(قولُهُ: ولَمَّا كانَ علمُ الفرائضِ إلخ) غرضُ الشرحِ بذلكَ تَوْجِيهُ الحَثِّ على تَعَلُّمِهِ وَتَعْلِيمِهِ، وسيأتي تَوْجِيهُ كَوْنِهِ نِصْفَ العلمِ، ولا يَخْفَى أنَّ قولَهُ: (علمُ الفرائضِ) اسمُ كانَ، وَجُمْلَةَ قَوْلِهِ: (مَنْ يَشْتَغِلُ بهِ قَلِيلٌ) خَبَرُهَا، وَعَلَّلَ قِلَّةَ مَن يَشْتَغِلُ به بِقَوْلِهِ: لِتَوَقُّفِهِ على علمِ الحسابِ إلخ.
(وقولُهُ: كانَ عُرْضَةً للنسيانِ) جوابُ لَمَّا، وكانَ الظاهرُ أنْ يقولَ: ولَمَّا كانَ علمُ الفرائضِ مُتَوَقِّفًا على علمِ الحسابِ مُتَشَعِّبَ المسائلِ, مُرْتَبِطًا بعضُ مسائلِهِ ببعضٍ, كانَ المُشْتَغِلُ بهِ قَلِيلًا، وكانَ عُرْضَةً للنسيانِ. أَفَادَهُ الأُسْتَاذُ الحِفْنِيُّ.
(قولُهُ: وَتَشَعُّبِ مَسَائِلِه) أي: انْتِشَارِهَا كَالشُّعَبِ.
(وقولُهُ: وارتباطِ بعضِهَا ببعضٍ) أي: تَعَلُّقِ بعضِ مسائِلِهِ ببعضٍ.
(قولُهُ: كانَ عُرْضَةً للنسيانِ) أي: شيئًا يَعْرِضُ لهُ النسيانُ.
(وقولُهُ: فَلِأَجْلِ هذا حَثَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلخ) أي: فَلِأَجْلِ كَوْنِهِ عُرْضَةً للنسيانِ أَمَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْرًا أَكِيدًا بِتَعَلُّمِهِ وَتَعْلِيمِهِ.
(قولُهُ: وأَمَّا قَوْلُهُ: فَإِنَّهُ نِصْفُ العِلْمِ إلخ) مقابلٌ لمحذوفٍ، والتقديرُ: أَمَّا وَجْهُ كَوْنِهِ يُنْسَى وَوَجْهُ حَثِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على تَعَلُّمِهِ وَتَعْلِيمِهِ فَقَدْ عَلِمْتَهُمَا، وَأَمَّا(قولُهُ: فَإِنَّهُ نِصْفُ العِلْمِ إلخ).
(قولُهُ: وفي الفرائضِ معظمُ الأحكامِ إلخ) أَقْحَمَ لَفْظَ (مُعْظَمُ)؛ لأنَّ بعضَ الأحكامِ المُتَعَلِّقَةِ بالموتِ كَغُسْلِ المَيِّتِ وَتَكْفِينِهِ والصلاةِ عليهِ ودَفْنِهِ لا يُبْحَثُ عنهُ في الفرائضِ, بلْ في علمِ الفقهِ.
(وقولُهُ: المتعلقةِ بالموتِ) المناسبُ لِمَا قَبْلَهُ: المتعلقةِ بحالةِ الموتِ، ويُمْكِنُ أنْ يُقَالَ: إِنَّهُ أشارَ بذلكَ إلى أنَّ الإضافةَ فيما قَبْلَهُ للبيانِ, أي: بحالةٍ، هيَ الموتُ، وحالةٍ، هي الحياةُ.
(قولُهُ: وَقِيلَ غَيْرُ ذلكَ) أي: كالقولِ بأنَّ المرادَ بالنصفِ هنا الصنفُ, كما قالَ الشاعرُ:
إِذَا مُتُّ كَانَ النَّاسُ نِصْفَانِ شَامِتٌ وَآخَرُ مُثْنٍ بِالَّذِي كُنْتُ أَصْنَعُ.
فإنَّ المرادَ بالنِّصْفَيْنِ الصِّنْفَيْنِ، أي: النَّوْعَيْنِ، وقدْ وَرَدَ هذا البيتُ على لغةِ مَنْ يُلْزِمُ المُثَنَّى الألفَ، وَجَعَلَ بعضُهُم من هذا المعنى قولَهُ تعالى في الحديثِ القُدُسِيِّ: ((قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ….))لَكِنْ إذا كانَ المرادُ بالنِّصْفِ الصِّنْفَ بمعنى النوعِ - وإنْ لمْ يَكُنْ مُسَاوِيًا - لمْ يَكُنْ فيهِ مدحٌ إلَّا بعُنوانِ الظاهرِ، وكالقولِ بِحَمْلِهِ على المبالغةِ في فَضْلِهِ على حَدِّ: ((الحَجُّ عَرَفَةُ))، وكالقولِ بأنَّهُ يكونُ نِصْفًا حقيقةً، لَوْ بُسِطَتْ مَسَائِلُهُ، وَفِيهِ أنَّ غيرَهُ لو بُسِطَ لَكَثُرَ أيضًا, وكالقولِ بأنَّهُ باعتبارِ الثوابِ وهو هُجُومٌ على الغيبِ، وَلِبَعْضِهِم أَنَّ هذا الحديثَ مِن المُتَشَابِهِ.
(قولُهُ: مِمَّا أَضْرَبْنَا عَنْهُ) بيانٌ لغيرِ ذلكَ، أي: مِمَّا صَرَفْنَا عنهُ الهِمَّةَ وَتَرَكْنَاهُ.
(وقولُهُ: خَوْفَ الإطالةِ) عِلَّةٌ لِضَرْبِنَا عَنْهُ، أي: لِخَوْفِنَا إِطَالَةَ الكَلَامِ.
(قولُهُ: وقدْ وَرَدَ في علمِ الفرائضِ) أي: في شَأْنِهِ.
(وقولُهُ: أَيْضًا) أي: كما وَرَدَ ما سَبَقَ.
(وقولُهُ: مِن الأحاديثِ) أي: عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
(وقولُهُ: والآثارِ) أي: عن الصحابةِ والتابعينَ وَأَتْبَاعِهِم، ثم إنَّ قولَهُ: (من الأحاديثِ والآثارِ) حالٌ من أشياءَ مُقَدَّمٌ.
(وقولُهُ: مِمَّا يَدُلُّ إلخ) بيانٌ لأشياءَ مُقَدَّمٌ أَيْضًا، والأصلُ: وقدْ وَرَدَ أشياءُ كثيرةٌ حالةَ كَوْنِهَا من الأحاديثِ والآثارِ، وتلكَ الأشياءُ مِمَّا يَدُلُّ إلخ….
ولو قالَ: مِن الأحاديثِ والآثارِ الدالَّةِ إلخ… لَكَانَ أَوْضَحَ كَمَا قالَهُ الشمسُ الحِفْنِيُّ .
(قولُهُ: على فَضْلِهِ وَشَرَفِهِ) العَطْفُ للتفسيرِ.
(قولُهُ: أشياءُ كثيرةٌ) فمِن الأحاديثِ قولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ عَلَّمَ فَرِيضَةً كَانَ كَمَنْ أَعْتَقَ عَشْرَ رِقَابٍ، وَمَنْ قَطَعَ مِيرَاثًا قَطَعَ اللَّهُ مِيرَاثَهُ مِنَ الجَنَّةِ)).
وَمَا رُوِيَ عن ابنِ عُمَرَ مَوْقُوفًا: ((تَعَلَّمُوا الفَرَائِضَ كَمَا تَعَلَّمُونَ القُرْآنَ)).
وَمِن الآثارِ ما رُوِيَ عن عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهُ أنَّهُ قالَ: إذا تَحَدَّثْتُم فَتَحَدَّثُوا بالفرائضِ, وإذا لَهَوْتُمْ فَالْهُوا بالرَّمْيِ .
(قولُهُ: وَعِلْمًا بِأَنَّ زَيْدًا إلخ) أي: وَلِعِلْمِنَا بأنَّ زَيْدًا إلخ.
(وقولُهُ: الإمامَ المذكورَ) أي: الفَرَضيَّ
(قولُهُ: خُصَّ مِن بينِ الصحابةِ) أي: خَصَّهُ اللهُ تعالى ومَيَّزَهُ عن بقيَّةِ الصحابةِ حالةَ كَوْنِهِ بَيْنَهُم، ومِن زائدةٌ.
(وقولُهُ: لَا مَحالةَ) أي: موجودةٌ، فلا نَافِيَةٌ للجنسِ، وَخَبَرُهَا مَحْذُوفٌ، تَقْدِيرُهُ ما ذَكَرْنَاهُ، وهذهِ الجملةُ مُعْتَرِضَةٌ بينَ العاملِ - أَعْنِي خُصَّ – والمعمولِ - أَعْنِي قولَهُ: (بِمَا حَبَاهُ إلخ….).
(قولُهُ: أي: لا حِيلَةَ) أي: موجودةٌ، فَخَبَرُهَا مَحْذُوفٌ كَمَا تَقَرَّرَ, وَالحيلةُ هِيَ الحِذْقُ، وَجَودَةُ النظرِ والقدرةُ على التَّصَرُّفِ، والمعنى على هذا: أَنَّ تَخْصِيصَ زيدٍ بما ذُكِرَ بِمَحْضِ الفضلِ لا بِحذقٍ، ولا جودةِ نَظَرٍ، ولا قُدْرَةٍ على التَّصَرُّفِ، كذا في حاشيةِ الشيخِ الحِفْنِيِّ، قالَ العلَّامَةُ الأميرُ: والظاهرُ أنَّ المناسبَ للمقامِ لا حيلةَ لغيرِ زيدٍ في نَفْيِ هذهِ الخصوصيَّةِ عنهُ، بل هي ثابتةٌ لَهُ، وَلَا بُدَّ. ا هـ . بِبَعْضِ تَغْيِيرٍ.
(قولُهُ: وَيَجُوزُ أنْ يكونَ مِن الحَوْلِ) أي: أنْ يكونَ هذا اللفظُ وهو (محالةَ) مأخوذًا من الحولِ، والمَعْنَى عَلَى هذا أنَّ تخصيصَ زيدٍ بِمَا ذُكِرَ لا حِيلَةَ لهُ فيهِ, ولا قُدْرَةَ لهُ عليهِ، أو لا حَرَكَةَ لهُ فيهِ.
(وقولُهُ: والقوةِ) عَطْفُ تفسيرٍ فأَتَى الشرحُ بذلكَ للتفسيرِ, لا لِكَوْنِهِ مأخوذًا منهُ كما هو ظاهرٌ.
(وقولُهُ: أو الحركةِ) أَشَارَ بذلكَ للخلافِ في تفسيرِ الحيلةِ، فَـ (أَوْ) لحكايةِ الخلافِ، وفي بعضِ النُّسَخِ بالواوِ، وهيَ بِمَعْنَى أو.
(قولُهُ: وهيَ) أي: (مَحَالَةَ).
(وقولُهُ: مَفْعَلَة) أي: بِوَزْنِ مَفْعَلَة.
(وقولُهُ: مِنْهُمَا) أي: مِن الحيلةِ والحولِ، فَعَلَى أَخْذِهَا من الحيلةِ أَصْلُهَا مَحْيَلَة بالياءِ، وعلى أَخْذِهَا من الحولِ فَأَصْلُهَا مَحْوَلَة بالواوِ، نُقِلَتْ حَرَكَةُ الياءِ أو الواوِ للساكنِ قَبْلَهَا، ثم يُقَالُ: تَحَرَّكَتِ الياءُ أوالواوُ بِحَسَبِ الأصلِ، وانْفَتَحَ ما قبلَهَا الآنَ، قُلِبَتْ أَلِفًا، كذا يُؤْخَذُ من حاشيةِ الشيخِ الحِفْنِيِّ، لكنْ قالَ الشيخُ الأميرُ: قدْ يُقَالُ: إنَّ الحولَ مادةُ الحيلةِ فَأَصْلُهَا حِوْلَةٌ، فَقُلِبَت الواوُ ياءً لِسُكُونِهَا إِثْرَ كسرةٍ، كما قالوا في مِيزَانٍ وَمِيقَاتٍ. ا هـ . بالمَعْنَى.
(قولُهُ: وأكثرُ ما تُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى اليقينِ إلخ) أيْ: وأكثرُ اسْتِعْمَالِهَا أنْ تُسْتَعْمَلَ في معنًى، هو اليقينُ إلخ…
فَمَا مَصْدَرِيَّةٌ فَيُؤَوَّلُ الفعلُ بعدَهَا بمصدرٍ - وهو الاستعمالُ - والباءُ بمعنى فِي، وهي مُتَعَلِّقَةٌ بمحذوفٍ، تقديرُهُ أنْ تُسْتَعْمَلَ، وإضافةُ معنَى لِمَا بَعْدَهُ للبيانِ، ولَعَلَّهُ عَبَّرَ بأكثرَ تَحَرِّيًا للصدقِ، وَإِلَّا فهوَ دَائِمٌ، ولا يَخْفَى أَنَّ المعانيَ التي ذَكَرَهَا مُتَقَارِبَةٌ، وكلٌّ منها تَفْسِيرٌ لمجموعِ لا محالةَ لا لِمَحَالَة فقطْ وإِلَّا فَسَدَ المعنَى، وليسَ هذا المعنَى حقيقيًّا لهذا اللفظِ؛ لَأَنَّ المعنى الحقيقيَّ لَهُ: لَا حِيلَةَ في انْتِفَائِهِ، وَيَلْزَمُ مِن ذلكَ أنْ يكونَ يَقِينًا، فهو تَفْسِيرٌ باللازمِ.
(وقولُهُ: أو بِمَعْنَى: لَا بُدَّ) أي: لا فِرَارَ من كذا، ولا حاجةَ لقولِهِ بِمَعْنَى؛ لأنَّ العطفَ يُفِيدُهُ.
(وقولُهُ: والميمُ زائدةٌ) أي: لِأَنَّهَا بوزنِ مَفْعَلَة، فالميمُ مُقَابَلَةٌ بِنَفْسِهَا, كما هو قاعدةُ الزائدِ، قالَ ابنُ مالكٍ:
* وزائدٌ بِلَفْظِهِ اكْتَفَى*
(وقولُهُ: انْتَهَى) أي: كلامُ ابنِ الْأَثِيرِ .
(قولُهُ: فيكونُ المَعْنَى إلخ) هذا من كلامِ الشرحِ، توضيحٌ للمقامِ.
(وقولُهُ: حقيقةً أو يَقِينًا) كان َ المناسبُ لِمَا قَبْلَهُ أنْ يقولَ يَقِينًا أو حقيقةً لِيَكُونَ على ترتيبِ اللَّفِّ, وَالخَطْبُ سَهْلٌ.
(قولُهُ: بِمَا حَبَاهُ) مُتَعَلِّقٌ بِخُصَّ، وَالبَاءُ دَاخِلَةٌ على المقصورِ.
كما هو الكثيرُ، قالَ سَيِّدِي عَلِيٌّ الْأَجْهُورِيُّ:
والباءُ بعدَ الاختصاصِ يَكْثُرُ = دُخُولُهَا على الذي قَدْ قَصَرُوا
وعَكْسُهُ مُسْتَعْمَلٌ وَجَيِّدُ = ذكَرَهُ الحَبْرُ الهُمَامُ السَّيِّدُ
أي: والسعدُ أَيْضًا لِاتِّفَاقِهِمَا على ذلكَ كَمَا نَصَّ عليهِ بعضُ المُحَقِّقِينَ.(قولُهُ: أي أَعْطَاهُ) أي: وَصَفَهُ بِهِ.
(وقولُهُ: وَالحُبْوَةُ: العَطِيَّةُ) أي: الشيءُ المُعْطَى.
(وقولُهُ: والحِبَاءُ: العَطَاءُ) أي: نفسُ الفعلِ إنْ أُرِيدَ من الحَبَاءِ بِفَتْحِ الحاءِ والمَدِّ المَصْدَرُ بِحَبَا يَحْبُو، لكنَّهُ مصدرٌ غيرُ قِيَاسِيٍّ، والقياسُ حَبْوًا، والشيءُ المُعْطَى إنْ لم يُرَدْ منهُ المصدرُ, بلْ أُرِيدَ أَنَّهُ اسْمٌ للشيءِ المُعْطَى فالحَبَاءُ بِفَتْحِ الحاءِ مع المدِّ إِمَّا مَصْدَرٌ، وإمَّا اسْمٌ للشيءِ المُعْطَى, والعطاءُ إِمَّا اسمُ مَصْدَرٍ لِأَعْطَى, وَإِمَّا بِمَعْنَى الشيءِ المُعْطَى، وَأَمَّا الحِبَاءُ بالكسرِ والمَدِّ فاسمٌ للشيءِ المُعْطَى فقطْ, والعطاءُ مصدرُ عَطَى بِمَعْنَى أَخَذَ، لَيْسَ مُرَادًا هنا لِعَدَمِ مُنَاسَبَتِهِ للمقامِ.
انْتَهَى مُلَخَّصًا من حاشيةِ الأستاذِ الحِفْنِيِّ.
(قولُهُ: خاتَمُ الرسالةِ) أي: ذَوِيهَا وهم المُرْسَلونَ.
(وقولُهُ: والنبوةِ) أي: ذَوِيهَا أَيْضًا، وهم الأنبياءُ، فَفِي الكلامُ مضافٌ محذوفٌ، وأشارَ الشرحُ بذلكَ إلى أنَّ كلامَ المُصَنِّفِ فيهِ اكتفاءٌ كَمَا تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ.
(وقولُهُ: سَيِّدُنَا) بَدَلٌ مِنْ خَاتَم.
(وقولُهُ: محمدٌ) بَدَلٌ بعدَ بَدَلٍ، وَيَصِحُّ غَيْرُ ذَلِكَ.
(قولُهُ: مِن قَوْلِهِ) بيانٌ لِمَا حَبَاهُ بهِ، والضميرُ من قولِهِ عائدٌ لخاتمِ الرسالةِ.
(وقولُهُ: في فَضْلِهِ) أي: في بيانِ فَضْلِهِ.
(وقولُهُ: أيْ: في فضلِ زيدٍ) غَرَضُهُ تفسيرُ الضميرِ، وَلَوْ قالَ: أي: زيدٍ، لَكَانَ أَخْصَرَ مَعَ كَوْنِهِ مُؤَدِّيًا للمرادِ.
(قولُهُ: مُنَبِّهًا) أي: حالَ كَوْنِهِ مُنَبِّهًا، وهو حالٌ من الضميرِ المضافِ إليهِ لفظُ قولٍ؛ لوجودِ شرطِ مَجِيءِ الحالِ من المضافِ إليهِ؛ إذ المضافُ مُقْتَضٍ للعملِ في المضافِ إليهِ لِكَوْنِهِ مَصْدَرًا، قالَ في الخُلَاصَةِ:
وَلَا تُجِزْ حَالًا مِن المُضَافِ لَهُ * إِلَّا إِذَا اقْتَضَى المُضَافُ عَمَلَهُ
وللمَسْأَلَةِ تَتِمَّةٌ مَذْكُورَةٌ فِي كُتُبِ النَّحْوِ.
(وقولُهُ: على فَضْلِهِ وَشَرَفِهِ) قالَ في اللؤلؤةِ نَقْلًا عن ابنِ حَجَرٍ: هما مُتَرَادِفَانِ على معنًى واحدٍ، وهو زيادةُ الأخلاقِ الكريمةِ الطاهرةِ.
انْتَهَى بِبَعْضِ تَغْيِيرٍ.
(قولُهُ: أَفْرَضُكُمْ زَيْدٌ) مَقُولُ القولِ أي: أَعْلَمُكُم في الفرائضِ زيدٌ.
(قولُهُ: بإسنادٍ جَيِّدٍ) أي: حَسَنٍ لكونِ رُوَاتِهِ ثِقَاتٍ، والإسنادُ يُطْلَقُ على ذِكْرِ سَنَدِ الحديثِ، يُقَالُ: أَسْنَدْتُ الحَدِيثَ أيْ: ذَكَرْتَ سَنَدَهُ كَمَا يُعْلَمُ مِن فَنِّ المُصْطَلَحِ.
(وقولُهُ: قالَ) أي: ابنُ الصلاحِ.
(وقولُهُ: وهو حديثٌ حسنٌ) وهو ما عُرِفَتْ طرقُهُ، وَاشْتُهِرَتْ رِجَالُهُ بالعَدالةِ والضَّبْطِ دونَ رجالِ الصحيحِ، كما قال في البَيْقُونِيَّةِ:
والحَسَنُ المعروفُ طُرُقًا وَغَدَتْ * رِجَالُهُ لا كَالصَّحِيحِ اشْتُهِرَتْ
(وقولُهُ: انْتَهَى) أي: كلامُ ابنِ الصلاحِ.
(قولُهُ: وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ) أي: وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، فالمفعولُ محذوفٌ كما قالَهُ العَلَّامَةُ الحِفْنِيُّ.
(وقولُهُ: بإسنادٍ صحيحٍ) أي: لكونِ رجالِهِ أكثرَ تَوَثُّقًا من تَوَثُّقِ رجالِ الحسنِ, كما يُعْلَمُ مِمَّا مَرَّ.
(وقولُهُ: بلفظِ أَعْلَمَ إلخْ) أي: بلفظِ هو أَعْلَم إلخ, فالإضافةُ للبيانِ.
(قولُهُ: وَإِنَّمَا قالَ ذلكَ إلخ) المحصورُ فيهِ محذوفٌ دَلَّ عليهِ قولُهُ: قالَ للعلماءِ إلخ، والتقديرُ: وَإِنَّمَا قالَ ذلكَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِخَمْسَةِ أَوْجُهٍ، والمقصودُ بذلكَ الجوابُ عَمَّا تَحَقَّقَ من أَفْضَلِيَّةِ غيرِ زَيْدٍ عليهِ, كَسَيِّدِنَا عَلِيٍّ كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ، وَلَا يَخْفَاكَ أَنَّ خُصُوصَ المَزِيَّةِ لَا يَقْتَضِي عُمُومَ الأفضليَّةِ، فَلَا تَنَاقُضَ أَصْلًا.
(قولُهُ: للعلماءِ في ذلكَ) أي: في تَوْجِيهِ ذلكَ .
(وقولُهُ: خْمَسَةُ أَوْجُهٍ): -
أَوَّلُهَا: أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ذَلِكَ حَثًّا عَلَى الفرائضِ, وَعَلَى الرغبةِ في تَعَلُّمِهَا كَرَغْبَةِ زيدٍ؛ لأنَّهُ كانَ مُنْقَطِعًا إلى الفرائضِ.
ثَانِيهَا: أَنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ذلكَ مَدْحًا لزيدٍ, وَإِنْ شَارَكَهُ فِي ذلكَ غَيْرُهُ كَمَا قالَ: ((أَقْرَؤُكُمْ أُبَيٌّ، وَأَعْلَمُكُمْ بِالحَلَالِ وَالحَرَامِ مُعَاذٌ، وَأَصْدَقُكُمْ لَهْجَةً أَبُو ذَرٍّ، وَأَقْضَاكُمْ عَلِيّ)).
ثالِثُهَا: أَنَّ الخطابَ لِجَمَاعَةٍ مَخْصُوصِينَ كانَ زَيْدٌ أَفْرَضَهُمْ, ولوْ كانَ الخطابُ للصحابةِ جَمِيعًا لَمَا استطاعَ أحدٌ منهم مُخَالَفَتَهُ, ويُبْعِدُ هذا الروايةُ السابقةُ في الشرحِ، وهيَ ((أَعْلَمُ أُمَّتِي….)) إلخ .
رَابِعُهَا: أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرَادَ أَنَّ زيدًا أَشَدُّهُم اعْتِنَاءً وَحِرْصًا.
وخامِسُهَا: ما ذَكَرَهُ الشرحُ. وَهَذِهِ الأَوْجُهُ مُتَقَارِبَةٌ فِي المَآلِ كَمَا قَالَهُ المُحَقِّقُ الْأَمِيرُ.
(قولُهُ: وَعَدَّهَا إلى أَنْ قَالَ) أي: وَعَدَّهَا مُنْتَهِيًا في عَدِّهَا إلى قولِهِ: فالجارُّ والمجرورُ مُتْعَلِّقٌ بمحذوفٍ.
(وقولُهُ: الخامسُ أَنَّهُ قالَ ذلكَ إلخ) إِنَّمَا اقْتَصَر عليهِ الشرحُ؛ لأنَّهُ أَرْجَحُ الأَوْجُهِ, ومالَ إليهِ ابنُ الهائِمِ رَحِمَهُ اللهُ كَمَا في اللؤلؤةِ.
(قولُهُ: لِأَنَّهُ) أي: زَيْدًا.
(وقولُهُ: كانَ أَصَحَّهُم حِسَابًا) أيْ: مِن جهةِ الحسابِ.
(وقولُهُ: وأَسْرَعَهُم جوابًا) أي: مِن جهةِ الجوابِ، فإذا حَسَبَ مسألةً كان حسابُهُ أَصَحَّ مِن حسابِهِم، وإذا سُئِلَ عن مسألةٍ كانَ أسرعَ من غيرِهِ في الجوابِ.
(قولُهُ: ثم قالَ) أي: ابنُ الهائمِ، (وقالَ المَاوَرْدِيُّ إلخ) مقولُ القولِ.
(وقولُهُ: ولِأَجْلِ هذهِ المعاني) أيْ: الأوجهِ الخمسةِ، وهذه عِلَّةٌ مُقَدَّمَةٌ على المَعْلُولِ، وهو قولُهُ: لم يَأْخُذ الشافعيُّ إلخ.
(وقولُهُ: إِلَّا بقولِهِ) أي: إلَّا بِمُوَافِقِ قولِهِ.
(قولُهُ: وَنَاهِيكَ بها) يُحْتَمَلُ أنَّ (نَاهِيكَ) مُبْتَدَأٌ، والضميرَ خبرٌ زِيدَتْ فيه الباءُ، والمعنى: الذي يَنْهَاكَ عن أنْ تَطْلُبَ غَيْرَهُ في بيانِ فضلِ زيدٍ هذه الشهادةُ أو بالعكسِ، والمعنى هَذِهِ الشهادةُ تَنْهَاكَ عن أنْ تَطْلُبَ غَيْرَهَا، وَيُحْتَمَلُ أنَّ الضميرَ فاعلُ الوصفِ على حَدِّ: فائزٌ أُولُو الرَّشَدِ، وتكونُ الباءُ زائدةً في الفاعلِ، وَيُحْتَمَلُ غيرُ ذلكَ.
(وقولُهُ: أي: حَسْبُكَ بِهَا) أي: كَافِيَتُكَ هذهِ الشهادةُ، فالباءُ زائدةٌ، ويُحْتَمَلُ أَنَّ حَسْبَ بِمَعْنَى الكِفَايَةِ، والباءَ مُتَعَلِّقَةٌ بمحذوفٍ، والمعنى: كِفَايَتُهُ حاصلةٌ بها، و هذا تفسيرٌ باللازِمِ.
(وقولُهُ: لِأَنَّهَا غايةٌ) أي: في بيانِ فضلِ زيدٍ، فَلَا شَيْءَ فَوْقَهَا.
(وقولُهُ: فَهِيَ تَكْفِيكَ) أَتَى بِهِ نَتِيجَةً للتعليلِ قبلَهُ.
(قولُهُ: فَكَانَ زيدُ بنُ ثابتٍ أَوْلَى إلخ) أي: فَتَسَبَّبَ على هذهِ الشهادةِ كَوْنُ زيدٍ المذكورِ أَحَقَّ مِنْ غَيْرِهِ بما ذَكَرَهُ المُصَنِّفُ، وهوَ(قولُهُ: بِاتِّبَاعِ التابعِ) أي: بِأَنْ يَتْبَعَهُ مَن أرادَ أَنْ يَتْبَعَ وَاحِدًا مِن الصَّحَابَةِ مَثَلًا، وكان المناسبُ لِمَا سَبَقَ أنْ يقولَ: بالإِبَانَةِ عن مَذْهَبِهِ، فيكونُ مِن أهمِّ الغرضِ كما هو المُدَّعَى؛ لأنَّهُ في سياقِ التعليلِ لذلكَ.
(وقولُهُ: وَتَقْلِيدِ المُقَلِّدِ) تَفْسِيرٌ لاتِّبَاعِ التابعِ؛ لأنَّ تقليدَ المُقَلِّدِ أَخْذُهُ بقولِ الغيرِ, ولا مَعْنَى لِاتِّبَاعِ التابعِ إلَّا أَخْذُهُ بقولِ المَتْبُوعِ.
قولُهُ: (لِأَمْرَيْنِ) عِلَّةٌ لِلْأَوْلَوِيَّةِ.
(وقولُهُ: أَقْوَاهُمَا هذهِ الأحاديثُ) أَطْلَقَ الجَمْعَ على ما فوقَ الواحدِ، وَإِلَّا فَالمُتَقَدِّمُ حَدِيثَانِ, بلْ رِوَايَتَانِ، فيكونُ قدْ نَزَّلَهُمَا منزلةَ الحَدِيثَيْنِ المُسْتَقِلَّيْنِ.
(قولُهُ: والثاني أَنَّهُ ما تَكَلَّمَ إلخ) أي: إنَّ الحالَ والشأنَ ما تَكَلَّمَ إلخ فالضميرُ للحالِ والشأنِ.
(وقولُهُ: فَإِنَّهُ لمْ يَقُلْ قَوْلًا إلخ) أيْ: لَا بُدَّ أَنْ يَأْخُذَ بهِ ولو بَعْضُ الأَئِمَّةِ ولا يَتَّفِقُونَ على هَجْرِهِ.
(قولُهُ: وَذَلِكَ) أي: المذكورُ مِن الأحاديثِ وَعَدَمِ الاتفاقِ على هَجْرِ قولِهِ بخلافِ غَيْرِهِ.
وقولُهُ: (يَقْتَضِي الترجيحَ) أي: تَرْجِيحَهُ على غيرِهِ، فيكونُ أَوْلَى باتِّبَاعِ التابعِ لهُ.
(قولُهُ: لَاسِيَّمَا) الصحيحُ وقوعُ الجملةِ بَعْدَهَا كما هنا، والمعنى هُنَا خُصُوصًا، أيْ: أَخُصَّ زيدًا بِأَوْلَوِيَّةِ الاتِّبَاعِ خُصُوصًا، والحالُ أَنَّهُ قد نَحَّاهُ الشافعيُّ، فصاحبُ الحالِ مَحْذُوفٌ إذا وَقَعَ بَعْدَهَا اسمٌ جازَ فيهِ الجَرُّ بإضافةِ سِيٍّ إِلَيْهِ، فتكونُ ما مَزِيدَةً، والرفعُ على أَنَّهُ خَبَرٌ لِمُبْتَدَأٍ محذوفٍ، والجملةُ صِلَةٌ لِمَا, عَلَى جَعْلِهَا مَوْصُولَةً, أو صِفَةٌ لها على جَعْلِهَا نَكِرَةً موصوفةً، وجازَ فيهِ أَيْضًا إِنْ كانَ نَكِرَةً النصبُ على التمييزِ، وما كَافَّةٌ، وعلى كلٍّ مِن هذهِ الأَحْوَالِ فَلَا نَافِيَةٌ للجِنْسِ, وَسِيٌّ اسْمُهَا منصوبٌ بِفَتْحَةٍ ظاهرةٍ على الوجهَيْنِ الأَوَّلَيْنِ؛ لِأَنَّهُ مضافٌ وَمَبْنِيٌّ على الفتحِ في مَحَلِّ نَصْبٍ على الوجهِ الأخيرِ؛ لأنَّهُ غيرُ مضافٍ على هذا الوجهِ، وَخَبَرُهَا في الكلِّ محذوفٌ،
والتقديرُ على الوجهِ الأَوَّلِ لَاسِيَّ، أَيْ: لَا مِثْلَ زَيْدٍ أو رَجُلٍ موجودٌ .
وعلى الثاني: لَاسِيَّ الذي أو شيءٍ هو زيدٌ ورجلٌ موجودٌ،
وعلى الثالثِ: لَاسِيَّمَا رَجُلًا موجودٌ، وإنْ أَرَدْتَ مَزِيدَ الكلامِ على ذلكَ فَعَلَيْكَ بكُتُبِ النحوِ، وقالَ الشيخُ الأميرُ: وقد أَفْرَدْنَا لَاسِيَّمَا بِمُؤَلَّفٍ لَطِيفٍ.
(قولُهُ: مِن أَدَوَاتِ الاستثناءِ عِنْدَ بَعْضِهِم) هو مذهبُ الكوفِيِّينَ وجماعةٍ مِن البَصْرِيِّينَ، وقد وَجَّهَهُ الدَّمَامِينِيُّ بِأَنَّ مَا بَعْدَهَا مُخَرَّجٌ مِمَّا قَبْلَهَا مِن حَيْثُ أَوْلَوِيَّتُهُ بِالحُكْمِ المُتَقَدِّمِ، فالمرادُ بالاستثناءِ الإخراجُ من المساواةِ، وَجَعَلَهُ بَعْضُهُم مُنْقَطِعًا, ولَا وَجْهَ للانقطاعِ؛ فانَّ قولَكَ: قامَ القومُ لَاسِيَّمَا زيدٌ, في قُوةِ قَوْلِك: تَسَاوَى القومُ في القيامِ إلَّا زيدًا فَهُوَ أَوْلَى بِهِ لِنُكْتَةٍ. فَافْهَمْ.
(قولُهُ: والصحيحُ أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْهَا) هو مذهبُ سِيبَوَيْهِ وجمهورِ البَصْرِيِّينَ، وتعبيرُهُ بالصحيحِ يَقْتَضِي أنَّ مُقَابِلَهُ باطلٌ، لكنْ قد عَلِمْتَ تَوْجِيهَهُ، فيكونُ صَحِيحًا أَيْضًا، فَيُحْمَلُ الصحيحُ على الراجحِ.
(وقولُهُ: بلْ مُضَادَّةٌ للاستثناءِ) إضْرَابٌ إِنْتِقَالِيٌّ، وكانَ المناسِبُ أنْ يقولَ: بل مَفَادُهَا مُضَادٌّ للاستثناءِ، أو يقولَ: بلْ هيَ مضادَّةٌ لأداةِ الاستثناءِ، وَيُمْكِنُ أنَّهُ أرادَ بالاستثناءِ أداتَهُ. فَتَدَبَّرْ.
(قولُهُ: فَإِنَّ الذي بَعْدَهَا إلخ) تعليلٌ لقولِهِ: (بلْ هيَ مضادَّةٌ للاستثناءِ)، وحاصلُ التعليلِ أَنَّهَا للإدخالِ، والاستثناءَ للإخراجِ، فهيَ مضادَّةٌ لهُ.
(وقولُهُ: داخلٌ فيما دَخَلَ إلخ) أيْ: داخِلٌ في الحكمِ الذي دَخَلَ إلخ بخلافِ الاستثناءِ فإنَّ الذي بعدَ أداتِهِ خارجٌ مِمَّا دَخَلَ فيهِ ما قَبْلَهَا, والتعبيرُ بالدخولِ في الحكمِ فيهِ ضَرْبٌ من التَّسَمُّحِ، فكانَ الأولَى أنْ يقولَ: لأنَّ الذي بعدَهَا ثابِتٌ, لهُ ما ثَبَتَ للذي قَبْلَهَا أو يَقُولَ: فإنَّهَا لإدخالِ ما بَعْدَهَا فيما قَبْلَهَا.
(وقولُهُ: ومشهودٌ لهُ بأنَّهُ أَحَقُّ بذلكَ من غيرِهِ) أي: ومشهودٌ للذي بَعْدَهَا بأنَّهُ أَوْلَى بالحُكْمِ من غيرِهِ, وهو ما قبلَهَا، فَتَعْبِيرُهُ هنا بغيرِهِ وَتَعْبِيرُهُ قبلَهُ بما قَبْلَهَا تَفَنُّنٌ، فإذا قُلْتَ: قامَ القومُ لَاسِيَّمَا زيدٌ، شَهِدَتْ قَرَائِنُ الأحوالِ بأنَّ زَيْدًا أَحَقُّ بالقيامِ من بقيَّةِ القومِ، وَأَفَادَتْ هنا أنَّ زيدًا في حالِ قَصْدِ الشافعيِّ لِمَذْهَبِهِ أَحَقُّ بِأَوْلَوِيَّةِ الاتباعِ منهُ في غيرِ هذهِ الحالةِ، فالذي بَعْدَهَا زيدٌ في حالِ قصدِ الشافعيِّ لِمَذْهَبِهِ، والذي قَبْلَهَا زيدٌ في غيرِ هذهِ الحالةِ، والحكمُ هوَ أَوْلَوِيَّةُ الاتباعِ.
(قولُهُ: وقدَ نَحَاهُ إلخ) أي: والحالُ أَنَّهُ قد نَحَاهُ إلخ، أي: قَصَدَهُ ومَالَ إليهِ؛ مُوَافَقَةً له في الاجتهادِ, لَا أَنَّهُ قَلَّدَهُ؛ لِأَنَّ المُجْتَهِدَ لَا يُقَلِّدُ مُجْتَهِدًا كَمَا سَيَذْكُرُهُ الشَّرْحُ.
(وقولُهُ: أيْ: نَحَا مَذْهَبَ الْإِمَامِ إلخ) ظَاهِرُه أَنَّهُ جَعَلَ الضميرَ في نَحَاهُ عَائِدًا على مذهبِ زيدٍ مع أَنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُ ذِكْرٌ في العبارةِ القريبةِ، فالأَوْلَى إِعَادَتُهُ عَلَى زيدٍ, ثم يُجْعَلُ على حَذْفِ مُضَافٍ, ويُمْكِنُ حَمْلُ كلامِ الشرحِ على ذلكَ.
(قولُهُ: الإمامُ) أي: المُقْتَدَى بهِ.
(وقولُهُ: أبو عبدِ اللهِ) كُنْيَةٌ للإمامِ.
(وقولُهُ: محمدٌ) اسمٌ لهُ.
(وقولُهُ: إِدْرِيسَ) أَبُوهُ.
(وقولُهُ: العَبَّاسِ) جَدُّهُ الأَوَّلُ.
(وقولُهُ: عُثْمَانَ) جَدُّهُ الثانيِ.
(وقولُهُ: شافعِ) جَدُّهُ الثالثُ، وَإِلَيْهِ نُسِبَ الإمامُ حَيْثُ قَالُوا: الشافعيُّ تَفَاؤُلًا بالشَّفَاعَةِ وَتَبَرُّكًا بالنسبةِ إليهِ؛ لِأَنَّهُ صحابيٌّ ابنُ صحابيٍّ, لأَنَّهُ لَقِيَ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو مُتَرَعْرِعٌ، أي: شابٌّ، وأَسْلَمَ أَبُوهُ السائبُ يَوْمَ بدرٍ.
(وقولُهُ: السائبِ) جَدُّهُ الرابعُ.
(وقولُهُ: عُبَيْدِ) بالتصغيرِ, جَدُّهُ الخامسُ.
(وقولُهُ: عَبْدِ يَزِيدَ) جَدُّهُ السادسُ.
(وقولُهُ: هاشمِ) جَدُّهُ السابعُ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَاشِمًا هذا غيرُ هاشمٍ الذي هو جَدُّ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لأنَّهُ أَخُو أَبِيهِ.
(وقولُهُ: المُطَّلِبِ) جَدُّهُ الثامنُ، وهو أَخُو هاشمٍ جَدِّ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهو صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَاشِمِيٌّ, والإمامُ الشافعيُّ مُطَّلِبِيٌّ.
(وقولُهُ: عبدِ مَنَافٍ) جَدُّهُ التاسعُ.
(وقولُهُ: قُصَيٍّ) جَدُّهُ العاشرُ، وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ مع أَنَّ الإمامَ يَجْتَمِعُ مع النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في عبدِ مَنَافٍ تَمْيِيزًا لِعَبْدِ مَنَافٍ المذكورِ هنا عن عبدِ مَنَافٍ المذكورِ في نَسَبِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِن جِهَةِ أُمِّهِ؛ فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابنُ آمِنَةَ بِنْتِ وَهْبِ بنِ عبدِ مَنَافِ بنِ زُهْرَةَ بنِ كِلَابٍ أَحَدِ أجدادِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من جهةِ أبيهِ، وهذا النسبُ المذكورُ للأمامِ الشافعيِّ نَسَبٌ عظيمٌ كما قيلَ.
نَسَبٌ كانَ عليهِ من شَمْسِ الضُّحَى = نُورًا ومِن فَلْقِ الصباحِ عَمُودَا
ما فيهِ إلَّا سَيِّدٌ مِن سيِّدٍ = حَازَ المَكَارِمَ والتُّقَى والجُودَا
وهذا نَسَبُهُ من جهةِ أبيهِ، وأمَّا نَسَبُهُ من جهةِ أُمِّهِ فهو مُحَمَّدُ بنُ فاطمةَ بنتِ عبدِ اللهِ بنِ الحسنِ بنِ الحسينِ بنِ عَلِيِّ بنِ أبي طالبٍ، كما قالَهُ التَّاجُ السُّبْكِيُّ في الطبقاتِ، وَنَقَلَهُ الخطيبُ، عن التنبيهِ، عن يُونسَ بنِ عبدِ الأَعْلَى، وعلى هذا فَهِيَ من قريشٍ، وقيلَ: من الأَزْدِ، وقدْ قالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (الْأَزْدُ أَزْدُ اللهِ في الْأَرْضِ). و هذا يَدُلُّ على مَزِيدِ الشرفِ.
(قولُهُ: الشافعيُّ) قد عَرَفْتَ أنَّهُ نِسْبَةٌ لِجَدِّهِ شافعٍ.
(وقولُهُ: القُرَشِيُّ) نِسْبَةً لِقُرَيْشٍ, وهي قبيلةٌ مشهورةٌ تَجْتَمِعُ في فِهْرٍ، وقيلَ: النضرِ، ولذلكَ قالَ العِرَاقِيُّ في السيرةِ:
أَمَّا قُرَيْشٌ فالأَصَحُّ فِهْرٌ = جُمَاعُهَا وَالأَكْثَرُونَ النَّضْرُ
سُمُّوا بذلكَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُقَرِّشُونَ أَيْ: يُفَتِّشُونَ عن خَلَّةِ المحتاجِ فَيَسُدُّونَهَا.
(وقولُهُ: المُطَّلِبِيُّ) نسبةً للمُطَّلِبِ أَخِي هاشمٍ جَدِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
(وقولُهُ: الحِجَازِيُّ) نسبةً للحجازِ.
(وقولُهُ: المَكِّيُّ) نسبةً لِمَكَّةَ؛ لأنَّهُ حُمِلَ إليها وهو ابنُ سَنَتَيْنِ، وَنَشَأَ بِهَا.
(وقولُهُ: يَلْتَقِي مع النبيِّ) أي: يَجْتَمِعُ مَعَهُ, وقدْ أَخْطَأَ مَن طَعَنَ في نسبِ الإمامِ الشافعيِّ من فقهاءِ الحنفيَّةِ - وهو الجُرْجَانِيُّ - حيثُ قالَ: إنَّ أصحابَ مالكٍ لا يُسَلِّمُونَ أنَّ نَسَبَ الشافعيِّ مِن قريشٍ, وَيَزْعُمُونَ أنَّ شَافِعًا كان مَوْلًى لِأَبِي لَهَبٍ فَطَلَبَ مِنْ عُمَرَ أنْ يَجْعَلَهُ مِن مَوَالِيَ قُرَيْشٍ، فَامْتَنَعَ، فَطَلَبَ ذلكَ من عثمانَ فَفَعَلَ. اهـ.
ولا شَّكَ أنَّ هذا كَذِبٌ وَبُهْتَانٌ, ولم يَذْكُرْ هذا الطَّعْنَ إلَّا هذا المُتَعَصِّبُ, وَإِنَّمَا حَمَلَهُ عليهِ أنَّ الناسَ أَجْمَعُوا على أنَّ أَبَا حَنِيفَةَ من مواليَ العتاقةِ أو الحِلْفِ والنّضرَةِ، فأرادَ أنْ يُقَابِلَ ذلك بهذا البُهْتَانِ ومَا مِثْلُهُ إِلَّا كما قالَ اللهُ تَعَالَى: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ}. ذَكَرَهُ الرازيُّ في مناقبِ الشافعيِّ .
(قولُهُ: ومَنَاقِبُهُ شَهِيرةٌ) أي: خِصَالُهُ الحميدةُ مشهورةٌ.
(وقولُهُ: فضائلُهُ كثيرةٌ) أي: خِصالُهُ الحميدةُ كثيرةٌ، والتعبيرُ أَوَّلًا بالمناقبِ وثانيًا بالفضائلِ تَفَنُّنٌ.
(وقولُهُ: وقدْ صَنَّفَ الأَئِمَّةُ إلخ) قدْ لِلتَّحْقِيقِ.
(وقولُهُ: قَدِيمًا) أيْ: في الزمنِ القديمِ.
(وقولُهُ: وحديثًا) أي: وفي الزمنِ الحديثِ، أي: الجديدِ القريبِ.
(قولُهُ: وُلِدَ رَضِيَ اللهُ عنهُ سَنَةَ خَمْسِينَ وَمِائَةٍ) وَتُوُفِّيَ سنةَ أَرْبَعٍ ومِائَتَيْنِ كما سَيَذْكُرُهُ الشرحُ، فَعُمُرُهُ أربعٌ وخمسونَ سنةً، وَوُلِدَ أبو حَنِيفَةَ سَنَةَ ثَمَانِينَ, وَتُوُفِّيَ سنةَ خَمْسِينَ ومائةٍ، وهيَ السنةُ التي وُلِدَ فيها الإمامُ الشافعيُّ رَضِيَ اللهُ عنهُ، فَعُمُرُهُ سبعونَ سَنَةً، وَوُلِدَ الإمامُ مالكٌ سنةَ تِسْعِينَ، وَتُوُفِّيَ سنةَ تِسْعٍ وسبعينَ ومائةٍ، فَعُمُرُهُ تِسْعٌ وثمانونَ، وَوُلِدَ الإمامُ أَحْمَدُ سنةَ أربعٍ وسِتِّينَ ومائةٍ، وَتُوُفِّيَ سنةَ إِحْدَى وأربعِينَ ومائتَيْنِ، فَعُمُرُهُ سَبْعٌ وسبعونَ، وقد ضَبَطَ بعضُهُم مَوْلِدَهُم وَوَفَاتَهُم وعُمُرَهُم بقولِهِ.
تاريخُ نُعْمَانَ يَكُنْ سَيْفٌ سَطَا = ومَالِكٌ فِي قَطْعِ جَوْفٍ ضبطا
والشَّافِعِيُّ صين ببر نـد = وأحمدُ بِسَبْقِ أَمْرٍ جعد
فَاحْسُبْ على تَرْتِيبِ نَظْمِ الشِّعْرِ = مِيَلَادَهُمْ فَمَوْتَهُم فالعُمْر
فـ (يَكُنْ) ضَبْطٌ لمولدِ أبي حَنِيفَةَ؛ لأنَّ الياءَ بِعَشَرَةٍ, والكافَ بِعِشْرِينَ, والنونَ بِخَمْسِينَ، فالجملةُ ثمانونَ، وهو قَد وُلِدَ سَنَةَ ثَمَانِينَ.
(وسَيْفٌ) ضَبْطٌ لِمَوْتِهِ؛ لأنَّ السينَ بِسِتِّينَ، والياءَ بِعَشَرَةٍ، والفاءَ بِثَمَانِينَ، فالجملةُ مائةٌ وخمسونَ، وهو قَدْ تُوُفِّيَ سنةَ مِائَةٍ وخمسينَ.
و (سَطَا) لِعُمُرِهِ؛ لأنَّ السينَ بِسِتِّينَ، والطاءَ بِتِسْعَةٍ، والألفُ بِوَاحِدٍ، فالجملةُ سبعونَ، وعُمُرُه كذلكَ، و (فِي) ضبطٌ لمولدِ الإمامِ مالكٍ، لأنَّ الفاءَ بِثَمَانِينَ، والياءَ بِعَشَرَةٍ، فالجملةُ تسعونَ، وهو قد وُلِدَ سَنَةَ تِسْعِينَ، و (قَطْعِ) ضَبْطٌ لِمَوْتِهِ؛ لِأَنَّ القافَ بِمِائَةٍ، والطاءَ بتسعةٍ، والعينَ بسبعينَ، فالجملةُ مائةٌ وتسعةٌ وسبعونَ، وكانتْ وَفَاتُهُ كذلكَ، و (جَوْفٍ) ضَبْطٌ لِعُمُرِهِ؛ لأنَّ الجيمَ بثلاثةٍ، والواوَ بسِتَّةٍ، والفاءَ بِثَمَانِينَ، فالجملةُ تِسْعٌ وثمانونَ، وكانَ عمرُهُ كذلكَ.
(وقولُهُ: ضبطا) تَكْمِلَةٌ للبيتِ.
و (صين) ضبطٌ لمولدِ الإمامِ الشافعيِّ؛ لأنَّ الصادَ بِتِسْعِينَ، والياءَ بِعَشَرَةٍ، والنونَ بخمسينَ، فالجملةُ مائةٌ وخمسونَ، وكانَ مولدُهُ كذلكَ.
و (ببر) ضبطٌ لِوَفَاتِهِ؛ لأنَّ كُلًّا من الباءَيْنِ باثِنَيْنِ، والراءَ بمائَتَيْنِ، فالجملةُ مائتانِ وأربعةٌ، وكانتْ وفاتُهُ كذلكَ.
و (ند) ضبطٌ لِعُمُرِهِ؛ لأنَّ النونَ بخمسينَ، والدالَ بأربعةٍ، فالجملةُ أربعةٌ وخمسونَ، وكان عُمُرُهُ كذلكَ.
و (بسبق) ضَبْطٌ لمولدِ الإمامِ أَحْمَدَ؛ لأنَّ كُلًّا من الباءَيْنِ باثنَيْنِ، والسينَ بِسِتِّينَ، والقافَ بمائةٍ، فالجملةُ مائةٌ وأربعةٌ وسِتُّونَ، وكانَ مولدُهُ كذلكَ.
و (أمر) ضَبْطٌ لوفاتِهِ، فالألفُ بواحدٍ، والميمُ بأربعينَ، والراءُ بمائَتَيْنِ، فالجملةُ مائتانِ وواحدٌ وأربعونَ، وكانتْ وفاتُهُ كذلكَ.
و (جعد) ضَبْطٌ لِعُمُرِهِ؛ لأنَّ الجيمَ بثلاثةٍ، والعينَ بسبعينَ، والدالَ بأربعةٍ، فالجملةُ سبعٌ وسبعونَ، وكانَ عُمُرُهُ كذلكَ.
(قولُهُ: والذي عَلَيْهِ الجمهورُ أَنَّهُ إلخ) هو المعتمدُ، والأقوالُ التي بعدَهُ ضَعِيفَةٌ.
(وقولُهُ: بِغَزَّةَ) هي بَلْدةٌ من بلادِ الشامِ.
(وقولُهُ: وقيلَ: بِعَسْقَلَانَ) هي قريةٌ كبيرةٌ قريبةٌ من غَزَّةَ.
(وقولُهُ: وقيلَ: باليمنِ) لَمْ أَرَ تَعْيِينَ مَحَلٍّ مِنْهُ بِخُصُوصِهِ.
(وقولُهُ: بِخَيْفِ مِنًى) أي: (بِخَيْفٍ) هو مِنًى، فالإضافةُ بيانيَّةٌ، والخيفُ الخَلْطُ، وسُمِّيَ بهِ المكانُ المعروفُ بمَكَّةَ لِاجْتِمَاعِ أخلاطِ الناسِ فيهِ؛ إِذْ مِنْهُم الجَيِّدُ وَالرَّدِيءُ.
(قولُهُ: ثم حُمِلَ إلى مَكَّةَ وهو ابنُ سَنَتَيْنِ) أي: نُقِلَ إلى مَكَّةَ التي هيَ أمُّ القُرَى، والحالُ أَنَّهُ ابْنُ سَنَتَيْنِ, وَنَشَأَ بِهِمَا, وَحَفِظَ القرآنَ، وهو ابنُ سَبْعِ سِنِينَ، والمُوَطَّأَ وهو ابنُ عَشْرٍ, وَتَفَقَّهَ على مُسْلِمِ بنِ خالدٍ الزِّنْجِيِّ، وأَذِنَ لهُ في الاجتهادِ, وهوَ ابنُ خَمْسَ عَشْرَةَ سنةً، ثم رَحَلَ إلى مالكٍ بالمدينةِ ولازَمَهُ مُدَّةً، ثم قَدِمَ بغدادَ فأقامَ بها سَنَتَيْنِ، فاجتمعَ عليهِ علماؤُهَا وصَنَّفَ بها كتابَهُ القديمَ، ثم عادَ إلى مَكَّةَ، فأقامَ بها مُدَّةً، ثم عادَ إلى بغدادَ، فأقامَ بها شَهْرًا، ثم خَرَجَ إلى مِصْرَ العتيقةِ، ولم يَزَلْ بها نَاشِرًا للعلمِ بِجَامِعِهَا العتيقِ إلى أنْ تُوُفِّيَ رحمةُ اللهِ عليهِ.
اهـ. خطيبٌ في شَرْحِ الغايةِ.
(قولُهُ: وتُوُفِّيَ بِمِصْرَ) أي: العَتِيقَةِ كما مَرَّ، وكانت السيِّدةُ نَفِيسَةُ رَضِيَ اللهُ عنها موجودةً إذْ ذاكَ، فَأَرْسَلَتْ إلى السلطانِ الذي كانَ بِمِصْرَ، وَطَلَبَتْ أنْ يَمُرُّوا عليها بِجِنَازَةِ الإمامِ فَفَعَلُوا فَصَلَّتْ عليهِ مَأْمُومَةً.
(قولُهُ: وهوَ ابنُ أربعٍ وخمسينَ سَنَةً) كانَ المناسبُ التَّفْرِيعَ؛ لأنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ سنةَ مولدِهِ وسنةَ وفاتِهِ عُلِمَ مُدَّةُ عُمُرِهِ، إلَّا أنْ يُقَالَ: الواوُ قد تَأْتِي للتفريعِ كَمَا مَرَّ.
(قولُهُ: وَدُفِنَ بالقَرَافَةِ) ظاهرُ كلامِ الشارحِ أنَّ مَدْفَنَ الإمامِ الشافعيِّ مِن القَرَافَةِ، وهو موافقٌ للذي في الخططِ للمَقْرِيزِيِّ أَنَّهُ في تُرْبَةِ أولادِ عَبْدِ الحكمِ، وَعَدَّهُ في مشاهدِ القرافةِ، وكيفَ هذا مع أنَّ جميعَ ما في القرافةِ يَجِبُ هَدْمُهُ، نَعَمْ ذَكَرَ الشعرانيُّ في المَننِ أنَّ السيوطيَّ أَفْتَى بِعَدَمِ هَدْمِ مشاهدِ الصالحِينَ بالقَرَافَةِ قِيَاسًا على أمرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَدِّ كلِّ خَوْخَةٍ في المسجدِ إِلَّا خَوْخَةَ أبي بَكْرٍ، وهو فسحةٌ في الجملةِ، هذا والمشهورُ أنَّ مَدْفَنَ الإمامِ الشافعيِّ ليسَ من القرافةِ, بلْ من بيتِ ابنِ عبدِ الحكمِ، وكانَ حَوْلَهُ الحوانيتُ، أي: الدكاكينُ، فالقُبَّةُ عليهِ لَيْسَتْ من بناءِ القرافةِ حتى يُحْتَاجَ لِمَا مَرَّ, وسُمِّيَ المَحَلُّ المعروفُ بالقرافةِ؛ لِأَنَّهُ نَزَلَهُ بَطْنٌ من مغافرَ، يُقَالُ لَهُم: القرافةُ. فَسُمِّيَ بِاسْمِهِم، وقالَ الشيخُ العَدَويُّ: إِنَّ القرافةَ تُرَكَّبُ من فِعْلٍ ومفعولٍ، والأصلُ: أَلْقِ رَأْفَةً، فَمُزِجَا، وجُعِلَا عَلَمًا على هذا المَحَلِّ؛ لأنَّ الشخصَ يَجِدُ رأفةً في قَلْبِهِ إذا مَرَّ بهِ، وما أحَسَنَ ما قالَ بَعْضُهُم:
إِذَا مَا ضَاقَ صَدْرِي لَمْ أَجِدْ لِي = مَقَرَّ عِبَادَةٍ إِلَّا القَرَافَةَ
لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْ المَوْلَى اجْتِهَادِي = وَقِلَّةَ نَاصِرِي لَمْ أَلْقَ رَافَةَ
(قولُهُ: وعلى قَبْرِهِ إلخ) الجارُّ والمجرورُ خَبَرٌ مُقَدَّمٌ، وما هو لائِقٌ مبتدأٌ مُؤَخَّرٌ, ومن الجلالةِ والاحترامِ بيانٌ لِمَا هو لائقٌ مُقَدَّمٌ عليهِ.
(قولُهُ: ومعنى كَوْنِ الإمامِ إلخ) غَرَضُهُ بذلكَ دَفْعُ ما قَدْ يَتَوَهَّمُهُ بعضُ الأذهانِ القاصرةِ والطبائعِ المُتَبَلِّدَةِ أنَّ الإمامَ الشافعيَّ قَلَّدَ زيدًا.
(قولُهُ: موافقةً لهُ في الاجتهادِ) أي: حالةَ كَوْنِهِ مُوَافِقًا لهُ في الاجتهادِ لا مُقَلِّدًا لهُ.
(قولُهُ: لِمَا سَبَقَ) عِلَّةٌ لكونِهِ قَصَدَهُ ومَالَ إليهِ، وَلَعَلَّ مُرَادَهُ بِمَا سَبَقَ الأَمْرانِ المَذْكُورانِ بَعْدَ قولِ المُصَنِّفِ فكانَ أَوْلَى باتِّبَاعِ التابعِ فَإِنَّهُ قالَ هناكَ لِأَمْرَيْنِ, أَقْوَاهُمَا هذهِ الأحاديثُ إلخ.
(وقولُهُ: حَتَّى تَرَدَّدَ حيثُ تَرَدَّدَ) غايةٌ في موافقتِهِ، أي: حتَّى إنَّ الإمامَ الشافعيَّ تَرَدَّدَ بأنْ قالَ قَوْلَيْنِ في المسألةِ التي تَرَدَّدَ فيها زَيْدٌ، بأنْ كانَ لهُ فيها قَوْلَانِ.
(قولُهُ: فَهَاكَ إلخ) أي: إذا أَرَدْتَ بيانَ مذهبِ زيدٍ فهاكَ إلخ.
(وقولُهُ: فَخُذْ) يُشِيرُ بذلكَ إلى أنَّ هاكَ اسمُ فعلٍ بِمَعْنَى خُذْ, والتَّحْقِيقُ أنَّ اسمَ الفعلِ هَا فَقَطْ, وأمَّا الكافُ فَحَرْفُ خطابٍ مفتوحةٌ في المُذَكَّرِ, مكسورةٌ في المُؤَنَّثِ، وَتُثَنَّى وتُجْمَعُ، فَيُقَالُ: هَاكُمَا وهَاكُمْ, وَقَدْ تُبَدَّلُ الكافُ هَمْزَةً، ومنهُ قَوْلُهُ تعالى حِكَايَةً عَمَّنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ: {هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيَهْ} .
(قولُهُ: فيهِ) الأظهرُ تَعَلُّقُهُ بمحذوفٍ صفةٍ للقولِ بَعْدَهُ, والتقديرُ فَخُذ القولَ الكائنَ فيهِ، أي: في مَذْهَبِ زَيْدٍ, كما قالَ الشرحُ، ويكونُ حينئذٍ مِن ظَرْفِيَّةِ الدَّالِّ في المَدْلُولِ.
(قولُهُ: القولَ عن إيجازٍ) أي: حالةَ كونِهِ نَاشِئًا عن إيجازٍ، كذا كَتَبَ بَعْضُهُم، والأظهرُ منهُ أنَّ عن بِمَعْنَى مع أي: حالَ كَوْنِهِ مُصَاحِبًا للإيجازِ.
(وقولُهُ: أي: اختصارٍ) مَبْنِيٌّ على ترادُفِ الاختصارِ والإيجازِ، وهو المرادُ، وقيلَ: الاختصارُ هو الحذفُ من عَرضِ الكلامِ أي: تَكْرَارُهُ كَزَيْدٍ زَيْدٍ، والإيجازُ هو الحذفُ من طولِ الكلامِ، أي: زِيَادَتِهِ على المقصودِ كَمِنْهاجِ وَمَنْهَجٍ، فالاختصارُ تَرْكُ التَّكرارِ، والإيجازُ تَرْكُ الزيادةِ، وقيلَ: غيرُ ذلكَ، وَقَدْ جَرَتْ عَادَةُ المُتَأَخِّرِينَ بالاختصارِ لِيُحْفَظَ الكلامُ وَعَادَةُ المُتَقَدِّمِينَ بالبسطِ لِيُفْهَمَ، ولذلكَ قالَ الخليلُ: الكلامُ يُبْسَطُ لِيُفْهَمَ وَيُخْتَصَرُ لِيُحْفَظَ.
(قولُهُ: والمُخْتَصَرُ ما قَلَّ لَفْظُهُ وكَثُرَ مَعْنَاهُ) أي: لأنَّ الاختصارَ تقليلُ الألفاظِ وتكثيرُ المعاني, وهذا التَّقْيِيدُ تَبِعَ فيهِ شيخَ الإسلامِ والجمهورَ على أنَّ المدارَ على تقليلِ الألفاظِ، سواءٌ كَثُرَت المعاني أو نَقَصَتْ أو سَاوَتْ، وقال الشيخُ السجاعيُّ فيما كَتَبَهُ على الخطيبِ: إنَّ ما ذَكَرَهُ الشرحُ هو ما ذَكَرَهُ أهلُ اللغةِ كالنَّوَوِيِّ في دقائقِ المِنْهاجِ، وصاحبِ المصباحِ, قالَ: وحقيقةُ الاختصارِ الاقتصارُ على تقليلِ اللفظِ دونَ المعنى. اهـ.
وحينئذٍ فحقيقةُ المُخْتَصَرِ ما ذَكَرَهُ الشرحُ.
(قولُهُ: مُبَرَّأً إلخ) أي: حالَ كَوْنِ القولِ المذكورِ مُبَرَّأً إلخ.
(وقولُهُ: أيْ: مُنَزَّهًا) تَفْسِيرٌ لِمُبَرَّأً، والمقصودُ مِن ذلكَ أَنَّهُ واضِحٌ جِدًّا.
(وقولُهُ: عن وَصْمَةِ إلخ) أيْ: عن وَصْمَةٍ هي الألْغَازُ، فالإضافةُ للبيانِ.
(وقولُهُ: واحدُ الوَصْمُ) أي: هيَ واحدُ الوصمِ, فهوَ خبرٌ لِمبتدأٍ محذوفٍ .
(وقولُهُ: الوصمُ اسمُ جِنْسٍ جمعيٌّ) أي: اسمٌ دَالٌّ على الجنسِ, لَكِنْ بشرطِ تَحَقُّقِهِ في جماعةِ أفرادٍ, كما هو ضابطُ اسمِ الجنسِ الجَمْعِيِّ، ويُفَرَّقُ بينَهُ وبينَ واحدِه بالتاءِ غالبًا كما هنا, وكما في تَمْرٍ وتَمْرَةٍ، وقد يُفَرَّقُ بينَهُ وبينَ واحدِهِ بياءِ النسبِ كَرُومٍ وَرُومِيٍّ، وأمَّا اسمُ الجنسِ الإفراديُّ فهو ما صَدَقَ على الجنسِ مِن غيرِ قيدِ تَحَقُّقِهِ في جماعةٍ، كما في جماعةٍ كَمَاءٍ وترابٍ.
(قولُهُ: بمعنَى العيبِ) الظاهرٌ أنَّهُ تفسيرٌ للوصمةِ التي هيَ واحدُ الوصمِ بدليلِ الإفرادِ, حيثُ قالَ: بِمَعْنَى العيبِ.
(قولُهُ: الأَلْغَازِ) أي: جِنْسِهَا الصادقِ بالواحدِ فلا يَرِدُ ما قَدْ يُقَالُ: مقتضَى كلامِ المُصَنِّفِ أَنَّهُ ليسَ مُبَرَّأً عن وَصْمَةِ لُغْزٍ واحدٍ أو لُغْزَيْنِ؛ لأنَّهُ إِنَّمَا قالَ: مُبَرَّأً عن وَصْمَةِ الألغازِ، وحاصلُ الجوابِ أنَّ أل لِلجِنْسِ الصادقِ بالواحدِ.
(قولُهُ: جَمْعُ لُغْزٍ) بِضَمِّ اللامِ وسكونِ الغينِ أو فَتْحِهَا أو ضَمِّهَا وبِفَتْحِ اللامِ مع سكونِ الغينِ أو فَتْحِهَا، وَلُغَيْزٌ بِضَمِّ اللامِ وفتحِ الغينِ مُشَدَّدَةٍ وزيادةِ ياءٍ ساكنَةٍ، وَلُغَيْزَا بزيادةِ ألفِ مقصورةٍ، ولُغَيْزَاءُ بِأَلِفٍ ممدودةٍ، ذَكَرَهُ في اللؤلؤةِ نَقْلًا عن الكتاتيِّ.
قولُهُ: (وهو الكلامُ المُعَمَّى) أي: المَجْعُولُ فيهِ التَّعْمِيَةُ، وهي الخَفَاءُ، وقِيلَ: التعميةُ تَرْجِعُ إلى الخفاءِ في المعنى، واللُّغْزُ يَرْجِعُ إلى الخفاءِ في اللفظِ، فمِثَالُ التَّعْمِيَةِ قولُهُ:
ما مِثْلُ قَوْلِكَ للذي = يَشْكُو الحبيبَ اسْكُتْ رَجَعَ
أيْ: ما مِثْلُ قولِكَ للشخصِ الذي يَشْكُو الحبيبَ عندَكَ: اسْكُتْ عن هذهِ الشكايةِ فإِنَّهُ رَجَعَ عَمَّا تَشْكُوهُ بهِ، فمرادُهُ السؤالُ عن اللفظِ المماثلِ لقولِكَ: اسْكُتْ، وهو صَهْ، فَإِنَّهُ مثلَ اسْكُتْ وعن اللفظِ المماثلِ لِرَجَع, وهو باءٌ، فَإِنَّهُ مثلَ رَجَع، فالذي مثلَ قَوْلِكَ اسْكُتْ رَجَعَ: صَهْ بَاءَ، فإنَّ مَعْنَاهُمَا اسْكُتْ رَجَعَ، ومثالُ اللغزِ قولُ الآخرِ:
يَا أَيُّهَا العَطَّارُ أَعْرِبْ لَنَا = عَنِ اسْمِ شَيْءٍ قَلَّ في سَوْمِكَ
تَرَاهُ العَيْنُ فِي يَقَظَةٍ = كَمَا تَرَى بِالقَلْبِ فِي نَوْمِكَ
أي: بَيِّنْ لنا عن اسمِشيءٍ قليلٍ في نَوْمِكَ لهُ صفةٌ ذلكَ: أنَّكَ تَرَاهُ بالعينِ في حالِ اليقظةِ, كما تَرَاهُ بالقلبِ في نَوْمِكَ، وهو الكَمُّونُ، فَإِنَّكَ إِذْ قَلَبْتَ نَوْمَكَ وَقَرَأْتَهُ مِنْ آخِرِهِ صَارَ كَمُّونًا، وَقَدْ أَحْسَنَ بَعْضُهُم حَيْثُ قَالَ:
إِنَّمَا الْأَلْغَازُ عَيْبٌ يُجْتَنَبْ = فَاتْرُكَنْهَا وَالْتَزِمْ حُسْنَ الْأَدَبْ
إِنَّ مِنْ أَقْبَحِهَا قَوْلَهُمْ = عَاجِزٌ أَعْمَى تَرَقَّى فَانْقَلَبْ
أي: لفظُ عَاجِزٍ أَعْمَى، أي: بإزالةِ العينِ منهُ تَرَقَّى بِجَعْلِ آحَادِهِ عَشَرَاتٍ، فالألفُ بواحدٍ تُجْعَلُ بِعَشَرَةٍ، والحرفُ الذي في الحسابِ بِعَشَرَةٍ، هو الياءُ والجيمُ بثلاثةٍ تُجْعَلُ بثلاثينَ، والحرفُ الذي في الحسابِ بثلاثينَ هو اللامُ والزايُ بسبعةٍ تُجْعَلُ بسبعينَ، والحرفُ الذي في الحسابِ بِسَبْعِينَ هو العينُ فانْقَلَبَ بِقِرَاءَتِهِ من آخرِهِ فَصَارَ اسمَ عَلِيٍّ.
قولُهُ: (يُقالُ: أَلْغَزَ فِي كَلَامِهِ عَمَّى وَشَبَّهَ) أي: أَخْفَى وأَوْقَعَ الشَّبَهَ بِمَعْنَى الاشتباهِ في الكلامِ.
(وقولُهُ: واليَرْبُوعُ في جُحْرِهِ) أي: ويُقَالُ: ألغزَ اليربوعُ في جُحْرِهِ فهو معطوفٌ على فاعِلِ أَلْغَزَ في كلامِهِ.
(وقولُهُ: مَالَ يَمِينًا وَشِمَالًا في حَفْرِهِ) أي: مَالَ في حَفْرِ جُحْرِهِ جِهَةَ اليَمِينِ وَجِهَةَ الشِّمَالِ، واليَرْبُوعُ بِفَتْحِ الياءِ حيوانٌ قصيرُ اليدَيْنِ طويلُ الرِّجْلَيْنِ يَحْفِرُ جُحْرَهُ في مَهَبِّ الرياحِ الأربعِ، ويَتَّخِذُ فيهِ كُوًى إِحْدَاهَا تُسَمَّى النافِقَاءَ، والثانيةُ القاصِعَاءَ، والثالثةُ الراهِطَاءُ، فإذا طُلِبَ من هذهِ الكُوَّةِ خَرَجَ من النافقاءِ، وإذا طُلِبَ من النافقاءِ خَرَجَ من القاصِعاءِ، وهوَ من الحيوانِ الذي لهُ رَئِيسٌ مُطَاعٌ, فإنْ قَصَّرَ رَئِيسُهُم حتى أَدْرَكَهُم أَحَدٌ وصادَ مِنْهُم شيئًا اجْتَمَعُوا على رَئِيسِهِم وقَتَلُوهُ, ووَلَّوْا غَيْرَهُ ويَحِلُّ أَكْلُهُ؛ لأنَّ العربَ تَسْتَطِيبُهُ، وقالَ أبو حَنِيفَةَ: لا يُؤْكَلُ؛ لأنَّهُ من حشراتِ الأرضِ.
(قولُهُ: ومعنى البيتِ) أي: مَعْنَى جُمْلَتِهِ؛ لِأَنَّهُ قد ذَكَرَ معنَى مُفْرَدَاتِهِ، فَغَرَضُهُ هنا ذِكْرُ مَعْنَى جُمْلَتِهِ.
(قولُهُ: في علمِ الفرائضِ على مَذْهَبِ زَيْدٍ) كانَ مُقْتَضَى الحَالِ السابقِ أنْ يقولَ: في مذهبِ زيدٍ من أَوَّلِ الأمرِ فَلَعَلَّهُ زادَ ذلكَ تَوْضِيحًا.
(قولُهُ: مُخْتَصَرًا) أَخَذَهُ من قولِهِ: عن إيجازٍ, أي: اختصارٍ.
(وقولُهُ: واضِحًا مُنَزَّهًا إلخ) أَخَذَهُ مِنْ قَوْلِهِ: مُبَرَّأً عَنْ وَصْمَةِ الأَلْغَازِ.
(وقولُهُ: عنْ عيبِ الخَفَاءِ) الإضافةُ للبيانِ.
قَوْلُهُ: (مُقَدِّمَةٌ) خبرٌ لمبتدأٍ محذوفٍ على ما هوَ أظهرُ الاحتمالاتِ في مثلِ هذا المقامِ، والمُقَدِّمَةُ في الأصلِ صفةٌ مأخوذةٌ مِن (قَدِمَ) اللازمِ بِمَعْنَى تَقَدَّمَ، فهي بِمَعْنَى مُتَقَدِّمَةٍ أو مِن (قَدِمَ) المُتَعَدِّي يُقَالُ: قَدَّمَ زَيْدٌ عُمَرَ فَهِيَ بِمَعْنَى مُقَدِّمَةِ مَن اعْتَنَى بها, وعلى هَذَيْنِ الوجهَيْنِ، فهيَ بكسرِ الدالِ، وَيَجُوزُ فَتْحُهَا عل أنَّهَا مِن قَدِمَ المُتَعَدِّي، فَهِيَ بِمَعْنَى أنَّ الغيرَ قَدَّمَها ثم نُقِلَتْ وَجُعِلَتْ اسْمًا للطائفةِ المُتَقَدِّمَةِ أمامَ الجيشِ، ثم نُقِلَتْ في الاصطلاحِ لمُقَدِّمَةِ الكتابِ، ومُقَدِّمَةِ العلمِ، والأُولَى: اسمٌ لألفاظٍ تَقَدَّمَتْ أمامَ المقصودِ لارتباطٍ لهُ بها، وانتفاعٍ بها فيهِ كَمُقَدِّمَةِ الشيخِ السَّنُوسِيِّ التي ذَكَرَهَا بقولِهِ: اعْلَمْ أنَّ الحُكْمَ العقليَّ إلخ.
والثانيةُ: اسمٌ لِمَعَانٍ يَتَوَقَّفُ عليها الشروعُ في المقصودِ على وَجْهِ البَصِيرَةِ كَحَدِّهِ وموضوعِهِ وغَايَتِهِ إلى آخرِ المبادي العَشَرَةِ المَنْظُومَةِ في قولِ بعضِهِم:
إنَّ مَبَادِي كُلِّ فَنٍ عَشَرَةٌ = الحَدُّ والموضوعُ ثُمَّ الثَّمَرَةُ
وفَضْلُهُ ونَسَبُهُ والواضعْ = والاسمُ الاستِمْدَادُ حُكْمُ الشارعْ
مسائلُ والبعضُ بالبعضِ اكْتَفَى = ومَنْ دَرَى الجَمِيعَ حَازَ الشَّرَفَا
وهذهِ المُقَدِّمَةُ مُقَدِّمَةُ عِلْمٍ؛ لأنَّ الشرحَ ذَكَرَ حَدَّ العلمِ وموضوعَهُ وحَذَفَ غايتَهُ التي هيَ ثَمَرَتُهُ؛ لأنَّهَا تُعْلَمُ من التعريفِ حيثُ قالَ فيهِ: المُوَصِّلُ لمعرفةِ ما يَخُصُّ كلَّ ذِي حَقٍّ من التَّرِكةِ فَيُعْلَمُ أنَّ غَايَتَهُ مَعْرِفَةُ ما يَخُصُّ كلَّ ذِي حَقٍّ من التركةِ فَتَحَصَّلَ أنَّ مُقَدِّمَةَ الكتابِ ألفاظٌ، ومُقَدِّمَةَ العلمِ مَعَانٍ، فبينَهُمَا التَّبَايُنُ، لكنْ بينَ ذاتِ مُقَدِّمَةِ الكتابِ والألفاظِ الدالَّةِ على مُقَدِّمَةِ العلمِ العمومُ والخصوصُ الوَجْهِيُّ يَجْتَمِعَانِ فيما إذا ذَكَرَ المُؤَلِّفُ قبلَ المقصودِ الألفاظَ الدالَّةَ على مُقَدِّمَةِ العلمِ, كأنْ ذَكَرَ الألفاظَ الدالَّةَ على الحدِّ والموضوعِ والغايةِ، فهذهِ الألفاظُ مُقَدِّمَةُ كتابٍ، وَدَالُّ مُقَدِّمَةُ علمٍ، وتَنْفَرِدُ مُقَدِّمَةُ الكتابِ فِيمَا إذا ذَكَرَ المُؤَلِّفُ قبلَ المقصودِ غيرَ تلكَ الألفاظِ كَمُقَدِّمَةِ الشيخِ السَّنُوسِيِّ فَيُقَالُ لها: مُقَدِّمَةُ كتابٍ فقطْ، وَيَنْفَرِدُ دالُّ مُقَدِّمَةِ العلمِ فيما إذا ذَكَرَ المُؤَلِّفُ الألفاظَ الدالَّةَ على الحدِّ والموضوعِ إلخ بعدَ المقصودِ كَمَا وَقَعَ في بعضِ الكُتُبِ، فَيُقَالُ لهذهِ الألفاظِ: دَالُّ مُقَدِّمَةِ العلمِ؛ لأنَّ مَدْلُولَهَا معانٍ يَتَوَقَّفُ عليْها الشروعُ في المقصودِ، وَإِنْ ذُكِرَتْ دَوَالُّهَا آخِرًا، ولا يُقَالُ لها: مُقَدِّمَةُ كتابٍ؛ لِأَنَّهَا لم تَتَقَدَّمْ أمامَ المقصودِ حَتَّى يُقَالَ لها: مُقَدِّمَةُ كتابٍ، وَجَعَلَ المُحَقِّقُ الأميرُ بَيْنَهُمَا عُمُومًا وَخُصُوصًا مُطْلَقًا لا وَجْهِيًّا؛ لِأَنَّ المعانيَ التي يَتَوَقَّفُ عليها الشروعُ في المقصودِ إنْ أُخِّرَتْ لمْ تَكُنْ مُقَدِّمَةً، فَإِنْ قيلَ: جَعْلُ مُقَدِّمَةِ الكتابِ ألفاظًا ومُقَدِّمَةِ العلمِ معانِيَ تَحَكُّمٌ؟ أُجِيبَ بأنَّهُ لا تَحَكُّمَ؛ لِأَنَّ الكتابَ اسمٌ للألفاظِ، فَنَاسَبَ أنْ تكونَ مُقَدِّمَتُهُ كذلكَ، والعلمُ اسمٌ للمعانِي فَنَاسَبَ أنْ تكونَ مُقَدِّمَتُهُ كذلكَ، على أَنَّهُ اصطلاحٌ، ولا مُشَاحَّةَ في الاصطلاحِ.
(قولُهُ: علمُ الفرائضِ هو إلخ) عُلِمَ من هذا التعريفِ أنَّ حقيقةَ عِلْمِ الفرائضِ مُرَكَّبَةٌ من فِقْهِ المواريثِ، وعلمِ الحسابِ المخصوصِ, أَعْنِي: المُوَصِّلَ إلخ، وقدْ سَبَقَ أنَّ كلَّ علمٍ يُطْلَقُ على الإدراكِ وعلى القواعدِ والضوابطِ وعلى المَلَكَةِ, فإِنْ أُرِيدَ مِن علمِ الفرائضِ المعنى الأَوَّلُ, وهو الإدراكُ, كانَ فِقْهُ المواريثِ بِمَعْنَى فَهْمِ مسائلِ قِسْمَةِ التَّرِكَاتِ، وَعِلْمُ الحسابِ المَخْصُوصُ بِمَعْنَى إدراكِ مسائلِ الحسابِ المَذْكُورِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: عِلْمُ الفرائضِ هوَ فَهْمُ مسائلِ قِسْمَةِ التركاتِ وإدراكُ مسائلِ الحسابِ المخصوصِ، وَإِنْ أُرِيدَ مِن عِلْمِ الفرائضِ المعنى الثاني, وهوَ القواعدُ والضوابطُ, كَانَ فِقْهُ المواريثِ بِمَعْنَى القواعدِ والضوابطِ المَفْقُوهَةِ المُتَعَلِّقَةِ بالتَّرِكَاتِ، وعلمُ الحسابِ المخصوصُ بِمَعْنَى المسائلِ المعلومةِ المُتَعَلِّقَةِ بالحسابِ المذكورِ, فَكَأَنَّهُ قالَ: علمُ الفرائضِ هو القواعدُ والضوابطُ المَفْقُوهَةُ المُتَعَلِّقَةُ بالتركاتِ والمسائلُ المعلومةُ المُتَعَلِّقَةُ بالحسابِ المَخْصُوصِ، وإِنْ أُرِيدَ مِن عِلْمِ الفرائضِ المعنى الثالثُ, وهو المَلَكةُ, كانَ فِقْهُ المواريثِ بمعنَى الملكةِ التي يَقْتَدِرُ بها على علمِ مسائلِ قِسْمَةِ المواريثِ، وعِلْمُ الحسابِ المخصوصُ بمعنى الملَكَةِ التي يَقْتَدِرُ بها على علمِ مسائلِ الحسابِ المذكورِ، فَكَأَنَّهُ قالَ: علمُ الفرائضِ هوَ الملكةُ التي يَقْتَدِرُ بها على فقهِ مسائلِ قِسْمَةِ التركاتِ والملكةُ التي يَقْتَدِرُ بها عَلَى علمِ مسائلِ الحسابِ المخصوصِ، والاحتمالُ الأَوَّلُ أَقْرَبُ، ثم الثاني، ثم الثالثُ. فَتَدَبَّرْ.
(قولُهُ: فِقْهُ المواريثِ) خَرَجَ فِقْهُ غَيْرِهَا كالوضوءِ والصلاةِ.
(وقولُهُ: عِلْمُ الحسابِ) معطوفٌ على فقهِ المواريثِ، فهو جزءٌ من حقيقةِ علمِ الفرائضِ كَمَا مَرَّت الإشارةُ إليهِ.
(وقولُهُ: المُوَصِّلُ إلخ) صِفَةٌ لعلمِ الحسابِ، ودَخَلَ فيهِ علمُ الجبرِ والمقابلةِ وما أُلْحِقَ بهِ من الطرقِ المعمولِ بها في الوصايا والدَّوْرِيَّاتِ, وَخَرَجَ منهُ ما لا يُوَصِّلُ لذلكَ كالإِرْتِمَاطِيقِيِّ، وهيَ كلمةٌ يُونَانِيَّةٌ معناهَا خواصُّ العددِ، كَقَوْلِهِم كلُّ عددٍ مُسَاوٍ لنصفِ مجموعِ حاشِيَتَيْهِ المُتَسَاوِيَتَيْنِ قُرْبًا أو بُعْدًا كَأَرْبَعَةٍ بينَ خمسةٍ وثلاثةٍ أو ستةٍ واثنينِ وهكذا، فمجموعُ الخمسةِ والثلاثةِ ثمانيَةٌ, وكذا مجموعُ الستةِ والاثنينِ، ونصفُ الثمانيةِ أربعةٌ، فَصَدَقَ أنَّ الأربعةَ سَاوَتْ نِصْفَ مجموعِ الحاشِيَتَيْنِ القَرِيبَتَيْنِ أو البَعِيدَتَيْنِ على السواءِ.
(قولُهُ: لِمَعْرِفَةِ ما يَخُصُّ كلَّ ذِي حَقٍّ من التركةِ) كذا في بعضِ النُّسَخِ الصحيحةِ، وهي ظاهرةٌ، وفي بعضِهَا زِيَادَةُ لفظِ حَقِّهِ بعدَ ذلكَ، وهو لا يُنَاسِبُ إلَّا لو قالَ الشرحُ لإِعْطَاءِ كلِّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، وَأَمَّا على ما في الشرحِ فلا يُنَاسِبُ ولا يَسْتَقِيمُ التركيبُ بِذِكْرِهِ إلَّا بِجَعْلِهِ مَجْرُورًا عَطْفَ بيانٍ أو مَنْصُوبًا بتقديرِ أَعْنِي، ولا يَخْفَى أنَّهُ حَشْوٌ لا فائدةَ فيهِ، فالأَوْلَى حَذْفُهُ، ثم إنَّ المتبادِرَ أَنَّ المرادَ مَعْرِفَةُ ما يَخُصُّ كلَّ ذي حَقٍّ من التركةِ بالنسبةِ لحقوقِ الإرثِ، بخلافِ نَحْوِ الديُونِ والأقاريرِ والوصايا، فَذِكْرُهَا في كُتُبِهِ اسْتِطْرَادٌ، وقِيلَ: المرادُ معرفةُ ما يَشْمَلُ ذلكَ ولا اسْتِطْرَادَ. اهـ.
أميرٌ بِتَصَرُّفٍ وزيادةٍ من الحِفْنِيِّ.
(قولُهُ: وموضوعُهُ التَّركاتُ) أي: من حيثُ قِسْمَتُهَا، فموضوعُهُ إِنَّمَا هو قسمةُ التركاتِ، فانْدَفَعَ ما يُقَالُ: إنَّ علمَ الفرائضِ مِن علمِ الفقهِ، وموضوعُهُ عَمَلُ المُكَلَّفِينَ، والتركاتُ ليستْ عَمَلًا، وَوَجْهُ الاندفاعِ أنَّ التركاتِ ليستْ مَوْضُوعَهُ مِن حيثُ ذَاتُهَا, بل مِن حيثُ قِسْمَتُهَا, ولا شَكَّ أنَّ قِسْمَتَهَا عَمَلٌ، وموضوعُ كلِّ فَنٍّ ما يَبْحَثُ فيهِ عن عوارضِهِ الذاتيَّةِ، ومنِ المعلومِ أنَّهُ يُبْحَثُ في علمِ الفرائضِ عن أحوالِ القِسْمَةِ.
(وقولُهُ: لا العددُ) أيْ: لِأَنَّ العددَ موضوعُ علمِ الحسابِ، فلا يكونُ مَوْضُوعًا لغيرِهِ؛ لِأَنَّ كُلَّ علمٍ يَتَمَيَّزُ عن غيرِهِ بِمَوْضُوعِهِ كما يَتَمَيَّزُ بِتَعْرِيفِهِ، فَكَمَا لا يَكُونُ تَعْرِيفُهُ تَعْرِيفًا لغيرِه, لا يكونُ موضوعُهُ مَوْضُوعًا لغيرِهِ، والإلزامُ خَلْطُ عِلْمٍ بآخَرَ، وهو مُمْتَنِعٌ، كذا قالَهُ ابنُ الهائِمِ في شرحِ الكِفايةِ، وتَبِعَهُ الشرحُ، ولذلكَ قالَ: لَا العددُ.
(قولُهُ: خِلَافًَا لِمَنْ زَعَمَ ذلكَ) أي: أُخَالِفُ خِلَافًَا أو أَقُولُ ذلكَ حالَ كَوْنِي مُخَالِفًا لِمَنْ زَعَمَ ذلكَ، وهو العَلَّامَةُ أبو بكرِ بنُ محمدِ بنِ يَحْيَى بنِ عبدِ السلامِ؛ فَإِنَّهُ قالَ ذلكَ في نهايةِ الرَّائِضِ في علمِ الفرائضِ، والإِنْصَافُ أَنَّهُ حيثُ أَدْخَلَ علمَ الحسابِ المُتَقَدِّمَ في تَعْرِيفِهِ أَدْخَلَ العددَ في موضوعِهِ من حيثُ التأصيلُ والتصحيحُ كَمَا قالَهُ العلَّامَةُ الأميرُ، ومَحَلُّ قَوْلِهِم: الموضوعُ لعلمٍ لا يكونُ مَوْضُوعًا لعلمٍ آخرَ، إذا جُعِلَ موضوعًا للعلمِ الآخرِ مُسْتَقِلًّا بخلافِ ما إذا كانَ مُنْضَمًّا لغيرِهِ كما هنا؛فإِنَّ الموضوعَ مجموعُ التركاتِ والعددِ لا العددُ وَحْدَهُ، والشيءُ مع غيرِهِ غيرُهُ في نَفْسِهِ كما نَبَّهَ عليهِ في اللؤلؤةِ نَقْلًا عن شيخِ الإسلامِ.
(قولُهُ: واعْلَمْ) هذه كلمةٌ يُؤْتَى بها لِشَّدَةِ الاعتناءِ بما بَعْدَهَا, والمُخَاطِبُ بذلكَ كلُّ مَن يَتَأَتَّى منهُ العلمُ مَجَازًا؛ لأنَّهُ موضوعٌ لِأَنْ يُخَاطَبَ بهِ مُعَيَّنٌ.
(وقولُهُ: أَنَّهُ يَتَعَلَّقُ إلخ) أي: أنَّ الحالَ والشأنَ يَتَعَلَّقُ إلخ، فالضميرُ للحالِ والشَّأْنِ.
(وقولُهُ: خمسةُ حقوقٍ) أي: لا زائدَ عليها بدليلِ الاستقراءِ من مواردِ الشرعِ، وأيضًا الحقُّ المُتَعَلِّقُ بالتَّركِةِ, إمَّا ثابتٌ قبلَ الموتِ, وإمَّا ثابتٌ بالموتِ.
والأَوَّلُ إمَّا مُتَعَلِّقٌ بالعينِ وَإمَّا مُتَعَلِّقٌ بالذِّمَّةِ.
والثاني إمَّا للميتِ وهو مُؤَنُ التجهيزِ، وإمَّا لغيرِهِ وهوَ إمَّا أَنْ يَكُونَ ثُبُوتُهُ من جهةِ الميتِ بحيثُ يكونُ لهُ تَسَبُّبٌ في ذلكَ، وهو الوصيةُ أَوَّلًا، وهوَ الإِرْثُ، فالجملةُ خمسةُ حقوقٍ.
(وقولُهُ: مُرَتَّبَةٌ) أي: مُقَدَّمٌ بَعْضُهَا على بعضٍ، فالمرادُ بالترتيبِ هنا كَمَا قالَهُ شيخُ الإسلامِ المعنَى اللُّغَوِيُّ، وهو كَوْنُ كُلِّ شيءٍ في مَرْتَبَتِهِ, لا المعنَى الاصطلاحيُّ، وهوَ كَوْنُ الأشياءِ بحيثُ يُطْلَقُ عليها اسمُ الشيءِ الواحدِ، ويكونُ لِبَعْضِهَا نسبةٌ إلى بعضٍ بالتَّقَدُّمِ والتَّأَخُّرِ. انتهى مُلَخَّصًا من اللؤلؤةِ.
(قولُهُ: أَوَّلُهَا الحَقُّ المُتَعَلِّقُ بِعَيْنِ التَّرِكَةِ) إنَّمَا قَدَّمَ ذلكَ على مُؤَنِ التجهيزِ؛ لِأَنَّ صَاحِبَهُ كانَ يُقَدِّمُ بهِ في الحياةِ، نَعَمْ تَعَلَّقُ الغرماءِ بالأموالِ بالحَجْرِ لا يَقْتَضِي أنْ يُقَدَّمَ حَقُّهُم على مُؤَنِ التجهيزِ, بَلْ هيَ تُقَدَّمُ.
(قولُهُ: كالزكاةِ والجِنَايَةِ وَالرَّهْنِ) أَشَارَ بالكافِ إلى أَنَّ أفرادَ الحقِّ المُتَعَلِّقِ بِعَيْنِ التركةِ ليستْ مُنْحَصِرَةً فيما ذَكَرَهُ، وقد نَظَمَهَا بَعْضُهُم في قولِهِ:
يُقَدَّمُ في الميراثِ نَذْرٌ ومَسْكَنٌ =زَكَاةٌ وَمَرْهُونُ مَبِيعٍ لِمُفْلِسِ
وَجَانٍ قِرَاضٌ ثم قَرْضٌ كِتَابَةً = وَرَدٌّ بِعَيْبٍ فَاحْفَظِ العِلْمَ تَرْأَسِ
فصورةُ النذرِ أنْ يقولَ: للهِ عليَّ أنْ أُضَحِّيَ بهذهِ أو أَتَصَدَّقَ بها أو نحوَ ذلكَ. فَيُقَدَّمُ إِخْرَاجُهَا للجهةِ المُعَيَّنَةِ، وهذا مَبْنِيٌّ على أَنَّهُ لَا يَزُولُ مُلْكُهُ عَنْهَا حَتَّى تُذْبَحَ وَيُتَصَدَّقَ بِلَحْمِهَا حَتَّى تُعَدَّ مِن الحقوقِ المُتَعَلِّقَةِ بِعَيْنِ التركةِ، والصحيحُ زوالُ مُلْكِهِ عنها بالنذرِ، وصورةُ المسكنِ سُكْنَى المُعْتَدَّةِ عن وفاةٍ، فَتُقَدَّمُ بها على غَيْرِهَا، وصورةُ الزكاةِ أَنْ تَتَعَلَّقَ الزكاةُ بالنِّصَابِ، ويكونُ النِّصَابُ بَاقِيًا فَتُقَدَّمُ الزكاةُ, لكنْ قالَ السُّبْكِيُّ: لا حاجةَ لِذِكْرِهَا؛ لأنَّهُ إذا كانَ النِّصَابُ بَاقِيًا فالأَصَحُّ أنَّ تَعَلُّقَ الزَّكَاةِ بالنصابِ تَعَلُّقُ شَرِكَةٍ فَلَا يَكُونُ قَدْرُ الزكاةِ تَرِكَةً, وَأَجَابَ عَنْهُ شَيْخُ الإسلامِ بِصِحَّةِ إطلاقِ التركةِ على المجموعِ الذي منهُ قَدْرُ الزكاةِ، ولو قُلْنَا بالأَصَحِّ مِن أنَّ تَعَلُّقَهَا تَعَلُّقُ شَرِكَةٍ نَظَرًا لِجَوَازِ تَأْدِيَةِ الزكاةِ مِن مَحَلٍّ آخَرَ, وَأَمَّا إِذَا كَانَ النِّصَابُ تَالِفًا فَتَكُونُ الزكاةُ من الديونِ المُرْسَلَةِ في الذِّمَّةِ كما في شرحِ الترتيبِ, وصورةُ المَرْهُونِ أَنْ تَكُونَ التَّرِكَةُ مَرْهُونَةً بِدَيْنٍ على المَيِّتِ فَيُقْضَى منها دَيْنُهُ مُقَدَّمًا على مُؤَنِ التَّجْهِيزِ وَسَائِرِ الحقوقِ، وصورةُ المبيعِ لِلْمُفْلِسِ أنْ يَشْتَرِيَ عَبْدًا مَثَلًا بِثَمَنٍ في ذِمَّتِهِ وَيَمُوتُ المُشْتَرِي مُفْلِسًا وَيَجِدُ البَائِعُ مَبِيعَهُ فَلَهُ الفَسْخُ وَأَخْذُ المَبِيعِ فَيُقَدَّمُ بهِ، وَاسْتَشْكَلَهُ السُّبْكِيُّ بِأَنَّهُ إِذَا فَسَخَ خَرَجَ المَبِيعُ عَن التركةِ فَلَا اسْتِثْنَاءَ، وَأُجِيبَ بِأَنَّ الفسخَ إِنَّمَا يَرْفَعُ العَقْدَ مِن حِينِهِ لا مِن أَصْلِهِ على الصحيحِ، وخُرُوجُهُ عن التركةِ من حينِ الفسخِ لا يَضُرُّ كَمَا لا يَضُرُّ خُرُوجُ العبدِ الجَانِي عَمَّا يَبِيعُهُ في الجِنَايَةِ، وصورةُ الجانِي أنْ يَقْتُلَ العبدُ نَفْسًا أو يَقْطَعَ طَرَفًا خَطَأً أو شِبْهَ عَمْدٍ أو عَمْدًا لا قِصَاصَ فيهِ كَقَتْلِهِ وَلَدَهُ أو فيهِ قصاصٌ, ولكنْ عُفِي على مالٍ أو أَتْلَفَ مالَ إنسانٍ ثم مَاتَ سَيِّدُ العبدِ، وَأَرْشُ الجِنَايةِ مُتَعَلِّقٌ بِرَقَبَتِهِ فَالمَجْنِيُّ عَلَيْهِ مُقَدَّمٌ في هذهِ الصورةِ بِأَقَلِّ الأَمْرَيْنِ مِن أَرْشِ الجِنَايَةِ وَقِيمَةِ العبدِ، وصورةُ القِرَاضِ أَنْ يُقَارِضَهُ على مائةِ رِيَالٍ لِيَتَّجِرَ فيها والرِّبْحُ بَيْنَهُمَا مُنَاصَفَةً مَثَلًا، فَبَعْدَ أنْ ظَهَرَ الرِّبْحُ وقبلَ قِسْمَتِهِ ماتَ ربُّ المالِ، فالعاملُ مُقَدَّمٌ بِحِصَّتِهِ من الربحِ، وصورةُ القرضِ أَنْ يُقْرِضَهُ دِينارًا ثم يَمُوتُ المُقْتَرِضُ عن عَيْنِ المالِ الذي اقْتَرَضَهُ فالمُقْتَرِضُ مُقَدَّمٌ بهِ، وصورةُ الكتابةِ أنْ يَقْبِضَ السيِّدُ نُجُومَ الكتابةِ مِن المُكَاتِبِ وَيَمُوتَ قبلَ الإيتاءِ الواجبِ عليهِ، فالمُكَاتِبُ مُقَدَّمٌ على غَيْرِهِ بِأَقَلِّ مُتَمَوَّلٍ؛ لِأَنَّهُ الواجبُ في الإيتاءِ، وصورةُ الردِّ بالعيبِ أنْ يَرُدَّ المُشْتَرِي المَبِيعَ بِعَيْبٍ بعدَ موتِ البائعِ، وكانَ الثَّمَنُ بَاقِيًا، فَيُقَدَّمُ بهِ المُشْتَرِي وَلَو اجْتَمَعَ بعضُ هذهِ الحقوقِ مع بعضٍ قُدِّمَ منها كما في شرحِ الجعبريِّ: الزكاةُ، ثم حَقُّ الجِنَايَةِ، ثم حَقُّ الرهنِ، ثم حَقُّ بَيْعِ المُفْلِسِ، ثم حَقُّ القِرَاضِ. وانْظُر البَوَاقِيَ.
(قولُهُ: فَيُقَدَّمُ عَلَى مُؤَنِ التَّجْهِيزِ) أي: فَيُقَدَّمُ الحَقُّ المُتَعَلِّقُ بِعَيْنِ التَّرِكَةِ عَلَى مُؤَنِ التَّجْهِيزِ خِلَافًا للحَنَابِلَةِ كما في اللؤلؤةِ.
(قولُهُ: والثاني مُؤَنُ التَّجْهِيزِ) إِنَّمَا قُدِّمَتْ على الديونِ المُرْسَلَةِ؛ لِأَنَّ الحَيَّ إذا حُجِرَ عليهِ بالفلسِ يُقَدَّمُ بما يَحْتَاجُ إليهِ على ديونِ الغرماءِ، فكذا المَيِّتُ بل أَوْلَى؛ لِأَنَّ الحَيَّ يَسْعَى على نَفْسِهِ، والمَيِّتَ قد انْقَطَعَ عن سَعْيِهِ؛ ولأنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ في المُحْرِمِ الذي وَقَصَتْهُ نَاقَتُهُ: ((كَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْهِ)).
وَلَمْ يَسْتَفْصِلْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ عَلَيْهِ دَيْنٌ أَمْ لَا, وَتَرْكُ الاسْتِفْصَالِ في وقائعِ الأحوالِ، إذا كانتْ قَوْلِيَّةً يُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ العمومِ في المقالِ، وإذا ثَبَتَ ذلكَ في الكفنِ فَسَائِرُ مُؤَنِ التجهيزِ في معناهُ. أَفَادَهُ في اللؤلؤةِ نَقْلًا عن شيخِ الإسلامِ.
(قولُهُ: بالمعروفِ) أيْ: حَالَةَ كَوْنِهَا مُتَلَبِّسَةً بالمعروفِ، بِحَيْثُ تَكُونُ مِن غيرِ إِسْرَافٍ ولا تَقْتِيرٍ ولا نَظَرَ إلى ما كانَ عليهِ في الحياةِ مِن إِسْرَافِهِ وَتَقْتِيرِهِ. انْتَهَى لؤلؤة.
(قولُهُ: فَإِذَا كَانَ المَيِّتُ فَاقِدًا إلخ) لَا حَاجَةَ لَهُ فِي المَقَامِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ التَّفْصِيلِ الذي يُذْكَرُ في كُتُبِ الفِقْهِ.
(قولُهُ: فَتَجْهِيزُهُ على مَنْ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ في حالِ الحياةِ) أي: وَلَوْ بالقُوَّةِ فَيَشْمَلُ ما لوْ كانَ المَيِّتُ ابْنًا بَالِغًا صَحِيحًا لِعَجْزِهِ بالموتِ، وما لوْ كانَ المَيِّتُ مُكَاتَبًا؛ لِأَنَّ الكِتَابَةَ تَنْفَسِخُ بالموتِ، وأَمَّا المبعضُ فَمُؤَنُ تَجْهِيزِهِ على قَرِيبِهِ وعَلَى سَيِّدِهِ بِحَسَبِ مَا فِيهِ من الرِّقِّ وَالحُرِّيَّةِ إِنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَيِّدِهِ مُهَايَأَةٌ وَإِلَّا فَعَلَى مَنْ مَاتَ فِي نَوْبَتِهِ وَلَوْ مَاتَ مِن تَجِبُ نَفَقَتُهُ على غَيْرِهِ وَقَبْلَ أَنْ تُخْرَجَ مُؤَنُ تَجْهِيزِهِ مَاتَ صَاحِبُ المَالِ وَضَاقَتْ تَرِكَتُهُ فَهَلْ يُقَدَّمُ الأَوَّلُ لِتَقَدُّمِ حَقِّهِ أو الثاني لِتَبَيُّنِ أَنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ تَجْهِيزِ غَيْرِهِ؟ خِلَافٌ, والمُعْتَمَدُ الثاني.
(قولُه: فإن تعذَّرَ ففي بيتِ المالِ) ولا يُزادُ في كفَنِ مَن جُهِّزَ من بيتِ المالِ على ثوبٍ واحدٍ, وكذا مَن كُفِّنَ مِن وَقْفٍ على الأكفانِ فلا تَجوزُ الزيادةُ عليه في هاتين الصورتين, وأما مَن كُفِّنَ من مالِ مَن تَجبُ عليه نفقتُه, أو مِن مالِ أغنياءِ المسلمين فتَجوزُ الزيادةُ فيها على الثوبِ الواجبِ كما في اللؤلؤةِ نقلاً عن شيخِ الإسلامِ.
(قولُه: فإن تَعذَّرَ فعلى أغنياءِ المسلمين) أي: فرْضُ كِفايةٍ كنفقتِه في مِثلِ هذا الحالِ, والمرادُ بأغنياءِ المسلمين مَن عندَه كفايةُ سنةٍ وزيادةُ مُؤَنِ التجهيزِ.
(قولُه: وهذا إلخ) تقييدٌ لأصلِ الكلامِ أَعْنِي تَعلُّقَ مُؤَنِ التجهيزِ بالترِكةِ, فاسمُ الإشارةِ عائدٌ لكونِ مُؤَنِ التجهيرِ تَخرُجُ من التَّرِكَةِ وقولُه: في غيرِ الزوجةِ أي: غيرِ الزوجةِ التي تَجِبُ نفقتُها أخْذًا مما بعدُ فيَصدُقُ بالزوجةِ التي لا تَجِبُ نفقتُها لنشوزٍ أو صِغَرٍ أو لعدَمِ تسليمِها له ليلاً ونهارًا, و هي أَمَةٌ وقولُه: وأما الزوجةُ التي تَجِبُ نفقتُها إلخ مِثلَ الزوجةِ خادمتُها غيرُ الْمُكتراةِ؛إذ ليس لها إلا الأُجرَةُ وشَمِلَت الزوجةَ الرجعيَّةَ ومِثلَها المطلَّقةُ بائنًا وهي حاملٌ وقولُه: فمُؤَنُ تجهيزِها على الزوجِ المُوسِرِ أي: لا مِن تَرِكَتِها وخرَجَ بالزوجِ ابنُه فلا يَلزَمُه تجهيزُ زوجةِ أبيه, وإن لزِمَه نفقتُها في الحياةِ, وخرَجَ بالموسِرِ المُعْسِرُ فلا يَلزَمُه مُؤَنُ تجهيزِها فتَخرُجُ من أصْلِ تَرِكَتِها, لامن حِصَّتِه فقط, وضابِطُ المعسِرِ مَن لا يَلزَمُه إلانفقةُ المُعْسِرين, ويُحتَمَلُ أن يُقالَ: مَن ليس عندَه فاضِلٌ عما يَترُكُ للمُفلِسِ وضابطُ الموسِرِ على العكْسِ فيهما ولو صارَ موسرًا بما أبْحَرَ إليه من الإرثِ لزِمَه مُؤَنُ تجهيزِها, وهذا مذهَبُ الشافعيَّةِ وكذا الحنفيَّةُ, وأما عندَ غيرِهما فمُؤَنُ تجهيزِها من تَرِكَتِها, ولو كان الزوجُ غنيًّا, ووجْهُ الأوَّلِ أن عَلاقةَ الزوجةِ باقيةٌ؛لأنه يَرِثُها ويُغَسِّلُها ونحوَ ذلك ووَجْهُ الثاني أن التجهيزَ من توابعِ النفقةِ والنفقةُ وجَبَتْ للاستمتاعِ وهو قد انقطعَ بالموتِ.
(قولُه: والثالثُ الديونُ الْمُرْسَلَةُ في الذمَّةِ) أي: الْمُطْلَقَةُ عن تعلُّقِها بعين التَّرِكَةِ وإنما قُدِّمَتْ على الوصيَّةِ؛لأنها حقٌّ واجبٌ على الميِّتِ فقضاؤُه واجبٌ والوصيَّةُ تبَرُّعٌ, فلذلك أُخِّرَتْ فإن قيلَ قد قُدِّمَت الوصيَّةُ على الدَّيْنِ في قولِه تعالى:{مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْدَيْنٍ} أُجِيبَ بأنها قُدِّمَتْ في الآيةِ للاهتمامِ بشأنِها؛لأن شأنَها أن تَشِحَّ بها الأنفسُ؛ لكونِها مأخوذةً لا في نظيرِ شيءٍ, وبَيَّنَت السُّنَّةُ تقديمَ الدَّيْنِ عليها, ويَجِبُ تقديمُ دَيْنِ اللهِ تعالى على دَيْنِ الآدميِّ إذا مات قَبْلَ أدائِهما, وضاقَت التَّرِكَةُ عنهما لقولِه عليه الصلاةُ والسلامُ:((دَيْنُ اللهِ أَحَقُّ بالقضاءِ)). أما قبلَ الموتِ فإن كان محجورًا عليه قُدِّمَ دَيْنُ الآدميِّ جزْمًا, وإلا قُدِّمَ حقُّ اللهِ جزْمًا, ومَحَلُّ هذا التفصيلِ إن لم تَتعلَّق الزكاةُ بالعينِ, وإلا قُدِّمَتْ سواءٌ كان محجورًا عليه أم لا, ولو اجتمَعَ عليه ديونٌ للهِ تعالى فالأوجَهُ كما قالَه السُّبْكِيُّ إنه إن كان النِّصابُ موجودًا قُدِّمَت الزكاةُ, وإلا فالتسويةُ, ومن حقِّ اللهِ إسقاطُ الصلاةِ إذا أَوْصَى به, وهو لكلِّ صلاةٍ نصفُ صاعٍ, ولو الوِترَ عندَ الحنفيَّةِ كما في شرْحِ السراجيَّةِ للسيَّدِ الْجُرْجانيِّ, وإذا كثُرَت الصلاةُ كَفَّت الْحِيلةُ و هي كما ذكَرَه النبتيتيُّ هنا أن يُخْرِجَ الكفارةَ عن صلاةٍ للمسكينِ, ثم يَهَبُها المسكينُ للمتصدِّقِ, ثم يُخرِجُها له عن صلاةٍ أُخرى, وهكذا حتى يَبْرَأ مَن عليه الصلاةُ, وقد نُقِلَ عن الْمُزنيِّ ذلك فيَنبغي أن تُفْعَلَ احتياطاً انتهى ملخَّصًا من اللؤلؤةِ وحاشيةِ الشيخِ الأميرِ.
(قولُه: والرابعُ الوصفيَّةُ إلخ) إنما قُدِّمَتْ على الإرثِ تقديمًا لمصلحةِ الميِّتِ كما في الحياةِ, ولقولِه تعالى : {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا} وقولُه: بالثلُثِ إلخ كان الأَوْلَى حذْفَ ذلك من هنا؛لأن التفصيلَ بينَ الإمضاءِ والردِّ لأغراضٍ لا تَخُصُّنا إذ الغرَضُ هنا ذكْرُ الترتيبِ وقولُه: لأجنبيٍّ أي: مَن ليس بوارثٍ وإنْ كان قريبًا مِمَّن لا يرِثُ, وقولُه: فإن كانت بأكثرَ من الثلُثِ أو كانت لوارثٍ وقولُه: ففيها تفصيلٌ إلخ وهو أنه إن كان للميِّتِ وارثٌ خاصٌّ فوصيَّتُه بأكثرَ من الثلُثِ منعقدةٌ, لكن تَتوقَّفُ على إجازةِ الورثةِ بالنِّسبةِ للزائدِ, وإن لم يكنْله وارثٌ خاصٌّ فوصيَّتُه صحيحةٌ في قدْرِ الثلُثِ باطلةٌ فيما زادَ عليه؛لأن الحقَّ للمسلمين ولا مُجيزَ ولا تَتخرَّجُ على قولي تفريقِ الصفقةِ فهو مستَثْنًى من القاعدةِ المعروفةِ, وإذا أَوْصى للوارثِ توقَّفَت الوصيَّةُ على إجازةِ باقي الورثةِ ولو كانت بأقلِّ متموِّلٍ.
(قولُه: والخامسُ الإرثُ) المرادُ به تسلُّطُ الوارثِ على التَّرِكَةِ بالتصرُّفِ ليَصِحَّ تَأخُّرُه عما قبلَه, وإلا فالأصحُّ أن الدَّيْنَ لا يَمْنَعُ انتقالَ التَّرِكَةِ إلى مِلْكِ الوارثِ . انتهى لؤلؤة.
(قولُه: وهو) أي: الإرثُ لا بمعنى التسلُّطِ المذكورِ بل بمعنى الاستحقاقِ, وقولُه: المقصودُ بالذاتِ أي: المقصودُ لذاتِه وأما غيرُه فهو مقصودٌ لغيرِه.
(قولُه: وله أركانٌ) أي : للإرثِ بمعنى الاستحقاقِ أركانٌ لا يَتحقَّقُ إلا بها, فمَن ماتَ ولاوارثَ له أو له وارثٌ ولا مالَ له فلا إرثَ منه, وقولُه: و هي ثلاثةٌ؛ مورِّثٌ إلخ فإذا ماتَ زيدٌ عن ابنِه, وخلَّفَ شيئًا,فزيدٌ مورِّثٌ, وابنه وارِثٌ, والشيءُ الذي خلَّفَه حقٌّ موروثٌ, ولو لم يَصِحَّ بيعُه كالاختصاصِ, ومنه كلْبُ الصيدِ مَثلاً, ولو لم يكنْ مالاً ولا اختصاصًا كالقَصاصِ وحَدِّ القذْفِ.
(قولُه: وله شروطٌ) أي: للإرثِ شروطٌ وهي ثلاثةٌ : تَحقُّقُ موتِ المورِّثِ, أو إلحاقُه بالموتى حكمًا, كما في المفقودِ إذا حَكَمَ القاضي بموتِه, أو تقديرًا كما في الْجَنينِ الذي انفَصَلَ بِجِنايةٍ على أمِّه تُوجِبُ غُرَّةً, وتَحَقُّقُ حياةِ الوارثِ بعدَ موتِ المورِّثِ أو إلحاقُه بالأحياءِ تقديرًا كحَمْلٍ انفَصَلَ حيًّا حياةً مستقرَّةً لوقتٍ يَظهَرُ منه وجودُه عندَ الموتِ ولو نُطفةً, والعلْمُ بالجهةِ الْمُقتضيَةِ للإرثِ وهذا مُختَصٌّ بالقاضي, ومِثلُه المفتِي, وقولُه: يُعلَمُ أكثرُها من ميراثِ إلخ المرادُ بالأكثرِ الشرطان الأوَّلان وخرَجَ بالأكثرِ الشرطُ الثالثُ فإنه لا يُعلَمُ مما ذُكِرَ وقولُه: وسيأتي أي: الأكثرُ.
(قولُه: وله أسبابٌ وموانعُ) أي: للإرثِ أسبابٌ ثلاثةٌ وموانعُ ثلاثةٌ على ما ذكَرَه المصنِّفُ فيهما, وقولُه: ذكَرَهما أي: الأسبابَ والموانعَ وقولُه: بقولِه أي: في قولِه وظرفيَّةُ الذكْرِ في هذا القولِ المخصوصِ من ظرفيَّةِ العامِّ في الخاصِّ.