُ مُنِّي وقدْ جاوَزْتُ حدَّ الأَرْبَعِينِ
(عندَ) الإمامِ أبي عبدِ اللَّهِ الزُّبيرِ بنِ أحمدَ (الزُّبَيْرِيِّ) بضَمِّ الزَّاءِ مُصَغَّراً، الشافِعِيِّ، (أحَبُّ حِينِ) ممَّا قَبْلَهُ، يعني أنَّهُ وَقتُ الاستحبابِ؛ إذْ عِبارةُ الزُّبَيْرِيِّ: " ويُسْتَحَبُّ كَتْبُ الحديثِ في العشرينَ "، قالَ: لأنَّها مُجتمَعُ العقْلِ، قالَ سُفيانُ: يَكمُلُ عقْلُ الغُلامِ لعِشرينَ. والفهْمُ، كما قالَ ابنُ نُفَيْسٍ: في ذلكَ الوقْتِ أكمَلُ ممَّا قَبْلَهُ.
قالَ الزُّبيريُّ: وأُحِبُّ أنْ يَشْتَغِلَ قبلَ الوصولِ إليهِ بحِفْظِ القرآنِ والفرائضِ حتَّى الواجباتِ، سِيَّمَا وقدْ قالَ أبو عُبَيْدِ بنُ حَرْبَوَيْهِ: مَنَعَنِي أبِي مِنْ سماعِ الحديثِ قبلَ أنْ أَستظْهِرَ القرآنَ حِفْظاً، فلَمَّا حَفِظْتُهُ قالَ لي: خُذ الْمَحْفَظَةَ، واذْهَبْ إلى فُلانٍ فاكْتُبْ عنهُ.
ونَحْوُهُ قَوْلُ ابنِ أبي حاتمٍ: لم يَدَعْنِي أبِي أَشْتَغِلُ في الحديثِ حتَّى قَرَأْتُ القُرْآنَ على الفَضْلِ بنِ شَاذانَ الرَّازِيِّ، ثمَّ كَتبْتُ الحديثَ. (وهُوَ)؛ أي: استحبابُ التَّقيُّدِ بهذا السِّنِّ في الطَّلَبِ (الَّذِي عليهِ أهلُ الكُوفَهْ)، فقَدْ كَانُوا كما حَكاهُ مُوسى بنُ إسحاقَ عنهم لا يُخْرِجُونَ أولادَهم في طَلَبِ الحديثِ صِغاراً إلاَّ عندَ استكمالِ عِشرينَ سَنةً.
ونَحْوُهُ حِكايَةُ مُوسى بنِ هَارونَ الْحَمَّالِ عنهم، وقالَ عِياضٌ: سَمِعْتُ بعضَ شُيوخِ العلْمِ يقولُ: الروايَةُ مِن العشرينَ، والدِّرايَةُ مِن الأربعينَ.
وقالَ أبو الحسَنِ سعدُ الخيرِ الأنصاريُّ: كانَ الأمْرُ المُوَاظَبُ عليهِ في عَصرِ التابعينَ وما يُقارِبُهُ، لا يَكتُبُ الحديثَ إلاَّ مَنْ جاوَزَ حدَّ البُلوغِ، وصارَ في عِدادِ مَنْ يَصلُحُ لِمُجالَسَةِ العُلماءِ ومُذاكَرَتِهم. وسَبَقَهُ الخطيبُ فقالَ: قَلَّ مَنْ كانَ يَكْتُبُ الحديثَ على ما بَلَغَنا في عصْرِ التابعينَ وقَريباً منهُ إلاَّ مَنْ جاوَزَ حَدَّ البُلوغِ، وصارَ في عِدادِ مَنْ يَصلُحُ لِمُجالَسَةِ العُلماءِ ومُذاكَرَتِهم وسُؤَالِهم.
(وَ) خالَفَهم غَيْرُهم، فـ(العَشْرِ) مِن السِّنِينِ (في) أهلِ (البَصْرَةِ) كالسُّنَّةِ (المَأْلُوفَهْ) لهم؛ حيثُ تَقَيَّدُوا بهِ، (وَ) الطَّلَبُ (في) بُلوغِ (الثلاثينَ) مِن السِّنِينِ مَأْلُوفٌ (لأَهْلِ الشَّأْمِ) بفتْحِ الْمُعْجَمَةِ مقصورٌ مَهموزٌ على أَشْهَرِ اللُّغاتِ، حَكاهُ موسى الْحَمَّالُ أيضاً عنْ كلٍّ مِن الفريقَيْنِ. وأَعْلَى مِنْ هذا كُلِّهِ قولُ سُفيانَ الثوريِّ وأبي الأَحْوَصِ: كانَ الرجُلُ إذا أَرادَ أنْ يَطْلُبَ الحديثِ تَعَبَّدَ قَبلَ ذلكَ عِشرينَ سَنةً. فاجتمَعَ في الوقتِ المُسْتَحَبِّ في ابتداءِ الطلبِ أَقْوَالٌ.
