فصلٌ
في النَّوعِ الثَّاني : الخِلاَفُ الوَاقِعُ فِي التَّفسيرِ مِنْ جِهَةِ الاسْتِدْلالِ .
وَأَمَّا النَّوعُ الثَّاني مِنْ سببي الاخْتِلاَفِ ، وَهُوَ مَا يُعلَمُ بِالاسْتِدْلالِ لاَ بِالنَّقلِ ، فَهَذَا أَكْثَرُ مَا فِيهِ الْخَطَأُ مِنْ جِهَتَيْنِ حَدَثَتَا بَعْدَ تَفْسِيرِِ الصَّحابةِ والتَّابعينَ وتابعيهم بإحسانٍ ، فَإِنَّ التَّفاسِيرَ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا كَلامُ هَؤُلاَءِ صِرْفًا لاَ يَكَادُ يُوجَدُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ هَاتَيْنِ الجِهَتَيْنِ ، مِثْلُ تَفْسِيرِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ ، وَوَكِيعٍ ، وَعَبْدِِ بنِ حُمَيْدٍ ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ إِبْرَاهِيمَ دُحَيْمٍ ، وَمِثْلُ تَفْسِيرِ الإِمَامِ أَحْمَدَ ، وَإِسْحَاقَ بنِ رَاهَوَيْهِ ، وَبَقِيِّ بنِ مَخْلَدٍ ، وَأَبِي بَكْرِِ بنِ الْمُنْذِرِ ، وَسُفْيَانَ بنِ عُيَيْنَةَ ، وَسُنَيْدٍ ، وَابنِ جَرِيرٍ ، وَابنِ أَبِي حَاتمٍ ، وَأَبِي سَعِيدٍ الأَشَجِّ ، وَأَبِي عَبْدِ اللهِ بنِ مَاجَهْ ، وَابْنِ مَرْدَوَيْهِ .
إِحْدَاهُمَا : قَوْمٌ اعْتَقَدُوا مَعَانِيَ ، ثمَّ أَرَادُوا حَمْلَ أَلْفَاظِ القُرْآنِ عَلَيْهَا .
وَالثَّانِيَةِ : قَوْمٌ فَسَّرُوا القُرْآنَ بِمُجَرَّدِ مَا يَسُوغُ أَنْ يُرِيدَهُ بِكَلاَمِهِ مَنْ كَانَ مِنْ النَّاطِقِينَ بِلُغَةِ العَرَبِ بكلامه مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إِلَى الْمُتَكَلِّمِ بِالقُرْآنِ وَالْمُنْزَلِ عَلَيْهِ ، وَالْمُخَاطَبِ بِهِ .
فَالأَوَّلُونَ رَاعَوا الْمَعْنَى الَّذِي رَأَوْهُ ، مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إِلَى مَا تَسْتَحِقُّهُ أَلْفَاظُ القُرْآنِ مِن الدِّلالةِ وَالبَيَانِ ، وَالآخِرُونَ رَاعَوا مُجَرَّدَ اللَّفْظِِ وَمَا يَجُوزُ عِنْدَهُم أَنْ يُرِيدَ بِهِ العَرَبيُّ , مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إِلى مَا يَصْلُحُ لِلْمُتَكلِّمِ بِهِ وَسِياقِ الكَلامِ ، ثمَّ هَؤُلاَءِ كَثِيرًا مَا يَغْلَطُونَ في احْتِمَالِ اللَّفْظِ لِذَلِكَ الْمَعْنَى فِي اللُّغَةِ كَمَا يَغْلَطُ فِي ذَلِك الَّذِين قَبْلَهُم ، كَمَا أَنَّ الأَوَّلِينَ كَثِيرًا مَا يَغْلَطُونَ فِي صِحَّةِ الْمَعْنَى الَّذِي فَسَّرُوا بِهِ الْقُرْآنَ ، كَمَا يَغْلَطُ فِي ذَلِكَ الآخِرُونَ ، وَإِنْ كَانَ نَظَرُ الأَوَّلِينَ إِلَى الْمَعْنَى أَسْبَقَ ، وَنَظَرُ الآخِرِين إلى اللَّفْظِ أَسْبَقَ .
والأَوَّلُونَ صِنْفَانِ :
تَارَةً يَسْلِبُونَ لَفْظَ القُرْآنِ وَمَا دَلَّ عَلَيْهِ وَأُرِيدَ بِهِ .
وَتَارَةً يَحْمِلُونَهُ عَلَى مَا لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ وَلَمْ يُرَدْ بِهِ .
وَفِي كِلاَ الأَمْرَيْنِ قَد يَكُونُ مَا قَصَدُوا نَفْيَهُ أَوْ إِثْبَاتَهُ مِنَ الْمَعنَى بَاطِلاً ؛ فَيَكُونُ خَطَؤُهُم فِي الدَّليلِ وَالْمَدْلُولِ ، وقدْ يكونُ حقًّا فيكونُ خطؤهُمْ في الدَّليلِ لا فِي الْمَدْلُولِ .
وَهَذَا كَمَا أَنَّهُ وَقَعَ فِي تَفْسِيرِ القُرْآنِ فَإنَّهُ وَقَعَ أَيْضًا في تَفْسِيرِ الحَدِيثِ .