دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > برنامج إعداد المفسر > دورات برنامج إعداد المفسّر > أساليب التفسير

إضافة رد
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 27 ذو الحجة 1437هـ/29-09-2016م, 10:10 AM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,453
افتراضي الدرس السابع: الأسلوب المقاصدي

الدرس السابع: الأسلوب المقاصدي

الأسلوب المقاصدي هو الأسلوب الذي يكون غرض المتكلّم به بيان مقاصد الآيات التي يفسّرها؛ والوقوف عندها، وتأمّل دلائلها وآثارها واتساقها مع المقاصد العامة للقرآن، وبيان حاجة الناس إلى فقه تلك المقاصد، واتّباع ما دلَّت عليه من الهدى.
والحديث عن هذه المسائل العظيمة يجرّ إلى التنبيه على أنواع مخالفات الناس لتلك الهدايات، وآثار تلك المخالفات عليهم، وبيان ما يُرشدون به للتخلص من آثار مخالفاتهم، والسلامة من شؤمها وعقوباتها، ودلالتهم على سبيل الفلاح والفوز برضوان الله تعالى وحسن ثوابه.

ثمرات الأسلوب المقاصدي:
التفسير بالأسلوب المقاصدي له ثمرات جليلة:
منها: أن فيه بياناً لمقاصد الآيات، وتقريراً لأدلة تلك المقاصد، وتفقيهاً بهداياتها وإرشاداتها، وهذا الأمر قد يغفل عنه كثير ممن يكتب في التفسير، ولذلك قلَّ البارعون في هذا الأسلوب التفسيري الجليل.
ومنها: أن فيه بياناً لاتّساق مقاصد الآيات مع المقاصد العامة للقرآن، وذلك لأجل عناية المفسّر بهذه المعاني واشتغاله ببيانها والحديث عنها فيكشف بذلك عن أوجه بديعة لهذا الاتّساق والتناسب يتبيَّن للمخاطَب بها عظمة المقاصد القرآنية، وجلالة قدرها، واتّساع آثارها، وشدّة الحاجة إلى فقهها.
ومنها: أن فيه تقريراً حسناً لاتّصال المقاصد القرآنية بأحوال المخاطبين وأحكام أعمالهم وجزائهم، وتنبيهاً على الأصول الجامعة لتلك الأحوال والأحكام، وميزان العدل ومظاهر الإحسان، وتعريفاً بأسباب التوفيق والخذلان، وكلّ ذلك مما يُعين على حسن فهم القرآن.
ومنها: ما يظهر للمخاطبين بهذا الأسلوب من بيان بديع يَسْتَجْلون به معاني صفات القرآن التي وصفه الله بها من العظمة والمجد والإحكام والبركة والشفاء وأنّه كتاب قيّم حاكم على جميع شؤون المكلفين؛ فلا يخلو حال من أحوال العبد ولا عمل من أعماله من حُكْمٍ يجري عليه بسبب هذا القرآن العظيم.

أصول التفسير المقاصدي:
التفسير بالأسلوب المقاصدي يستدعي فقها حسناً لمقاصد القرآن العامة، وبصيرة حسنة بمقاصد إنزال الآيات التي يفسّرها المفسّر، ومعرفة بأحوال المخاطبين، وطرق تناول الآيات لتلك الأحوال، وتقرير ما يتحقَّق به صلاحهم وفلاحهم.
وهذه المعارف الجليلة يجب أن تكون قائمة على فقه لأصول الدين، ودراية بمنهج أهل السنة في الاعتقاد ومعاملة المخالفين، ومعرفة حسنة بأحكام الشريعة ومقاصدها، وأصول الخلاف بين الرسل وأعدائهم، وبصيرة بتجدد مظاهر تلك الأصول، وتعدد آثارها، وإدراكاً لحقيقة دعوة الرسل، وفقهاً لأصول الفتن وسنن الابتلاء، والتناسب بين الحكم والجزاء، إلى غير ذلك من الأصول التي يُعتمد عليها غالباً في أسلوب التفسير المقاصدي.