(وَ) الحقُّ عَدَمُ التَّقَيُّدِ بسِنٍّ مَخصوصٍ، بلْ (يَنبغِي تَقييدُهُ)؛ أيْ: طَلَبِ الْمَرْءِ بنَفسِهِ، (بالفَهْمِ)؛ لِمَا يَرجِعُ إلى الضَّبْطِ، لا أنَّ المرادَ أنَّهُ يَعرِفُ عِلَلَ الأحاديثِ واختلافَ الرواياتِ، ولا أنْ يَعقِلَ الْمَعانِيَ واستنباطَها؛ إذْ هذا ليسَ بشَرْطٍ في الأداءِ فَضْلاً عن التَّحَمُّلِ، (فَكَتْبُهُ)؛ أي: الحديثِ، بنَفسِهِ مُقَيَّدٌ بالتأَهُّلِ (للضَّبْطِ)، وكذا يَنبغِي أنْ يُقَيَّدَ (السَّمَاعُ) مِن الصَّبِيِّ للحديثِ بـ(حَيْثُ) يَعنِي بحِينِ يَصِحُّ أنْ يُسَمَّى فيهِ سَامِعاً.
وعِبارةُ ابنِ الصلاحِ في ذلكَ كُلِّهِ: " قُلْتُ: ويَنبغِي بعدَ أنْ صارَ الملحوظُ إبقاءَ سِلسلةِ الإسنادِ أنْ يُبَكَّرَ بإسماعِ الصغيرِ في أوَّلِ زَمانٍ يَصِحُّ فيهِ سَمَاعُهُ، وأَمَّا الاشتغالُ بكتابةِ الحديثِ وتَحصيلِهِ – أيْ: بالسَّمَاعِ ونحوِهِ – وَضَبْطِهِ وتَقييدِهِ فمِنْ حِينِ يَتأهَّلُ لذلكَ ويَسْتَعِدُّ لهُ، وذلكَ يَختلِفُ باختلافِ الأشخاصِ، وليسَ يَنحصِرُ في زَمَنٍ مخصوصٍ. انتهى. وهوَ ظاهِرٌ في الاستحبابِ. وكَونُ التقييدِ مُؤَكِّداً للضبْطِ بخِلافِهِ فيما مَضَى، ويَتَأَيَّدُ التَّبْكِيرُ بما جاءَ عن الْحَسَنِ، قالَ: طَلَبُ الحديثِ في الصِّغَرِ كالنَّقْشِ في الْحَجَرِ، ولِذَا قالَ نَفْطَوَيْهِ:
أُرانِي أَنْسَى ما تَعلَّمْتُ في الكِبَرِ ولَسْتُ بِنَاسٍ ما تَعلَّمْتُ في الصِّغَرِ
ولوْ فُلِقَ القَلْبُ المُعَلَّمُ في الصِّبَى لأُلْفِيَ فيهِ العِلْمُ كالنَّقْشِ في الْحَجَرِ
ويُرْوَى معناهُ في الْمَرفوعِ: ((مَنْ تَعلَّمَ عِلْماً وَهُوَ شَابٌّ كَانَ كَوَشْيٍ في حَجَرٍ، وَمَنْ تَعَلَّمَ بَعْدَمَا يَدْخُلُ فِي السِّنِّ كَانَ كَالْكَاتِبِ عَلَى جَمْهَرِ الْمَاءِ)). ونَحْوُهُ: ((مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ فِي شَبِيبَتِهِ اخْتَلَطَ الْقُرْآنُ بِلَحْمِهِ وَدَمِهِ))، ولا يَصِحُّ واحدٌ منهما.
(وبِهِ)؛ أيْ: وفي تَعيينِ وَقْتِ السماعِ، (نِزاعٌ) بينَ العلماءِ، (فالْخَمْسُ) مِن السِّنِينَ التقييدُ بهِ (للجُمهورِ)، وعَزَاهُ عِياضٌ في (الإِلماعِ) لأَهْلِ الصَّنْعَةِ.
قالَ ابنُ الصلاحِ: وعليهِ استقَرَّ عمَلُ أهلِ الحديثِ الْمُتَأَخِّرينَ، فيَكْتُبُونَ لابنِ خَمْسٍ فصاعِداً " سَمِعَ "، ولِمَنْ لم يَبلُغْها " حَضَرَ أوْ أُحْضِرَ ".
(ثمَّ الْحُجَّهْ) لهم في التَّقييدِ بها (قِصَّةُ مَحمودٍ)، هوَ ابنُ الربيعِ، (وعَقْلِ الْمَجَّهْ)، وهيَ إرسالُ الماءِ مِن الْفَمِ، التي مَجَّهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عليهِ وسَلَّمَ في وَجْهِهِ مِنْ دَلْوٍ على وَجْهِ المُدَاعَبَةِ، أو التَّبريكِ عليهِ، كما كانَ صَلَّى اللَّهُ عليهِ وسَلَّمَ يَفعلُ معَ أولادِ أصحابِهِ رَضِيَ اللَّهُ عنهم، ثمَّ نَقْلُهُ لذلكَ الفِعْلِ الْمُنَزَّلِ مَنزِلةَ السماعِ، وكوْنُهُ سُنَّةً مَقصودةً.
(وهُوَ)؛ أيْ: محمودٌ، حينئذٍ (ابْنُ خَمسةٍ) مِن الأعوامِ، حسْبَمَا ثَبَتَ في صَحيحِ البُخارِيِّ مِنْ حديثِ الزُّبَيْدِيِّ عن الزُّهْرِيِّ عنْ محمودٍ، وبَوَّبَ عليهِ: " مَتَى يَصِحُّ سَماعُ الصغيرِ؟ ".
