خرّج جميع الأقوال التالية ثمّ حرر المسائل التفسيرية المتعلقة بها:
1: قول زر بن حبيش: ( الظنين المتّهم، وقي قراءتكم {بضنين} والضنين البخيل).
قول زر بن حبيش أخرجه :
- الفراء في تفسيره عن قيس بن الربيع عن عاصم ابن أبي النجود , عنه .
- ابن جرير في تفسيره من طرق عن سفيان , عن عاصم , عنه .
- وعبد بن حميد , عنه , كما ذكر ذلك السيوطي في الدر المنثور .
توجيه القول :
هذا القول مبني على اختلاف القراءة في قوله تعالى "بضنين" , فمن قرأها بالضاد ؛ فإن معناها : ببخيل , ومن قرأها بالظاء ؛ فإن معناها : بمتهم , قال سيبويه : (وقد يجوز أن تقول: ظننت زيداً إذا قال: من تظنّ أي من تتهم؟ فتقول: ظننت زيداً كأنه قال: أتّهمت زيدا. وعلى هذا قيل: ظنينٌ أي: متّهمٌ) .
وذكر في الآية قراءتان :
الأولى : "بضنين" . وهي قراءة نافعٍ، وعاصمٍ، وابن عامرٍ، وحمزة، وعثمان بن عفّان، وابن عبّاسٍ، والحسن، وأبي رجاءٍ، والأعرج، وأبي جعفرٍ، وشيبة، وجماعةٍ وافرةٍ. ذكره ابن عطية .
والمعنى على هذه القراءة : أي ببخيل . وهو قول إبراهيم , ومجاهد , وقتادة , وسفيان , وابن زيد , وعامر .
الثانية : "بظنين" . وهي قراءة ابن كثيرٍ، وأبو عمرٍو، والكسائيّ، وابن مسعودٍ، وابن عبّاسٍ، وزيد بن ثابتٍ، وابن عمر، وابن الزّبير، وعائشة، وعمر بن عبد العزيز، وابن جبيرٍ، وعروة بن الزّبير، ومسلم بن جندبٍ، ومجاهدٌ وغيرهم . ذكره ابن عطية .
والمعنى على هذه القراءة : أي : بمتهم . وهو قول ابن عباس , وسعيد بن جبير , وزر بن حبيش , والضحاك .
الدراسة :
ذكر في الآية قراءتان متواترتان الأولى "بضنين" والثانية "بظنين" واختلف المعنى على كل قراءة منهما فعلى الأولى يكون المعنى : وما أنت على الغيب ببخيل , وعلى الثانية : وما أنت على الغيب بمتهم , وذكر له الطبري معنى ثان فقال : وقدْ تَأَوَّلَ ذلكَ بعضُ أهلِ العربيَّةِ أنَّ معناهُ: وما هوَ على الغَيْبِ بضعِيفٍ، ولَكِنَّهُ مُحْتَمِلٌ لهُ مُطِيقٌ. ووَجْهُهُ إلى قَوْلِ العرَبِ للرجلِ الضعيفِ: هوَ ظَنُونٌ.
ورجح ابن جرير قراءة "بضنين" وذلك لأن رسم المصاحف جميعها بالضاد ولم يوجد رسم بالظاء فقال : وَأَوْلَى القراءَتَيْنِ في ذلكَ عندِي بالصَّوابِ: ما عليهِ خُطُوطُ مصاحِفِ المُسْلِمِينَ مُتَّفِقَةً، وإِن اخْتَلَفَتْ قِرَاءَتُهم بهِ، وذلكَ {بِضَنِينٍ} بالضادِ؛ لأنَّ ذلكَ كلَّهُ كذلكَ في خُطُوطِهَا.
وذكر ابن كثير أن القراءتان متواترتان وكلا المعنين صحيح .
2: قول أبي العالية الرياحي في تفسير قول الله تعالى: {إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفراً لن تقبل توبتهم} قال: (قال: إنما هم هؤلاء النصارى واليهود الذين كفروا، ثم ازدادوا كفرًا بذنوب أصابوها، فهم يتوبون منها في كفرهم).
قول أبي العالية أخرجه :
- ابن جرير في تفسيره , وابن المنذر في تفسيره , وابن أبي حاتم في تفسيره , من طرق عن داود بن أبي هند , عنه .
توجيه القول :
هذا القول مبني على سياق الآيات ؛ فالآيات قبلها وبعدها نزلت في اليهود كما ذكر ذلك ابن جرير الطبري فقال : وإنّما قلنا ذلك أولى الأقوال في هذه الآية بالصّواب؛ لأنّ الآيات قبلها وبعدها فيهم نزلت، فأولى أن تكون هي في معنى ما قبلها وبعدها إذ كانت في سياقٍ واحدٍ.
وذكر في سبب نزول الآية أقوال :
الأول : أنهم اليهود كفروا بالمسيح ثم ازدادوا كفراً بمحمد لن تقبل توبتهم عند موتهم . وهو قول قتادة , وعطاء .
الثاني : أنهم اليهود والنصارى، كفروا بمحمد بعد إيمانهم بصفته، ثم ازدادوا كفراً بإقامتهم على كفرهم . وهو قول أبو العالية .
الثالث : أنهم الّذين كفروا بعد إيمانهم بأنبيائهم . وهو قول مجاهد .
الرابع : أنها نزلت فيمن لم يتب من أصحاب الحارث بن سويد، فإنهم قالوا: نقيم بمكة ونتربص بمحمد ريب المنون . وهو قول ابن عباس.
وذكر ابن القيم في سبب عدم قبول توبتهم أقوال :
أحدها: أنهم ارتدوا، وعزموا على إظهار التوبة لستر أحوالهم، والكفر في ضمائرهم، قاله ابن عباس.
والثاني: أنهم قوم تابوا من الذنوب في الشرك، ولم يتوبوا من الشرك، قاله أبو العالية.
والثالث: أن معناه: لن تُقبل توبتهم حين يحضرهم الموت، وهو قول الحسن، وقتادة، وعطاء الخراساني، والسدي.
والرابع: لن تقبل توبتهم بعد الموت إذا ماتوا على الكفر، وهو قول مجاهد.
الدراسة :
ذكر في سبب نزول الآية عدة اقوال منها أنهم اليهود والنصارى الذين آمنوا بأنبيائهم وكفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم , ومنها أنهم اليهود والنصارى الذين كفروا بأنبيائهم وازدادوا كفرا بمحمد صلى الله عليه وسلم , ومنها أنهم من لم يتب من أصحاب الحارث بن سويد ورجح ابن جرير أنهم اليهود وذلك لدلالة السياق على ذلك , وأن ما قبلها وما بعدها نزل فيهم فقال : أولى الأقوال في هذه الآية بالصّواب؛ لأنّ الآيات قبلها وبعدها فيهم نزلت، فأولى أن تكون هي في معنى ما قبلها وبعدها إذ كانت في سياقٍ واحدٍ.
3: قول سعيد بن جبير في الصاحب بالجنب قال: (الرفيق في السفر).
قول سعيد بن جبير أخرجه :
- عبدالرزاق في تفسيره , وابن جرير في تفسيره وابن أبي حاتم في تفسيره من طرق , عن سفيان , عن أبي بكير , عنه.
- رواه سفيان الثوري في تفسيره , عن مورقٍ أو مرزوقٍ مولى الشّعبيّ , عنه .
توجيه القول :
هذا القول من باب التفسير بالمثال , وهو مستفاد من عموم الآية , وهو من قولهم: جنب فلانٌ فلانًا فهو يجنبه جنبًا، إذا كان لجنبه، ومن ذلك: جنب الخيل، إذا قاد بعضها إلى جنب بعضٍ. و لابن جبير قول آخر في الصاحب بالحنب : أنه الرفيق الصالح .
وذكر في المراد بالصاحب بالجنب أقوال :
الأول : الرفيق في السفر . وهو قول ابن عباس , وسعيد بن جبير , ومجاهد , وقتادة , والسدي , والضحاك .
الثاني : امرأة الرّجل الّتي تكون معه إلى جنبه . وهو قول علي , وابن مسعود , ورواية عن ابن عباس , وابن أبي ليلى , وإبراهيم النخعي .
الثالث : الّذي يلزمك ويصحبك رجاء نفعك . وهو قول ابن زيد , ورواية عن ابن عباس .
الدراسة :
اختلف المفسرون في المراد بالصاحب بالجنب إلى أقوال , وهو من باب اختلاف التنوع , فمنهم من قال هو رفيق السفر ومنهم من قال هي الزوجة , ومنهم من قال هو الذي يلزمك , والآية تحتمل جميع هذه المعاني .
قال الرازي : والصاحب بالجنب وهو الذي صحبك بأن حصل بجنبك إما رفيقا في/ سفر، وإما جارا ملاصقا، وإما شريكا في تعلم أو حرفة، وإما قاعدا إلى جنبك في مجلس أو مسجد أو غير ذلك، من أدنى صحبة التأمت بينك وبينه.
4: قول سعيد بن المسيّب في قول الله تعالى: {ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي} قال: (إنما ذاك في الصلاة).
قول سعيد بن المسيب أخرجه :
- ابن جرير في تفسيره , قال ابن جريج: وأخبرني عبد الله بن كثير، عن مجاهد قال: صليت الصبح مع سعيد بن المسيب، فلما سلم الإمام ابتدر الناس القاص، فقال سعيد: " ما أسرعهم إلى هذا المجلس، قال مجاهد: فقلت: يتأولون ما قال الله تعالى، قال: وما قال؟ قلت: {ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي}، قال: وفي هذا ذا؟ إنما ذاك في الصلاة التي انصرفنا عنها الآن، إنما ذاك في الصلاة " .
توجيه القول :
هذا القول مبني على معنى الدعاء ؛ إذ أن معنى الدعاء في الشرع هو العبادة كما قال تعالى : ( وقال ربكم ادعوني استجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين ) , فسمى الدعاء عبادة , وأعظم العبادات هي الصلاة , وأن الصلاة في مكة كانت ركعتين غدوة وركعتين عشية قبل فرض الصلوات الخمس كما ذكر ذلك الحسن , وقد أنكر ابن المسيب ما يتأولون به معنى الآية , أن المراد هو الانصراف إلى القصاص .
وذكر في معنى الدعاء في قوله تعالى : {ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي} أقوال.
الأول : الصلوات الخمس . وهو قول ابن عباس , وإبراهيم النخعي , ومجاهد , وسعيد بن المسيب , والضحاك , وعامر , وعبد الرحمن بن أبي عمرة .
الثاني : صلاة الصبح والعصر . وهو قول قتادة .
الثالث : ذكر الله تعالى . وهو قول إبراهيم , ومنصور .
الرابع : تعلم القرآن وقراءته . وهو قول أبي جعفر .
الخامس : عبادتهم ربهم . وهو قول الضحاك .
الدراسة :
اختلف المفسرون في المراد بالدعاء في الآية فقيل أنها الصلاة , وقيل أنها الذكر , وقيل أنها العبادة , وهذا من باب اختلاف التنوع والآية تحتمل جميع هذه المعاني فهي عامة وتشمل جميع أنواع العبادات كما ذكر ابن جرير فقال : ولا قول أولى بذلك بالصحة من وصف القوم بما وصفهم الله به من أنهم كانوا يدعون ربهم بالغداة والعشي، فيُعَمُّون بالصفة التي وصفهم بها ربهم، ولا يُخَصُّون منها بشيء دون شيء .
5: قول إبراهيم النخعي في تفسير المراد بسوء الحساب: ( هو أن يحاسب الرجل بذنبه كله، لا يغفر له منه شيء).
قول إبراهيم النخعي أخرجه :
- ابن وهب في تفسيره , وسعيد بن منصور في سننه , وابن جرير في تفسيره , وعزاه السيوطي في الدر المنثور إلى أبي الشيخ من طرق , عن فرقد السبخي , عن إبراهيم النخعي .
توجيه القول :
هذا القول مبني على معنى سوء الحساب : وهو التقصي على المحاسب , ولا يقع في حسابه من التجاوز . كما ذكر ابن عطية . فمن سوء الحساب أن يحاسب العبد على ذنبه كله ولا يغفر له منه شيء .
ودل عليه قوله صلى الله عليه وسلم : ( من نوقش الحساب عذب ) , فتكون سوء الحساب المناقشة. كما ذكر الزجاج .
وذكر في معنى سوء الحساب أقوال :
الأول : أن يحاسب بذنبه كله لا يغفر له منه شيء . وهو قول إبراهيم النخعي , وابن زيد , والحسن .
الثاني : المناقشة بالأعمال . وهو قول أبي الجوزاء .
الثالث : أنه التّوبيخ والتّقريع عند الحساب. ذكره ابن القيم , وعزاه الماوردي لابن عيسى حكاية .
الدراسة :
ذكر في معنى سوء الحساب أقوال منها أنها المناقشة بالأعمال , ومنها المحاسبة على الذنب كله فلا يغفر منه شيء , ومنها أنها التوبيخ والتقريع عند الحساب , وهذه المعاني متقاربة تحتملها الآية ؛ فمن سوء الحساب أن يناقش العبد على أعماله , ومن سوء الحساب أن لا يغفر له ذنبه , ومن سوء الحساب أن يوبخ على أعماله .
قال ابن جرير : هؤلاء الّذين لم يستجيبوا للّه لهم سوء الحساب: يقول: لهم عند اللّه أن يأخذهم بذنوبهم كلّها، فلا يغفر لهم منها شيئًا، ولكن يعذّبهم على جميعها .
والله أعلم