سمات التفسير المقاصدي:
والمفسّر بهذا الأسلوب يغلب عليه النظر إلى مقاصد الآيات والبيان عنها وعن آثارها وتعلّقها بالمكلفين، والإسهاب في المسائل المتّصلة بتلك المقاصد، وإظهار ما تبيّن له من أوجه الحكمة البالغة في التشريع والتقدير والجزاء وما تضمنته الآيات التي يفسّرها من أنواع الأدلة عليها، وهذا الإسهاب قد يحمل المفسّر على تجاوز بعض المسائل التفسيرية التي تضمنتها تلك الآيات.
وقد يتكلم المفسّر بهذا الأسلوب عن آية يبدو للناظر فيها بادي الأمر أنها واضحة بينة لا يحتاج إلى تفسيرها ولا الكشف عن معانيها، لكنه ما إن يبيّن مقاصدها، ويعرّف بسعة دلائلها، وشدّة الحاجة إلى فقه مسائلها حتى يكاد يشعر المخاطَب أنه لأوّل مرة يعرف معناها.

طرق تحسين الأسلوب المقاصدي:
لتحسين الأسلوب المقاصدي وسائل تعين عليه:
منها: التفقّه في أمثال القرآن؛ وتدبّرها وعقل معانيها.
ومنها: قراءة الرسائل والفصول التي يُعنَى فيها بهذا الأسلوب.
ومنها: القراءة في التفاسير التي لأصحابها عناية بالكشف عن مقاصد الآيات ومراعاة المقصد في الترجيح بين الأقوال، ومن أجودها تفسير ابن عطية وابن عاشور، ولابن الجوزي إشارات حسنة لبعض ذلك في تفسيره "زاد المسير".
ومنها: قراءة الكتب التي تعنى ببيان مقاصد الشريعة ومحاسنها وسعة دلائل النصوص وحكم التشريع، ومن أجودها: الرسالة للشافعي، والموافقات للشاطبي، وإعلام الموقعين لابن القيم.
ومنها: القراءة الواعية في أصول علم السلوك، ولاسيما المباحث المتعلقة بالفتن والابتلاء، والعقوبة والجزاء، وهذه المباحث متفرقة في كتب علم السلوك.

عناية العلماء بالأسلوب المقاصدي:
للسلف عناية حسنة بفقه مقاصد الآيات، ولذلك يصحّ القول بأنّ التفسير المقاصدي له أصل مأثور عن السلف الصالح لكنَّهم كانوا يجتزئون بالعبارة المنبّهة عن الإسهاب والإطناب، كما تقدّم نظيره عنهم في الأسلوب البياني.
ومن أشهر الأمثلة على ذلك ما رواه البخاري في صحيحه من حديث أبي بشر اليشكري، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: كان عمر يدخلني مع أشياخ بدر فكأن بعضهم وجد في نفسه، فقال: لم تدخل هذا معنا ولنا أبناء مثله؟!!
فقال عمر: إنه من قد علمتم، فدعاه ذات يوم فأدخله معهم، فما رأيت أنه دعاني يومئذ إلا ليريهم.
قال: ما تقولون في قول الله تعالى: {إذا جاء نصر الله والفتح}؟
فقال بعضهم: أمرنا أن نحمد الله ونستغفره إذا نصرنا، وفتح علينا، وسكت بعضهم فلم يقل شيئا.
فقال لي: أكذاك تقول يا ابن عباس؟
فقلت: لا.
قال: فما تقول؟
قلت: «هو أَجَلُ رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلمه له»، قال: {إذا جاء نصر الله والفتح} «وذلك علامة أجلك»، {فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا}، فقال عمر: «ما أعلم منها إلا ما تقول»
قال ابن القيّم رحمه الله: (وهذا من أدقّ الفهم وألطفه، ولا يدركه كل أحد، فإنه سبحانه لم يعلق الاستغفار بعمله، بل علقه بما يحدثه هو سبحانه من نعمة فتحه على رسوله ودخول الناس في دينه، وهذا ليس بسبب للاستغفار، فعُلِمَ أن سبب الاستغفار غيره، وهو حضور الأجل الذي من تمام نعمة الله على عبده توفيقه للتوبة النصوح والاستغفار بين يديه ليلقى ربه طاهراً مطهراً من كل ذنب؛ فيقدم عليه مسروراً راضياً مرضياً عنه.
ويدل عليه أيضا قوله: {فسبح بحمد ربك واستغفره} وهو صلى الله عليه وسلم كان يسبح بحمده دائما؛ فعلم أن المأمور به من ذلك التسبيح بعد الفتح ودخول الناس في هذا الدين أمر أكبر من ذلك المتقدم، وذلك مقدمة بين يدي انتقاله إلى الرفيق الأعلى. وأنه قد بقيت عليه من عبودية التسبيح والاستغفار التي ترقيه إلى ذلك المقام بقية فأمره بتوفيتها.
ويدل عليه أيضا أنه سبحانه شرع التوبة والاستغفار في خواتيم الأعمال، فشرعها في خاتمة الحج وقيام
الليل، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سلم من الصلاة استغفر ثلاثا، وشرع للمتوضئ بعد كمال وضوئه أن يقول: ((اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين)) فعلم أن التوبة مشروعة عقيب الأعمال الصالحة، فأمر رسوله بالاستغفار عقيب توفيته ما عليه من تبليغ الرسالة والجهاد في سبيله حين دخل الناس في دينه أفواجا، فكأن التبليغ عبادة قد أكملها وأداها، فشرع له الاستغفار عقيبها)ا.هـ.