وأَفادَ شيخُنا أنَّهُ لم يَرَ التقييدَ بذلكَ في شيءٍ مِنْ طُرُقِ حديثِهِ، لا في الصحيحَيْنِ ولا في غيرِهما مِن الجوامِعِ والْمَسانِيدِ، إلاَّ مِنْ طريقِ الزُّبَيْدِيِّ خاصَّةً، وهوَ مِنْ كِبارِ الْحُفَّاظِ الْمُتْقِنينَ عن الزُّهْرِيِّ، حتَّى قالَ الوليدُ بنُ مُسلِمٍ: كانَ الأَوزاعِيُّ يُفَضِّلُهُ على جَميعِ مَنْ سَمِعَ مِن الزُّهْرِيِّ. وقالَ أبو دَاودَ: ليسَ في حديثِهِ خَطأٌ.
قالَ شَيْخُنا: ويَشهدُ لهُ ما وَقَعَ عندَ الطَّبَرَانِيِّ، والخطيبِ في (الكِفايَةِ)، مِنْ طريقِ عبدِ الرحمنِ بنِ نَمِرٍ عن الزُّهْرِيِّ: حَدَّثَنِي محمودٌ قالَ: وتُوُفِّيَ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عليهِ وسَلَّمَ وهوَ ابنُ خَمْسِ سِنينَ.
وأفادَتْ هذهِ الروايَةُ أيضاً أنَّ الواقعةَ التي ضَبَطَها كانتْ في آخِرِ سَنةٍ مِنْ حَياتِهِ صَلَّى اللَّهُ عليهِ وسَلَّمَ، ويُطابِقُ ذلكَ قولَ ابنِ حِبَّانَ وغيرِهِ أنَّهُ ماتَ سنةَ تِسْعٍ وتِسعينَ وهوَ ابنُ أربعٍ وتِسعينَ سَنةً، لكنْ قدْ قالَ الوَاقِدِيُّ: إنَّهُ ماتَ وهوَ ابنُ ثلاثٍ. (وَ) لَعَلَّ لذا (قِيلَ) إنَّ حِفْظَهُ لذلكَ وهوَ ابنُ (أَربَعَهْ) مِن الأعوامِ، حكاهُ ابنُ عبدِ الْبَرِّ في (الاستيعابِ)؛ حيثُ قالَ: إنَّهُ عَقَلَ الْمَجَّةَ وهوَ ابنُ أَرْبَعِ سِنينَ أوْ خَمْسٍ، كما أنَّ لَعَلَّ قولَ ابنِ عبدِ الْبَرِّ هذا مُستَنَدُ القاضي عِياضٍ وغيرِهِ في وُقوعِ ذلكَ في بعضِ الرواياتِ، وإلاَّ فقَدْ قالَ شيخُنا: إنَّهُ لم يَقِفْ عليهِ صَريحاً في شيءٍ مِن الرواياتِ بعدَ التَّتَبُّعِ التَّامِّ، فالأوَّلُ أَوْلَى بالاعتمادِ؛ لصِحَّةِ إسنادِهِ، على أنَّ قولَ الوَاقِدِيِّ يُمْكِنُ حَمْلُهُ إنْ صَحَّ على أنَّهُ أَلْغَى الكَسْرَ وَجَبَرَهُ غيرُهُ.
وقدْ حَكَى السِّلَفِيُّ عن الأكثرينَ صِحَّةَ سَمَاعِ مَنْ بَلَغَ أربعَ سِنينَ؛ لحديثِ مَحمودٍ، لكنْ بالنِّسبةِ لابنِ العَرَبِيِّ خاصَّةً، أمَّا ابنُ العَجَمِيِّ فإذا بَلَغَ سَبْعاً، وقَيَّدَهُ الإمامُ أحمدُ فيما رُوِّينَاهُ مِنْ طريقِ الحاكِمِ عن القُطَيْعِيِّ، قالَ: سَمِعْتُ عبدَ اللَّهِ بنَ أحمدَ يقولُ: سَمِعْتُ أبي سُئِلَ عنْ سَمَاعِ الصَّبِيِّ، فقالَ: إنْ كانَ ابنَ عَرَبِيٍّ فابنُ سَبْعٍ، وإنْ كانَ ابنَ عَجَمِيٍّ فإِلَى أنْ يَفْهَمَ. وقَيَّدَهُ بالسَّبْعِ مُطْلَقاً بعضُهم.
ونَحْوُهُ ما رَوَاهُ السِّلَفِيُّ عن الربيعِ بنِ سُليمانَ، أنَّ الشافِعِيَّ سُئِلَ الإجازةَ لِوَلَدٍ، وقيلَ لهُ: إنَّهُ ابنُ سِتِّ سِنينَ، فقالَ: لا تَجوزُ الإجازةُ لِمِثْلِهِ حتَّى تَمَّ لهُ سَبْعُ سِنِينَ. وإذا كانَ هذا في الإجازةِ ففي السَّماعِ أَوْلَى. فاجتمَعَ أربعةُ أقوالٍ في الوقتِ الذي يُسَمَّى فيهِ الصَّغِيرُ سامِعاً.
