دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > علوم القرآن الكريم > مكتبة التفسير وعلوم القرآن الكريم > جامع علوم القرآن > البرهان في علوم القرآن

إضافة رد
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 28 شوال 1430هـ/17-10-2009م, 10:24 PM
نورة آل رشيد نورة آل رشيد غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Aug 2008
المشاركات: 2,563
افتراضي النوع الحادي والأربعون: معرفة تفسيره وتأويله

النوع الحادي والأربعون: معرفة تفسيره وتأويله.
معاني العبارات التي يعبر بها عن الأشياء.
وهو يتوقف على معرفة تفسيره وتأويله ومعناه قال ابن فارس معاني العبارات التي يعتبر بها عن الأشياء ترجع إلى ثلاثة المعنى والتفسير والتأويل وهي وإن اختلفت فالمقاصد بها متقاربة
فأما المعنى فهو القصد والمراد يقال: عنيت بهذا الكلام كذا أي قصدت وعمدت وهو مشتق من الإظهار يقال عنت القربة إذا لم تحفظ الماء بل أظهرته ومنه عنوان الكتاب.
وقيل: مشتق من قولهم عنت الأرض بنبات حسن إذا انبتت نباتا حسنا.
قلت: وحيث قال المفسرون: قال أصحاب المعاني فمرادهم مصنفو الكتب في معاني القرآن كالزجاج ومن قبله وغيرهم وفي بعض كلام الواحدي أكبر أهل المعاني الفراء والزجاج وابن الأنباري قالوا كذا كذا ومعاني القرآن للزجاج لم يصنف مثله وحيث أطلق المتأخرون أهل المعاني فمرادهم بهم مصنفو العلم المشهور.
وأما التفسير في اللغة: فهو راجع إلى معنى الإظهار والكشف وأصله في اللغة من التفسرة وهي القليل من الماء الذي ينظر فيه الأطباء فكما أن الطبيب بالنظر فيه يكشف عن علة المريض فكذلك المفسر يكشف عن شأن الآية وقصصها ومعناها والسبب الذي أنزلت فيه وكأنه تسمية بالمصدر لأن مصدر فعل جاء أيضا على تفعلة نحو جرب تجربة وكرم تكرمة
وقال ابن الأنباري: قول العرب فسرت الدابة وفسرتها إذا ركضتها محصورة لينطلق حصرها وهو يؤول إلى الكشف أيضا.
فالتفسير كشف المغلق من المراد بلفظه وإطلاق للمحتبس عن الفهم به ويقال: فسرت الشيء أفسره تفسيرا وفسرته أفسره فسرا والمزيد من الفعلين أكثر في الاستعمال وبمصدر الثاني منها سمى أبو الفتح ابن جني كتبه الشارحة الفسر.
وقال آخرون: هو مقلوب من سفر ومعناه أيضا الكشف يقال: سفرت المرأة سفورا إذا ألقت خمارها عن وجهها وهي سافرة وأسفر الصبح أضاء وسافر فلان وإنما بنوه على التفعيل لأنه للتكثير كقوله تعالى: {يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ} {وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ } فكأنه يتبع سورة بعد سورة وآية بعد أخرى.
وقال ابن عباس في قوله تعالى: {وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً} أي تفصيلا.
وقال الراغب: الفسر والسفر يتقارب معناهما كتقارب لفظيهما لكن جعل الفسر لإظهار المعنى المعقول ومنه قيل لما ينبئ عنه البول: تفسرة وسمي بها قارورة الماء وجعل السفر لإبراز الأعيان للأبصار فقيل سفرت المرأة عن وجهها وأسفر الصبح.
وفي الاصطلاح: هو علم نزول الآية وسورتها وأقاصيصها والإشارات النازلة فيها ثم ترتيب مكيها ومدنيها ومحكمها ومتشابهها وناسخها ومنسوخها وخاصها وعامتها ومطلقها ومقيدها ومجملها ومفسرها.
وزاد فيها قوم فقالوا: علم حلالها وحرامها ووعدها ووعيدها وأمرها ونهيها وعبرها وأمثالها وهذا الذي منع فيه القول بالرأي.
وأما التأويل فأصله في اللغة من الأول ومعنى قولهم: ما تأويل هذا الكلام؟ أي إلام تؤول العاقبة في المراد به كما قال تعالى: {يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ} أي تكشف عاقبته ويقال آل الأمر إلى كذا أي صار إليه وقال تعالى: {ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً}.
وأصله من المآل وهو العاقبة والمصير وقد أولته فآل أي صرفته فانصرف فكأن التأويل صرف الآية إلى ما تحتمله من المعاني.
وإنما بنوه على التفعيل لما تقدم ذكره في التفسير.
وقيل: أصله من الإيالة وهى السياسة فكأن المؤول للكلام يسوى الكلام ويضع المعنى فيه موضعه.

الفرق بين التفسير والتأويل:
ثم قيل: التفسير والتأويل واحد بحسب عرف الاستعمال والصحيح تغايرهما واختلفوا فقيل: التفسير كشف المراد عن اللفظ المشكل ورد أحد الاحتمالين إلى ما يطابق الظاهر
قال الراغب: التفسير أعم من التأول وأكثر استعماله في الألفاظ وأكثر استعمال التأويل في المعاني كتأويل الرؤيا وأكثره يستعمل في الكتب الإلهية والتفسير يستعمل في غيرها والتفسير أكثر ما يستعمل في معاني مفردات الألفاظ.
واعلم أن التفسير في عرف العلماء كشف معاني القرآن وبيان المراد أعم من أن يكون بحسب اللفظ المشكل وغيره وبحسب المعنى الظاهر وغيره والتفسير أكثره في الجمل.
والتفسير إما أن يستعمل في غريب الألفاظ كالبحيرة والسائبة والوصيلة أو في وجيز مبين بشرح كقوله: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} وإما في كلام مضمن لقصة لا يمكن تصويره إلا بمعرفتها كقوله: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} وقوله: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا} وأما التأويل فإنه يستعمل مرة عاما ومرة خاصا نحو الكفر يستعمل تارة في الجحود المطلق وتارة في جحود البارئ خاصة والإيمان المستعمل في التصديق المطلق تارة وفي تصديق الحق تارة وإما في لفظ مشترك بين معان مختلفة.
وقيل: التأويل كشف ما انغلق من المعنى ولهذا قال البجلي: التفسير يتعلق بالرواية والتأويل يتعلق بالدراية وهما راجعان إلى التلاوة والنظم المعجز الدال على الكلام القديم القائم بذات الرب تعالى.
قال أبو نصر القشيري: ويعتبر في التفسير الاتباع والسماع وإنما الاستنباط فيما يتعلق بالتأويل وما لا يحتمل إلا معنى واحدا حمل عليه وما احتمل معنيين أو أكثر فإن وضع لأشياء متماثلة كالسواد حمل على الجنس عند الإطلاق وإن وضع لمعان مختلفة فإن ظهر أحد المعنيين حمل على الظاهر إلا أن يقوم الدليل وإن استويا سواء كان الاستعمال فيهما حقيقة أو مجازا أو في أحدهما حقيقة وفي الآخر مجاز كلفظه المس فإن تنافى الجمع فمجمل يتوقف على البيان من غيره وإن تنافيا فقد قال قوم يحمل على المعنيين والوجه عندنا التوقف.
وقال أبو القاسم بن حبيب النيسابوري والبغوي والكواشي وغيرهم: التأويل صرف الآية إلى معنى موافق لما قبلها وما بعدها تحتمله الآية غير مخالف للكتاب والسنة من طريق الاستنباط
قالوا: وهذا غير محظور على العلماء بالتفسير وقد رخص فيه أهل العلم وذلك مثل قوله تعالى: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} قيل: هو الرجل يحمل في الحرب على مائة رجل وقيل: هو الذي يقنط من رحمة الله وقيل: الذي يمسك عن النفقة وقيل: الذي ينفق الخبيث من ماله وقيل: الذي يتصدق بماله كله ثم يتكفف الناس ولكل منه مخرج ومعنى ومثل قوله تعالى للمندوبين إلى الغزو عند قيام النفير: {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً} قيل: شيوخا وشبابا وقيل: أغنياء وفقراء وقيل: عزابا ومتأهلين وقيل: نشاطا وغير نشاط وقيل: مرضى وأصحاء وكلها سائغ جائز والآية محمولة عليها لأن الشباب والعزاب والنشاط والأصحاء خفاف وضدهم ثقال ومثل قوله تعالى: {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} قيل: الزكاة المفروضة وقيل: العارية أو الماء أو النار أو الكلأ أو الرفد أو المغرفة وكلها صحيح لأن مانع الكل آثم.
وكقوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} فسره أبو عبيد أي لا يدوم وقال ثعلب: أي على شك وكلاهما قريب لأن المراد انه غير ثابت على دينه ولا تستقيم البصيرة فيه
وقيل: في القرآن ثلاث آيات في كل منها مائة قول قوله: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} {وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا} {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِِحْسَانُ}.
فهذا وأمثاله ليس محظورا على العلماء استخراجه بل معرفة واجبة ولهذا قال تعالى: {وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} ولولا أن له تأويلا سائغا في اللغة لم يبينه سبحانه والوقف على قوله: {وَالرَّاسِخُونَ} قال القاضي أبو المعالي: إنه قول الجمهور وهو مذهب ابن مسعود.
وأبي بن كعب وابن عباس وما نقله بعض الناس عنهم بخلاف ذلك فغلط.
فأما التأويل المخالف للآية والشرع فمحظور لأنه تأويل الجاهلين مثل تأويل الروافض لقوله تعالى: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ} أنهما علي وفاطمة {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} يعني الحسن والحسين رضي الله عنهما.
وكذلك قالوا في قوله تعالى: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ} إنه معاوية وغير ذلك.
قال الإمام أبو القاسم محمد بن حبيب النيسابوري رحمه الله: وقد نبغ في زماننا مفسرون لو سئلوا عن الفرق بين التفسير والتأويل ما اهتدوا إليه لا يحسنون القرآن تلاوة ولا يعرفون معنى السورة أو الآية ما عندهم إلا التشنيع عند العوام والتكثر عند الطغام لنيل ما عندهم من الحطام أعفوا أنفسهم من الكد والطلب وقلوبهم من الفكر والتعب لاجتماع الجهال عليهم وازدحام ذوي الأغفال لديهم لا يكفون الناس من السؤال ولا يأنفون عن مجالسة الجهال مفتضحون عند السبر والذواق زائغون عن العلماء عند التلاق يصادرون الناس مصادرة السلطان ويختطفون ما عندهم اختطاف السرحان يدرسون بالليل صفحا ويحكونه بالنهار شرحا إذا سئلوا غضبوا وإذا نفروا هربوا القحة رأس مالهم والخرق والطيش خير خصالهم يتحلون بما ليس فيهم ويتنافسون فيما يرذلهم الصيانة عنهم بمعزل وهم من الخنى والجهل في جوف منزل وقد قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور" وقد قيل:



من تحلى بغير ما هو فيه = فضحته شواهد الامتحان
وجرى في السباق جرية = سِكِّيت نفته الجياد عند الرهان
قال: حكي عن بعضهم أنه سئل عن الحاقة فقال: الحاقة جماعة من الناس إذا صاروا في المجلس قالوا: كنا في الحاقة وقال آخر في قوله تعالى: {يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي} قال: أمر الأرض بإخراج الماء والسماء بصب الماء وكأنه على القلب وعن بعضهم في قوله تعالى: {وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ} قال: إن الله ليسألكم عن الموءودات فيما بينكم في الحياة الدنيا.
وقال آخر في قوله: {فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} قال: إنهم تعبوا في الدنيا فإذا دخلوا الجنة تنعموا
قال أبو القاسم: سمعت أبي يقول: سمعت علي بن محمد الوراق يقول: سمعت يحيى ابن معاذ الرازي يقول: أفواه الرجال حوانيتها وأسنانها صنائعها فإذا فتح الرجل باب حانوته تبين العطار من البيطار والتمار من الزمار والله المستعان على سوء الزمان وقلة الأعوان.

فصل: في حاجة المفسر إلى الفهم والتبحر في العلوم.
كتاب الله بحره عميق وفهمه دقيق لا يصل إلى فهمة إلا من تبحر في العلوم وعامل الله بتقواه في السر والعلانية وأجله عند مواقف الشبهات واللطائف والحقائق لا يفهمها إلا من ألقى السمع وهو شهيد فالعبارات للعموم وهي للسمع والإشارات.
للخصوص وهي للعقل وللطائف للأولياء وهي المشاهد والحقائق للأنبياء وهي الاستسلام
وللكل وصف ظاهر وباطن وحد ومطلع فالظاهر التلاوة والباطن الفهم والحد إحكام الحلال والحرام والمطلع أي الإشراق من الوعد والوعيد فمن فهم هذه الملاحظة بان له بسط الموازنة وظهر له حال المعاينة وفي صحيح ابن حيان عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أنزل القرآن على سبعة أحرف لكل آية منه ظهر وبطن".
ثم فوائده على قدر ما يؤهل له سمعه فمن سمعه من التالي ففائدته فيه علم أحكامه ومن سمعه كأنما يسمعه من النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرؤه على أمته بموعظته وتبيان معجزته وانشراح صدره بلطائف خطابه ومن سمعه كأنما سمعه من جبريل عليه السلام يقرؤه على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يشاهد في ذلك مطالعات الغيوب والنطق إلى ما فيه من الوعود ومن سمع الخطاب فيه من الحق فني عنده وامحت صفاته وصار موصوفا بصفات التحقيق عن مشاهدة علم اليقين وعين اليقين وحق اليقين وقد قال أبو الدرداء رضي الله عنه: لا يفقه الرجل حتى يجعل للقرآن وجوها.
وقال ابن مسعود: من أراد علم الأولين والآخرين فليثوّر القرآن.
قال ابن سبع في شفاء الصدور: هذا الذي قاله أبو الدرداء وابن مسعود لا يحصل بمجرد تفسير الظاهر وقد قال بعض العلماء: لكل آية ستون ألف فهم وما بقي من فهمها أكثر وقال آخر: القرآن يحوي سبعة وسبعين ألف علم ومائتي علم إذ لكل كلمة علم ثم يتضاعف ذلك أربعة إذ لكل كلمة ظاهر وباطن وحد ومطلع.
وبالجملة فالعلوم كلها داخلة في أفعال الله تعالى وصفاته وفي القرآن شرح ذاته وصفاته وأفعاله فهذه الأمور تدل على أن فهم معاني القرآن مجالا رحبا ومتسعا بالغا وأن المنقول من ظاهر التفسير ليس ينتهي الإدراك فيه بالنقل والسماع لا بد منه في ظاهر التفسير ليتقي به مواضع الغلط ثم بعد ذلك يتسع الفهم والاستنباط والغرائب التي لا تفهم إلا باستماع فنون كثيرة ولا بد من الإشارة إلى جمل منها ليستدل بها على أمثالها ويعلم أنه لا يجوز التهاون بحفظ التفسير الظاهر أولا ولا مطمع في الوصول إلى الباطن قبل إحكام الظاهر.
ومن ادعى فهم أسرار القرآن ولم يحكم التفسير الظاهر فهو كمن ادعى البلوغ إلى صدر البيت قبل تجاوز الباب فظاهر التفسير يجري مجرى تعلم اللغة التي لا بد منها للفهم وما لا بد فيها من استماع كثير لأن القرآن نزل بلغة العرب فما كان الرجوع فيه إلى لغتهم فلا بد من معرفتها أو معرفة أكثرها إذ الغرض مما ذكرناه التنبيه على طريق الفهم ليفتح بابه ويستدل المريد بتلك المعاني التي ذكرناها من فهم باطن علم القرآن ظاهره على أن فهم كلام الله تعالى لا غاية له كما لانهاية للمتكلم به فأما الاستقصاء فلا مطمع فيه للبشر ومن لم يكن له علم وفهم وتقوى وتدبر لم يدرك من لذة القرآن شيئا.
ومن أحاط بظاهر التفسير -وهو معنى الألفاظ في اللغة- لم يكف ذلك في فهم حقائق المعاني ومثاله قوله تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} فظاهر تفسيره واضح وحقيقة معناه غامضة فإنه إثبات للرمي ونفي له وهما متضادان في الظاهر ما لم يفهم أنه رمى من وجه ولم يرم من جهة ومن الوجه الذي لم يرم ما رماه الله عز وجل.
وكذلك قال: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ} فإذا كانوا هم القاتلين كيف يكون الله تعالى هو المعذب وإن كان تعالى هو المعذب بتحريك أيديهم فما معنى أمرهم بالقتال!
فحقيقة هذا تستمد من بحر عظيم من علوم المكاشفات فلا بد أن يعلم وجه ارتباط الأفعال بالقدرة وتفهم وجه ارتباط القدرة بقدره الله تعالى حتى تتكشف وتتضح فمن هذا الوجه تفاوت الخلق في الفهم بعد الاشتراك في معرفة ظاهر التفسير.

فصل: في أمهات مآخذ التفسير للناظر في القرآن.
لطالب التفسير مآخذ كثيرة أمهاتها أربعة:
الأول: النقل عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وهذا هو الطراز الأول لكن يجب الحذر من الضعيف فيه والموضوع فإنه كثير وإن سواد الأوراق سواد في القلب قال الميموني: سمعت أحمد بن حنبل يقول: ثلاثة كتب ليس لها أصول المغازي والملاحم والتفسير قال المحققون من أصحابه: ومراده أن الغالب أنها ليس لها أسانيد صحاح متصلة وإلا فقد صح من ذلك كثير.
فمن ذلك تفسير الظلم بالشرك في قوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ}
وتفسير الحساب اليسير بالعرض رواهما البخاري.
وتفسير القوة في {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} بالرمي رواه مسلم.
وبذلك يرد تفسير مجاهد بالخيل.
وكتفسير العبادة بالدعاء في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي}.
الثاني: الأخذ بقول الصحابي.
فإن تفسيره عندهم بمنزلة المرفوع إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما قاله الحاكم في تفسيره
وقال أبو الخطاب من الحنابلة: يحتمل ألا يرجع إليه إذا قلنا إن قوله ليس بحجة والصواب الأول لأنه من باب الرواية لا الرأي.
وقد أخرج ابن جرير عن مسروق وقال عبد الله بن مسعود: والذي لا إله إلا هو ما نزلت آية في كتاب الله إلا وأنا أعلم فيمن نزلت وأين نزلت ولو أعلم مكان أحد اعلم بكتاب الله مني تناله المطايا لأتيته وقال أيضا: كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يتجاوزهن حتى يعلم معانيهن والعمل بهن.
وصدور المفسرين من الصحابة: علي ثم ابن عباس -وهو تجرد لهذا الشأن والمحفوظ عنه أكثر من المحفوظ عن علي إلا أن ابن عباس كان أخذ عن على- ويتلوه عبد الله بن عمرو بن العاص وكل ما ورد عن غيرهم من الصحابة فحسن مقدم.

مسألة في الرجوع إلى أقوال التابعين ثم ذكر طبقات المفسرين.
وفي الرجوع إلى قول التابعي روايتان عن أحمد واختار ابن عقيل المنع وحكوه عن شعبة لكن عمل المفسرين على خلافة وقد حكوا في كتبهم أقوالهم كالضحاك ابن مزاحم وسعيد بن جبير ومجاهد وقتادة وأبي العالية الرياحي والحسن البصري والربيع بن انس ومقاتل بن سليمان وعطاء بن أبي سلمة الخراساني ومرة الهمداني وعلى بن أبي طلحة الوالبي ومحمد بن كعب القرظي وأبي بكر الأصم عبد الرحمن بن كيسان وإسماعيل بن عبد الرحمن السدي وعكرمة مولى ابن عباس وعطية العوفي وعطاء بن أبي رباح وعبد الله بن زيد بن أسلم.
فهذه تفاسير القدماء المشهورين وغالب أقوالهم تلقوها من الصحابة ولعل اختلاف الرواية عن أحمد إنما هو فيما كان من أقوالهم وآرائهم.
ومن المبرزين في التابعين الحسن ومجاهد وسعيد بن جبير ثم يتلوهم عكرمة والضحاك وإن لم يلق ابن عباس وإنما اخذ عن ابن جبير.
وأما عامر السدي فكان عامر الشعبي يطعن عليه وعلى أبي صالح لأنه كان يراهما مقصرين في النظر.
وقال الحافظ أبو أحمد بن عدي في كتابه الكامل: للكلبي أحاديث صالحة وخاصة عن أبي صالح وهو معروف بالتفسير وليس لأحد تفسير أطول منه ولا أشيع فيه وبعده مقاتل بن سليمان إلا أن الكلبي يفضل على مقاتل لما في مقاتل من المذاهب الرديئة ثم بعد هذه الطبقة ألفت تفاسير تجمع أقوال الصحابة والتابعين كتفسير سفيان بن عيينة ووكيع بن الجراح وشعبة بن الحجاج ويزيد بن هارون والمفضل وعبد الرزاق بن همام الصنعاني وإسحاق بن راهويه وروح بن عبادة ويحيى ابن قريش ومالك بن سليمان الهروي وعبد بن حميد الكشي وعبد الله بن الجراح وهشيم بن بشير وصالح بن محمد اليزيدي وعلي بن حجر بن إياس السعدي ويحيى ابن محمد بن عبد الله الهروي وعلي بن أبي طلحة وابن مردويه وسنيد والنسائي وغيرهم
ووقع في مسند أحمد والبزار ومعجم الطبراني وغيرهم كثير من ذلك.
ثم إن محمد بن جرير الطبري جمع على الناس أشتات التفاسير وقرب البعيد وكذلك عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي وأما أبو بكر النقاش وأبو جعفر النحاس فكثيرا ما استدرك الناس عليهما وعلى سننهما مكي والمهدوي حسن التأليف وكذلك من تبعهم كابن عطية وكلهم متقن مأجور فجزاهم الله خيرا.

تنبيه فيما يجب أن يلاحظ عند نقل أقوال المفسرين:
يكثر في معنى الآية أقوالهم واختلافهم ويحيكه المصنفون للتفسير بعبارات متباينة الألفاظ ويظن من لا فهم عنده أن في ذلك اختلافا فيحكيه أقوالا وليس كذلك بل يكون كل واحد منهم ذكر معنى ظهر من الآية وإنما اقتصر عليه لأنه أظهر عند ذلك القائل أو لكونه أليق بحال السائل وقد يكون بعضهم يخبر عن الشيء بلازمه ونظيره والآخر بمقصوده وثمرته والكل يؤول إلى معنى واحد غالبا والمراد الجميع فليتفطن لذلك ولا يفهم من اختلاف العبارات

اختلاف المرادات كما قيل
عباراتنا شتى وحسنك واحد
وكل إلى ذاك الجمال يشير

هذا كله حيث أمكن الجمع فأما إذا لم يمكن الجمع فالمتأخر من القولين عن الشخص الواحد مقدم عنه إن استويا في الصحة وإلا فالصحيح المقدم وكثيرا ما يذكر المفسرون شيئا في الآية على جهة التمثيل لما دخل في الآية فيظن بعض الناس أنه قصر الآية على ذلك ولقد بلغني عن شخص أنه أنكر على الشيخ أبي الحسن الشاذلي قوله في قوله تعالى: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} ما ذهب الله بولي إلا أتى بخير منه أو مثله.
الثالث: الأخذ بمطلق اللغة.
فإن القرآن نزل {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} وقد ذكره جماعة ونص عليه أحمد بن حنبل في مواضع لكن نقل الفضل بن زياد عنه وقد سئل عن القرآن تمثل له رجل ببيت من الشعر فقال: ما يعجبني فقيل: ظاهره المنع ولهذا قال بعضهم: في جواز تفسير القرآن بمقتضى اللغة روايتان عن أحمد وقيل: الكراهة تحمل على من يصرف الآية عن ظاهرها إلى معان خارجة محتملة يدل عليها القليل من كلام العرب ولا يوجد غالبا إلا في الشعر ونحوه ويكون المتبادر خلافها
وروي البيهقي في شعب الإيمان عن مالك بن أنس قال لا أوتى برجل غير عالم بلغات العرب يفسر كتاب الله إلا جعلته نكالا.
الرابع: التفسير بالمقتضى من معنى الكلام والمقتضب من قوة الشرع.
وهذا هو الذي دعا به النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لابن عباس في قوله: "اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل".
وروي البخاري رحمه الله في كتاب الجهاد في صحيحه عن علي: هل خصكم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بشيء؟ فقال ما عندنا غير ما في هذه الصحيفة أو فهم يؤتاه الرجل
وعلى هذا قال بعض أهل الذوق: للقرآن نزول وتنزل فالنزول قد مضى والتنزل باق إلى قيام الساعة.
ومن ها هنا اختلف الصحابة في معنى الآية فأخذ كل واجد برأيه على مقتضى نظره في المقتضى.
ولا يجوز تفسير القرآن بمجرد الرأي والاجتهاد من غير أصل لقوله تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} وقوله: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} وقوله: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} فأضاف البيان إليهم.
وعليه حملوا قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار" رواه البيهقي من طرق من حديث ابن عباس وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "من تكلم في القرآن برأيه فأصاب فقد اخطأ" أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وقال: غريب من حديث ابن جندب.
وقال البيهقي في شعب الإيمان: هذا إن صح فإنما أراد -والله أعلم- الرأي الذي يغلب من غير دليل قام عليه فمثل هذا الذي لا يجوز الحكم به في النوازل وكذلك لا يجوز تفسير القرآن به.
وأما الرأي الذي يسنده برهان فالحكم به في النوازل جائز وهذا معنى قول الصديق: أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إذا قلت في كتاب الله برأيي.
وقال في المدخل: في هذا الحديث نظر وإن صح فإنما أراد -والله أعلم- فقد أخطأ الطريق فسبيله أن يرجع في تفسير ألفاظه إلى أهل اللغة وفي معرفة ناسخه ومنسوخه وسبب نزوله وما يحتاج فيه إلى بيانه إلى أخبار الصحابة الذين شاهدوا تنزيله وأدوا إلينا من سنن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما يكون تبيانا لكتاب الله قال الله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}.
فما ورد بيانه عن صاحب الشرع ففيه كفاية عن ذكره من بعده وما لم يرد عنه بيان ففيه حينئذ فكرة أهل العلم بعده ليستدلوا بما ورد بيانه على ما لم يرد.
قال: وقد يكون المراد به من قال فيه برأيه من غير معرفة منه بأصول العلم وفروعه فتكون موافقته للصواب وإن وافقه من حيث لا يعرفه غير محمودة.
وقال الإمام أبو الحسن الماوردي في نكته: قد حمل بعض المتورعة هذا الحديث على ظاهره وامتنع من أن يستنبط معاني القرآن باجتهاده ولو صحبتها الشواهد ولم يعارض شواهدها نص صريح وهذا عدول عما تعبدنا من معرفته من النظر في القرآن واستنباط الأحكام منه كما قال تعالى: {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ}.
ولو صح ما ذهب إليه لم يعلم شيء بالاستنباط ولما فهم الأكثر من كتاب الله شيئا وإن صح الحديث فتأويله أن من تكلم في القرآن بمجرد رأيه ولم يعرج على سوى لفظه وأصاب الحق فقد أخطأ الطريق وإصابته اتفاق إذ الغرض أنه مجرد رأى لا شاهد له وفي الحديث أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " القرآن ذلول ذو وجوه محتملة فاحملوه على أحسن وجوهه"
وقوله: ذلول يحتمل وجهين:
أحدهما: أنه مطيع لحامليه ينطق بألسنتهم.
الثاني : أنه موضح لمعانيه حتى لا تقصر عنه أفهام المجتهدين.
وقوله: " ذو وجوه" يحتمل معنيين: أحدهما : أن من ألفاظه ما يحتمل وجوها من التأويل. والثاني: أنه قد جمع وجوها من الأوامر والنواهي والترغيب والترهيب والتحليل والتحريم.
وقوله: " فاحملوه على أحسن وجوهه" يحتمل أيضا وجهين: أحدهما: الحمل على أحسن معانيه والثاني: أحسن ما فيه من العزائم دون الرخص والعفو دون الانتقام وفيه دلالة ظاهرة على جواز الاستنباط والاجتهاد في كتاب الله.
وقال أبو الليث: النهي إنما انصرف إلى المتشابه منه لا إلى جميعه كما قال تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ} لأن القرآن إنما نزل حجة على الخلق فلو لم يجز التفسير لم تكن الحجة بالغة فإذا كان كذلك جاز لمن عرف لغات العرب وشأن النزول أن يفسره وأما من كان من المكلفين ولم يعرف وجوه اللغة فلا يجوز أن يفسره إلا بمقدار ما سمع فيكون ذلك على وجه الحكاية لا على سبيل التفسير فلا بأس به ولو أنه يعلم التفسير فأراد أن يستخرج من الآية حكمة أو دليلا لحكم فلا بأس به.
ولو قال المراد من الآية كذا من غير أن سمع منه شيئا فلا يحل وهو الذي نهي عنه انتهى
وقال الراغب في مقدمة تفسيره: اختلف الناس في تفسيرالقرآن هل يجوز لكل ذى علم الخوض فيه فمنهم من بالغ ومنع الكلام ولو تفنن الناظر في العلوم واتسع باعه في المعارف إلا بتوقيف عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو عمن شاهد التنزيل من الصحابة أو من أخذ منهم من التابعين واحتجوا بقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "من فسر القرآن برأيه فقد أخطأ" وفي رواية: "من قال في القرآن برأيه فقد كفر".
وقيل: إن كان ذا معرفة وأدب فواسع له تفسيره والعقلاء والأدباء فوضى في معرفة الأغراض واحتجوا بقوله تعالى: {لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ}.

أقسام التفسير:
وقد روى عبد الرزاق في تفسيره: حدثنا الثوري عن ابن عباس أنه قسم التفسير إلى أربعة أقسام: قسم تعرفه العرب في كلامها وقسم لا يعذر أحد بجهالته يقول من الحلال والحرام وقسم يعلمه العلماء خاصة وقسم لا يعلمه إلا الله ومن ادعى علمه فهو كاذب
وهذا تقسيم صحيح.
فأما الذي تعرفه العرب فهو الذي يرجع فيه إلى لسانهم وذلك شأن اللغة والإعراب
فأما اللغة فعلى المفسر معرفة معانيها ومسميات أسمائها ولا يلزم ذلك القارئ ثم إن كان ما تتضمنه ألفاظها يوجب العمل دون العلم كفى فيه خبر الواحد والاثنين والاستشهاد بالبيت والبيتين وإن كان مما يوجب العلم لم يكف ذلك بل لا بد أن يستفيض ذلك اللفظ وتكثر شواهده من الشعر.
وأما الإعراب فما كان اختلافه محيلا للمعنى وجب على المفسر والقارئ تعلمه ليتوصل المفسر إلى معرفة الحكم وليسلم القارئ من اللحن وإن لم يكن محيلا للمعنى وجب تعلمه على القارئ ليسلم من اللحن ولا يجب على المفسر ليتوصل إلى المقصود دونه على أن جهله نقص في حق الجميع.
إذا تقرر ذلك فما كان من التفسير راجعا إلى هذا القسم فسبيل المفسر التوقف فيه على ما ورد في لسان العرب وليس لغير العالم بحقائق اللغة ومفهوماتها تفسير شيء من الكتاب العزيز ولا يكفي في حقه تعلم اليسير منها فقد يكون اللفظ مشتركا وهو يعلم أحد المعنيين.
الثاني: ما لا يعذر واحد بجهله وهو ما تتبادر الأفهام إلى معرفة معناه من النصوص المتضمنة شرائع الأحكام ودلائل التوحيد وكل لفظ أفاد معنى واحدا جليا لا سواه يعلم أنه مراد الله تعالى.
فهذا القسم لا يختلف حكمه ولا يلتبس تأويله إذ كل أحد يدرك معنى التوحيد من قوله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ} وأنه لا شريك له في إلهيته.
وإن لم يعلم أن لا موضوعة في اللغة للنفي وإلا للإثبات وأن مقتضى هذه الكلمة الحصر ويعلم كل أحد بالضرورة أن مقتضى قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} ونحوها من الأوامر طلب إدخال ماهية المأمور به في الوجود وإن لم يعلم أن صيغة أفعل مقتضاها الترجيح وجوبا أو ندبا فما كان من هذا القسم لا يقدر أحد يدعي الجهل بمعاني ألفاظه لأنها معلومة لكل أحد بالضرورة.
الثالث: ما لا يعلمه إلا الله تعالى فهو ما يجرى مجرى الغيوب نحو الآي المتضمنة قيام الساعة ونزول الغيث وما في الأرحام وتفسير الروح والحروف المقطعة وكل متشابه في القرآن عند أهل الحق فلا مساغ للاجتهاد في تفسيره ولا طريق إلى ذلك إلا بالتوقيف من أحد ثلاثة أوجه إما نص من التنزيل أو بيان من النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو إجماع الأمة على تأويله فإذا لم يرد فيه توقيف من هذه الجهات علمنا أنه مما استأثر الله تعالى بعلمه.
والرابع: ما يرجع إلى اجتهاد العلماء وهو الذي يغلب عليه إطلاق التأويل وهو صرف اللفظ إلى ما يئول إليه فالمفسر ناقل والمؤول مستنبط وذلك استنباط الأحكام وبيان المجمل وتخصيص العموم.
وكل لفظ احتمل معنيين فصاعدا فهو الذي لا يجوز لغير العلماء الاجتهاد فيه وعلى العلماء اعتماد الشواهد والدلائل وليس لهم أن يعتمدوا مجرد رأيهم فيه على ما تقدم بيانه وكل لفظ احتمل معنيين فهو قسمان:
أحدهما: أن يكون أحدهما أظهر من الآخر فيجب الحمل على الظاهر إلا أن يقوم دليل على أن المراد هو الخفي دون الجلي فيحمل عليه.
الثاني: أن يكونا جليين والاستعمال فيهما حقيقة وهذا على ضربين:
أحدهما : أن تختلف أصل الحقيقة فيهما فيدور اللفظ بين معنيين هو في أحدهما حقيقة لغوية وفي الآخر حقيقة شرعية فالشرعية أولى إلا أن تدل قرينته على إرادة اللغوية نحو قوله تعالى: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} وكذلك إذا دار بين اللغوية والعرفية فالعرفية أولى لطريانها على اللغة ولو دار بين الشرعية والعرفية فالشرعية أولى لأن الشرع ألزم.
الضرب الثاني: لا تختلف أصل الحقيقة بل كلا المعنيين استعمل فيهما في اللغة أو في الشرع أو العرف على حد سواء وهذا أيضا على ضربين:
أحدهما: أن يتنافيا اجتماعا ولا يمكن إرادتهما باللفظ الواحد كالقرء حقيقة في الحيض والطهر فعلى المجتهد أن يجتهد في المراد منهما بالأمارات الدالة عليه فإذا وصل إليه كان هو مراد الله في حقه وإن اجتهد مجتهد آخر فأدى اجتهاده إلى المعنى الآخر كان ذلك مراد الله تعالى في حقه لأنه نتيجة اجتهاده وما كلف به فإن لم يترجح أحد الأمرين لتكافؤ الأمارات فقد اختلف أهل العلم فمنهم من قال يخير في الحمل على أيهما شاء ومنهم من قال يأخذ بأعظمهما حكما ولا يبعد اطراد وجه ثالث وهو أن يأخذ بالأخف كاختلاف جواب المفتين.
الضرب الثاني: ألا يتنافيا اجتماعا فيجب الحمل عليهما عند المحققين ويكون ذلك أبلغ في الإعجاز والفصاحة وأحفظ في حق المكلف إلا أن يدل دليل على إرادة أحدهما وهذا أيضا ضربان:
أحدهما: أن تكون دلالته مقتضية لبطلان المعنى الآخر فيتعين المدلول عليه للإرادة.
الثاني: ألا يقتضى بطلانه وهذا اختلف العلماء فيه فمنهم من قال: يثبت حكم المدلول عليه ويكون مرادا ولا يحكم بسقوط المعنى الآخر بل يجوز أن يكون مرادا أيضا وأن لم يدل عليه دليل من خارج لأن موجب اللفظ عليهما فاستويا في حكمه وإن ترجح أحدهما بدليل من خارج ومنهم من قال: ما ترجح بدليل من خارج اثبت حكما من الآخر لقوته بمظاهرة الدليل الآخر.
فهذا أصل نافع معتبر في وجوه التفسير في اللفظ المحتمل والله أعلم.
إذا تقرر ذلك فينزل قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من تكلم في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار" على قسمين من هذه الأربعة:
أحدهما: تفسير اللفظ لاحتياج المفسر له إلى التبحر في معرفة لسان العرب.
الثاني: حمل اللفظ المحتمل على أحد معنييه لاحتياج ذلك إلى معرفة أنواع من العلوم: علم العربية واللغة والتبحر فيهما ومن علم الأصول ما يدرك به حدود الأشياء وصيغ الأمر والنهي والخبر والمجمل والمبين والعموم والخصوص والظاهر والمضمر والمحكم والمتشابه والمؤول والحقيقة والمجاز والصريح والكناية والمطلق والمقيد ومن علوم الفروع ما يدرك به استنباطا والاستدلال على هذا أقل ما يحتاج إليه ومع ذلك فهو على خطر فعليه أن يقول يحتمل كذا ولا يجزم إلا في حكم اضطر إلى الفتوى به فأدى اجتهاده إليه فيحرم خلافه مع تجويز خلافه عند الله.
فإن قيل: فقد ورد عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "ما نزل من القرآن من آية إلا ولها ظهر وبطن ولكن حرف حد ولكل حد مطلع" فما معنى ذلك؟
قلت: أما قوله: "ظهر وبطن" ففي تأويله أربعة أقوال:
أحدها- وهو قول الحسن-: إنك إذا بحثت عن باطنها وقسته على ظاهرها وقفت على معناها.
الثاني- قول أبي عبيدة-: إن القصص ظاهرها الإخبار بهلاك الأولين وباطنها عظة للآخرين
الثالث - قول ابن مسعود رضي الله عنه-: إنه ما من آية إلا عمل بها قوم ولها قوم سيعملون بها.
الرابع - قاله بعض المتأخرين-: إن ظاهرها لفظها وباطنها تأويلها.
وقول أبي عبيدة أقربها.
وأما قوله: "ولكل حرف حد" ففيه تأويلان:
أحدهما : لكل حرف منتهى فيما أراد الله من معناه الثاني: معناه أن لكل حكم مقدارا من الثواب والعقاب.
وأما قوله: "ولكل حد مطلع" ففيه قولان:
أحدهما : لكل غامض من المعاني والأحكام مطلع يتوصل إلى معرفته ويوقف على المراد به
والثاني: لكل ما يستحقه من الثواب والعقاب مطلع يطلع عليه في الآخرة ويراه عند المجازاة وقال بعضهم منه ما لا يعلم تأويله إلا الله الواحد القهار وذلك آجال حادثة في أوقات آتية كوقت قيام الساعة والنفخ في الصور ونزول عيسى بن مريم وما أشبه ذلك.
لقوله: {لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } ومنه ما يعلم تأويله كل ذي علم باللسان الذي نزل به القرآن وذلك إبانة غرائبه ومعرفة المسميات بأسمائها اللازمة غير المشتركة منها والموصوفات بصفاتها الخاصة دون ما سواها فإن ذلك لا يجهله أحد منهم وذلك كسامع منهم لو سمع تاليا يتلو: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ. أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ} لم يجهل أن معنى الفساد هو ما ينبغي تركه مما هو مضرة وأن الصلاح مما ينبغي فعله مما هو منفعة وإن جهل المعاني التي جعلها الله إفسادا والمعاني التي جعلها الله إصلاحا فأما تعليم التفسير ونقله عمن قوله حجة ففيه ثواب وأجر عظيم كتعليم الأحكام من الحلال والحرام.

تنبيه في كلام الصوفية في تفسير القرآن:
فأما كلام الصوفية في تفسير القرآن فقيل: ليس تفسيرا وإنما هي معان ومواجيد يجدونها عند التلاوة كقول بعضهم في: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ} إن المراد: النفس فأمرنا بقتال من يلينا لأنها أقرب شيء إلينا وأقرب شيء إلى الإنسان نفسه.
قال ابن الصلاح في فتاويه: وقد وجدت عن الإمام أبي الحسن الواحدي انه صنف أبو عبد الرحمن السلمي حقائق التفسير فإن كان اعتقد أن ذلك تفسير فقد كفر.
قال: وأنا أقول: الظن بمن يوثق به منهم إذا قال شيئا من أمثال ذلك أنه لم يذكره تفسيرا ولا ذهب به مذهب الشرح للكلمة المذكورة في القرآن العظيم فإنه لو كان كذلك كانوا قد سلكوا مسلك الباطنية وإنما ذلك منهم ذكر لنظير ما ورد به القرآن فإن النظير يذكر بالنظير فمن ذلك مثال النفس في الآية المذكورة فكأنه قال أمرنا بقتال النفس ومن يلينا من الكفار ومع ذلك فياليتهم لم يتساهلوا في مثل ذلك لما فيه من الإبهام والالتباس انتهى.

فصل:
حكى الشيخ أبو حيان عن بعض من عاصره أن طالب علم التفسير مضطر إلى النقل في فهم معاني تركيبه بالإسناد إلى مجاهد وطاوس وعكرمة وأضرابهم وأن فهم الآيات يتوقف على ذلك ثم بالغ الشيخ في رده لأثر علي السابق.
والحق أن علم التفسير منه ما يتوقف على النقل كسبب النزول والنسخ وتعيين المبهم وتبيين المجمل ومنه مالا يتوقف ويكفي في تحصيله التفقه على الوجه المعتبر.
وكأن السبب في اصطلاح بعضهم على التفرقة بين التفسير والتأويل التمييز بين المنقول والمستنبط ليحمل على الاعتماد في المنقول وعلى النظر في المستنبط تجويزا له وازديادا وهذا من الفروع في الدين.
تنخيل لما سبق.
واعلم أن القرآن قسمان:
أحدهما ورد تفسيره بالنقل عمن يعتبر تفسيره وقسم لم يرد.
والأول ثلاثة أنواع: إما أن يرد التفسير عن النبي صلى الله عيه وسلم أو عن الصحابة أو عن رؤوس التابعين فالأول يبحث في عن صحة السند والثاني ينظر في تفسير الصحابي فإن فسره من حيث اللغة فهم أهل اللسان فلا شك في اعتمادهم وإن فسره بما شاهده من الأسباب والقرائن فلا شك فيه وحينئذ إن تعارضت أقوال جماعة من الصحابة فإن أمكن الجمع فذاك وإن تعذر قدم ابن عباس لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بشره بذلك حيث قال: "اللهم علمه التأويل" وقد رجح الشافعي قول زيد في الفرائض لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أفرضكم زيد" فإن تعذر الجمع جاز للمقلد أن يأخذ بأيها شاء وأما الثالث وهم رؤوس التابعين إذا لم يرفعوه إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا إلى أحد من الصحابة رضي الله عنهم فحيث جاز التقليد فيما سبق فكذا هنا وإلا وجب الاجتهاد.
الثاني: ما لم يرد فيه نقل عن المفسرين وهو قليل وطريق التوصل إلى فهمه النظر إلى مفردات الألفاظ من لغة العرب ومدلولاتها واستعمالها بحسب السياق وهذا يعتني به الراغب كثيرا في كتاب المفردات فيذكر قيدا زائدا على أهل اللغة في تفسير مدلول اللفظ لأنه اقتنصه من السياق.

فصل: فيما يجب على المفسر البداءة به.
الذي يجب على المفسر البداءة به العلوم اللفظية وأول ما يجب البداءة به منها تحقيق الألفاظ المفردة فتحصيل معاني المفردات من ألفاظ القرآن من أوائل المعادن لمن يريد أن يدرك معانيه وهو كتحصيل اللبن من أوائل المعادن في بناء ما يريد أن يبنيه.
قالوا: وليس ذلك في علم القرآن فقط بل هو نافع في كل علم من علوم الشرع وغيره وهو كما قالوا: إن المركب لا يعلم إلا بعد العلم بمفرداته لأن الجزء سابق على الكل في الوجود من الذهني والخارجي فنقول النظر في التفسير هو بحسب أفراد الألفاظ وتراكيبها.
وأما بحسب الأفراد فمن وجوه ثلاثة:
من جهة المعاني التي وضعت الألفاظ المفردة بإزائها وهو يتعلق بعلم اللغة.
ومن جهة الهيئات والصيغ الواردة على المفردات الدالة على المعاني المختلفة وهو من علم التصريف.
ومن جهة رد الفروع المأخوذة من الأصول إليها وهو من علم الاشتقاق.
وأما بحسب التركيب فمن وجوه أربعة:
الأول : باعتبار كيفية التراكيب بحسب الإعراب ومقابله من حيث إنها مؤدية أصل المعنى وهو ما دل عليه المركب بحسب الوضع وذلك متعلق بعلم النحو.
الثاني: باعتبار كيفية التركيب من جهة إفادته معنى المعنى أعني لازم أصل المعنى الذي يختلف باختلاف مقتضى الحال في تراكيب البلغاء وهو الذي يتكلف بإبراز محاسنه علم المعاني.
الثالث: باعتبار طرق تأدية المقصود بحسب وضوح الدلالة وحقائقها ومراتبها وباعتبار الحقيقة والمجاز والاستعارة والكناية والتشبيه وهو ما يتعلق بعلم البيان.
والرابع: باعتبار الفصاحة اللفظية والمعنوية والاستحسان ومقابله وهو يتعلق بعلم البديع

مسألة في أن الإعجاز يكون في اللفظ والمعنى والملاءمة:
وقد سبق لنا في باب الإعجاز أن إعجاز القرآن لاشتماله على تفرد الألفاظ التي يتركب منها الكلام مع ما تضمنه من المعاني مع ملاءمته التي هي نظوم تأليفه.
فأما الأول : وهو معرفة الألفاظ فهو أمر نقلي يؤخذ عن أرباب التفسير ولهذا كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقرأ قوله تعالى: {فَاكِهَةً وَأَبّاً}فلا يعرفه فيراجع نفسه ويقول: ما الأب ويقول: إن هذا منك تكلف وكان ابن عباس- وهو ترجمان القرآن- يقول: لا أعرف {حَنَاناً} ولا {غِسْلِينٍ} ولا {الرَّقِيمِ}.
وأما المعاني التي تحتملها الألفاظ فالأمر في معاناتها أشد لأنها نتائج العقول
وأما رسوم النظم فالحاجة إلى الثقافة والحذق فيها أكثر لأنها لجام الألفاظ وزمام المعاني وبه يتصل أجزاء الكلام ويتسم بعضه ببعض فتقوم له صورة في النفس يتشكل بها البيان فليس المفرد بذرب اللسان وطلاقته كافيا لهذا الشأن ولا كل من أوتي خطاب بديهة ناهضة بحمله ما لم يجمع إليها سائر الشروط.

مسألة في أن أحسن طرق التفسير أن يفسر القرآن بالقرآن:
قيل: أحسن طريق التفسير أن يفسر القرآن بالقرآن فما أجمل في مكان فقد فصل في موضع آخر وما اختصر في مكان فإنه قد بسط في آخر فإن أعياك ذلك فعليك بالسنة فإنها شارحة للقرآن وموضحة له قال تعالى: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} ولهذا قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه" يعني السنة فإن لم يوجد في السنة يرجع إلى أقوال الصحابة فإنهم أدرى بذلك لما شاهدوه من القرائن ولما أعطاهم الله من الفهم العجيب فإن لم يوجد ذلك يرجع إلى النظر والاستنباط بالشرط السابق.

مسألة فيما يجب على المفسر من التحوط في التفسير:
ويجب أن يتحرى في التفسير مطابقة المفسر وأن يتحرز في ذلك من نقص المفسر عما يحتاج إليه من إيضاح المعنى المفسر أو أن يكون في ذلك المعنى زيادة لا تليق بالغرض أو أن يكون في المفسر زيغ عن المعنى المفسر وعدول عن طريقه حتى يكون غير مناسب له ولو من بعض أنحائه بل يجتهد في أن يكون وفقه من جميع الأنحاء وعليه بمراعاة الوضع الحقيقي والمجازي ومراعاة التأليف وأن يوافي بين المفردات وتلميح الوقائع فعند ذلك تتفجر له ينابيع الفوائد
ومن شواهد الإعراب قوله تعالى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ} ولولا الإعراب لما عرف الفاعل من المفعول به.
ومن شواهد النظم قوله تعالى: {وَاللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ} فإنها منتظمة مع ما قبلها منقطعة عما بعدها وقد يظهر الارتباط وقد يشكل أمره فمن الظاهر قوله تعالى: {قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} ووجه ظهوره أنه لا يستقيم أن يكون السؤال والجواب من واحد فتعين أن يكون قوله: {قُلِ اللَّهُ} جواب سؤال كأنهم لما سألوا سمعوا ما قبله من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو: {مَنْ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} أجابهم بقوله: {قُلِ اللَّهُ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} فترك ذكر السؤال.
ونظيره: {قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ}.

مسألة في النهي عن ذكر لفظ الحكاية عن الله تعالى ووجوب تجنب:
إطلاق الزائد على بعض الحروف الواردة في القرآن.
وكثيرا ما يقع في كتب التفسير حكى الله تعالى وينبغي تجنبه.
قال الإمام أبو نصر القشيري في كتابه المرشد: قال معظم أئمتنا: لا يقال كلام الله يحكى ولا يقال حكى الله لأن الحكاية الإتيان بمثل الشيء وليس لكلامه مثل وتساهل قوم فأطلقوا لفظ الحكاية بمعنى الإخبار وكثيرا ما يقع في كلامهم إطلاق الزائد على بعض الحروف كما في نحو: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ} والكاف في نحو: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} ونحوه.
والذي عليه المحققون تجنب هذا اللفظ في القرآن إذ الزائد ما لا معنى له وكلام الله منزه عن ذلك.
وممن نص على منع ذلك في المتقدمين الإمام داود الظاهري فذكر أبو عبد الله أحمد بن يحيى بن سعيد الداودي في الكتاب المرشد له في أصول الفقه على مذهب داود الظاهري وروى بعض أصحابنا عن أبي سليمان أنه كان يقول: ليس في القرآن صلة بوجه وذكر أبو محمد بن داود وغيره من أصحابنا مثل ذلك والذي عليه أكثر النحويين خلاف هذا ثم حكى عن أبي داود مثله يزعم الصلة فيها كقوله تعالى: {مَثَلاً مَا بَعُوضَةً} وقال: إن ما ها هنا للتعليل مثل: أحبب حبيبك هَوْنًا ما.

فصل: في تقسم التأويل إلى منقاد ومستكره.
التأويل ينقسم إلى منقاد ومستكره:
فالأول: ما لا تعرض فيه بشاعة أو استقباح وقد يقع فيه الخلاف بين الأئمة: إما الاشتراك في اللفظ نحو: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} هل هو من بصر العين أو القلب.
وإما لأمر راجع إلى النظم كقوله تعالى: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا} هل هذا الاستثناء مقصور على المعطوف وحده أو عائد إلى الجميع؟
وأما لغموض المعنى ووجازة النظم كقوله تعالى: {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} وإما لغير ذلك.
وأما المستكره فما يستبشع إذا عرض على الحجة وذلك على أربعة أوجه:
الأول : أن يكون لفظا عاما فيختص ببعض ما يدخل تحته كقوله: {وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ} فحمله بعضهم على علي رضي الله عنه فقط.
والثاني: أن يلفق بين اثنين كقول من زعم تكليف الحيوانات في قوله: {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ} مع قوله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} إنهم مكلفون كما نحن.
الثالث: ما استعير فيه كقوله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} في حمله على حقيقته
الرابع: ما أشعر باشتقاق بعيد كما قال بعض الباطنية في البقرة: إنه إنسان يبقر عن أسرار العلوم وفي الهدهد إنه إنسان موصوف بجودة البحث والتنقيب.
والأول أكثر ما يروج على المتفقه الذي لم يتبحروا في معرفة الأصول والثاني على المتكلم القاصر في معرفة شرائط النظم والثالث على صاحب الحديث الذي لم يتهذب في شرائط قبول الأخبار والرابع على الأديب الذي لم يتهذب بشرائط الاستعارات والاشتقاقات.

فائدة فيما نقل عن ابن عباس في تفسير بعض الآيات:
روي عن ابن عباس أنه سئل عن قوله تعالى : {أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ} فقال: الموت.
قال السهيلي: وهو تفسير يحتاج لتفسير.
ورأيت لبعض المتأخرين أن مراد ابن عباس أن الموت سيفنى كما يفنى كل شيء كما جاء أنه يذبح على الصراط فكأن المعنى لو كنتم حجارة أو حديدا لبادر إليكم الموت ولو كنتم الموت الذي يكبر في صدوركم فلا بد لكم من الموت والله أعلم بتأويل ذلك.
قال: وبقي في نفسي من تأويل هذه الآية شيء حتى يكمل الله نعمته في فهمها.

فصل: أصل الوقوف على معاني القرآن التدبر.
أصل الوقوف على معاني القرآن التدبر والتفكر واعلم أنه لا يحصل للناظر فهم معاني الوحي حقيقة ولا يظهر له أسرار العلم من غيب المعرفة وفي قلبه بدعة أو إصرار على ذنب أو في قلبه كبر أو هوى أو حب الدنيا أو يكون غير متحقق الإيمان أو ضعيف التحقيق أو معتمدا على قول مفسر ليس عنده إلا علم بظاهر أو يكون راجعا إلى معقوله وهذه كلها حجب وموانع وبعضها آكد من بعض إذا كان العبد مصغيا إلى كلام ربه ملقي السمع وهو شهيد القلب لمعاني صفات مخاطبه ناظرا إلى قدرته تاركا للمعهود من علمه ومعقوله متبرئا من حوله وقوته معظما للمتكلم مفتقرا إلى التفهم بحال مستقيم وقلب سليم وقوة علم وتمكن سمع لفهم الخطاب وشهادة غيب الجواب بدعاء وتضرع وابتئاس وتمسكن وانتظار للفتح عليه من عند الفتاح العليم وليستعن على ذلك بأن تكون تلاوته على معاني الكلام وشهادة وصف المتكلم من الوعد بالتشويق والوعيد بالتخويف والإنذار بالتشديد فهذا القارئ أحسن الناس صوتا بالقرآن وفي مثل هذا قال تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ}
وهذا هو الراسخ في العلم جعلنا الله من هذا الصنف والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.

فصل: في القرآن علم الأولين والآخرين.
وفي القرآن علم الأولين والآخرين وما من شيء إلا ويمكن استخراجه منه لمن فهمه الله تعالى حتى إن بعضهم استنبط عمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثلاثا وستين من قوله تعالى في سورة المنافقين: {وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا} فإنها رأس ثلاث وستين سورة وعقبها بالتغابن ليظهر التغابن في فقده وقوله تعالى مخبرا عن عيسى: {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ } إلى قوله: {أُبْعَثُ حَيّاً} ثلاث وثلاثون كلمة وعمره ثلاث وثلاثون سنة
وقد استنبط الناس زلزلة عام اثنين وسبعمائة من قوله تعالى: {إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ} فإن الألف باثنين والذال بسبعمائة.
وكذلك استنبط بعض أئمة العرب فتح بيت المقدس وتخليصه من أيدي العدو في أول سورة الروم بحساب الجمل وغير ذلك.

فصل: قد يستنبط الحكم من السكوت عن الشيء.
وقد يستنبط الحكم من السكوت عن الشيء كقوله تعالى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ} الآية ولم يذكر الأعمام والأخوال وهم من المحارم وحكمهم حكم من سمي في الآية وقد سئل الشعبي عن ذلك فقال: لئلا يضعه العم عند ابنه وهو ليس بمحرم لها وكذا الخال فيفضي إلى الفتنة والمعنى فيه أن كل من استثني مشترك بابنه في المحرمية إلا العم والخال وهذا من الدلائل البليغة على وجوب الاحتياط في سترهن.
ولقائل أن يقول: هذه المفسدة محتملة في أبناء بعولتهن لاحتمال أن يذرها أبو البعل عند ابنه الآخر وهو ليس بمحرم لها وأبو البعل ينقض قولهم إن من استثنى اشترك هو وابنه في المحرمية
ومنه قوله تعالى: {وَلا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ} الآية ولم يذكر الأولاد فقيل لدخولهم في قوله: {بُيُوتِكُمْ}.

فصل: في تقسيم القرآن إلى ما هو بين بنفسه وإلى ما ليس ببين في نفسه فيحتاج إلى بيان.
ينقسم القرآن العظيم إلى:
ما هو بين بنفسه بلفظ لا يحتاج إلى بيان منه ولا من غيره وهو كثير ومنه قوله تعالى: {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ} الآية وقوله: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ} الآية.
وقوله: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} وقوله: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ} وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقاً} وإلى ما ليس ببين بنفسه فيحتاج إلى بيان وبيانه إما فيه في آية أخرى أو في السنة لأنها موضوعة للبيان قال تعالى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ}
والثاني: ككثير من أحكام الطهارة والصلاة والزكاة والصيام والحج والمعاملات والأنكحة والجنايات وغير ذلك كقوله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} ولم يذكر كيفية الزكاة ولا نصابها ولا أوقاصها ولا شروطها ولا أحوالها ولا من تجب عليه ممن لا تجب عليه وكذا لم يبين عدد الصلاة ولا أوقاتها.
وكقوله: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} ولم يبين أركانه ولا شروطه ولا ما يحل في الإحرام وما لا يحل ولا ما يوجب الدم ولا ما لا يوجبه وغير ذلك والأول قد أرشدنا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إليه بما ثبت في الصحيحين عن ابن مسعود: لما نزل : {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} شق ذلك على المسلمين فقالوا: يا رسول الله وأينا لا يظلم نفسه! قال: "ليس ذلك إنما هو الشرك ألم تسمعوا ما قال لقمان لابنه" {يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} فحمل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الظلم ها هنا على الشرك لمقابلته بالإيمان واستأنس عليه بقول لقمان.
وقد يكون بيانه مضمرا فيه كقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} فهذا يحتاج إلى بيان لأن {حَتَّى} لا بد لها من تمام وتأويله حتى إذا جاؤوها جاؤوها وفتحت أبوابها
ومثله: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ} أي لكان هذا القرآن على رأي النحويين
قال ابن فارس: ويسمى هذا عند العرب الكف.
وقد يومئ إلى المحذوف إما متأخر كقوله تعالى: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ} فإنه لم يجئ له جواب في اللفظ لكن أومأ إليه قوله: {فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ} وتقديره: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ} كمن قسا قلبه.
وإما متقدم كقوله تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ} فإنه أومأ إلى ما قبله: {وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً} كأنه قال: أهذا الذي هو هكذا خير أم من هو قانت؟ فأضمر المبتدأ.
ونظيره: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ} ومن هذه صفته: {كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ} !
وقد يكون بيانه واضحا وهو أقسام :
أحدها: أن يكون عقبه كقوله تعالى: {اللَّهُ الصَّمَدُ} قال محمد بن كعب القرظي: تفسيره: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ. وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ}.
وكقوله تعالى: {إِنَّ الإِِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً} قال أبو العالية: تفسيره: {إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً. وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً} وقال ثعلب: سألني محمد بن طاهر: ما الهلع؟ فقلت: قد فسره الله تعالى.
وكقوله: {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ} فسره بقوله: {مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً}.
وقوله: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} ومعلوم أنه لم يرد به المسيح وعزيرا فنزلت الآية مطلقة اكتفاء بالدلالة الظاهرة على أنه لا يعذبهما الله وكان ذلك بمنزلة الاستثناء باللفظ فلما قال المشركون هذا المسيح وعزير قد عبدا من دون الله أنزل الله: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ}.
وقوله: {يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً} ففسر رؤية البرق بأنه ليس في رؤيته إلا الخوف من الصواعق والطمع في الأمطار وفيها لطيفة وهى تقديم الخوف على الطمع إذ كانت الصواعق تقع من أول برقة ولا يحصل المطر إلا بعد تواتر البرقات فإن تواترها لا يكاد يكذب فقدم الخوف على الطمع ناسخا للخوف كمجيء الفرج بعد الشدة.
وكقوله: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ} الآية وفيها لطيفة حيث بدأ بالماشي على بطنه فإنها سيقت لبيان القدرة وهو أعجب من الذي بعده وكذا ما يمشي على رجلين أعجب ممن يمشي على أربع.
وكقوله تعالى: {فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} فهذا عام في المسلم والكافر ثم بين أن المراد المؤمنات بقوله: {مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} فخرج تزوج الأمة الكافرة.
وقوله تعالى: {وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى} فإن الأول اسم منه والثاني أفعل تفضيل بدليل قوله بعده {وَأَضَلُّ سَبِيلاً} ولهذا قرأ أبو عمرو الأول بالإمالة لأنه اسم والثاني بالتصحيح ليفرق بين ما هو اسم وما هو أفعل منه بالإمالة وتركها.
فإن قلت: فقد قال النحويون أفعل التفضيل لا يأتي من الخلق فلا يقال: زيد أعمى من عمرو لأنه لا يتفاوت!
قلت: إنما جاز في الآية لأنه من عمى القلب أي من كان في هذه الدنيا أعمى القلب عما يرى من القدرة الإلهية ولا يؤمن به فهو عما يغيب عنه من أمر الآخرة أعمى أن يؤمن به أي أشد عمى ولا شك أن عمى البصيرة متفاوت.
ومنه قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} قال البيهقي في شعب الإيمان: الأشبه أن المراد بالصبر ها هنا الصبر على الشدائد لأنه أتبع مدح الصابرين بقوله: {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ} إلى قوله: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ. الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ}.
الثاني: أن يكون بيانه منفصلا عنه في السورة معه أو في غيره كقوله تعالى: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} وبيانه في سورة الانفطار بقوله: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ. ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ}.
وقوله في سورتي النمل والقصص: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا} ولم يبين في ليل ولا نهار وبينه في سورة الدخان بقوله: {فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} ثم بينها في ليلة القدر بقوله: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} فالمباركة في الزمان هي ليلة القدر في هذه السورة لأن الإنزال واحد وبذلك يرد على من زعم أن المباركة ليلة النصف من شعبان وعجب كيف غفل عن ذلك.
وقد استنبط بعضهم هنا بيانا آخر وهو أنها ليلة سبعة عشر من قوله تعالى: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ} وذلك ليلة سبع عشرة من رمضان وفي ذلك كلام
وقوله تعالى: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} فسره في آية الفتح: {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ}.
وقوله تعالى: {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ. وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ} وقد فسره في سورة فاطر: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ}.
وقوله: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلاً} بين ذلك بقوله في النحل: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنْثَى}.
وذكر الله الطلاق مجملا وفسره في سورة الطلاق.
وقال تعالى: {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} فاستثنى الأزواج وملك اليمين ثم حظر تعالى الجمع بين الأختين وبين الأم والابنة والرابة بالآية الأخرى.
ومنه قوله تعالى: {نَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} فإن ظاهره مشكل لأن الله سبحانه قد هدى كفارا كثيرا وماتوا مسلمين وإنما المراد لا يهدي من كان في علمه أنه قد حقت عليه كلمة العذاب وبيانه بقوله تعالى في السورة: {أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ} وقوله في سورة أخرى: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ. وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ}.
ومنه قوله تعالى: {أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} وكثير من الناس يدعون فلا يستجاب لهم وبيانه بقوله تعالى بل إياه تدعون فيكشف ما تدعون إليه إن شاء فبين أن الإجابة متعلقة بالمشيئة على أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد فسر الإجابة بقوله: "ما من مسلم دعا الله بدعوة ليس فيها قطيعة رحم ولا إثم إلا أعطاه الله إحدى ثلاث خصال إما أن يعجل دعوته وإما أن يدخرها له في الآخرة وإما أن يدفع عنه من السوء مثلها".
ومنه قوله تعالى: {وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا} وكثير من الناس يريد ذلك فلا يحصل له وبيانه في قوله: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ} فهو كالذي قبله متعلق بالمشيئة.
ومنه قوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ} وقال في آية أخرى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} فإنه قد يستشكل اجتماعهما لأن الوجل خلاف الطمأنينة وهذا غفلة عن المراد لأن الاطمئنان إنما يكون عن ثلج القلب وشرح الصدر بمعرفة التوحيد والعلم وما يتبع ذلك من الدرجة الرفيعة والثواب الجزيل والوجل إنما يكون عند خوف الزيغ والذهاب عن الهدى وما يستحق به الوعيد بتوجيل القلوب كذلك وقد اجتمعا في قوله تعالى: {تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} لأن هؤلاء قد سكنت نفوسهم إلى معتقدهم ووثقوا به فانتفى عنهم الشك والارتياب الذي يعرض إن كان كلامهم فيمن أظهر الإسلام تعوذا فجعل لهم حكمة دون العلم الموجب لثلج الصدور وانتفاء الشك ونظائره كثيرة.
ومنه قوله تعالى في قصة لوط: {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ} فلم يستثن امرأته في هذا الموضع وهي مستثناة في المعنى بقوله في الآية الأخرى: {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلاّ امْرَأَتَكَ} فأظهر الاستثناء في هذه الآية.
وكقوله: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} الآية فإنها نزلت تفسيرا وبيانا لمجمل قوله: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} لأن هذه لما نزلت لم يفهم مرادها.
وقوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ} هي تفسير لقوله: {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} الآية
وقوله: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ} الآية فإن هذه الآية مجملة لا يعلم منها من يرث من الرجال والنساء بالفرض والتعصيب ومن يرث ومن لا يرث ثم بينه في آية أخرى بقوله: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} الآيات.
وكقوله: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} فهذا الاستثناء مجمل بينه في آية أخرى بقوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ}.
وكقوله: {لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ} الآية فهذا الابتلاء مجمل لا يعلم أحد في الحل أم في الحرم بينه قوله: {لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} الآية.
وكقوله: {وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} وهذا المجمل بينه في آية أخرى بقوله: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ} الآية.
وكقوله تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} قال العلماء: بيان هذا العهد قوله تعالى: {لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ} الآية فهذا عهده عز وجل وعهدهم تمام الآية في قوله: {لأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} فإذا وفوا العهد الأول أعطوا ما وعدوا وقوله تعالى: {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً} يرد عليهم بقوله: {يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ. إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ}.
وقوله تعالى: {رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ} فقيل لهم: {وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} وقيل: بل نزل بعده: {إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ} والتقدير: إن كشفنا العذاب تعودوا.
وقوله: {لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} فرد عليهم بقوله: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ}.
وقوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ} بيانه: {الرَّحْمَنُ. عَلَّمَ الْقُرْآنَ}
وقوله: {لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا} فقيل لهم: {لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ}.
وقوله: {وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ} فقيل لهم في الجواب: { فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ} الآية.
ومنه: {أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ} فقيل لهم: {مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ}.
ومنه: {لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا} فرد عليهم بقوله: {لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ}.
وقوله: {أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ} رد عليهم بقوله: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ. لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ}.
وقوله: {مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ} فقيل لهم: { وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ}.
وقوله: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً} فقيل في سورة أخرى: {وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ}.
وقوله: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ} تفسير هذا الاختصام ما قال في سورة أخرى: {قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ} الآية.
وقوله تعالى: {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} وفسرها في موضع آخر بقوله: {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ}.
ومنه حكاية عن فرعون -لعنه الله-: {وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ} فرد عليه في قوله: {وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ}.
وقوله: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ} وذكر هذا الحلف في قوله: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ}.
وقوله في قصة نوح عليه السلام: {أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ} بَيَّن في مواضع أخر: {وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا}.
وقوله: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ} أي: أوعية للعلم فقيل لهم: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً}
وجعل بعضهم من هذا قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ}.
قال: فإن آية البقرة وهى قوله: {حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} تدل على أن قوله: {رَبِّ أَرِنِي} لم يكن عن نفسه وإنما أراد به مطالبة قومه ولم يثبت في التوراة أنه سأل الرؤية إلا وقت حضور قومه معه وسؤالهم ذلك.
ومن ذلك قوله تعالى: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} بينه في آية النساء بقوله: {مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ}.
فإن قيل: فهلا فسرها آية مريم: {أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ} ؟ الآية قيل: لا نسلم أولا أن هذه الآية في النبيين فقط لقوله: {وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ} وقوله: {وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا} وهذا تصريح بالأنبياء وغيرهم كيف وقد ذكرت مريم وهي صديقة على أحد القولين ولو سلم أنها في الأنبياء خاصة فهم بعض من أنعم الله عليهم وجعلهم في آية النساء صنفا من المنعم عليهم فكانت آية النساء من حيث هي عامة أولى بتفسير قوله: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} ولأن آية مريم ليس فيها إلا الإخبار بأن الله أنعم عليهم وذلك هو معنى قوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ}.
والرغبة إلى الله تعالى في الثبات عليها هي نفس الطاعة لله ولرسوله فإن العبد إذا هدي إلى الصراط المستقيم فقد هدى إلى الطاعة المقتضية أن يكون مع المنعم عليهم وظهر بهذا أن آية النساء أمس بتفسير سورة الحمد من الآية التي في سورة مريم.

فصل:
قد يكون اللفظ مقتضيا لأمر ويحمل على غيره وقد يكون اللفظ مقتضيا لأمر ويحمل على غيره لأنه أولى بذلك الاسم منه وله أمثلة: منها تفسيرهم السبع المثاني بالفاتحة مع أن الله تعالى أخبر أن القرآن كله مثاني ومنها قوله عن أهل الكساء: "هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا" وسياق القرآن يدل على إرادة الأزواج وفيهن نزلت ولا يمكن خروجهن عن الآية لكن لما أريد دخول غيرهن قيل بلفظ التذكير: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ} فعلم أن هذه الإرادة شاملة لجميع أهل البيت الذكور والإناث بخلاف قوله: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ} ودل أن عليا وفاطمة أحق بهذا الوصف من الأزواج
ومنها قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن المسجد الذي أسس على التقوى: "هو مسجدي هذا" وهو يقتضي أن ما ذكره أحق بهذا الاسم من غيره والحصر المذكور حصر الكمال كما يقال: هذا هو العالم العدل وإلا فلا شك أن مسجد قباء هو مؤسس على التقوى وسياق القرآن يدل على أنه مراد بالآية.

فصل:
قد يكون اللفظ محتملا لمعنيين في موضع ويعين في موضع آخر.
وقد يكون اللفظ محتملا لمعنيين وفي موضع آخر ما يعينه لأحدهما كقوله تعالى في سورة البقرة: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} فيحتمل أن يكون السمع معطوفا على ختم ويحتمل الوقف على قلوبهم لأن الختم إنما يكون على القلب وهذا أولى لقوله في الجاثية: {وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً} وقوله تعالى في سورة الحجر: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} فالاستثناء منقطع لقوله في الإسراء: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً} ولو كان متصلا لاستثناهم فلما لم يستثنهم دل على أنهم لم يدخلوا.
وقوله: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} فقد قيل: إن حياة كل شيء إنما هو بالماء قال ابن درستويه: وهذا غير جائز في العربية لأنه لو كان المعنى كذلك لم يكن {حَيٍّ} مجرورا ولكان منصوبا وإنما { حَيٍّ} صفة لشيء ومعنى الآية: خلق الخلق من الماء ويدل له قوله في موضع آخر: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ}.
ومما يحتمل قوله تعالى: {فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ} فإن فليلقه يحتمل الأمر والخبر كأنه قال فاقذفيه في اليم يلقيه اليم ونحتمل أن يكون أمرا بإلقائه.
ومنه قوله تعالى: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً} فإنه يحتمل أن يكون خلقته وحيدا فريدا من ماله وولده وفي الآية بحث آخر وهو أن أبا البقاء أجاز فيها وفي قوله: { وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ} أن تكون الواو عاطفة وهو فاسد لأنه يلزم منه أن يكون الله قد أمر نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يتركه وكأنه قال: اتركني واترك من خلقت وحيدا وكذلك اتركني واترك المكذبين فيتعين أن يكون المراد: خل بيني وبينهم وهي واو مع كقوله: "لو تركت الناقة وفصيلها لرضعها"
وقد يكون للفظ ظاهر وباطن كقوله تعالى: {أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ} ظاهره الكعبة وباطنه القلب قال العلماء ونحن نقطع أن المراد بخطاب إبراهيم الكعبة لكن العالم يتجاوز إلى القلب بطريق الاعتبار عند قوم والأولى عند آخرين ومن باطنه إلحاق سائر المساجد به ومن ظاهره عند قوم العبور فيه.

فصل: في ذكر الأمور التي تعين على المعنى عند الإشكال.
ومما يعين على المعنى عند الإشكال أمور:
أحدها: رد الكلمة لضدها كقوله تعالى: {وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً} أي: ولا كفورا والطريقة أن يرد النهي منه إلى الأمر فنقول معنى: أطع هذا أو هذا أطع أحدهما وعلى هذا معناه في النهي ولا تطع واحدا منهما.
الثاني: ردها إلى نظيرها كما في قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} فهذا عام وقوله: {فَوْقَ اثْنَتَيْنِ} قول حُدّ أحد طرفيه وأرخى الطرف الآخر إلى غير نهاية لأن أول ما فوق الثنتين الثلاث وآخره لا نهاية له وقوله: {وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً} محدودة الطرفين فالثنتان خارجتان من هذا الفصل وأمسك الله عن ذكر الثنتين وذكر الواحدة والثلاث وما فوقها وأما قوله في الأخوات: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} الآية فذكر الواحدة والاثنتين وأمسك عن ذكر الثلاث وما فوقهن فضمن كل واحد من الفصلين ما كف عن ذكره في الآخر فوجب حمل كل واحد منهما فيما أمسك عنه فيه على ما ذكره في غيره.
الثالث: ما يتصل بها من خبر أو شرط أو إيضاح في معنى آخر كقوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً} يحتمل أن يكون معناها: من كان يريد أن يعز أو تكون العزة له لكن قوله تعالى: {فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً} يحتمل أن يكون معناها: من كان يريد أن يعلم لمن العزة فإنها لله وكذلك قوله: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} فإنه لا دلالة فيها على الحال التي هي شرط في عقوبته المعينة وأنواع المحاربة والفساد كثيرة وإنما استفيدت الحال من الأدلة الدالة على أن القتل على من قتل ولم يأخذ المال والصلب على من جمعهما والقطع على من أخذ المال ولم يقتل والنفي على من لم يفعل شيئا من ذلك سوى السعي في الأرض بالفساد
الرابع: دلالة السياق فإنها ترشد إلى تبيين المجمل والقطع بعدم احتمال غير المراد وتخصيص العام وتقييد المطلق وتنوع الدلالة وهو من أعظم القرائن الدالة على مراد المتكلم فمن أهمله غلط في نظيره وغالط في مناظراته وانظر إلى قوله تعالى: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} كيف تجد سياقه يدل على أنه الذليل الحقير.
الخامس: ملاحظة النقل عن المعنى الأصلي وذلك أنه قد يستعار الشيء لمشابهة ثم يستعار من المشابه لمشابه المشابه ويتباعد عن المسمى الحقيقي بدرجات فيذهب عن الذهن الجهة المسوغة لنقله من الأول إلى الآخر وطريق معرفة ذلك بالتدريج كقوله تعالى: {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} وذلك أن أصل دون للمكان الذي هو أنزل من مكان غيره ومنه الشيء الدون للحقير ثم استعير للتفاوت في الأحوال والرتب فقيل زيد دون عمرو في العلم والشرف ثم اتسع فيه فاستعير في كل ما يتجاوز حدا إلى حد وتخطى حكما إلى حكم آخر كما في الآية المذكورة والتقدير لا تتجاوزوا ولاية المؤمنين إلى ولاية الكافرين
وكذلك قوله تعالى: {ادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ} أي تجاوزوا الله في دعائكم إلى دعاء آلهتكم الذين تزعمون أنهم يشهدون لكم يوم القيامة أي لا تستشهدوا بالله فإنها حجة يركن إليها العاجز عن البينات من الناس بل ائتوا ببينة تكون حجة عند الحكام وهذا يؤذن بأنه لم يبق تشبث سوى قولهم: "الله يشهد لنا عليكم" هذا إذا جعلت من دون الله متعلقا بادعوا فإن جعلته متعلقا بـ {شُهَدَاءَكُمْ} احتمل معنيين: أحدهما : أن يكون المعنى ادعوا الذين تجاوزتم في زعمكم شهادة الله أي شهادتهم لكم يوم القيامة والثاني: على أن يراد بشهدائكم آلهتكم أي ادعوا الذين تجاوزتم في اتخاذكم ألوهية الله إلى ألوهيتهم ويحتمل أن يكون التقدير: {مِنْ دُونِ اللَّهِ} أي: من غير المؤمنين يشهدون لكم أنكم آمنتم بمثله وفي هذا إرخاء عنان الاعتماد على أن فصحاءهم تأنف نفوسهم من مساجلة الحق الجلي بالباطل اللجلجي وتعليقه بادعوا على هذا جائز.
ومنه قوله تعالى: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ } فإنه عطفه على قوله: {أَلَمْ تَرَ} لأنها بمعنى: هل رأيت.
السادس: معرفة النزول وهو من أعظم المعين على فهم المعنى وسبق منه في أول الكتاب جملة وكانت الصحابة والسلف يعتمدونه وكان عروة بن الزبير قد فهم من قوله تعالى: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} أن السعي ليس بركن فردت عليه عائشة ذلك وقالت: "لو كان كما قلت لقال فلا جناح عليه ألا يطوف بهما" وثبت أنه إنما أتى بهذه الصيغة لأنه كان وقع فزع في قلوب طائفة من الناس كانوا يطوفون قبل ذلك بين الصفا والمروة للأصنام فلما جاء الإسلام كرهوا الفعل الذي كانوا يشركون به فرفع الله ذلك الجناح من قلوبهم وأمرهم بالطواف رواه البخاري في صحيحه فثبت أنها نزلت ردا على من كان يمتنع من السعي
ومن ذلك قصة مروان بن الحكم سؤاله ابن عباس: "لئن كان كل امرئ فرح بما أوتي وأحب أن يحمد بما لم يفعل معذبا لنعذبن أجمعون" فقال ابن عباس: هذه الآيات نزلت في أهل الكتاب ثم تلا: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ} وتلا: {لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا} قال ابن عباس: سألهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن شيء فكتموه وأخبروه بغيره فخرجوا وقد أروه أن قد أخبروه بما سألهم عنه واستحمدوا بذلك إليه وفرحوا بما أوتوا من كتمانهم ما سألهم عنه.
وقد سبق فيه كلام في النوع الأول في معرفة سبب النزول فاستحضره.
ومن هذا ما قاله الشافعي في قوله تعالى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً} أنه لا متمسك فيها لمالك على العموم لأنهم سألوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن أشياء فأجابهم عن المحرمات من تلك الأشياء وحكاه غير سعيد بن جبير.
السابع: السلامة من التدافع كقوله تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ} فإنه يحتمل أن الطوائف لا تنفر من أماكنها وبواديها جملة بل بعضهم لتحصيل التفقه بوفودهم على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإذا رجعوا إلى قومهم أعلموهم بما حصل لهم والفائدة في كونهم لا ينفرون جميعا عن بلادهم حصول المصلحة في حفظ من يتخلف من بعضهم ممن لا يمكن نفيره.
ويحتمل أن يكون المراد بالفئة النافرة هي من تسير مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مغازيه وسراياه والمعنى حينئذ أنه ما كان لهم أن ينفروا أجمعين مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مغازيه لتحصيل المصالح المتعلقة ببقاء من يبقى في المدينة والفئة النافرة مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تتفقه في الدين بسبب ما يؤمرون به ويسمعون منه فإذا رجعوا إلى من بقي بالمدينة أعلموهم بما حصل لهم في صحبة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من العلم. والاحتمالان قولان للمفسرين:
قال الشيخ تقي الدين ابن دقيق العيد: والأقرب عندي هو الاحتمال الأول لأنا لو حملناه على الاحتمال الثاني لخالفه ظاهر قوله تعالى: {مَا كَانَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ} وقوله تعالى: {فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً} فإن ذلك يقتضي إما طلب الجميع بالنفير أو إباحته وذلك في ظاهره يخالف النهي عن نفر الجميع وإذا تعارض محملان يلزم من أحدهما معارضته ولا يلزم من الآخر فالثاني أولى ولا نعني بلزوم التعارض لزوما لا يجاب عنه ولا يتخرج على وجه مقبول بل ما هو أعم من ذلك فإن ما أشرنا إليه من الآيتين يجاب عنه بحمل "أو" في قوله: {أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً} على التفصيل دون التخيير كما رضيه بعض المتأخرين من النحاة فيكون نفيرهم ثبات مما لا يدعون الحاجة إلى نفيرهم فيه جميعا ونفيرهم جميعا فيما تدعو الحاجة إليه ويحمل قوله: {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ} على ما إذا كان الرسول هو النافر للجهاد ولم تحصل الكفاية إلا بنفير الجميع ممن يصلح للجهاد فهذا أولى من قول من يقول بالنسخ أو أن تكون هذه الآية ناسخة لما اقتضى النفير جميعا.
ومن المفسرين من يقول: إن منع النفير جميعا حيث يكون رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالمدينة فليس لهم أن ينفروا جميعا ويتركوه وحده.
والحمل أيضا على هذا التفسير الذي ذكرناه أولى من هذا لأن اللفظ يقتضي أن نفيرهم للتفقه في الدين والإنذار ونفيرهم مع بقاء رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعدهم لا يناسبه التعليل بالتفقه في الدين إذ التفقه منه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتعلم الشرائع من جهته فكيف يكون خروجهم عليه معللا للتفقه في الدين.
ومنه قوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} فإنه يحتمل أن يكون من باب التسهيل والتخفيف ويحتمل أن يكون من باب التشديد بمعنى أنه ما وجدت الاستطاعة فاتقوا أي لا تبقى من الاستطاعة شيء.
وبمعنى التخفيف يرجع إلى أن المعنى: فاتقوا الله ما تيسر عليكم أو ما أمكنكم من غير عسر
قال الشيخ تقي الدين الفشيري: ويصلح معنى التخصيص قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم"

فصل: في الظاهر والمؤول.
وقد يكون اللفظ محتملا لمعنيين وهو في أحدهما أظهر فيسمى الراجح ظاهرا والمرجوح مؤولا
مثال المؤول قوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} فإنه يستحيل حمل المعية على القرب بالذات فتعين صرفه عن ذلك وحمله إما على الحفظ والرعاية أو على القدرة والعلم والرؤية كما قال تعالى: { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ}.
وكقوله تعالى: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} فإنه يستحيل حمله على الظاهر لاستحالة أن يكون آدمي له أجنحة فيحمل على الخضوع وحسن الخلق.
وكقوله: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} يستحيل أن يشد في القيامة في عنق كل طائع وعاص وغيرهما طير من الطيور فوجب حمله على التزام الكتاب في الحساب لكل واحد منهم بعينه.
ومثال الظاهر قوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ} فإن الباغي يطلق على الجاهل وعلى الظالم وهو فيه أظهر وأغلب كقوله تعالى: {ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ}.
وقوله: {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} فيقال: للانقطاع طهر وللوضوء والغسل غير أن الثاني أظهر وكقوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ} فيقال: للابتداء التمام والفراغ غير أن الفراغ أظهر.
وقوله تعالى: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} فيحتمل أن يكون الخيار في الأجل أو بعده والظاهر الأول لكنه يحمل على أنه مفارقة الأجل وقوله: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا } والظاهر يقتضي حمله على الاستحباب لأن قوله: { فَلا جُنَاحَ} بمنزلة قوله: "لا بأس" وذلك لا يقتضي الوجوب ولكن هذا الظاهر متروك بل هو واجب لأن طواف الإفاضة واجب ولأنه ذكره بعد التطوع فقال: {وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً} فدل على أن النهي السابق نهي عن ترك واجب لا نهي عن ترك مندوب أو مستحب.
وقد يكون الكلام ظاهرا في شيء فيعدل به عن الظاهر بدليل آخر كقوله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} والشهر اسم لثلاثة لأنه أقل الجمع.
وكقوله تعالى: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَِلأُمِّهِ السُّدُسُ} فالظاهر اشتراط ثلاثة من الإخوة لكن قام الدليل من خارج على أن المراد اثنان لأنهما يحجبانها عن الثلث إلى السدس.

فصل: في اشتراك اللفظ بين حقيقتين أو حقيقة ومجاز.
قد يكون اللفظ مشتركا بين حقيقتين أو حقيقة ومجاز ويصح حمله عليهما جميعا كقوله تعالى: {لا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ} قيل: المراد يُضَارِر وقيل: يُضَارِر أي الكاتب والشهيد لا يضارر فيكتم الشهادة والخط وهذا أظهر ويحتمل أن من دعا الكاتب والشهيد لا يضارره فيطلبه في وقت فيه ضرر.
وكذلك قوله: {لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا} فعلى هذا يجوز أن يقال أراد الله بهذا اللفظ كلا المعنيين على القولين أما إذا قلنا بجواز استعمال المشترك في معنييه فظاهر وأما إذا قلنا بالمنع فبأن يكون اللفظ قد خوطب به مرتين مرة أريد هذا ومرة هذا وقد جاء عن أبي الدرداء رضي الله عنه: "لا يفقه الرجل كل الفقه حتى يرى للقرآن وجوها كثيرة" رواه أحمد أي اللفظ الواحد يحتمل معاني متعددة ولا يقتصر به على ذلك المعنى بل يعلم أنه يصلح لهذا ولهذا
وقال ابن القشيري في مقدمة تفسيره: مالا يحتمل إلا معنى واحدا حمل عليه وما احتمل معنيين فصاعدا بأن وضع الأشياء متماثلة كالسواد حمل على الجنس عند الإطلاق وإن وضع لمعان مختلفة فإن ظهر أحد المعنيين حمل على الظاهر إلا أن يقوم الدليل وإن استويا سواء كان الاستعمال فيهما حقيقة أو مجازا أو في أحدهما حقيقة وفي الآخر مجازا كلفظ العين والقرء واللمس فإن تنافى الجمع بينهما فهو مجمل فيطلب البيان من غيره وإن لم يتناف فقد مال قوم إلى الحمل على المعنيين والوجه التوقف فيه لأنه ما وضع للجميع بل وضع لآحاد مسميات على البدل وادعاء إشعاره بالجميع بعيد نعم يجوز أن يريد المتكلم به جميع المحامل ولا يستحيل ذلك عقلا وفي مثل هذا يقال: يحتمل أن يكون المراد كذا ويحتمل أن يكون كذا.

فصل: قد ينفي الشيء ويثبت باعتبارين.
وقد ينفي الشيء ويثبت باعتبارين كما سبق في قوله: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ
رَمَى} ثم أثبته لسر غامض وهو أن الرمي الثاني غير الأول فإن الأول عني به الرمي بالرعب والثاني عني به بالتراب حين رمى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في وجوه أعدائه بالتراب والحصى وقال: "شاهت الوجوه" فانهزموا فأنزل الله يخبره أن انهزامهم لم يكن لأجل التراب وإنما هو بما أوقع في قلوبهم من الرعب.

فصل: في الإجمال ظاهرا وأسبابه.
وأما ما فيه من الإجمال في الظاهر فكثير وله أسباب:
أحدها: أن يعرض من ألفاظ مختلفة مشتركة وقعت في التركيب كقوله تعالى: {فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ} قيل: معناه كالنهار مبيضة لا شيء فيها وقيل: كالليل مظلمة لاشيء فيها
وكقوله: {وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ} قيل: أقبل وأدبر.
وكالأمة في قوله تعالى: {وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً} بمعنى الجماعة وفي قوله: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} بمعنى الرجل الجامع للخير المقتدى به وبمعنى الدين في قوله تعالى: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} وبمعنى الزمان في قوله تعالى: {وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ}.
وكالذرية فإنها في الاستعمال العرفي الأدنى ومنه: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ} وقد يطلق على الأعلى بدليل قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ} الآية ثم قال: {ذُرِّيَّةً} وبها يجاب عن الإشكال المشهور في قوله تعالى: {حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} على بحث فيه
وقال مكي في قوله تعالى: {فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} أي: أول من يعبد الله ومن قال: "الأنِفين" فقوله مردود لأنه يلزم أن يكون العبدين لأنه إنما يقال: عبد من كذا أي أنف.
الثاني: من حذف في الكلام كقوله: {وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} قيل معناه ترغبون في نكاحهن لما لهن وقيل معناه: عن نكاحهن لزمانتهن وقلة مالهن والكلام يحتمل الوجهين لأن العرب تقول رغبت عن الشيء إذا زهدت فيه ورغبت في الشيء إذا حرصت عليه فلما ركب الكلام تركيبا حذف معه حرف الجر احتمل التأويلين جميعا وجعل منه بعضهم قوله تعالى في سورة النساء: {فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً. مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} أي يقولون: {مَا أَصَابَكَ} قال: ولولا هذا التقدير لكان مناقضا لقوله: {قُل كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ}.
وقوله: {وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً} أي: آية مبصرة فظلموا أنفسهم بقتلها وليس المراد أن الناقة كانت مبصرة لا عمياء.
الثالث: من تعيين الضمير كقوله تعالى: {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} فالضمير في {يَدِهِ} يحتمل عوده على الولي وعلى الزوج ورجح الثاني لموافقته للقواعد فإن الولي لا يجوز أن يعفو عن مال يتيمه بوجه من الوجوه وحمل الكلام المحتمل على القواعد الشرعية أولى
فإن قيل: لو كان خطابا للأزواج لقال: "إلا أن تعفو" بالخطاب لأن صدر الآية خطاب لهم بقوله: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ} إلى قوله: {نِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ}.
قلنا: هو التفات من الخطاب إلى الغيبة وهو من أنواع البديع.
ومنه قوله تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} فيحتمل أن يكون الضمير الفاعلي الذي في {يَرْفَعُهُ} عائدا على العمل والمعنى أن الكلم الطيب -وهو التوحيد- يرفع العمل الصالح لأنه لا تصلح الأعمال إلا مع الإيمان ويحتمل أن يكون الضمير عائدا على الكلم ويكون معناه أن العمل الصالح هو الذي يرفع الكلم الطيب وكلاهما صحيح لأن الإيمان فعل وعمل ونية لا يصح بعضها إلا ببعض وقوله تعالى: {فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً. فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً} فالهاء الأولى كناية عن الحوافر وهي موريات أي أثرن بالحوافر نقعا والثانية كناية عن الإغارة أي المغيرات صبحا {فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً} جمع المشركين فأغاروا بجمعهم.
وقد صنف ابن الأنباري كتابا في تعيين الضمائر الواقعة في القرآن في مجلدين.
الرابع: من مواقع الوقف والابتداء كقوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} فقوله: {الرَّاسِخُونَ} يحتمل أن يكون معطوفا على اسم الله تعالى ويحتمل أن يكون ابتداء كلام وهذا الثاني هو الظاهر ويكون حذف "أما" المقابلة كقوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} ويؤيده آية البقرة: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً}.
الخامس : من جهة غرابة اللفظ كقوله تعالى: {فَلا تَعْضُلُوهُنَّ} {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} {وَسَيِّداً وَحَصُوراً} وغير ذلك مما صنف فيه العلماء من كتب غريب القرآن.
السادس: من جهة كثرة استعماله الآن كقوله تعالى: {أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ}.
و{ يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ} بمعنى: يسمعون ولا يقول أحد الآن: ألقيت سمعي
وكذا قوله: {ثَانِيَ عِطْفِهِ} أي: متكبرا.
وقوله: {أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ} أي: يسرون ما في ضمائرهم.
وكذا: {فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ} أي: نادما.
وكذا: {فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ} أي: لم يتلقوا النعم بشكر.
السابع: من جهة التقديم والتأخير كقوله تعالى: {وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَاماً وَأَجَلٌ مُسَمّىً} تقديره: ولو كلمة سبقت من ربك وأجل مسمى لكان لزاما ولولا هذا التقدير لكان منصوبا كالإلزام.
وقوله تعالى: {يَسْأَلونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا} أي: يسألونك عنها كأنك وقوله: {لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ. كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ} فهذا غير متصل وإنما هو عائد على قوله: {قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ} فصارت أنفال الغنائم لك إذا أنت راض بخروجك وهم كارهون فاعترض بين الكلام الأمر بالتقوى وغيره.
وقوله: {حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ ِلأَبِيهِ} معناه: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ}.
الثامن: من جهة المنقول المنقلب كقوله تعالى: {وَطُورِ سِينِينَ} أي طورسينا.
وقوله: {سَلامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ} أي: الناس وقيل: إدريس وفي حرف ابن مسعود: إدراس
التاسع: المكرر القاطع لوصل الكلام في الظاهر كقوله تعالى: {وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ} معناه: يدعون من دون الله شركاء إلا الظن
وقوله تعالى: {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ} معناه: الذين استكبروا لمن آمن من الذين استضعفوا.

فصل: فيما ورد فيه مبينا للإجمال.
اعلم أن الكتاب هو القرآن المتلو وهو إما نص وهو ما لا يحتمل إلا معنى كقوله تعالى: {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} وإما ظاهر وهو ما دل على معنى مع تجويز غيره.
والرافع لذلك الاحتمال قرائن لفظية ومعنوية واللفظية تنقسم إلى متصلة ومنفصلة أما المتصلة فنوعان: نوع يصرف اللفظ إلى غير الاحتمال الذي لولا القرينة لحمل عليه ويسمى تخصيصا وتأويلا ونوع يظهر به المراد من اللفظ ويسمى بيانا.
فالأول: كقوله تعالى: {وَحَرَّمَ الرِّبا} فإنه دل على أن المراد من قوله سبحانه: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} البعض دون الكل الذي هو ظاهر بأصل الوضع وبين أنه ظاهر في الاحتمال الذي دلت عليه القرينة في سياق الكلام وللشافعي رحمه الله قول بإجمال البيع لأن الربا مجمل وهو في حكم المستثنى من البيع واستثناء المجهول من المعلوم يعود بالإجمال على أصل الكلام والصحيح الأول فإن الربا عام في الزيادات كلها وكون البعض غير مراد نوع تخصيص فلا تتغير به دلالة الأوضاع.
ومثال النوع الثاني: قوله تعالى: {مِنَ الْفَجْرِ} فإنه فسر مجمل قوله تعالى: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ} إذ لولا {مِنَ الْفَجْرِ} لبقي الكلام الأول على تردده وإجماله.
وقد ورد أن بعض الصحابة كان يربط في رجله الخيط الأبيض والأسود ولا يزال يأكل ويشرب حتى يتبين له لونهما فأنزل الله تعالى بعد ذلك: {مِنَ الْفَجْرِ} فعلموا أنه أراد الليل والنهار.
وأما اللفظية المنفصلة فنوعان أيضا: تأويل وبيان.
فمثال الأول قوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} فإنه دل على أن المراد بقوله تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} الطلاق الرجعي إذا لولا هذا القرينة لكان الكل منحصرا في الطلقتين وهذه القرينة وإن كانت مذكورة في سياق ذكر الطلقتين إلا أنها جاءت في آية أخرى فلهذا جعلت من قسم المنفصلة.
ومثال الثاني قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ. إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} فإنه دل على جواز الرؤية ويفسر به قوله تعالى: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} حيث كان مترددا بين نفي الرؤية أصلا وبين نفي الإحاطة والحصر دون أصل الرؤية.
وأيضا قوله تعالى: {كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} فإنه لما حجب الفجار عن رؤيته خزيا لهم دل على إثباتها للأبرار وارتفع به الإجمال في قوله: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ}.
وأما القرائن المعنوية فلا تنحصر ومن مثله قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} فإن صيغته صيغة الخبر ولكن لا يمكن حمله على حقيقته فإنهن قد لا يتربصن فيقع خبر الله بخلاف مخبره وهو محال فوجب اعتبار هذه القرينة حمل الصيغة على معنى الأمر صيانة لكلام الله تعالى عن احتمال المحال ونظائره كثيرة فيما ورد من صيغة الخبر والمراد بها الأمر.

[ البرهان في علوم القرآن ( 2 / 146 ـ 216 ) ]


رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
الحادي, النوع

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 12:17 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir