الحدود: جمع حد، وهو لغة المنع.
وحدود الله تعالى: محارمه التي منع من ارتكابها وانتهاكها.
والحدود في الاصطلاح الشرعي: عقوبة مقدرة شرعا في معصية لتمنع من الوقوع في مثلها.
والأصل في مشروعيتها الكتاب والسنة والإجماع.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "الحدود صادرة عن رحمة الخلق وإرادة الإحسان إليهم، ولهذا ينبغي لمن يعاقب الناس على ذنوبهم أن يقصد بذلك الإحسان إليهم والرحمة لهم؛ كما يقصد الوالد تأديب ولده، وكما يقصد الطبيب معالجة المريض..." انتهى.
والحكمة في تشريع الحدود: أنها شرعت زواجر للنفوس ونكالاً وتطهيرًا، فهي عقوبة مقدرة لحق الله تعالى، ثم لأجل مصلحة المجتمع؛ فالله تعالى أوجبها على مرتكبي الجرائم التي تتقاضاها الطباع البشرية؛ فهي من أعظم مصالح العباد في المعاش والمعاد؛ فلا تتم سياسة الملك إلا بزواجر عقوبات لأصحاب الجرائم، منها ينزجر العاصي ويطمئن المطيع وتتحقق العدالة في الأرض ويأمن الناس على أرواحهم
وأعراضهم وأموالهم، كما هو المشاهد في المجتمعات التي تقيم حدود الله؛ فإنه يتحقق فيها من الأمن والاستقرار وطيب العيش ما لا ينكره منكر؛ بخلاف المجتمعات التي عطلت حدود الله، وزعمت أنها وحشية، وأنها لا تليق بالحضارة المعاصرة، فحرمت مجتمعاتها من هذه العدالة الإلهية، ومن نعمة الأمن والاستقرار، وإن كانت تملك من الأسلحة والأجهزة الدقيقة ما تملك؛ فإن ذلك لا يغني عنها شيئا، حتى تقيم حدود الله التي شرعها لمصالح عباده؛ فإن المجتمعات البشرية لا تحكم بالحديد والآلة فقط، وإنما تحكم بشريعة الله وحدوده، وإنما الحديد والأجهزة آلة لتنفيذ الحدود الشرعية، إذا أحسن استعمالها، وكيف يسمي هؤلاء المنحرفون حدود الله التي هي هدى ورحمة للعالمين؟! كيف يسمونها وحشية ولا يسمون عمل المجرم المعتدي وحشية وهو يروع الآمنين ويجني على الأبرياء ويخلخل أمن المجتمع؟! إن هذا هو الوحشية، وإن الذي يشفق عليه أظلم منه وأشد منه وحشية، ولكن إذا انتكست العقول وفسدت الفطر فإنها ترى الحق باطلاً والباطل حقا؛ كما قال الشاعر:
قد تنكر العين ضوء الشمس من رمد..=. وينكر الفم طعم الماء من سقم
وهذا؛ ولا يجوز تطبيق الحد على الجاني؛ إلا إذا توفرت شروط تطبيقه، وهي كما يلي:
الشرط الأول: أن يكون مرتكب الجريمة بالغا عاقلاً؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ((رفع القلم عن ثلاثة: الصغير حتى يبلغ، والمجنون حتى يفيق، والنائم
حتى يستيقظ))، رواه أهل السنن وغيرهم، فإذا كانت العبد لا تجب على هؤلاء؛ فالحد أولى بالسقوط؛ لعدم التكليف، ولأنه يدرأ بالشبهة.
الشرط الثاني: أن يكون مرتكب الجريمة عالما بالتحريم؛ فلا حد على من يجهل التحريم؛ لقول عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم: "لا حد إلا على من علمه"، ولم يعلم لهم مخالف من الصحابة، وقال الموفق ابن قدامة: "هو قول عامة أهل العلم".
فإذا توفرت هذه الشروط في مرتكب الجريمة التي يترتب عليها الحد الشرعي؛ فإنه يقيمه عليه الإمام أو نائبه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقيم الحدود، ثم خلفاؤه من بعده كانوا يقيمونها، وقد وكل النبي صلى الله عليه وسلم من يقيم الحد نيابة عنه؛ حيث قال: ((واغد يا أنيس إلى امرأة هذا، فإن اعترفت؛ فارجمها))، وأمر صلى الله عليه وسلم برجم ماعز ولم يحضره، وقال في سارق: ((اذهبوا به فاقطعوه))... ولأن الحد يحتاج إلى اجتهاد، ولا يؤمن فيه الحيف، فوجب أن يتولاه الإمام أو نائبه؛ ضمانا للعدالة في تطبيقه، سواء كانت الحدود لحق الله تعالى كحد الزنى أو كانت لحق الآدمي كحد القذف.
قال الشيخ تقي الدين ابن تيمية رحمه الله: "الحدود التي ليست لقوم معينين تسمى حدود الله وحقوق الله؛ مثل قطاع الطريق والسراق والزناة ونحوهم، ومثل الحكم في الأموال السلطانية والوقوف والوصايا التي ليست لمعين، فهذه من أهم أمور الولايات، يجب على الولاة البحث عنها وإقامتها من غير دعوى أحد بها، وتقام الشهادة من غير دعوى أحد بها، وتجب إقامتها على الشريف والوضيع والقوي والضعيف...." انتهى.
ولا يجوز إقامة الحد في المسجد، وإنما تقام خارجه؛ لحديث حكيم ابن حزام: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يستقاد بالمسجد، وأن تنشد الأشعار، وأن تقام فيه الحدود"... والمراد الأشعار غير النزيهة.
وتحرم الشفاعة في الحد بعد أن يبلغ السلطان لأجل إسقاطه وعدم إقامته، ويحرم على أولي الأمر قبول الشفاعة في ذلك؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ((من حالت شفاعته دون حد من حدود الله؛ فقد ضاد الله في أمره))، وقال صلى الله عليه وسلم في الذي أراد أن يعفو عن السارق: ((فهلا قبل أن تأتيني به)).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "لا يحل تعطيله [أي: الحد] لا بشفاعة ولا هدية ولا غيرها، ولا تحل الشفاعة فيه، ومن عطله لذلك وهو قادر على إقامته؛ فعليه لعنه الله".
وقال رحمه الله: "ولا يجوز أن يؤخذ من السارق والزاني والشارب وقاطع الطريق ونحوه مال يعطل به الحد لا لبيت المال ولا لغيره، وهذا المال المأخوذ لتعطيل الحد سحت خبيث، وإذا فعل ولي الأمر ذلك جمع بين فسادين عظيمين: تعطيل الحد وأكل السحت وترك الواجب وفعل المحرم، وأجمعوا على أن المال المأخوذ من الزاني والسارق والشارب والمحارب ونحو ذلك لتعطيل الحد سحت خبيث، وهو أكثر ما يوجد من إفساد أمور المسلمين، وهو سبب سقوط حرمة المتولي وسقوط قدره وانحلال أمره..." انتهى كلامه رحمه الله.
فالجرائم لا يحسمها ويقي المجتمع من شرها إلا إقامة الحدود الشرعية على مرتكبيها، وأما أخذ الغرامة المالية منهم وسجنهم وما أشبه ذلك من العقوبات الوضعية؛ فهو ضياع وظلم وزيادة شر.
قال فقهاؤنا رحمهم الله: إن الجنايات التي تجب فيها الحدود خمس؛ هي: الزنى، والسرقة، وقطع الطريق، وشرب الخمر، والقذف، وما عدا ذلك؛ يجب فيه التعزير؛ كما يأتي بيانه إن شاء الله.
وقالوا: أشد الجلد في الحدود جلد الزنى، ثم جلد القذف، ثم جلد الشرب، ثم جلد التعزير؛ لأن الله تعالى خص الزنى بمزيد تأكيد؛ لقوله: {وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ}، وما دونه أخف منه في العدد؛ فلا يجوز أن يزيد عليه في الصفة.
وقالوا: من مات في حد؛ فهو هدر، ولا شيء على من حده؛ لأنه أتى به على الوجه المشروع بأمر الله تعالى وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم.
أما لو تعدى الوجه المشروع في إقامة الحد، ثم تلف المحدود؛ فإنه يضمنه بديته؛ لأنه تلف بعدوانه، فأشبه ما لو ضربه في غير الحد.
قال الموفق رحمه الله: "بغير خلاف نعلمه".
[الملخص الفقهي: 2/521-526]