انتهينا إذن من باب التشبيه، ونصل إلى الباب الثاني وهو:
بـاب المـجـاز
(غير مسموع) ما وضع له لعلاقة مع قرينة مانعة لإرادة المعنى السابق، المجاز مفعل من جاز فقد سبق أن المفعل يأتي للزمان والمكان والمصدر، وجاز الشيء يجوزه إذا تعداه، والمجاز يطلق على الممر ويقال: هذا مجاز بني فلان أي الممر الذي يمرون منه، وسوق ذي مجاز من أسواق العرب في الجاهلية، أي سوق ذي الممر، السوق الذي فيه ممر ضيق يمر الناس منه.
والمجاز في الاصطلاح حصل فيه تجاوز؛ لأنه نقل فيه اللفظ عن وضعه الأصلي عن معناه الأصلي إلى معنى جديد، فكأنه تجاوز ما وضع له في الأصل إلى معنى جديد، فلذلك يعرف المجاز والمقصود به هنا: تعريفه في أفراده، فلذلك يقال: هو اللفظ، فالمجاز تطلق على اللفظ وتطلق على استعمال اللفظ، فيمكن أن يقال في تعريفه: استعمال اللفظ في غير ما وضع له، إذا أردت أن تعرفه كعملية بلاغية فقل: المجاز هو استعمال اللفظ في غير ما وضع له، كما تعرف الحقيقة بأنها: استعمال اللفظ في معناه الأصلي المتبادر.
ويمكن أن تعرفه على أنه لفظ واحد، فتقول: المجاز هو اللفظ المستعمل في غير ما وضع له أولاً أي: في أول أوضاعه، (لعلاقة) المجاز لا بد أن يكون فيه علاقة بين المعنى الجديد والمعنى الآخر، فلا يمكن أن تطلق على رجل بطيء السير أنه قطار مثلاً؛ إذ لا علاقة بين الرجل والقطار، لكن الرجل السريع جدا يمكن أن تسميه قطاراً، وهكذا، فالمجاز لا يمكن أن لا يكون بينهما جامع بين المعنى الأصلي فيه والمعنى الذي نقل إله اللفظ لابد أن يكون بينهما جامع يجمع بينهما وهو العلاقة.
كذلك لابد من قرينة تدل على عدم إرادة المعنى الأصلي، لا بد من قرينة تدل على ذلك، سواء كان تشبيها أو ذكرا له أو نحو ذلك، إذا قلت: زيد قطار أو زيد أسد، هذه قرينة وهي ذكره، فإنه يمنع إرادة الحيوان المفترس، أو قلت: رأيت أسدا يرمي، أو رأيت أسدا يحد سيفه، فهذه القرينة تدل على أن الذي رأيته ليس الأسد الذي هو الحيوان المفترس؛ بل هو الرجل الشجاع، مع قرينة مانعة من إرادة المعنى السابق، تلك القرينة فائدتها أنها تمنع انصراف الذهن إلى المعنى الأول الذي هو الحقيقة، وذلك مثل الدرر فهي في الأصل جمع درة، والدرة اللؤلؤة، أو الحجر الكريم فيسمى بالدرة لكنها تستعمل مجازا في الكلام الفصيح البليغ، فيقال هذا الكلام درر منتثرة أي: كأنه اللآلئ أو الأحجار الكريمة؛ لجودته وحسنه، فهذا استعمال الدرر للكلام مجاز؛ لأن الدرر في الأصل ما وضع في الكلام، وكذلك النجوم للناس أو الكواكب للناس، إطلاق النجوم على البشر، يقال: هؤلاء نجوم الأرض، هذا مجاز؛ لأن النجوم في الأصل الأجرام العلوية المعروفة، فإطلاقها على البشر يقصد به شهرتهم، وحسنهم، وحسن ذكرهم، وارتفاع قدرهم:
نجوم سماء كلما انقض كوكب ..... بدي كوكب تأوي إليه الكواكب
في وصف قوم.
من تلقى منهم تقل لاقيت سيدهم مثل: النجوم التي يسرى بها الساري
تشبيههم بالنجوم هنا، هو استعمال اللفظ في غيره معناه الأصلي؛ لأن النجوم هي الأجرام العلوية، ولكن نظراً لزعمك أن هؤلاء البشر كالنجوم في ارتفاع شأنهم ومكانتهم، جعلت النجوم اسما لهم.
وصفا لهم؛ فإنها مستعملة في غير ما وضعت له، إذقد وضعت في الأصل للآلئ الحقيقية للآلئ الحقيقية، ثم نقلت إلى الكلمات الفصيحة لعلاقة المشابهة بينهما في الحسن، والذي يمنع من إرادة المعنى الحقيقي هو قولك، هو ذكر التكلم: فلان يتكلم بالدرر، فلفظ يتكلم دليل على أن الدر هنا.
فلفظ يتكلم دليل على أن الدرر هنا لا يقصد بها الجواهر, وإنما يقصد بها الكلمات. وكالأصابع المستعملة في الأنامل في قوله تعالى: {يجعلون أصابعهم في آذانهم } ،{ يجعلون أصابعهم }.
ليس معناه أنهم يدخلون أصابعهم كلها, بل المقصود رؤوس الأصابع فقط، وهي: الأنامل. فإنها مستعملة في غير ما وضعت له لعلاقة الأنملة هي جزء من الإصبع, فاستعمل الكل في الجزء, وقرينة ذلك أنه لا يمكن جعل الأصبع بتمامها في الأذن, هذه قرينة مانعة من قصد الحقيقة.
معروف واقعاً أن الأصبع لا تدخل بكاملها في الأذن, لا يستطيع أحد أن يجعل أصبعه كاملة في أذنه, وكذلك الجزء كإطلاق الرقبة على الإنسان, فالرقبة جزء من الإنسان, فإذا قلت: أعتق رقبة. فالمقصود هنا إنسان, والرقبة جزء منه, فاستعملت الرقبة مجازاً في غير ما وضعت, وهي في الأصل وضعت لهذا العضو وحده, لكنها استعملت للإنسان بكامله استعمالاً للجزء وإرادة للكل, وكذلك ما يؤول إليه الشيء, مثل قول الله تعالى في قصه يوسف عليه السلام حكاية عن صاحب السجن:
{إني أراني أعصر خمراً}. فالخمر في الأصل هو شراب العنب المسكر, ولكنه هنا أطلق على العنب نفسه مجازاً, فنقل عن أصل معناه إلى معنى جديد, أعصر خمراً معناه: أعصر عنبا يؤول إلى الخمر؛ لأن الخمر لا تعصر, وإنما يعصر العنب حتى يكون خمراً فهذا علاقته هنا هي المآل ما يؤول إليه, والقرينة هي أن الخمر قد عصر, وتحصيل الحاصل لا يمكن أن يقع, فاستعمل الكل في الجزء.
وقد ذكرنا استعمال الجزء في الكل, وقرينة ذلك أنه لا يمكن جعل الأصابع بتمامها في الآذان.
والمجاز وإن كانت علاقته المشابهة بين المعنى المجازي, المشابهة بين المعنى المجازي والمعنى الحقيقي كما في المثال الأول يسمى: استعارة, إذا كانت علاقة المجاز التشبيه؛ فإنه يسمى استعارة, وإلا سمي مجازاً مرسلاً, وإلا فمجاز مرسل, كما في الأمثلة الأخرى التي ذكرناها.
فلننتقل إذن إلى الاستعارة, ولم يذكر هو الحقيقية التي هي ضد المجاز, والحقيقة هي اللفظ المستعمل في معناه الأصلي, وهي ثلاثة أقسام:
حقيقة لغوية.
وحقيقة عرفية عامة.
وحقيقة عرفية خاصة.
فالحقيقة اللغوية ما استعمله العرب لأمر ما, كالقهوة في لغة العرب حقيقة في الخمر, القهوة في لغة العرب الخمر, وكالسيارة في لغة العرب هي القافلة, والعرف العام معناه: عرف استعمال الناس, كالقهوة في العرف العام حقيقة في مشروب قشر البن, وكالسيارة في عرف الناس اليوم حقيقة في المركوب المعروف, وكالدابة في لغة العرب حقيقة في كل ما يدب على وجه الأرض, وفي عرف الناس حقيقة في ذوات الحافر فقط:الخيل, والبغال, والحمير, فلا تطلق على الإنسان،ولا على الإبل, ولا على الغنم.
وأما العرف الخاص الحقيقة العرفية الخاصة فهي مثل الفاعل والمفعول, والمجاز والاستعارة والكناية والمصطلحات الخاصة بكل فن من الفنون فهي حقيقة, فما وضعها أهل ذلك الفن له وإن كانت في اللغة وضعت لشيء آخر،كالتشبيه وضع في اللغة للإخفاء.
وهو في الاصطلاح: إلحاق شيء بشيء. كما ذكرنا.
والمجاز في اللغة: الباب الذي يخرج منه.
وهو في الاصطلاح: استعمال اللفظ في غير معناه الأصلي، وهكذا.
فإذن هذه هي أقسام الحقيقة, ويضاف إليها الحقيقة العقلية, والحقيقة العقلية لا تختص بالمفرد, كالمجاز العقلي, المجاز العقلي سنذكره إِنْ شَاءَ اللهُ لا يختص بالمفردات. بل بالتراكيب, فلذلك يذكر في علم المعاني, ولا يذكر في علم البيان, فالمجاز العقلي هو نسبة الفعل إلي غير فاعله لدى المتكلم كقولك:
بنيت مسجداً, فأنت لم تباشر البناء, وإنما أنفقت على بنائه, وكقولك: هزم الأمير الجيش, فالأمير نفسه ما هزم الجيش, لكن هزم جيشه الجيش. (هه) هذا النوع يسمى مجازاً عقلياً, والحقيقة العقلية عكسه, كأنزل الله المطر, فأنت معتقد أن الله هو الذي أنزل المطر, فهذا يسمى حقيقة عقلية, لكن الحقيقة العقلية والمجاز العقلي يرجعان إلى الأساليب, لا إلى المفردات في ذاتها, هذا الفرق بينهما وبين المجاز غير العقلي والحقيقة غير العقلية.