وقال قتادة في قول الله تعالى: {والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكدا} قال: «هذا مَثَلٌ ضربه الله في المؤمن والكافر» رواه عبد الرزاق وابن جرير.

وتتبّع إشارات السلف إلى مقاصد الآيات نافع جداً في هذا الباب.

ولبعض المفسّرين عناية بملاحظة مقاصد الآية وطرق تقريرها والتنبيه عليها، ومنهم: ابن عطية وابن الجوزي وابن تيمية وابن القيّم وابن كثير

وابن عاشور.
والكتابة بالأسلوب المقاصدي غالبا ما تكون متداخلة مع غيرها من الأساليب، لكن من أجود ما ظهر فيه الأسلوب المقاصدي من الرسائل والفصول التفسيرية:
1. تفسير صدر سورة العنكبوت لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وقد نقلها عنه تلميذه ابن القيم في كتاب الفوائد.
2. تفسير قول الله تعالى: {فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا...} لابن القيم

أنواع مقاصد السور والآيات:
مقصد الآية قد يكون ظاهراً وقد يكون خفياً:
فمثال الظاهر: قول الله تعالى: {أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه}
ومثال غير الظاهر: ما جاء عن ابن عباس في تفسير سورة النصر.
والنوع الثاني يُحتاج فيه إلى دقة في الاستنباط، وحسن نظر وتأمّل.
وإذا تبيّن المقصد للمفسّر سهل عليه أن يفسّر الآيات إجمالا أو تفصيلا على ضوء ذلك المقصد.

إتقان الأسلوب المقاصدي
مما يعين على إتقان الأسلوب المقاصدي أو مقاربة الإتقان:
1. أن يجتهد المفسّر في استخراج مقصد الآية أولاً؛ فإن كان ظاهراً فالحمد لله، وإن كان غير ظاهر اجتهد في استخراج الفوائد السلوكية، وتأمَّلَ سياقَ الآيةِ وخاتمتها، ثم وازنَ بين الفوائد التي استخرجها من الآية وبين سياق الآية وخاتمتها؛ فإنه يُرجى له أن يقارب إصابة مقصد الآية.
2. أن يستخلص الهدايات الربانية الواردة في الآية، وغالباً ما تكون ظاهرة بيّنة.
3. أن يتأمّل هذه الهدايات جيداً ، ويتفكّر في حاجة الناس إليها، ثمّ يتحدّث عن ذلك بتفصيل مناسب، ويحشد لبيان هذه الحاجة مما اطّلع عليه من أقوال المفسرين، ومما أنعم الله به عليه من مخزون معرفي متراكم.
4. أن يتأمّل أحوال الناس في اتّباع تلك الهدايات الربانية ودرجاتهم في ذلك، والآثار الحسنة لتلك الهدايات على من اتّبعها.
5. أن يتفكّر في أحوال المعرضين والغافلين عن تلك الهدايات، والآثار السيئة لإعراضهم وغفلتهم، ويتحدّث عنها بتفصيل مناسب.
6. أن يتفكّر في خاتمة الآية وتناسبها مع مطلعها وسياقها ويستخلص الفوائد المتعلقة بما سبق منها.
7. أن يتفكر في تناسب هذه الهدايات مع مقاصد السورة والمقاصد القرآنية العامة.
فإذا فصَّل المفسّرُ الحديثَ في هذه النقاط السبع بكلام صحيح متقن أرجو أن يكون تفسيره تفسيراً مقاصدياً حسناً بإذن الله.

أمثلة:
1. تفسير قول الله تعالى: {إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون}
2. تفسير سورة الفيل.



التطبيق:
- اكتب رسالة تفسيرية مختصرة بالأسلوب المقاصدي.


رد مع اقتباس
  #2  
قديم 5 محرم 1438هـ/6-10-2016م, 05:32 PM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,453
افتراضي

رسالة في تفسير قول الله تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}

هذه الآية الجليلة من الوصية العظيمة التي وصَّى بها يوسف عليه السلام صاحبي السجن في جملٍ يسيرة الألفاظِ، واسعةِ الدلائل، جليلةِ المعاني.
قال تعالى: {وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36) قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (37) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (38) يَاصَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39) مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (40)}

وسنقف وقفات عند قوله في هذه الوصية: {إن الحكم إلا لله أمر أن لا تعبدوا إلا إياه} ونتفكّر في معانيها وآثارها وسعة دلائلها.

{إن الحكم إلا لله} أسلوب حصر مؤكد، قاطع بنفي أيّ حُكْمٍ غير حكم الله تعالى على الحقيقة.
وحكم الله تعالى على ثلاثة أنواع: حكمٌ شرعي، وحكم قدريّ، وحكم جزائي.
- فالحكم الشرعي ما تعلق بالأمر والنهي.
- والحكم القدري متعلق بالقضاء والقدر.
- والحكم الجزائي متعلّق بالثواب والعقاب.
وهذه الأنواع تجتمع في حالات وتفترق في أخرى كثيرة؛ ولكل نوع حِكَمٌ عظيمة، وآثار جليلة، وهي أحكام متّسقة باتّساق بديع محكم يدلّ المتفكّرَ في عظمتها وشمولها وإحاطتها بأحوال المكلفين على القطع بأنّه لا حكم إلا لله تعالى، ويُظهر له بعض آثار اسم الله (الحَكَم)، ومعنى قوله تعالى: {إن الحكم إلا لله} وقوله: {له الحكم}.

والتفقّه في هذا الباب والتفكّر في معانيه وآثاره من أسباب تحصيل اليقين بالله تعالى.
1. فأحكام الله الشرعية غايةٌ في قيام المصالح ورعايتها، ودرء المفاسد والاحتراز منها، ولا يحصل ذلك إلا لمن اتّبع هدى الله تعالى؛ فامتثل أمره واجتنب نهيه؛ فإنَّ ذلك يفضي به إلى الحال الحسنة والعاقبة الحسنة.
ومن قصّر في اتّباع هدى الله حصل له من السوء في حاله وعاقبته بقدر مخالفته.
2. والأحكام القدرية غاية في العزة والحِكْمَة واللُّطْف.
3. والأحكام الجزائية دائرة بين العدل والإحسان.
ولا تخلو حالة من أحوال الإنسان من تعلّقٍ بهذه الأحكام شاء أم أبى.
فحكم الله محيط بجميع أعمال العباد وآثارهم، وهذه الإحاطة من دلائل وحدانية الله تعالى وعزَّته وقهره، وهذا الشمول العظيم يقضي على كلّ حكم سوى حكم الله بالعجز والضعف والبطلان مهما بدا لصاحبه من قوّة ظاهرة في هذه الحياة الدنيا فهو محكوم مقهور.

ومهما حصل من تقصير القضاة في إدراك الأحكام الشرعية والحكم بها، فإنَّ حكم الله محيط بكلّ ذلك، وتحاكم الناس إلى شريعة الله تعالى لا يقتصر على ما يمكن تقديمه من البيّنات عند الخصومات ونحو ذلك مما يحكم به القضاة بما يظهر لهم، بل هو تحاكم شامل لكل ما يُتنازع فيه؛ فلا يضيع حقّ صاحب الحقّ مهما دقّ، ولا يفوت المجرم بجرمه مهما قلّ و{من يعمل سوءا يجز به}.
ولذلك قد يفرّ المجرم بجرمه أو تعطّل الحدود في بقعة ما أو يغيّر المغيّرون بعض أحكام الشريعة لكنّهم جميعاً لا يخرجون عن دائرة الحكم القدري والجزائي.
وكم من شخص اقترف جرماً وفرح بنجاته من حُكَّام الأرض؛ فأصابه من العقوبة في نفسه وماله ما هو أشدّ عليه من عقوبة الجريمة التي اقترفها.

وأحكام التعاملات مع الناس لا يفقهها حقّ الفقه من قصرَ نظرَه على قوانين التحاكم إلى المخلوقين وإن كان حُكمهم بالشريعة في أصل الأمر؛ بل لا بد من الجمع بين هذه الأنواع.
وبهذا تندفع كثير من الإشكالات التي يثيرها بعض المعترضين على تحكيم الشريعة، بزعمهم أنَّ فوات الحقّ الخفيّ ظلم، وبراعة أحد المتخاصمين في الحجة قد يستميل بها بعض حقّ صاحبه، وهذه الاستشكالات فيها غفلة عن ضمانات الحكم القدري والحكم الجزائي.
وقد نبَّه النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى ذلك كما في الصحيحين من حديث هشام بن عروة عن أبيه عن زينب بنت أم سلمة، عن أم سلمة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، وأقضي له على نحو ما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذ، فإنما أقطع له قطعة من النار»
فمن قُضي له بشيء لا يستحقّه حرمَ عليه أن يأخذه، ومن وقع عليه ظلم ورضي بالله حَكَماً لم يضع عليه شيء من حقّه مهما دقّ، فإنَّ الله لا يظلم مثقال ذرّة.
وإنما الخوف على المظلوم أن يتحوّل إلى ظالم بتسخّطه أو تعدّيه، كما قال ابن مسعود:(ما يزال المسروق منه يتظنّى حتى يصير أعظم من السارق). رواه البخاري في الأدب المفرد.
أي يتّهم الأبرياء تخرّصاً بظنّه.
وأما المظلوم الذي لا يتعدّى ولا يتسخّط حكمَ الله، ولا يتعدّى على عباد الله فهو في ضمان الله تعالى له؛ فيأتيه حقّه بالحكم القدري أو الجزائي، وبين هذين الحكمين فرق لطيف:
وهو أن الحكم القَدَري على العبد قد يقع عقوبة أو ابتلاء أو استدراجاً أو تنبيهاً، وأما الحكم الجزائي فمتعلّق بالثواب والعقاب الدنيوي والأخروي، هذا من وجه.
ومن وجه آخر: فالحكم الجزائي ينقسم إلى حكم جزائي شرعي، وحكم جزائي قدري.

إذا تبيّن لك ما تقدّم عرفت سعة معاني اسم الله "الحَكَم" و"الحكيم" الذي له الحكم كلّه بجميع أنواعه؛ فهو تعالى الحكَم بجميع هذه الاعتبارات، وإليه يرجع الأمر كلّه؛ فيحكم فيه بما شاء، لا يخرج عن حكمه شيء.
وقوله تعالى: {واصبر حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين} يشمل هذه الأنواع الثلاثة: الحكم الشرعي المبيّن للهدى، والحكم القدري، والحكم الجزائي.

وقوله تعالى: {إن الحكم إلا لله} حصر مؤكد، يتبيّن للمتفكّر فيه أنَّه لا حكم لأحد دون الله تعالى، وأن الذين يُدعون من دون الله لا يَقضونَ بشيء، ولا يملكون نفعاً ولا ضراً، ولا حياة ولا نشوراً، فكيف يُطاعون في معصية الله تعالى الذي له الحكم؟!!
وكيف يُعبدون من دون الله وقد {أمر ألا تعبدوا إلا إياه}.
فمن تحقّق بهذه الحقيقة أسلم قلبه لله، وأخلص له الدين، لما قام في قلبه من اليقين بأن الحكم لله وحده، وأنَّ القضاء والقدر بيده وحده جلَّ وعلا، والثواب والعقاب من عنده؛ فكذلك الأمر والنهي يجب أن لا يكونا إلا من عنده.
وهذا الحكم عامّ في كبير الأمور وصغيرها، فكلّ معصية يُعصى الله بها هي خروج عن عبادته الواجبة، وفسق يستحقّ صاحبه العقاب عليه؛ كما قال تعالى: { وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ (120)}
ولذلك عظمت خشية المؤمنين لربّهم جلّ وعلا، واستعاذوا به من الوقوع في الإثم كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يدعو: (اللهم إني أعوذ بك من المأثم والمغرم) متفق عليه من حديث الزهري عن عروة بن الزبير عن عائشة رضي الله عنها.

والمتأمّل في هذه الأحكام الإلهية وسعتها وعظمة آثارها واتّساقها اتّساقاً بديعاً محكماً يدرك أن الدين قائم على إخلاص العبادة لله تعالى وحده، كما قال أبو العالية الرياحي رحمه الله في قوله تعالى: {إن الحكم إلاّ للّه أمر ألاّ تعبدوا إلاّ إيّاه} قال: (أسّس الدّين على الإخلاص للّه وحده لا شريك له). رواه ابن جرير.
وهذه الكلمة العظيمة من هذا التابعيّ الجليل دليل على فقهه وإدراكه لمقصد الآية وحسن تنبيهه لذلك.

وقوله: {ذلك الدين القيّم} الإشارة بلفظ الإشارة البعيد (ذلك) فيه دلالة على الرفعة والسموّ العالي لهذا الدين، الذي يتعالى عن كل ما أريد به مضاهاته.
والقيّم شامل لثلاثة معانٍ
أحدها: المستقيم الذي لا عوج فيه ولا اختلاف ولا تناقض.
والثاني: القوّام برعاية المصالح وتحقيقها.
والثالث: المهيمن على شؤون العباد وأعمالهم وأحوالهم؛ فلكلّ عمل حكم، ولكل حال سبب وجزاء.

وقوله: {ولكنَّ أكثر الناس لا يعلمون} أي في غفلة عن تفرّد الله تعالى بالحكم، وعن قيوميّة هذا الدين.
والوصف بعدم العلم في هذا الموضع وصف ذمّ يستدعي التفكّر في أسبابه وآثاره.
فهو جهل مذموم ناشئ عن الغفلة والإعراض، والإمعان في التعامي عن هدى الله تعالى، والجراءة على معصيته والاسترسال في الغيّ حتى طمست البصيرة، وأظلم القلب، واستحكم الجهل؛ فهم لا يعلمون.
وهذا الوصف الذميم يقذف في نفس المؤمن الرهبة من أن يوصم بشيء منه فيكون من الجاهلين، فيحمله ذلك على أن ينأى بنفسه عن التخلق بأخلاق الجاهلين، والعمل بأعمالهم، والتشبّه بأحوالهم.
ولذلك لمّا دُعي يوسف عليه السلام إلى الفاحشة {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ}.


رد مع اقتباس
  #3  
قديم 17 صفر 1438هـ/17-11-2016م, 03:25 PM
الصورة الرمزية ساجدة فاروق
ساجدة فاروق ساجدة فاروق غير متواجد حالياً
هيئة الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 6,511
افتراضي

كيفية الوصول إلى مقاصد الآيات

اقتباس:
ولم أجد صعوبة بفضل الله إلا فى الأسلوب المقاصدى ويحتاج منى مراجعة وقراءة رسائل بهذا الأسلوب أكثر ولعل مرجع ذلك لضعف حصيلتى العلمية واسأل الله ان يرزقنى العلم وحسن الفهم
جواب الشيخ عبد العزيز الداخل:
سأذكر نقاطاً تساعد على إتقان الأسلوب المقاصدي بدرجة مقبولة إن شاء الله ثم يجتهد الطالب بعد ذلك في تحسين أسلوبه فيه، ومن تلك النقاط:
1. أن يجتهد في استخراج مقصد الآية فإن كان ظاهراً فالحمد لله، وإن كان غير ظاهر اجتهد في استخراج الفوائد السلوكية وتأمّل خاتمة الآية ثم وازن بين الفوائد التي استخرجها وسياق الآية وخاتمتها فإنه غالباً يقارب إصابة مقصد الآية.
2. يستخلص الهدايات الربانية الواردة في الآية، وغالبا ما تكون صريحة.
3. يتأمّل هذه الهدايات جيداً ، ويتفكّر في حاجة الناس إليها، ثمّ يتحدّث عن ذلك بتفصيل مناسب، ويحشد لبيان هذه الحاجة مما اطّلع عليه من أقوال المفسرين ومما أنعم الله به عليه من مخزون معرفي متراكم.
4. يتأمّل أحوال الناس في اتّباع تلك الهدايات الربانية ودرجاتهم في ذلك، والآثار الحسنة لتلك الهدايات على من اتّبعها.
5. يتفكّر في أحوال المعرضين والغافلين عن تلك الهدايات، والآثار السيئة لإعراضهم وغفلتهم، ويتحدّث عنها بتفصيل مناسب.
6. يتفكّر في خاتمة الآية وتناسبها مع مطلعها وسياقها ويستخلص الفوائد المتعلقة بما سبق منها.
7. يتفكر في تناسب هذه الهدايات مع مقاصد السورة والمقاصد القرآنية العامة.
فإذا فصل الطالبُ الحديثَ في هذه النقاط السبع بكلام صحيح متقن أرجو أن يكون تفسيره تفسيراً مقاصدياً حسناً بإذن الله.

رد مع اقتباس
  #4  
قديم 17 صفر 1438هـ/17-11-2016م, 03:35 PM
الصورة الرمزية ساجدة فاروق
ساجدة فاروق ساجدة فاروق غير متواجد حالياً
هيئة الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 6,511
افتراضي

ميزات الأسلوب المقاصدي
اقتباس:
جزاكم الله عنا خيرا، وأعاننا على الانتفاع بتوجيهاتكم ونصحكم الكريم.
فضيلة الشيخ لم أفهم الأسلوب المقاصدي رغم تكراري للدرس وقراءتي للأمثلة ولتطبيقات أخواتي، الذي خلصت إليه:
- المعنى الخفي أو المعنى غير المباشر من الآية كما في سورة النصر وكلام ابن القيم رحمه الله في رسالة {فلا تعجبك..}.
- التركيز على معنى أو معاني معينة في الآية والاسترسال والاستطراد في بيانها، فكأني أتحدث عن موضوع معين من خلال الآية وليس أفسر الآية فحسب.
- أنه قريب من استخراج الفوائد السلوكية والأسلوب الاستنتاجي.
جواب الشيخ عبد العزيز الداخل:
مقصد الآية قد يكون ظاهراً وقد يكون خفياً
مثال الظاهر قوله تعالى: {أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه}
ومثال غير الظاهر ما جاء عن ابن عباس في تفسير سورة النصر،
والنوع الثاني يُحتاج فيه إلى دقة في الاستنباط، وإذا تبيّن المقصد فيفسّر المفسّر الآيات إجمالا أو تفصيلا على ضوء ذلك المقصد.
وشعورك بأنه قريب من استخراج الفوائد السلوكية والأسلوب الاستنتاجي هذا بسبب أن الأصل فيه التنبيه على المعاني والتعبير عنها استخراج المسائل والفوائد أولا، لكن في الأسلوب الاستنتاجي تذكر بالصياغة الاستنتاجية وقد لا يكون بين بعض الفوائد ترابط ، لكن في الأساليب الأخرى نوظف بعض الفوائد والمسائل المستخرجة وندمجها مع الرسالة في المواضع المناسبة.

رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
الدرس, السابع

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع
إبحث في الموضوع:

البحث المتقدم
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 12:36 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir