وَالفِعْلُ بَعْدَ الفاءِ فِي الرَّجَا نُصِبْ = كَنَصْبِ مَا إِلَى التَّمَنِّي يَنْتَسِبْ([1])
أجازَ الكوفيونَ قاطبةً أنْ يُعاملَ الرجاءُ معاملةَ التمنِّي، فيُنصَبُ جوابُه المقرونُ بالفاءِ، كما نُصِبَ جوابُ التمني، وتَابَعَهُم المصنِّفُ، ومما ورَدَ منه قولُه تعالى: { لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ} في قراءةِ مَنْ نصَبَ {أَطَّلِعَ} وهو حَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ.
وَإِنْ عَلَى اسْمٍ خَالِصٍ فِعْلٌ عُطِفْ = تَنْصِبُهُ "أَنْ" ثَابِتًا أَوْ مُنْحَذِفْ([2])
يجُوزُ أنْ يُنصَبَ بأنْ محذوفةً أو مذكورةً، بعد عاطفٍ تقدَّمَ عليه اسمٌ خالصٌ أي: غيرُ مقصودٍ به معنى الفعلِ وذلك كقولِه:
330- وَلُبْسُ عَبَاءَةٍ وَتَقَرَّ عَيْنِي = أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ لُبْسِ الشُّفُوفِ([3])
فـ "تَقَرَّ" منصوبٌ بـ "أَنْ" محذوفةً، وهي جائزةُ الحذفِ؛ لأنَ قبلَه اسمًا صريحًا، وهو لُبْسُ، وكذلك قولُه:
331- إِنِّي وَقَتْلِي سُلَيْكًا ثُمَّ أَعْقِلَهُ = كَالثَّوْرِ يَضْرِبُ لَمَّا عَافَت ِالبَقَرُ([4])
فـ "أُعْقِلَهُ" منصوبٌ بـ "أَنْ" محذوفةً، وهي جائزةُ الحذفِ؛ لأن قبلَه اسمًا صريحًا، وهو "قَتْلِي"، وكذلكَ قولُه:
332- لَوْلاَ تَوَقُّعُ مُعَتَرٍّ فَأُرْضِيَهُ = مَا كُنْتُ أُوْثِرُ إِتْرَابًا عَلَى تَرَبِ ([5])
فـ "أُرْضِيَهُ" منصوبٌ بـ "أَنْ" محذوفةً جوازًا بعدَ الفاءِ؛ لأن قبلَها اسمًا صريحًا، وهو "تَوَقُّعُ" وكذلك قولُه تعالى: { وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إلاَّ وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً} فـ{ يُرْسِلَ} مَنْصوبٌ بـ "أَنْ" الجائزةِ الحذفِ؛ لأن قبلَه " وحيًا" وهو اسمٌ صريحٌ.
فإنْ كانَ الاسمُ غيرَ صريحٍ أي: مقصودًا به معنى الفعلِ لم يجُزِ النصبُ نحو: "الطائرُ فَيَغْضَبُ زَيْدٌ الذبابُ" فـ "يَغْضَبُ" يجِبُ رفْعُه ؛لأنه معطوفٌ على "طائرٍ" وهو اسمٌ غيرُ صريحٍ؛ لأنه واقعٌ موقعَ الفعلِ، من جهةِ أنه صلةٌ لأل، وحقُّ الصلةِ أن تكُونَ جملةً، فوضَعَ "طائر" موضِعَ "يَطِيرُ" والأصلُ "الذي يطيرُ" فلما جِيءَ بأل عُدِلَ عن الفعلِ إلى اسمِ الفاعلِ لأجلِ أل؛ لأنها لا تدخُلُ إلا على الأسماءِ.
وَشَذَّ حَذْفُ "أَنْ" وَنَصْبٌ، في سوى = مَا مَرَّ فَاقْبَلْ مِنْهُ مَا عَدْلٌ رَوَى ([6])
لمَّا فَرَغَ مِنْ ذِكْرِ الأماكنِ التي يُنصَبُ فيها بـ "أَنْ" محذوفةً، إِمَّا وجوبًا، وَإِمَّا جوازًا، ذَكَرَ أنَّ حَذْفَ أنْ والنَّصْبَ بها في غيرِ ما ذُكِرَ شاذٌ لا يقاسُ عليه ومنه قولُهم: "مُرْهُ يَحْفِرَهَا" بنصبِ "يَحْفِرَ" أي: مُرْهُ أَنْ يَحْفِرَهَا وَمَنْه قَوْلُهُمْ: "خُذِ اللصَّ قبلَ يَأْخُذَكَ" أي: قبلَ أَنْ يأخذَكَ ومنه قولُه:
333- أَلاَ أَيُّهَذَا الزَّاجِرِي أَحْضُرَ الوَغَى = وَأَنْ أَشْهَدَ اللَّذَّاتِ هَلْ أَنْتَ مُخْْلِدِي([7])
في روايةِ مَنْ نَصَبَ أَحْضُرَ أي: أَنْ أَحْضُرَ.
([1])(والفعل) مبتدأ (بعد) ظرف متعلق بمحذوف حال من الضمير المستتر في قوله: (نصب) الآتي، وبعد مضاف و(الفاء) مضاف إليه (في الرجا) قصر للضرورة: جار ومجرور متعلق بقوله: (نصب) الآتي (نصب) فعل ماض مبني للمجهول. وفيه ضمير مستتر جوازا تقديره هو يعود إلى الفعل نائب فاعل والجملة من نصب ونائب فاعله المستتر فيه في محل رفع خبر المبتدأ (كنصب) جار ومجرور متعلق بمحذوف يقع نعتا لمصدر محذوف: أي نصب نصبا كائنا كنصب – إلخ، ونصب مضاف و(ما) اسم موصول: مضاف إليه (إلى التمني) جار ومجرور متعلق بقوله: (ينتسب) الآتي (ينتسب) فعل مضارع وفاعله ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود إلى ما الموصولة والجملة من ينتسب وفاعله المستتر فيه لا محل لها من الإعراب صلة (ما) الموصولة.
([2])(إن) شرطية على اسم جار ومجرور متعلق بقوله: (عطف) الآتي (خالص) نعت لاسم (فعل) نائب فاعل لفعل محذوف يفسره ما بعده، وتقدير الكلام: وإن عطف فعل (عطف) فعل ماض مبني للمجهول ونائب الفاعل ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود على فعل والجملة من عطف المذكور وفاعله المستتر فيه لا محل لها من الإعراب مفسرة (تنصبه) تنصب: فعل مضارع جواب الشرط والهاء مفعول به (أن) قصد لفظه: فاعل تنصب (ثابتا) حال من (أن) (أو) عاطفة (منحذف) معطوف على قوله: (ثابتا) ووقف عليه بالسكون على لغة ربيعة.
([3])330 - البيت لميسون بنت بحدل زوج معاوية بن أبي سفيان وأم ابنه يزيد.
اللغة: (عباءة) جبة من الصوف ونحوه، ويقال فيها عباية أيضا (تقر عيني) كناية عن سكون النفس وعدم طموحها إلى ما ليس في يدها (الشفوف) جمع شف – بكسر الشين وفتحها – وهو ثوب رقيق يستشف ما وراءه.
الإعراب: (ولبس) مبتدأ ولبس مضاف و(عباءة) مضاف إليه (وتقر) الواو واو العطف تقر: فعل مضارع منصوب بأن مضمرة جوازا بعد الواو العاطفة على اسم خالص من التقدير بالفعل (عيني) عين: فاعل تقر وعين مضاف وياء المتكلم مضاف إليه (أحب) خبر المبتدأ (إلي) جار ومجرور متعلق بأحب (من لبس) جار ومجرور متعلق بأحب أيضا، ولبس المضاف و(الشفوف) مضاف إليه.
الشاهد فيه: قولها: (وتقر) حيث نصبت الفعل المضارع – وهو تقر – بأن مضمرة جوازا بعد واو العطف التي تقدمها اسم خالص من التقدير بالفعل وهو لبس.
والمراد بالاسم الخالص: الاسم الذي لا تشوبه شائبة الفعلية، وذلك بأن يكون جامدا جمودا محضا، وقد يكون مصدرا كلبس في هذا الشاهد وقد يكون اسما علما كما تقول: لولا زيد ويحسن إلي لهلكت، أي لولا زيد وإحسانه إلي ومن هذا القبيل قول الشاعر:
ولولا رجال من رزام أعزة = وآل سبيع أو أسوأك علقما
أسوأك: منصوب بأن المضمرة والمعطوف عليه رجال، وعلقم: منادى بحرف نداء محذوف، وأصله "علقمة" فرخمة بحذف التاء على لغة من ينتظر الحرف المحذوف.
([4])331 - البيت لأنس بن مدركة الخثعمي وقد سقط برمته من بعض نسخ الشرح.
اللغة: (سليكا) بصيغة المصغر: هو سليك ابن السلكة – بزنة همزة، وهي أمه – أحد ذؤبان العرب وشذاذهم وكان من حديثه أنه مر ببيت من خثعم، وأهله خلوف فرأى امرأة شابة بضة فنال منها: فعلم بهذا أنس بن مدركة الخثعمي فأدركه فقتله (أعقله) مضارع عقل القتيل، أي: أدى ديته (عافت) كرهت وامتنعت وأراد: أن البقر إذا امتنعت عن ورود الماء لم يضربها راعيها لأنها ذات لبن وإنما يضرب الثور لتفزع هي فتشرب ويقال: الثور في هذا الكلام نبت من نبات الماء تراه البقر حين ترد الماء فتعاف الورود فيضربه البقار لينحيه عن مكان ورودها حتى ترد انظر حيوان الجاحظ (1 / 18) والأول أشهر وأعرف ووقع في شعر الأعشى ما يبينه وقال الهيبان الفقيمي وعبر عن الثور باليعسوب على التشبيه:
كما ضرب اليعسوب أن عاف باقر = وما ذنبه إن عافت الماء باقر
المعنى: يشبه نفسه إذ قتل سليكا ثم وداه – أي: أدى ديته – بالثور يضربه الراعي لتشرب الإناث من البقر، والجامع في التشبيه بينهما تلبس كل منهما بالأذى لينتفع سواه.
الإعراب: (إني) إن: حرف توكيد ونصب، وياء المتكلم اسمه (وقتلي) الواو عاطفة, قتل: معطوف على اسم إن، وقتل مضاف وياء المتكلم مضاف إليه من إضافة المصدر لفاعله (سليكا) مفعول به لقتل (ثم) حرف عطف (أعقله) أعقل: فعل مضارع منصوب بأن محذوفة جوازا وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنا والهاء مفعول به (كالثور) جار ومجرور متلق بمحذوف خبر إن (يضرب) فعل مضارع مبني للمجهول ونائب الفاعل ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود إلى الثور، والجملة من يضرب ونائب فاعله المستتر فيه في محل نصب حال من الثور (لما) حرف ربط (عافت) عاف: فعل ماض، والتاء للتأنيث (البقر) فاعل عاف.
الشاهد فيه: قوله: (ثم أعقله) حيث نصب الفعل المضارع – وهو قوله: (أعقل) – بأن مضمرة جوازا بعد ثم التي للعطف، بعد اسم خالص من التقدير بالفعل وهو (قتلى).
والاسم الخالص من التقدير بالفعل هو الاسم الجامد سواء أكان مصدرا كما في هذا البيت وبيت ميسون بنت بحدل (رقم 330) والبيت الآتي رقم (332) أم كان غير مصدر كما قد ذكرنا لك ذلك واستشهدنا له في شرح البيت السابق.
([5])332 - البيت من الشواهد التي لم نقف على نسبتها إلى قائل معين.
اللغة: (توقع) انتظار، وارتقاب (معتر) هو الفقير الذي يتعرض للجدى والمعروف (أوثر) أفضل، وأرجح (إترابا) مصدر أترب الرجل إذا استغنى (ترب) هو الفقر والعوز وأصله لصوق اليد بالتراب.
المعنى: يقول: لولا أنني أرتقب أن يتعرض لي ذو حاجة فأقضيها له ما كنت أفضل الغنى على الفقر. وللعلامة الصبان – وتبعه العلامة الخضري – هنا زلة سببها عدم الوقف على معاني الكلمات كما ذكرنا، وتقليد من سبقه والله يغفر لنا وله ويتجاوز عنا وعنه.
الإعراب: (لولا) حرف يقتضي امتناع الجواب لوجود الشرط (توقع) مبتدأ، وخبره محذوف وجوبا، وتقدير الكلام: لولا توقع معتر موجود، وتوقع مضاف و(معتر) مضاف إليه من إضافة المصدر لمفعوله (فأرضيه) الفاء عاطفة، أرضي: فعل مضارع منصوب بأن مضمرة جوازا بعد الفاء العاطفة، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنا والهاء مفعوله (ما) نافية (كنت) كان: فعل ماض ناقص والتاء اسمه (أوثر) فعل مضارع وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنا والجملة من أوثر وفاعله المستتر فيه في محل نصب خبر كان وجملة كان واسمه وخبره جواب لولا (إترابا) مفعول به لأوثر (على ترب) جار ومجرور متعلق بأوثر.
الشاهد فيه: قوله: (فأرضيه) حيث نصب الفعل المضارع – وهو (أرضي) – بأن مضمرة جوازا بعد الفاء العاطفة التي تقدم عليها اسم صريح وهو قوله: (توقع).
([6]) و(شذ) فعل ماض (حذف) فاعل شذ وحذف مضاف و(أن) قصد لفظه: مضاف إليه (ونصب) معطوف على حذف (في سوى) جار ومجرور متعلق بنصب وسوى مضاف و(ما) اسم موصول: مضاف إليه (مر) فعل ماض، وفاعله ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود إلى (ما) الموصولة والجملة لا محل لها صلة (فاقبل) فعل أمر، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنت (منه) جار ومجرور متعلق باقبل (ما) اسم موصول: مفعول به لاقبل (عدل) مبتدأ (روى) فعل ماض وفاعله ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود إلى عدل والجملة في محل رفع خبر المبتدأ الذي هو عدل والجملة من المبتدأ والخبر لا محل لها صلة الموصول الواقع مفعولا به لاقبل والعائد ضمير منصوب بروى، والتقدير: فاقبل الذي رواه عدل.
([7])333 - هذا البيت من معلقة طرفة بن العبد البكري.
اللغة: (الزاجري) الذي يزجرني أي: يكفني ويمنعني (الوغى) القتال والحرب، وهو في الأصل،: الجلبة والأصوات (مخلدي) أراد هل تضمن لي الخلود ودوام البقاء إذا أحجمت عن القتال ومنازلة الأقران؟ ينكر ذلك على من ينهاه عن اقتحام المعارك ويأمره بالقعود والإحجام.
الإعراب: (ألا) أداة تنبيه (أيهذا) أي: منادى بحرف نداء محذوف، وها: حرف تنبيه وذا: اسم إشارة نعت لأي، مبني على السكون في محل رفع (الزاجري) الزاجر: بدل أو عطف بيان من اسم الإشارة والزاجر مضاف وياء المتكلم مضاف إليه، من إضافة اسم الفاعل إلى مفعوله (أحضر) فعل مضارع منصوب بأن محذوفة، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنا و(أن) المحذوفة وما دخلت عليه في تأويل مصدر مجرور بحرف جر محذوف: أي يزجرني عن حضور الوغى (الوغى) مفعول به لأحضر (وأن) مصدرية (أشهد) فعل مضارع منصوب بأن المصدرية، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنا (اللذات) مفعول به لأشهد (هل) حرف استفهام (أنت) مبتدأ (مخلدي) مخلد: خبر المبتدأ، ومخلد مضاف وياء المتكلم مضاف إليه، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله.
الشاهد فيه: قوله: (أحضر) حيث نصب الفعل المضارع – وهو قوله: (أحضر) – بأن محذوفة في غير موضع من المواضع التي سبق ذكرها وإنما سهل ذلك وجود (أن) ناصبة لمضارع آخر في البيت وذلك في قوله: (وأن أشهد اللذات).
واعلم أن البيت يروى بوجهين في قوله: (أحضر) أحدهما رفعه وهي رواية البصريين وعلى رأسهم سيبويه رحمه الله، وثانيهما نصبه وهي رواية الكوفيين قال الأعلم الشنتمري: (والشاهد في البيت – عند سيبويه – رفع (أحضر) لحذف الناصب وتعريه منه، والمعنى لأن أحضر الوغى، وقد يجوز النصب بإضمار (أن) ضرورة وهو مذهب الكوفيين) ا هـ.
واعلم أيضا أن النحاة يختلفون في جواز حذف أن المصدرية مع بقاء الحاجة إلى السبك – سواء أرفعت المضارع بعد حذفها، أم أبقيته على نصبه – فذهب الأخفش إلى جواز الحذف وجعل منه قوله تعالى: {أفغير الله تأمروني أعبد} جعل {أعبد} مسبوكا بأن المصدرية محذوفة والمصدر مجرور بحرف جر محذوف: أي بالعبادة، ومنه قولهم: "تسمع بالمعيدي خير من أن تراه" أي سماعك، وذهب أكثر النحاة إلى أن ذلك لا يسوغ في السعة، فلا يخرج عليه القرآن الكريم.