(وَ) بالْجُملةِ، (فلَيْسَ فيهِ)؛ أيْ: في تَعيينِ وَقتِهِ، (سُنَّةٌ) بعَيْنِها (مُتَّبَعَهْ) دائماً؛ إذْ لا يَلزَمُ مِنْ تَمييزِ محمودٍ أنَّ تَمييزَ كلِّ أحَدٍ كذلكَ، بلْ قدْ يَنْقُصُ وقدْ يَزيدُ، وكذا لا يَلزَمُ منهُ ألاَّ يَعْقِلَ مِثلَ ذلكَ وسِنُّهُ أقَلُّ مِنْ ذلكَ، كما أنَّهُ لا يَلزَمُ مِنْ عَقْلِ الْمَجَّةِ أنْ يَعقِلَ غيرَها ممَّا سَمِعَهُ.
(بل الصَّوَابُ) المُعْتَبَرُ في صِحَّةِ سماعِ الصغيرِ قَوْلٌ خامسٌ، وهوَ: (فَهْمُهُ الْخِطابَا) حالَ كونِهِ (مُمَيِّزاً) ما يُقْصَدُ بهِ مِنْ ذلكَ ممَّا يُقْصَدُ بهِ غيرُهُ، (ورَدُّهُ الْجَوابَا) المُطَابِقَ، سَواءٌ كانَ ابنَ خَمْسٍ أوْ أقَلَّ، ومَتَى لم يَكُنْ يَعقِلُ فَهْمَ الْخِطابِ ورَدَّ الجوابِ لم يَصِحَّ؛ أيْ: لم يَكُنْ سامِعاً، حتَّى قالَ ابنُ الصلاحِ: وإنْ كانَ ابنَ خَمْسِينَ.
وبِمَا قَيَّدْنَاهُ قدْ يُشِيرُ إليهِ أيضاً قولُ الأُصولِيِّينَ ممَّا حَكَى فيهِ القُشَيْرِيُّ الإجماعَ بعدَمِ قَبولِ مَنْ لم يَكُنْ حينَ التَّحَمُّلِ مُمَيِّزاً، معَ أنَّهُ قِيلَ في الْمُمَيِّزِ غيرُ ذلكَ كما سيَأْتِي.
وكذا قالَ ابنُ السَّمْعَانِيِّ: الأصَحُّ أنَّهُ لا تَقْدِيرَ. وقالَ الأُسْتَاذُ أبو إسحاقَ الإِسْفَرَايِينِيُّ: إذا بَلَغَ الصبِيُّ الْمَبْلَغَ الذي يَفْهَمُ اللفظَ بسماعِهِ صَحَّ سماعُهُ، حتَّى إنَّهُ لوْ سَمِعَ كَلمةً أَدَّاهَا في الحالِ، ثمَّ كانَ مُرَاعِياً لِمَا يقولُهُ مِنْ تحديثٍ أوْ لقِراءةِ القارئِ صَحَّ سَمَاعُهُ وإنْ لم يَفهمْ مَعناهُ. بلْ عَزَا النَّوَوِيُّ عدَمَ التقديرِ للمُحَقِّقِينَ؛ حيثُ قالَ: إنَّ التقييدَ بالْخَمْسِ أنْكَرَهُ الْمُحَقِّقُونَ، وقَالُوا: الصوابُ أنْ يُعْتَبَرَ كُلُّ صَبِيٍّ بنَفْسِهِ، فقدْ يُمَيِّزُ لِدُونِ خَمْسٍ، وقدْ يَتجاوَزُ الخمْسَ ولا يُمَيِّزُ. وَاحْتُجَّ بضَبْطِ ابنِ الزُّبيرِ تَرَدُّدَ والدِهِ إلى بَنِي قُريظةَ يومَ الأحزابِ وهوَ ابنُ أربعٍ.
قالَ شيْخُنا مُشيراً لانْتِقَادِ الحصْرِ في سِنِّ ابنِ الزُّبيرِ: الذي يَظهرُ أنَّهُ إنَّما وُلِدَ في الأُولِى مِن الْهِجرةِ، وقيلَ في الأحزابِ: إنَّها كانتْ سَنَةَ سِتٍّ. انتهى.
نَعَمْ، قولُ الحسَنِ: أَذْكُرُ أَنِّي أخَذْتُ تَمرةً مِنْ تَمْرِ الصدَقَةِ فجَعَلْتُها فِي فِي، فنَزَعَها النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ بِلُعَابِها فجَعَلَها في التَّمْرِ وقالَ: ((كِخْ كِخْ))، يُشعِرُ بأنَّهُ كانَ دُونَ ذلكَ؛ إذْ مِثلُ هذا اللفْظِ لا يُقالُ إلاَّ للطفْلِ الْمُرْضَعِ أوْ قَريبٍ منهُ، وذلكَ يَقْدَحُ في التقييدِ بالخمْسِ.
ونحوُ قِصَّةِ محمودٍ ما رَواهُ البَيهقيُّ عنْ عبدِ اللَّهِ بنِ عُتبةَ بنِ مَسعودٍ، والدِ عُبيدِ اللَّهِ، قالَ: أَذكُرُ أنَّ النبيَّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسَلَّمَ أخَذَنِي وأنا خُمَاسِيٌّ أوْ سُدَاسِيٌّ فأَجْلَسَنِي في حِجْرِهِ، ومَسَحَ رأْسِي، ودَعا لي ولِذُرِّيَّتِي بالبَرَكَةِ.
وحَدَّثَ القاضي أبو عُمَرَ محمَّدُ بنُ يُوسفَ الْحَمَّادِيُّ عنْ جَدِّهِ يَعقوبَ بنِ إسماعيلَ بنِ حَمَّادٍ بحديثٍ لَقِنَهُ وهوَ ابنُ أَربعِ سنينَ. قالَ ابنُ رُشيدٍ: والظاهِرُ أنَّهُم أرادُوا بتحديدِ الْخَمْسِ أنَّها مَظَنَّةٌ لذلكَ، لا أنَّ بُلُوغَها شَرْطٌ لا بُدَّ مِنْ تَحَقُّقِهِ.
ونَحْوُهُ قولُ غيرِهِ: اعتبَرَ الجمهورُ الْمَظَنَّةَ وهيَ الخمْسُ، فأَقَامُوها مَقامَ الْمَئِنَّةِ وهيَ التمييزُ والإدراكُ، والأَوْلَى أنْ تُعتبَرَ الْمَظَنَّةُ حيثُ لا يَتحقَّقُ الْمَئِنَّةُ.
وقالَ القاضي عِيَاضٌ: ولَعَلَّ تَحديدَ أهْلِ الصَّنعةِ بالْخَمْسِ إنَّما أَرَادُوا أنَّ هذا السِّنَّ أقَلُّ ما يَحصُلُ بهِ الضبْطُ وعَقْلُ ما يَسمَعُ وحِفْظُهُ.
وإلاَّ فمَرْجُوعُ ذلكَ للعادَةِ، ورُبَّ بَليدِ الطَّبْعِ غَبِيِّ الفِطرةِ لا يَضبِطُ شَيئاً فوقَ هذا السِّنِّ، ونَبيلِ الْجِبِلَّةِ وذَكِيِّ القَريحةِ يَعقِلُ دونَ هذا السِّنِّ.
(وَ) ممَّا يَدُلُّ على أنَّ المُعْتَبَرَ التمييزُ والفهْمُ خاصَّةً دونَ التقييدِ بسِنٍّ، أنَّهُ (قِيلَ لـ) الإمامِ (ابنِ حَنْبَلٍ) أحمدِ بنِ محمَّدٍ مِنْ وَلَدِهِ عبدِ اللَّهِ ما مَعْنَاهُ: (فرَجُلُ)، هوَ ابنُ مَعِينٍ، (قالَ لِخَمْسَ عَشرةَ) سَنةً (التَّحَمُّلُ يَجوزُ لا في دُونِها) مُتَمَسِّكاً بأنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عليهِ وسَلَّمَ رَدَّ البَرَاءَ وابنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عنهما يومَ بَدْرٍ لصِغَرِهما عنْ هذا السِّنِّ.
(فغَلَّطَهْ) الإمامُ أحمدُ، وَ(قالَ): بِئْسَ القولُ هذا، بلْ (إذا عَقَلَهُ)؛ أي: الحديثَ، (وضَبَطَهْ) صَحَّ تَحَمُّلُهُ وسماعُهُ ولوْ كانَ صَبِيًّا، كيفَ يَعْمَلُ بوَكِيعٍ وابنِ عُيَيْنَةَ وغيرِهما ممَّنْ سَمِعَ قَبلَ هذا السنِّ؟
قالَ: وإنَّما ذاكَ، يَعنِي التقييدَ بهذا السِّنِّ، في القِتالِ، يَعني وهوَ يَقصِدُ فيهِ مَزيدَ القوَّةِ والْجِدِّ والتَّبَصُّرِ في الحرْبِ، فكانتْ مَظَنَّتُهُ البلوغَ، والسَّمَاعُ يُقصَدُ فيهِ الفَهْمُ، فكانت مَظَنَّتُهُ التمييزَ.
على أنَّ قولَ ابنِ مَعِينٍ هذا يُوَجَّهُ بحَمْلِهِ على إرادةِ تَحديدِ ابتداءِ الطلَبِ بنَفْسِهِ، أمَّا مَنْ سَمِعَ اتِّفاقاً، أو اعْتَنَى بهِ فسَمِعَ وهوَ صغيرٌ فلا، لا سِيَّمَا وقدْ نَقَلَ ابنُ عبدِ الْبَرِّ وغيرُهُ كما أَسْلَفْتُهُ الاتِّفَاقَ على قَبولِ هذا.
ومعَ هذا فَاسْتِدْلالُ الإمامِ أحمدَ في الرَّدِّ عليهِ بابْنِ عُيَيْنَةَ يَقتضِي مُخالَفَتَهُ، وإنَّ المُعْتَبَرَ كما تَقدَّمَ الضَّبْطُ لا السِّنُّ، فقدْ قالَ أحمدُ: إنَّ ابنَ عُيَيْنَةَ أَخْرَجَهُ أَبُوهُ إلى مَكَّةَ وهوَ صَغِيرٌ، فسَمِعَ مِن الناسِ عمرَو بنَ دينارٍ وابنَ أبي نُجَيْحٍ في الفِقهِ، ليسَ تَضُمُّهُ إلى أحَدٍ مِنْ أَقرانِهِ إلاَّ وَجَدْتَهُ مُقَدَّماً.
وعن ابنِ عُيَيْنَةَ: أَتَيْتُ الزُّهْرِيَّ وفي أُذْنِي قُرْطٌ ولِي ذُؤَابَةٌ، فلَمَّا رآنِي جَعَلَ يَقولُ: وَاسِنِينَهُ وَاسِنِينَهُ هَهُنَا هَهُنَا، ما رَأَيْتُ طالِبَ علْمٍ أصغَرَ مِنْ هذا. رَوَاهُما الخطيبُ في (الكفايَةِ).
بلْ روَى أَيْضاً مِنْ طريقِ أحمدَ بنِ النضْرِ الْهِلالِيِّ قالَ: سَمِعْتُ أبي يَقولُ: كُنْتُ في مَجْلِسِ ابنِ عُيَيْنَةَ، فنظَرَ إلى صَبِيٍّ دَخَلَ المسجِدَ، فكأنَّ أهْلَ المسجِدِ تَهاوَنُوا بهِ لصِغَرِ سِنِّهِ، فقالَ سُفيانُ: {كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ}، ثمَّ قالَ: لوْ رَأَيْتُنِي ولِي عَشْرُ سِنينَ، طُولِي خَمسةُ أَشْبَارٍ، ووَجْهِي كالدِّينارِ، وأنَا كشُعْلَةِ نارٍ، ثِيابِي صِغارٌ، وأَكمامِي قِصارٌ، وذَيْلِي بِمِقدارٍ، ونَعْلِي كآذانِ الْفَارِ، أَخْتَلِفُ إلى عُلماءِ الأمصارِ مِثلِ الزُّهْرِيِّ وعمرِو بنِ دِينارٍ، أَجلِسُ بينَهم كالْمِسمارِ، ومِحْبَرَتِي كالْجَوْزَةِ، ومِقْلَمَتِي كالْمَوْزَةِ، وقَلَمِي كاللَّوْزَةِ، فإذا دَخَلْتُ المسجِدَ قَالُوا: أَوْسِعُوا للشَّيْخِ الصغيرِ، أَوْسِعُوا للشَّيْخِ الصغيرِ.
ثمَّ تَبسَّمَ ابنُ عُيَيْنَةَ وضَحِكَ، واتَّصَلَ تَسلْسُلُهُ بالضَّحِكِ والتبَسُّمِ إلى الخَطِيبِ، معَ مَقَالٍ في السَّنَدِ، لكنَّ القصْدَ منهُ صحيحٌ. وقدْ قالَ النوويُّ في تَرجمةِ ابنِ عُيَيْنَةَ مِنْ تَهذيبِهِ: ورُوِّينَا عنْ سَعدانَ بنِ نَصْرٍ قالَ: قالَ سُفيانُ بنُ عُيَيْنَةَ: قَرَأْتُ القرآنَ وأنا ابنُ أربعِ سنينَ، وكَتَبْتُ الحديثَ وأنا ابنُ سبعِ سِنينَ. ثمَّ إنَّ ممَّا يُسْتَدَلُّ بهِ لتمييزِ الصغيرِ أنْ يَعِدَّ مِنْ واحدٍ إلى عِشرينَ، ذكَرَهُ شارحُ التنبيهِ في الصلاةِ، وهوَ مِنْ مَنْقُولِ القاضِي أبي الطَّيِّبِ الطَّبَرِيِّ، أوْ يُحْسِنُ الوُضوءَ أو الاستنجاءَ وما أَشْبَهَهُما.
أو نَحْوُ ما اتَّفَقَ لأبي حَنيفةَ حينَ استأْذَنَ على جَعفرِ بنِ محمَّدٍ، فإنَّهُ بَيْنَما هوَ جالسٌ في دِهليزِهِ يَنتظِرُ الإذْنَ؛ إذْ خَرَجَ عليهِ صَبِيٌّ خُمَاسِيٌّ مِن الدَّارِ.
قالَ أبو حَنيفةَ: فأَرَدْتُ أنْ أَسْبِرَ عَقْلَهُ، فقُلْتُ: أينَ يَضَعُ الغريبُ الغَائِطَ مِنْ بَلَدِكُم يا غُلامُ؟ قالَ: فالْتَفَتَ إِلَيَّ مُسْرِعاً فقالَ: تَوَقَّ شُطُوطَ الأنهارِ، ومَساقِطَ الثمارِ، وأَفْنِيَةَ المساجِدِ، وقَوارِعَ الطُّرُقِ، وتَوَارَ خَلْفَ جِدارٍ، وَأَشْلُ ثيابَكَ، وسَمِّ بِسْمِ اللَّهِ، وضَعْهُ أَيْنَ شِئْتَ.
فقُلْتُ لهُ: مَنْ أَنْتَ؟
فقالَ: أنا مُوسَى بنُ جَعفرٍ.
أَوْرَدَها ابنُ النَّجَّارِ في تَرجمةِ محمَّدِ بنِ محمَّدِ بنِ أحمدَ بنِ محمَّدِ بنِ حَمدانِ مِنْ تَأْرِيخِهِ.
أو بِتَمْييزِ الدِّينارِ مِن الدِّرْهَمِ، كما رُوِّينَا في ترجمةِ أبي الحسَنِ محمَّدِ بنِ محمَّدِ بنِ عُبيدِ اللَّهِ بنِ أحمدَ بنِ محمَّدِ بنِ أبي الرَّعْدِ مِنْ تَأْرِيخِ ابْنِ النَّجَّارِ أَيضاً أنَّهُ قالَ:
وُلِدْتُ سَنَةَ اثنتَيْنِ وعِشرينَ، وأَولُّ ما سَمِعْتُ مِن الحسَنِ بنِ شِهابٍ العُكْبَرِيِّ في سنةِ سبعٍ وعِشرينَ إلى رجبٍ سنةَ ثمانٍ وعِشرينَ، قالَ: وكانَ أصحابُ الحديثِ لا يُثْبِتُونَ سماعِي لصِغَرِي، وأبي يَحُثُّهُم على ذلكَ، إلى أنْ أَجْمَعُوا على أنْ يُعْطُونِي دِيناراً ودِرْهَماً، فإنْ مَيَّزْتُ بينَهما يُثْبِتُونَ سَمَاعِي حِينئذٍ، قالَ: فأَعْطَوْنِي دِيناراً ودِرْهَماً وقالُوا: مَيِّزْ بَيْنَهما، فنَظَرْتُ وقُلْتُ: أمَّا الدينارُ فمَغْرِبِيٌّ، فاسْتَحْسَنُوا فَهْمِي وذَكائِي، وقالُوا: أَخْبَرَ بالعَيْنِ والنَّقْدِ.
(وقِيلَ) أيضاً (مَنْ بَيْنَ الْحِمارِ) أو الدابَّةِ (والْبَقَرْ فَرَّقَ) فهوَ (سامِعٌ) لتَمييزِهِ، (ومَنْ لا) يُفَرِّقُ بينَهما (فَـ)ـيُقالُ لهُ (حَضَرْ)، ولا يُسمَّى سامعاً، (قالَ بِهِ)؛ يعني: بالطرَفِ الأوَّلِ خاصَّةً، مُوسَى بنُ هارونَ (الحمَّالُ) بالْمُهْمَلَةِ، جَواباً لِمَنْ سأَلَهُ: متى يُسْمَعُ للصَّبِيِّ؟
فقالَ: إذا فَرَّقَ بينَ البَقرةِ والحمارِ، وفي لفْظٍ: إذا فَرَّقَ بينَ الدابَّةِ والبَقرةِ. وتَبِعَهُ ابنُ الصلاحِ باللَّفْظَيْنِ مِنْ غيرِ ذِكْرٍ للطرَفِ الثاني أيضاً؛ للاكتفاءِ بما فُهِمَ منهُ.
وجَنَحَ لهُ مِن الْمُتأخِّرينَ الوَلِيُّ العراقيُّ، فكانَ يَقولُ: أخْبَرَني فُلانٌ، وأنا في الثالثةِ سَامِعٌ فَهِمٌ. ويُحْتَجُّ بتمييزِهِ بينَ بَعيرِهِ الذي كانَ رَاكِبَهُ حينَ رَحَلَ بهِ أَبُوهُ الشَّارِحُ أوَّلَ ما طَعَنَ في السَّنَةِ المذكورةِ، وبَيْنَ غيرِهِ، وهوَ حُجَّةٌ.
وكلُّ هذهِ الأَدِلَّةُ يَشملُها فَهْمُ الْخِطابِ وَرَدُّ الجوابِ، فلا تَنافِيَ بينَهما، وإنْ كانَ بعضُها أَعْلَى، وكأنَّ لعَدَمِ التساوِي أُشيرَ بصِيغةِ التمريضِ، ولكنْ لَيْسَتْ هيَ عبارةَ ابنِ الصلاحِ؛ فإنَّهُ قالَ: رُوِّينَا عنْ موسى إلى آخِرِهِ، بلْ صَدَّرَ بهِ أوَّلَ زَمَنٍ يُسَمَّى فيهِ الصغيرُ سَامِعاً، وحينئذٍ فكأنَّهُ أُريدَ بها حكايَةُ القولِ لا التمريضُ، والشرْحُ يَشهدُ لهُ.
(وَ) الإمامُ الحافظُ مُسْنِدُ أَصْبَهَانَ أبو بكرِ (ابنُ الْمُقْرِي)، وهوَ محمَّدُ بنُ إبراهيمَ بنِ عَلِيِّ بنِ عاصمِ بنِ زَاذانَ الْمُتَوَفَّى سنةَ إِحدَى وثمانينَ وثلاثِمائةٍ 381هـ عنْ سِتٍّ وتِسعينَ سَنةً؛ لكونِهِ اعتَبَرَ التمييزَ والفَهْمَ، (سَمَّعَ)؛ أيْ: أَفْتَى بإثباتِ السماعِ، (لابنِ أَرْبَعٍ) مِن السنينَ (ذِي ذُكْرِ)، بضَمِّ الذالِ المعْجَمَةِ؛ أيْ: صَاحِبِ حِفْظٍ وفَهْمٍ.
فرَوى الخطيبُ في (الكفايَةِ) قالَ: سَمِعْتُ القاضيَ أبا محمَّدٍ عبدَ اللَّهِ بنَ محمَّدِ بنِ عبدِ الرحمنِ الأَصبهانيَّ يقولُ: حَفِظْتُ القرآنَ ولِي خَمْسُ سنينَ، وحُمِلْتُ إلى أبي بكرِ بنِ الْمُقْرِئِ لأسْمَعَ منهُ ولِي أربعُ سنينَ، فقالَ بعضُ الحاضرينَ: لا تَسْمَعُوا لهُ فيما قُرِئَ؛ فإنَّهُ صغيرٌ، فقالَ لي ابنُ الْمُقرئِ: اقرأْ سُورَةَ الكافرونَ، فقَرَأْتُها، فقالَ: اقْرَأ التكويرَ، فقَرأْتُها، فقالَ لي غَيْرُهُ: اقرأْ والْمُرْسَلاتِ، فَقَرَأْتُها، ولم أَغْلَطْ فيها، فقالَ لهُ ابنُ المقرئِ: سَمِّعُوا لهُ والعُهْدَةُ علَيَّ. ثمَّ قالَ: سَمِعْتُ أبا صالحٍ صاحبَ الحافظِ أبي مَسعودٍ أحمدَ بنِ الفُراتِ يَقولُ: سَمِعْتُ أبا مَسعودٍ يقولُ: أَتَعَجَّبُ مِنْ إنسانٍ يَقرأُ الْمُرسَلاتِ عنْ ظهْرِ قَلْبٍ ولا يَغْلَطُ فيها. هذا معَ أنَّهُ وَرَدَ أَصبهانَ ولم تَكُنْ كُتُبُهُ معَهُ، فأَمْلَى كذا كذا ألْفَ حديثٍ عنْ ظهْرِ قلْبِهِ، فلَمَّا وَصَلَت الكُتُبُ إليهِ قُوبِلَتْ بما أَمْلَى فلم تَخْتَلِفْ إلاَّ في مَواضعَ يَسيرةٍ.
قالَ الخَطِيبُ: ومِنْ أظْرَفِ شيءٍ سَمِعْناهُ في حِفْظِ الصغيرِ ما أنَا أبو العلاءِ محمَّدُ بنُ الحسنِ بنِ محمَّدِ بنِ الورَّاقِ، أخْبَرَنا أبو بكرٍ أحمدُ بنُ كاملٍ القاضي، حدَّثَنِي عليُّ بنُ الحسَنِ النَّجَّارُ، ثنا الصَّاغَانِيُّ، ثنا إبراهيمُ بنُ سعيدٍ الْجَوْهريُّ قالَ: رَأَيْتُ صَبِيًّا ابنَ أربعِ سنينَ حُمِلَ إلى المأمونِ قدْ قَرأَ القُرْآنَ، ونَظَرَ في الرَّأْيِ، غيرَ أنَّهُ إذا جاعَ يَبكِي. انتهى. وفي صِحَّتِها نظَرٌ.
وأَغْرَبُ ما ثَبَتَ عندِي في ذلكَ، أنَّ الْمُحِبَّ بنَ الهَائِمِ حَفِظَ القرآنَ بتَمامِهِ، و(العُمْدَةَ)، وجُملةً مِنْ (الكَافِيَةِ الشافيَةِ)، وقد استَكْمَلَ خَمْسَ سِنينَ، وكانَ تُذْكَرُ لهُ الآيَةُ ويُسألُ عمَّا قَبْلَها فيُجِيبُ بدُونِ تَوَقُّفٍ. ورُوِّينَا عن الحافظِ أبي بكرٍ الإسماعيليِّ أنَّهُ قالَ في حَفيدِهِ أبي مَعمَرٍ الْمُفَضَّلِ بنِ إسماعيلَ: إنَّهُ يَحفَظُ القرآنَ ويَعْلَمُ الفرائضَ، وأَجابَ في مَسألةٍ أَخطأَ فيها بعضُ قُضَاتِنا، كُلُّ ذلكَ وهوَ ابنُ سبعِ سنينَ.
وهل الْمُعْتَبَرُ في التمييزِ والفهْمِ القوَّةُ أو الفعْلُ؟ الظاهرُ الأوَّلُ، ويَشهدُ لهُ أنَّ شيخَنا سُئِلَ عمَّنْ لا يَعْرِفُ بالعربيَّةِ كلِمةً، فأمَرَ بإثباتِ سَماعِهِ، وكذا حكاهُ ابنُ الْجَزَرِيِّ عنْ كُلٍّ مِن ابنِ رافعٍ، وابنِ كثيرٍ، وابنِ الْمُحِبِّ، بلْ حَكَى ابنُ كثيرٍ أنَّ الْمِزِّيَّ كانَ يَحضُرُ عندَهُ مَنْ يَفْهَمُ ومَنْ لا يَفْهُمُ، يَعني مِن الرجالِ، ويَكتُبُ للكُلِّ السماعَ، وكأنَّهم حَمَلُوا قَوْلَ ابنِ الصلاحِ الماضِي: "ومتَى لم يَكُنْ يَعْقِلُ فَهْمَ الْخِطابِ ورَدَّ الجوابِ لَمْ يَصِحَّ وإنْ كانَ ابنَ خَمْسٍ بَل ابنَ خمسينَ "، على انتفاءِ القوَّةِ معَ الفعْلِ أيضاً.
وبَقِيَ هنا شيءٌ آخَرُ، وهوَ أنَّ الذَّهَبِيَّ قالَ: إنَّ الصغيرَ إذا حَضَرَ إنْ أُجيزَ لهُ صَحَّ التحمُّلُ، وإلاَّ فلا شيءَ، إلاَّ إنْ كانَ الْمُسَمِّعُ حافظاً، فيكونُ تقريرُهُ لكتابةِ اسمِ الصغيرِ بِمَنْزِلَةِ الإذْنِ منهُ في الروايَةِ عنهُ.

موضوع مغلق

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
أبي, يصح

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 12:52 AM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir