النوع العشرون: في تناسب المعاني
وهو ثلاثة أضرب:
الضرب الأول: في المطابقة:
وهي عند الأكثرين: مقابلة الشيء بضده كالسواد والبياض، والليل والنهار.
وقال قدامة بن جعفر: هي إيراد لفظتين متساويتين في البناء والصيغة، مختلفين في المعنى.
قال ابن الأثير: وهذا هو التجنيس جعل له اسمًا آخر، وهو المطابقة.
قال: والأليق من حيث المعنى أن يسمى هذا النوع مقابلة.
وقال البحراني: المطابقة هي الجمع بين المتضادين في الكلام مع مراعاة التقابل حتى لا يقابل الاسم بالفعل نحو: {فليضحكوا قليلاً وليبكوا كثيرًا}
{سواء منكم من أسر القول ومن جهر به ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار}
{تؤتي الملك من تشاء} الآية.
والمقابلة: الجمع بين شيئين متوافقين وضديهما، ثم إن شرطتهما بشرط وجب أن تشرط ضديهما بعيد ذلك الشرط نحو
[الإكسير في علم التفسير: 283]
{فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى} إلى قوله: {للعسرى}.
ثم قاله ابن الأثير: مقابلة الشيء إما لضده أو لغيره أو لمثله.
وهذه القسمة مضطربة، لأنها متداخلة، فإن غير الشيء يدخل فيه ضده ومثله.
والصواب أن يقال: الشيء إما أن يقابل غيره، فذلك الغير: إما ضد أو لا، وغير الضد، إما مثل أو لا، فهذه قسمة صحيحة دائرة بين النفي والإثبات.
مثال الأول ما سبق آنفًا، وقوله تعالى: {لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم} قابل الحزن بالفرح، والفائت بالآتي.
وقوله عليه السلام: (خير المال عين ساهرة لعين نائمة).
وقول زهير:
ليث بعثر يصطاد الرجال إذا = ما الليث كذب عن أقرانه صدقا
قابل الكذب بالصدق.
وقول الآخر:
فلا الجود يفني المال والجد مقبل = ولا البخل يبقي المال والجد مدبر
[الإكسير في علم التفسير: 284]
قابل الجود بالبخل، ويفنى بيبقي، ومقبل بمدبر.
ومن أحسن ما في هذا الباب قول البحتري:
وأمة كان قبح الجور يسخطها = دهرًا فأصبح حسن العدل يرضيها
قابل الحسن بالفتح، والجور بالعدل، والسخط بالرضى.
ولبعضهم في وصف السحاب:
وله بلا حزن ولا بمسرة = ضحك تراوح بينه وبكاء
قابل الحزن بالمسرة، والضحك بالبكاء، ولكنه أخل بالترتيب على ما سيأتي بيانه.
مثال الثاني: وهو مقابلة الشيء بمثله، وهو ضربان:
أحدهما التقابل في اللفظ والمعنى نحو:
{نسوا الله فنسيهم}
{ومكروا مكرًا ومكرنا مكرًا}
{فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه}
{وجزاء سيئة سيئة مثلها} ونحو ذلك.
الثاني: مقابلة الجملة بمثلها في المضي والاستقبال:
فالماضي: نحو: {فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عددًا ثم بعثناهم}
[الإكسير في علم التفسير: 285]
{وأزلفت الجنة للمتقين * وبرزت الجحيم للغاوين}
والمستقبل نحو: {ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم}.
ثم التقابل قد يكون لفظًا كما ذكر، وقد يكون معنى:
أما في الماضي، فكقوله تعالى: {قد علمنا ما تنقص الأرض منهم وعندنا كتاب حفيظ}. أي: قد علمنا ذلك وحفظناه.
{بل كذبوا بالحق لما جاءهم فهم في أمر مريج} أي: بل كذبوا فاختلط أمرهم عليهم والتبس.
وأما في المستقبل: فكقوله تعالى: {قل إن أدري أقريب ما توعدون أم يجعل له ربي أمدًا}؟، والتقدير هنا موجه، لأنه يجوز أن يقدر، أقريب بمعنى: أيعجل لكم ما توعدون أم يجعل له أمد، فيكون من باب تقابل الجمل.
ويجوز أن يقدر (يجعل) بمعنى بعيد، أي: إن أدري أقريب ما توعدون أم بعيد، كما صرح به في موضع آخر.
وكذلك: {ألم يروا أنا جعلنا الليل ليسكنوا فيه والنهار مبصرًا} أي: ليبصروا فيه.
وقد يقابل الماضي لفظًا بالمستقبل نحو: {إن ضللت فإنما أضل على نفسي * وإن اهتديت فبما يوحي إلي ربي}.
[الإكسير في علم التفسير: 286]
والمستقبل بالماضي نحو: (إن تكرمني أكرمتك) كل ذلك على التقابل المعنوي.
مثال الثالث: وهو ضربان:
أحدهما: مقابلة الشيء بما يقاربه ويناسبه، كقوله:
يجزون من أهل ظلم مغفرة = ومن إساءة أهل السوء إحسانا
قابلي الظلم بالمغفرة، وليست ضده ولا مثله، لكنها قريبة من العدل والإنصاف الذي هو ضد الظلم.
الثاني: مقابلته بما يبعد عنه، كقوله:
أم هل ظعائن بالعلياء رافعة = وإن تكامل فيها الدل والشنب
والدل: الشكل، والشنب: من أوصاف الإنسان، ولا مناسبة بينهما، وإن كانت فبعيدة.
ومما يناسب ذكره هنا، بيان وجه اختصاص فواصل النثر، وأعجاز النظم بحالها منه، ويجب أن يكون ذلك على وفق مقتضى المناسبة.
أما في كتاب الله تعالى، فذلك لازم، ولنضرب له أمثلة:
منها قوله تعالى في آخر آية الدين: {ويعلمكم الله والله بكل سيء عليم}.
إنما فصلها بذكر العلم، لأنه بين في الآية أحكام الدين والتجارة والإشهاد في البيع وغير ذلك.
وأيضًا فإنها خاتمة أحكام السورة، وقد نص فيها علومًا كثيرة، فلما انتهى ذلك، أمرهم بتقواه، والتزام ما حد لهم، ثم كأنه عرض لهم بالامتنان عليهم بالتعلم، ثم أخبرهم (بأنه بكل شيء عليم)، ليكونوا على ثقة مما علمهم؛ لكمال علمه؛ لأن
[الإكسير في علم التفسير: 287]
المتعلم أوثق بكلام العالم المتقن، منه بكلام من لا يعلم إتقانه، وإحاطته بالعلم، ثم شرع في ذكر الدين، إلى أن قال: {ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه} لما كان كتمان الشهادة أمرًا خفيًا لاختصاصه بالقلب، وهذا خص بإسناده الإثم إليه، فربما طمع طامع في كتمان الشهادة لخفائها، قال الله تعالى: {والله بكل شيء عليم} ثم عقبه بمثله، وهو قوله: {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله} إشارة إلى أنه تعالى يعلم خفي الأمور وظاهرها، فيعاقب على السيء منها، ويثيب على الحسن، فاتقوا الله، ولا تطمعوا في كان الشهادة لخفائها، فإنه لا يخفى علي شيء.
ثم لما قال في آخر الآية الأخرى: {فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء} ختمها بقوله: {والله على كل شيء قدير} أي لا يعجزه من أراد تعذيبه لكمال قدرته، فتحققوا من ذلك وارتدعوا.
وكذا قوله تعالى: {ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة} لما تضمن هذا الكلام لطف القدرة في إحياء الأرض بإنزال الماء، واستدعاء تلك الخضرة بأن فيها نفعًا للناس ولطفًا بهم، ختمها بما يناسب ما تضمنته، فقال: {إن الله لطيف خبير} ثم قال: {له ما في السموات وما في الأرض}، فتضمن هذا الكلام اختصاصه بذلك، ثم قال: {وإن الله لهو الغني} لمناسبته مضمون الكلام، ثم لما كان لا يلزم أن يكون كل غني حميدًا، لجواز بخله، بين تعالى أنه متصف بالجود الموجب للحمد، فقال: {الحميد}.
ثم قال: {ألم تر أن الله سخر لكم ما في الأرض والفلك تجري في البحر بأمره
[الإكسير في علم التفسير: 288]
ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه}، فتضمن ذلك رأفة للناس ورحمة؛ إما جلب نفع: كتسخير البحر في الفلك، أو دفع ضرر: كإمساك السماء أن تقع عليهم، فصلها بذلك فقال: {إن الله بالناس لرءوف رحيم}.
وجميع فواصل القرآن مناسبة لما وليته منه، وليقس على ما ذكرناه ما لم نذكره.
وأما في النظم فيختلف ذلك باختلاف قوى الناظمين وبراعتهم، فمنهم من تضعف مادته، فيحبط، ومنهم من يبرع فيجيد، والحديث عنه ضربان:
أحدهما: مدرك بادئ الرأي سريعًا؛ لظهوره.
والثاني: ما لا يدرك إلا بنظر، وربما احتاج إلى توقيف، كما أنكر على امرئ القيس قوله:
كأني لم أركب جوادًا للذة = ولم أتبطن كاعبًا ذات خلخال
ولم أسبأ الزق الروي ولم أقل = لخيلي كري كرة بعد إجفال
فقيل: إن بيتيه لم يلتئم شطراهما، وكان ينبغي أن يكون الشطر الأخير من كل من البيتين على الشطر الأول هكذا:
كأني لم أركب جوادًا ولم أقل = لخيلي كري كرة بعد إجفال
ولم أسبأ الزق الروي للذة = ولم أتبطن كاعبًا ذات خلخال
لأن الركوب بالغارة أنسب منه، بتبطن الكاعب، ولأن سبأ الزق بتبطن الكاعب أنسب منه بكر الخيل للغارة.
وأجيب عنه: بأنه قرن بين لذة النساء، ولذة الركوب للصيد، فجمع لذتين في
[الإكسير في علم التفسير: 289]
بيت لتناسبهما، ثم قرن السماحة بسباء الخمر للأضياف، بالشجاعة عند منازلة الأعداء، وهما مما كانوا يفخرون بالجمع بينهما، أعني الكرم والشجاعة.
وهذا جواب أبي الطيب المتنبي لسيف الدولة حين قال له، وقد انتقدت عليك هذين البيتين. يعني قول المتنبي فيه:
وقفت وما في الموت شك لواقف = كأنك في جفن الردى وهو نائم
تمر بك الأبطال كلمى هزيمة = ووجهك وضاح وثغرك باسم
كما انتقد على امرئ القيس بيتاه، وذكرهما، فأجاب المتنبي عن بيتي امرئ القيس بما ذكر، وعن بيتي نفسه بأن قال:
لما ذكرت الموت في صدر البيت الأول، أتبعته بذكر الردى في آخره، ليكون أحسن طباقًا، ولما كان وجه الجريح المنهزم عبوسًا، وعينه باكية، قلت: ووجهك وضاح وثغرك باسم، لأجمع بين الأضداد في المعنى، فأعجب ذلك سيف الدولة.
الضرب الثاني: في التفسير.
وهو: تبين الأقسام المجملة تفصيلاً، ثم إن كان على الترتيب، فهو الجيد، وإلا فهو الرديء.
مثال الأول: قوله تعالى: {وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة}.
[الإكسير في علم التفسير: 290]
ومن رحمته: {جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله}
وكقوله تعالى: {مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع}
قابل كلاً من الأعمى والأصم بضده، وبدأ بالأول.
وقول الشاعر:
غيث وليث، فغيث حين تسأله = عرفًا، وليث لدى الهيجاء ضرغام
تحيا الأنام به في الجدب إن قحطوا = جودًا ويشقى به يوم الوغى الهام
فرتب في البيتين.
وقول الآخر:
يوم المتيم فيك حول كامل = يتعاقب الفصلان فيه إذا أتى
ما بين نار هوىً وماءٍ مدامع = إن حن صاف، وإن بكى وجدًا شتا
فسر نصف البيت الأخير على ترتيب نصفه الأول.
مثال الثاني قول بعضهم:
شكوت فقالت: كل هذا تبرم = بحبي أراح الله قلبك من حبي
فلما كتمت الحب قالت لشد ما = صبرت، وما هذا بفعل شجي القلب
وأدنو فتقصيني، فأبعد طالبًا = رضاها فتعتد التباعد من ذنبي
فشكواي تؤذيها، وصبري يسوءها = وتجزع من بعدي، وتنفر من قربي
فيا قوم هل من حيلة تعرفونها؟ = أعينوا بها واستوجبوا الأجر من ربي
[الإكسير في علم التفسير: 291]
ووجه رداءته: أنه فسر قوله: وأدنو فتقصيني. وأبعد طالبًا رضاها بقوله: وتجزع من بعدي، وتنفر من قربي، وليس بمرتب، إذ لو رتب لقال: وتنفر من قربي، وتجزع من بعدي، ولعله إنما منعه من الترتيب حكم القافية، والناظم تسامح.
وجعل ابن الأثير هذا الشعر من أحسن ما في هذا القسم الأول، أعني: المرتب، والظاهر أنه لم يتنبه لما ذكرته.
وقول الفرزدق:
لقد خنت قوما لو لجأت إليهم = طريد دم أو حاملاً ثقل مغرم
لألفيت منهم معطيًا أو مطاعنًا = وراءك شزرًا بالوشيج المقوم
وكان الأليق أن يقدم مطاعنًا، لأنه تفسير طريد ذم، وأن يؤخر معطيًا، لأنه تفسير حاملاً ثقل مغرم.
وكقوله أيضا:
كيف أسلو؟ وأنت حقف وغصن = وغزال: لحظًا وردفًا وقدًا
وكان الأليق أن يقول: ردفًا، وقدًا، ولحظًا، والظاهر إنه إنما أخل به لحكم القافية. والناظم في هذا أعذر من الناثر.
فأما قول الشاعر:
فيا أيها الحيران في ظلمة الدجى = ومن خاف أن يلقاه بغي من العدا
تعال إليه تلق من نور وجهه = ضياءً ومن كفيه بحرًا من الندى
وهذا صحيح الترتيب، فأنشد التفسير عكس ما قبله، إذ كان ينبغي أن يجعل بإزاء
[الإكسير في علم التفسير: 292]
(ومن خاف)، ما يناسبه من أسباب النجدة والقوة والنصرة والإعانة، كأن يقول:
ومن في كفيه عصا مجردًا، أو نحو ذلك وإلا فالكرم لا يوجب أمن الخائف بغيًا من العدا؛ لجواز أن يكون الكريم ذليلاً، أو ضعيفًا، والله أعلم.
الضرب الثالث: صحة التقسيم:
وليس المراد به هنا العقلي؛ لأنه حاصر لدورانه بين النفي والإثبات، ويشمل الأقسام الممكنة والمستحيلة، وإنما المراد به الصناعي:
فهو ذكر الأقسام الممكنة، فإن حصرها فصحيح، وإلا ففاسد.
مثال الأول قوله تعالى: {هو الذي يريكم البرق خوفًا وطمعًا} فهذه قسمة صحيحة، لأن الناس عند رؤية البرق بين خائف من العذاب، وطامع في الغيث.
وقوله تعالى: {فمنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين ومنهم من يمشي على أربع} فإن الدواب منحصرة في هذه الأقسام.
وقوله تعالى: {ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات}. فإن الناس إما: عاصٍ أو طائع، أو متوسط بينهما، خلط عملاً صالحًا وآخر سيئًا.
وكذا قوله: {وكنتم أزواجاُ ثلاثة فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة ما أصحاب المشأمة والسابقون السابقون} هو نحو ما تقدم.
[الإكسير في علم التفسير: 293]
وكذلك قوله: {فأما إن كان من المقربين} {وأما إن كان من أصحاب اليمين} {وأما إن كان من المكذبين الضالين}.
ومن ذلك قوله عليه السلام: ((اليمين حنث أو ندم)).
وقوله عليه السلام: ((بشر مال البخيل بحادث أو وارث)).
ومن أحسن ما سمعت في التقسيم قول الغزالي: إن ترك الأعمال التي صح النقل باستحبابها والترغيب فيها مع العلم به، إما جهل جلي أو كفر خفي، يعني: إن تركها مع اعتقاد استحبابها فهو إيثار، لعدم الثواب المترتب عليها، على وجودها، وذلك جهل جلي، كمن يؤثر الخسران في التجارة على الربح.
وإما مع عدم اعتقاده ذلك، فهو كفر خفي، لاستلزامه تكذيب النقل الصحيح وحكي أن أعرابيًا وقف على مجلس الحسن. فقال: (رحم الله من أعطى من سعة، أو واسى من كفاف، أو آثر من قلة)، فقال الحسن: ما ترك لأحد عذرًا، فانصرف الأعرابي بخير كثير.
ومنه قول جميل:
[الإكسير في علم التفسير: 294]
لو أن في قلبي كقدر قلامة = حبًا وصلتك أو أتتك رسائلي
وزعم أبو هلال: أن هذا ليس بتقسيم صحيح، لأن إتيان الرسائل داخل في جملة الوصل، ولعله حمل لفظ وصلتك على أنه من الوصال، والظاهر أنه من الوصول، أي وصلت إليك بنفسي وحينئذٍ يكون تقسيمًا صحيحًا؛ لأن الوصل إما بزيارة البدن أو ببعثه الرسالة.
ومثال الثاني قول بعضهم يصف مكسورين في الحرب:
(فمن جريح مضرج بدمائه، = وهارب لا يلتفت إلى ورائه).
فإن الجريح قد يكون هاربًا، والهارب قد يكون جريحًا، والقسمة الصحيحة: (فمن بين قتيل، ومأسور، وناج).
وقد قال النابغة:
لم يبق إلا أسير غير منفلت = وموثق في عقال الأسر مكبول
ولعله لم يذكر الناجي، لأنه لم ينج من الذين وصفهم أحد، بل انحصروا في القسمين المذكورين: وهما الأسير، والقتيل وإليه أشار بغير المتفلت.
ومن الحصر الصحيح قول عمرو ابن كلثوم:
فآبوا بالنهاب وبالسبايا = وأبنا بالملوك مصفدينا
[الإكسير في علم التفسير: 295]
فإنهم لم يتركوا بعدما أتوا به شيئًا إلا رهائن المعارك والقتلى.
ومن ذلك قول بعض الأعراب: النعم ثلاث: نعمة في حال كونها نعمة، ونعمة ترجى مستقبلة، ونعمة تأتي غير محتسبة، فأبقى الله عليك ما أنت فيه، وحقق ظنك فيما ترتجيه، وتفضل عليك بما لا تحتسبه. فاستحسن قوم هذه القسمة، وليست بشيء؛ لتداخلها والإخلال ببعض أقسامها:
أما الأول: فلأن غير المحتسبة من أقسام المستقبلة، أو المستقبلة إن ظهر سببها كانت محتسبة، وإلا فهي غير محتسبة.
وأما الثاني: فلأن من أقسام النعم: الماضية، ولم يذكرها.
ولو قال: (النعم ثلاثة: نعمة ماضية، ونعمة حاضرة، ونعمة مستقبلة، فأحسن الله آثار النعمة الماضية، وأبقى عليك الحاضرة، وأجزل لك المستقبلة) لطبق مفصل البلاغة.
وقد تعجب بعض البلغاء من قول العباس بن الأحنف:
وصالكم هجرٌ، وهجركم قِلىً
وعطفكم صدً، وسلمكم حرب
وقال: هذا أحسن من تقسيمات أوقليدس. وغفل عن أن شرط التقسيم الصحيح أن لا يقبل الزيادة، وهذا يقبلها، نحو:
ولينكم عنف وفر بكم نوىً = وإعطاؤكم منع، وصدقكم كذب
وكثير من هذا الباب.
وقد أنكر علي بن معط قوله في الفقيه:
[الإكسير في علم التفسير: 296]
فقلت: اعتراض من حاسد، أو جاهل، أو عالم معاند.
لأنها قسمة متداخلة، لأن الحاسد أعم من أن يكون جاهلاً أو عالمًا؛ والجاهل أعم من أن يكون حاسدًا أو غيره، والله أعلم). [الإكسير في علم التفسير: 297]