دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > برنامج إعداد المفسر > دورات برنامج إعداد المفسّر > رسائل التفسير

إضافة رد
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 13 محرم 1442هـ/31-08-2020م, 01:51 AM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,456
افتراضي رسالة في تفسير قول الله تعالى: {ولقد همّت به وهمّ بها لولا أن رأى برهان ربّه}

رسالة في تفسير قول الله تعالى: {ولقد همّت به وهمّ بها لولا أن رأى برهان ربه}


اختلف المفسرون في جواب الشرط في قول الله تعالى: {لولا أن رأى برهان ربه}
وهل وقع من يوسف عليه السلام همّ؟
وما المقصود بالهمّ؟
وما البرهان الذي رآه؟
في مسائل أربع طوّل المفسّرون الحديث عنها، وكثرت فيها الأقوال والحجج، والاستدلالات والاعتراضات، وأبدأوا في تفسيرها وأعادوا، وأفادوا في الكشف عن معانيها ما أفادوا، ومفتاح جواب تلك المسائل، وفهم ما أورد من الدلائل تعرّف المعنى البياني لأسلوب الشرط في هذه الآية؛ فمن تجلَّى له حُسْنُه وبهاؤه، واستبانت له دلائلُه وآثارُه أبصرَ ما تضمّنته هذه الآية من معانٍ جليلة سامية، ولطائف بديعة مدهشة.
قال الله تعالى: {ولقد همّت به} وهمّ امرأة العزيز بيوسف عليه السلام لم يُختلف في أنه الهمّ بفعل الفاحشة، وفي التعبير بالهمّ وتعديته "بالباء" تصوير لقوّة عزمها على ما أرادت، مستعلية بمكانتها وسلطتها في بيتها.
{وهمّ بها} هذا الهمّ منه عليه السلام دليل على تحقق الفتنة والابتلاء، فهو شابّ أعزب تامّ الخلقة، صحيح الغريزة، وافر القوّة، ظاهر الحسن، وهي امرأة ذات منصب وجمال، وقد هيَّأت المكان، وغلَّقت الأبواب، وأبانت المحبَّة، ودعته إلى نفسها دعوةً ملؤها الحرص والشغف، والهمّ المتحقق لمواقعة الفاحشة.
فكان همّه بها من خطرات النفس الدالّة على صحّة الغريزة، وقوة الرغبة الفطرية، وسلامة الطبع، والمعرفة بجمالها وكلَفها بحبّه، وهذا مما تشتدّ به الحال، وتعظم به الفتنة، بخلاف من يُعرض عليه الأمر وهو خالٍ من الشهوة، نافرٌ من المرأة، لا يجد في نفسه ما يحرّكه إليها.
فالذي يستعصمُ بالله ويمتنعُ عن الفاحشة مع قوّة المؤثّر وصحّة الغريزة أعظم صبراً وأتقى لله ممن يكون امتناعه عن نفور طبعِ، وعدم رغبة أصلاً.

وقول الله تعالى: {لولا أن رأى برهان ربه} جواب الشرط محذوف على الصحيح من أقوال المفسرين.
والبرهان من الله هو ما فرّج الله به عنه، مما اعتاد من لطفه به وعرَف، وهو ما يفسّره قول الله تعالى: {كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء}؛ فهو بُرهان صرف الله عنه به السوء والفحشاء، ودلَّ يوسف على معيّة الله له، وحفظه إيّاه، وأنّه لا يُسلمه لعدوّه، فألهمه الفرارَ بدينه وعفّته، وقدَّر قدّ القميص من دبر، وقدّر قدوم سيّدها على خلاف تقدير المرأة وظنّها، وهو دليل على أنه قدوم في غير وقت عادةٍ له، ففرَّج الله عن يوسف، وأُسقط في يد المرأة؛ فلجأت إلى الحيلة لتبرئة نفسها باتّهامه.
وحَذْفُ جواب الشرط في قوله تعالى: {لولا أن رأى برهان ربّه} أعظم وقعاً في النفس، وأشدّ تأثيراً، وأوسع دلالةً من ذكر جواب واحد ينحصر فيه الذهن.
فتفكّرْ في جواب الشرط تجدْه محتملاً لمعانٍ متعددة متظاهرة؛ تقود إلى معنى عظيمٍ حذفُه أبلغُ من ذكره، ليبقى الذهن متنقلاً بين حقائقه وآثاره متفكّراً ومتعجّباً؛ لا ينقضي عجبه، ولا يبلغ التفكّر منتهاه.
فلولا أن رأى برهان ربّه لتسلّطت عليه المرأة تسلّطاً لا يطيقه.
ولولا أن رأى برهان ربّه لوقع فيما لا تُحمد عاقبته.
ولولا أن رأى برهان ربّه لكان موقف العزيز منه مختلفاً.
ولولا أن رأى برهان ربّه لكان على خطر من أمرٍ يغيّر مسار حياته التي كان ملؤها الطهر والنقاء، وما يجرّ عليه هذا التغيّر مما لا يُستقصى وصفه.
فهذا حدث فارق في سيرة يوسف عليه السلام، لم يكن أثره محصوراً عليه؛ بل هي قضية يشترك فيها أطراف حاضرون وغائبون يؤثّر فيهم ما يكون من يوسف عليه السلام، وما ينتهي به هذا الموقف الخطير، فلولا أن رأى برهان ربّه فكانت نجاته وعصمته؛ فلك أن تتخيّل أثر الموقف على يوسف نفسه هل كان سيصل إلى ما وصل إليه؟!
وعلى المرأة إلى أيّ مدى ستوغل؟!
وعلى سيّدها ماذا سيصنع؟!
وعلى أبيه يعقوب كيف يكون أثر ذلك عليه؟!
وعلى من كان يعرف يوسف قبل هذه الحادثة.
كلّ هذه الآثار داخلة في جواب الشرط لتأثرها بما يكون لولا أن رأى برهان ربّه.
فكان الأبلغ في البيان، والأوقع في التأثير حذف الجواب ليعمّ كلَّ تقدير صحيحٍ يحتمله السياق، ويبلغه التفكّر.

ثم إنّ الله تعالى أسند الصرف إليه جلَّ وعلا، فقال: {كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء} ولم يُسنده إلى يوسف عليه السلام، وهذا نظير قول الله تعالى: {ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحدٍ أبداً} وهذا من أبلغ ما يكون من صيغ العموم المؤكَّد؛ فدخلت "من" الاستغراقية، على نكرة في سياق الشرط؛ فأفادت استغراق العموم في الأشخاص، و{أبداً} تفيد استغراق الأوقات.
فدلَّت آية النور على أنه لا زكاة لأحد إلا أن يزكّيه الله.
ودلّ الخبر عن يوسف عليه السلام وهو نبيّ من الأنبياء أنه لولا أن صرف الله عنه السوء والفحشاء لما أطاق أن يصرف ذلك عن نفسه؛ فكيف يكون حال من دونه؟!!
فلا يبقى بعد ذلك لمغترّ بدينه وصلاحه أو شرفه ومكانته مستمسك يركن إليه دون حفظ الله ورعايته وتفضّله عليه بالستر والوقاية.
وفي هذا إثباتٌ للقَدَر ولتوحيد الربوبية وأن الخلق والملك والتدبير بيد الله تعالى وحده لا شريك له.
وهذا يقتضي تأكيد حاجة العبد إلى التوكّل على الله تعالى والاستعانة به والالتجاء إليه، وإخلاص العبادة له وحده جلَّ وعلا.
ودلّ قول الله تعالى: {إنه من عبادنا المخلصين} على بيان السبب المؤثّر، والعلّة المقتضية للنجاة بفضل الله تعالى، فدلَّت المؤمن اللبيب على أنّ الله تعالى لم يكن ليدع عباده المخلصين في الكربات والفتن لا نجاة لهم ولا مخرَج.
فاجتمع في هذه الآية ذكر الإيمان بالقدر والشرع، وما يقتضيانه من فعل السبب والتوكّل على الله.
وأنّ الفرج لا يأتي إلا من الله، وأن العبد عليه أن يبذل الأسباب ولا يدعها، وأن لا يعتمد عليها من دون الله جلّ علا.
وكلما كان العبد أحسن إخلاصاً لله تعالى كان نصيبه من لطف الله تعالى ومحبته ومعيّته أعظم.

- وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في تفسير البرهان: (هو برهان الإيمان الذي حصل في قلبه فصرف الله به ما كان هم به وكتب له حسنة كاملة ولم يكتب عليه خطيئة إذ فعل خيرا ولم يفعل سيئة)ا.هـ.
وهذا القول صحيح في الجملة باعتبار أنّ البرهان قائم على الإيمان واليقين مهيّج لهما، وقد تقدّم أنه شيءٌ عرف يوسف أنه من ربّه برْهنَ له لطف الله به وحفظ إياه؛ فرآه ببصيرته رؤيةً لا تشتبه عليه، وهو برهان إيمانيّ يقينيّ قاده إلى سلوك سبيل النجاة حتى صرف الله عنه السوء والفحشاء.

فهذا تقرير معنى الآية على القول الراجح في تفسيرها، وجمهور السلف على أنّ يوسف عليه السلام قد وقع منه همّ، لكنَّهم اختلفوا في مبلَغ هذا الهمّ وتفسيره، والذي دلّ عليه النص هو وقوع الهمّ {ولقد همّت به وهمّ بها}. وأما ما زاد على ذلك من العزم بفعل أو قول فلا تدلّ عليه الآية، ولا يصحّ فيه شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم.
بل الذي صحّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنّ من همّ بسيّئة ثمّ تركها لله كتبها الله له حسنة كاملة، كما في الصحيحين من حديث أبي رجاء العطاردي، عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم، فيما يروي عن ربه تبارك وتعالى قال: «إن الله كتب الحسنات والسيئات ثم بين ذلك، فمن هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله له عنده حسنة كاملة، فإن هو همَّ بها فعملها كتبها الله له عنده عشر حسنات إلى سبع مائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، ومن همَّ بسيئة فلم يعملها كتبها الله له عنده حسنة كاملة، فإن هو همَّ بها فعملها كتبها الله له سيئة واحدة».
وقد ورد ما يفسّر الهمّ في هذا الحديث بالإرادة التي لا يترتّب عليه عمل، وبيان علّة الإثابة على ترك السيئة بعد الهمّ بها، كما في حديث أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه في صحيح البخاري وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((يقول الله: إذا أراد عبدي أن يعمل سيئة؛ فلا تكتبوها عليه حتى يعملها، فإن عملها فاكتبوها بمثلها، وإن تركها من أجلي فاكتبوها له حسنة، وإذا أراد أن يعمل حسنة فلم يعملها فاكتبوها له حسنة، فإن عملها فاكتبوها له بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف)).
وفي صحيح مسلم من حديث همّام بن منبّه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قالت الملائكة: ربّ، ذاك عبدك يريد أن يعمل سيئة، وهو أبصرُ به، فقال: ارقبوه فإنْ عملها فاكتبوها له بمثلها، وإن تركها فاكتبوها له حسنة، إنما تركها من جرَّاي)).
فقوله تعالى: [وإن تركها من أجلي] وفي رواية [ إنما تركها من جرَّاي ] فيه تفسير كون ذلك حسنة؛ فإن الحامل على ترك السيئة هو تقوى الله وخشيته والإيمان بالله وباليوم الآخر والحساب والجزاء.
فالهمّ بالسيئة إذا لم يتبعه عمل بها وكان تركها لله تعالى فهي حسنة من الحسنات وليست سيئة بنصّ حديث النبي صلى الله عليه وسلم.
وهذا يفيد أنّ الهمّ الذي وقع من يوسف عليه السلام هو همُّ نال به حسنات عظيمة عند الله تعالى لمّا تركه لله، وليس سيّئة يغضّ بها منه.

وأما ما روي عن بعض السلف من أنّه حلَّ الهميان وقعد منها مقعد الخاتن، وأنه رأى صورة يعقوب عليه السلام عاضاً إصبعه، وأشباه ذلك فهو على صنفين:
- صنف لا يصحّ عنهم، وهم منه براء.
- وصنف ظاهر إسناده الصحّة، وهو محمول على أنّه من الإسرائيليات التي لا ينبغي تصديقها.
بل من السلف من صرّح أنّها مزاعم كما روى ابن وهب وابن جرير عن الحسن البصري أنه قال في هذه الآية: {لولا أن رأى برهان ربّه} قال: (زعموا – والله أعلم – أنّه رأى يعقوب فرَج السقف عاضّا على أصبعه).
ولو كان الخبر مستنده ما صحّ عن النبي صلى الله عليه وسلم لم يوصف بالزعم.
وروي عن بعضهم أنه رأى تمثال وجه أبيه فخرجت الشهوة من أنامله.
وروي عن بعضهم أنه رأى آيات من القرآن فيها وعيد مكتوبة على حائط.
وروي عن بعضهم أنه نودي وقيل له: أتزني فتكون كالطير وقع ريشه؛ فذهب يطير فلا ريش له.
وروي عن بعضهم أنه رأى يعقوب عليه السلام يقول له: لا تواقعها.
وروي عن بعضهم أنها لما همّت بيوسف غطت صنماً في بيتها حياء من أن ينظر إليها فذكّرته بالحياء من الله.

وهذه الأخبار والمزاعم تنافي المقاصد السامية لما قصَّه الله تعالى في هذه السورة وما فيها من العبر؛ فإنَّ ما زعموه لو وقع لواحد من أفناء الناس لارتاع قلبه، وفُجِعَ بما رأى، ولم يكن للشهوة فيه موضع فتنة، ولا للصبر عن المعصية رائحة ولا أثر، ولم يكن لترك المرأة حينئذ فضيلة تدعو إلى الاتساء به؛ لأنه تركٌ عن فزعٍ مما رأى، وانقطاعٍ لأصلِ الشهوةِ من غيرِ صبرٍ ولا مدافعة.

وما وقع في تلك الحادثة من يوسف وامرأة العزيز هو بالنسبة لنا من الغيب الذي لا يُمكن أن يعلم إلا بواسطة ما أوحى الله تعالى إلى رسله عليهم السلام، وهذه الروايات التي تذكر وقوع مقدّمات الفاحشة من يوسف عليه السلام والبرهان الذي رآه هي مما لا مدخل للاجتهاد فيه؛ فهي قائمة على النقل؛ فإما أن يكون النقل فيها عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإما أن يكون مما أخذ من كتب أهل الكتاب وأخبارهم.

فأما الأول فلا يصحّ منه شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم باتفاق المحدّثين؛ فتعيّن أنها من الإسرائيليات، ثم هي روايات متعددة متخالفة وقعت على حادثة واحدة، وقوع بعضها ينفي البعض الآخر، فيؤول الأمر إلى الجزم بعدم صحّة أكثرها، لأنه لا يمكن قبول جميعها، ولا يمكن الجمع بينها مع هذا الاختلاف، ولو كان المستند فيها عن الله تعالى وعن رسوله صلى الله عليه وسلم لما وقع فيها هذا الاختلاف الذي يوجب ردّ أكثرها؛ فعُلم أنها من عند غير الله كما قال الله تعالى: {ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً}.
ولا يصحّ أن يعترض معترض بأنه لو لم يثبت ذلك عند السلف لما ذكروه؛ لأن منهم من اعتمد في التحديث عن بني إسرائيل على الترخيص النبوي العام، ومن المعلوم أنّ مجرّد التحديث عني بني إسرائيل لا يقتضي تصديقهم في أخبارهم، ومنهم من يذكر بعض الغرائب تعجباً ثم تنقل عنه على التفسير، ومنهم من يذكر ما بلغه دون حكم عليه بنفي ولا إثبات، ولا يتبيّن ذلك للناظر إلا بعد جمع الروايات، وكثيرٌ من الوقائع والأحداث يتبيّن الخلل في بعض زياداتها بجمع الروايات فيها؛ فإذا جمعت ونُقدت تبيّن ما فيها من الاختلاف؛ أما الأثر المفرد فيمكن أن يروى لأسباب متعددة، وهذه الروايات إنما جمعت وصنّفت بعد عصر الصحابة والتابعين، وليس في المسألة إجماع يُحتجّ به، وإنما هو اختلاف يوجب ردّ أكثر تلك الروايات بعلّة الاختلاف والتعارض وحدها، فكيف إذا جَمعت مع الاختلاف والتعارض مخالفتها لدلالة ظاهر القرآن ومقاصد الآيات.

- قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (ويوسف صلى الله عليه وسلم لم يذكر الله تعالى عنه في القرآن أنه فعل مع المرأة ما يتوب عنه أو يستغفر منه أصلاً، وقد اتفق الناس على أنه لم تقع منه الفاحشة، ولكن بعض الناس يذكر أنه وقع منه بعض مقدماتها، مثل ما يذكرون أنه حلّ السراويل وقعد منها مقعد الخاتن، ونحو هذا، وما ينقلونه في ذلك ليس هو عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا مستند لهم فيه إلا النقل عن بعض أهل الكتاب، وقد عرف كلام اليهود في الأنبياء وغضهم منهم، كما قالوا في سليمان ما قالوا، وفي داود ما قالوا؛ فلو لم يكن معنا ما يردّ نقلهم لم نصدقهم فيما لم نعلم صدقهم فيه؛ فكيف نصدقهم فيما قد دلَّ القرآن على خلافه. والقرآن قد أخبر عن يوسف من الاستعصام والتقوى والصبر في هذه القضية ما لم يذكر عن أحدٍ نظيره؛ فلو كان يوسف قد أذنب لكان إمّا مُصِرّا وإمّا تائباً، والإصرار ممتنع؛ فتعين أن يكون تائباً، والله لم يذكر عنه توبة في هذا ولا استغفاراً كما ذكر عن غيره من الأنبياء؛ فدلَّ ذلك على أنَّ ما فعله يوسف كان من الحسنات المبرورة والمساعي المشكورة كما أخبر الله عنه بقوله تعالى: {إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين})ا.هـ.


وقد ذهب بعض أهل العلم إلى أنّ يوسف عليه السلام لم يقعْ منه همٌّ أصلاً، واختلفوا في تقرير ذلك على وجهين:
أحدهما: أن جواب الشرط متقدم، والتقدير {ولقد همّت به} فهذا همّها {وهمّ بها لولا أن رأى برهان ربّه} فلم يقع من يوسف همّ أصلاً.
وهذا القول نسبه الماوردي وابن الجوزي إلى قطرب، ونقل أبو عبيد الهروي في "الغريبين" عن أبي حاتم السجستاني أنه قال: (كنت اقرأ كتاب غريب القرآن علي أبي عبيدة فلما أتيت على قوله: {ولقد همت به وهم بها} الآية قال أبو عبيدة: إنَّ هذا على التقديم كأنه أراد: ولقد همت به ولولا أن رأى برهان ربه لهم بها)ا.هـ.
وأبو عبيدة هو معمر بن المثنى.
وهذا القول حكاه ابن جرير في تفسيره من غير نسبة، وردّه بأنّ جواب "لولا" لا يتقدّمها.
والوجه الثاني: أن قوله تعالى: {وهمّ بها} دليل الجواب، والجواب محذوف، والتقدير: "لولا" أن رأى برهان ربّه لهمّ بها.
وهذا قول أبي حيان في البحر المحيط، فيؤول المعنى إلى ما يؤديه الوجه الأول.
وهو تخريج ضعيف من وجهين:
- أحدهما: ما ذكره أبو إسحاق الزجاج بقوله: "لولا" تُجاب "باللام"، فلو كان: "ولقد همّت به ولهمّ بها لولا أن رأى أي برهان ربّه" لكان يجوز على بعد).
قوله: "لولا" تُجاب "باللام"). أي في الإثبات.
- والوجه الآخر: ما يلزم منه من التفريق بين المتعاطفين في دليل جواب واحد.
- قال ابن قتيبة في "تأويل مختلف الحديث": (ليس يجوز في اللغة أن تقول: "هممت بفلان، وهم بي" وأنت تريد اختلاف الهمين حتى تكون أنت تهم بإهانته، ويهم هو بإكرامك، وإنما يجوز هذا الكلام إذا اتفق الهمَّان)ا.هـ.
فإذا اختلف الهمّان وجب التصريح بهما ما لم يتقدّم لهما ذكرٌ يفسّرهما.
وجملة {ولقد همت به وهمّ بها} بتمامها دليل الجواب، ولا خلاف في أنّ همّها به كان محرّكاً إلى فعل الفاحشة.
وكذلك همّه عليه السلام، غير أنّ همّها قد تحوّل إلى عزيمة وقولٍ وفعل للأسباب، وأمّا همّه فلم يعد خطرات النفس الدالة على سلامة الآلة وصحة الغريزة وإمكان التأثّر؛ وبهذا تتحقق الفتنة.
فجيء باللفظ المشترك وهو الهمّ، ولم ينتقل يوسف عليه السلام إلى عزم بقولٍ ولا فعل، بل بقي مستعصماً بالله حتى فرّج الله عنه بما أراه من البرهان الذي أيقن منه بمعيّة الله له.
وليس في هذا نقيصة على يوسف عليه السلام، بل هو أدلّ على كماله البشري، وأنه ملك نفسه، وبذل الأسباب للنجاة من الفتنة، واستعصم ولم يطاوع، وملك شهوته ولم تملكه.
- وقد نقل شيخ الإسلام ابن تيمية في مواضع من كتبه عن الإمام أحمد أنه قال: (الهمّ همان: همّ خطرات، وهمّ إصرار).
يريد بهمّ الخطرات ما لم يبلغ العزيمة ولم ينتج عنه قول أو عمل يُؤاخذ به.
وهمّ الإصرار ما ينتج القول أو العمل إلا لمانع.
فهمّ يوسف عليه السلام منع من إنفاذه وتحوّله إلى عزيمة إيمانه بالله ويقينه بمعيّته وهو ما رأى من برهان ربّه.
وهمّ امرأة العزيز تحوّل إلى عزيمة وقول وفعل للسبب لكن لم تقع الفاحشة لاستعصام يوسف عليه السلام كما دلّ على ذلك قولها فيما حكاه الله تعالى عنها: {ولقد راودته عن نفسه فاستعصم}.
- وقال أبو منصور الأزهري: أخبرني المنذري عن أبي العباس ثعلب أنه سُئلَ عن قول الله جلَّ وعزَّ: {ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه}، فقال: (همَّت زليخا بالمعصية مصرَّةً على ذلك، وهمَّ يوسفُ بالمعصية ولم يأتها ولم يصرَّ عليها، فبين الهَمَّتَينِ فرقٌ).

- وقال ابن الجوزي في تفسيره: (فإن قيل: فقد سوّى القرآن بين الهَمَّتين، فلم فرقتم؟
فالجواب: إن الاستواء وقع في بداية الهَمَّة، ثم ترقت هَمَّتُها إِلى العزيمة، بدليل مراودتها واستلقائها بين يديه، ولم تتعد هَمَّتُه مقامها، بل نزلت عن رتبتها، وانحل معقودها، بدليل هربه منها، وقوله: {قالَ مَعاذَ الله}.
ولا يصح ما يروى عن المفسرين أنه حلّ السراويل وقعد منها مقعد الرجل، فإنه لو كان هذا، دل على العزم، والأنبياء معصومون من العزم على الزنا)ا.هـ.
- وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: (ولهذا وقع الفرق بين هم يوسف عليه السلام وهم امرأة العزيز، كما قال الإمام أحمد: "الهم همان: هم خطرات وهم إصرار".
فيوسف عليه السلام همّ هما تركه لله فأثيب عليه، وتلك همَّت همَّ إصرار ففعلت ما قدرت عليه من تحصيل مرادها، وإن لم يحصل لها المطلوب).

- وقال ابن القيّم رحمه الله في روضة المحبين: (ذكر الله سبحانه وتعالى عن يوسف الصديق من العفاف أعظم ما يكون؛ فإن الداعي الذي اجتمع في حقه لم يجتمع في حق غيره:
- فإنه كان شابا والشباب مركب الشهوة.
- وكان عزبا ليس عنده ما يعوضه.
- وكان غريبا عن أهله ووطنه، والمقيم بين أهله وأصحابه يستحي منهم أن يعلموا به فيسقط من عيونهم؛ فإذا تغرب زال هذا المانع.
- وكان في صورة المملوك، والعبد لا يأنف مما يأنف منه الحر.
- وكانت المرأة ذات منصب وجمال، والداعي مع ذلك أقوى من داعي من ليس كذلك.
- وكانت هي المطالبة فيزول بذلك كُلفة تعرّض الرجل وطلبه وخوفه من عدم الإجابة.
- وزادت مع الطلب الرغبة التامة والمراودة التي يزول معها ظن الامتحان والاختبار لتعلم عفافه من فجوره.
- وكانت في محل سلطانها وبيتها بحيث تعرف وقت الإمكان ومكانه الذي لا تناله العيون.
- وزادت مع ذلك تغليق الأبواب لتأمن هجوم الداخل على بغتة.
- وأتته بالرغبة والرهبة.
ومع هذا كله فعفَّ لله ولم يطعها، وقدَّم حق الله وحق سيدها على ذلك كله.
وهذا أمر لو ابتلي به سواه لم يعلم كيف كانت تكون حاله!!
فإن قيل: فقد همَّ بها.
قيل: عنه جوابان:
- أحدهما: أنه لم يهم بها بل لولا أن رأى برهان ربه لهمَّ، هذاقول بعضهم في تقدير الآية.
- والثاني: وهو الصواب أنَّ همَّه كان همَّ خطرات؛ فتركه لله؛ فأثابه الله عليه، وهمُّها كان همَّ إصرار بذلت معه جهدها فلم تصل إليه فلم يستوِ الهمَّان.
قال الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه: الهمُّ همان: همّ خطرات، وهمّ إصرارٍ؛ فهمُّ الخطرات لا يؤاخذ به، وهم الإصرارِ يؤاخذ به)ا.هـ.

وذهب بعض المفسّرين إلى تفسير همّ يوسف بمعنى آخر، وهو الهمّ بضربها أو الفرار منها، وهو قول باطل ذكره ابن جرير في تفسيره ولم يسمّ من قال به، لكنَّه أنكره، وردَّه، وأصاب في ذلك.
- فقال: (أمّا آخرون ممّن خالف أقوال السّلف وتأوّلوا القرآن بآرائهم، فإنّهم قالوا في ذلك أقوالاً مختلفةً، فقال بعضهم: معناه: ولقد همّت المرأة بيوسف، وهمّ بها يوسف أن يضربها أو ينالها بمكروهٍ لهمّها به ما أرادته من المكروه، لولا أنّ يوسف رأى برهان ربّه، وكفّه ذلك عمّا همّ به من أذاها).
وأنكر ابن قتيبة هذا القول في "تأويل مشكل القرآن" فقال: (وكتأولهم في قوله سبحانه: {ولقد همّت به وهمّ بها} أنها همّت بالمعصية، وهمّ بالفرار منها! وقال بعضهم: وهمّ بضربها! والله تعالى يقول: {لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} أفتراه أراد الفرار منها، أو الضرب لها، فلما رأى البرهان أقام عندها وأمسك عن ضربها؟!
هذا ما ليس به خفاء ولا يغلط متأوّله.
ولكنها همّت منه بالمعصية همّ نيّة واعتقاد، وهمَّ نبيُّ الله صلّى الله عليه وسلم همّاً عارضاً بعد طولِ المراودة)ا.هـ.
وهذا القول حكاه أبو البركات ابن الأنباري في "الأضداد" عمَّن لم يسمّهم بسياق أتمّ؛ فقال: (وإنما أراد الله جل وعز: "وهم بضربها ودفعها عن نفسه"، فكان البرهان الذي رآه من ربه أن الله أوقع في نفسه أنه متى ضربها كان ضربه إياها حجة عليه، لأنها تقول: راودني عن نفسي، فلما لم أجبه ضربني)ا.هـ.
وهذا قول في تفسير البرهان بغير علم يُستند إليه، وإنما حكاه ابن الأنباري حكاية ثم أعرض عنه، ورجّح وقوع الهمّ من يوسف عليه السلام بالاستجابة لامرأة العزيز لكنّه رأى برهان ربّه فصرف الله عنه السوء والفحشاء.

لكن ابن قتيبة وابن الأنباري أخطآ في اعتبار همّ يوسف عليه السلام خطيئة لم تبلغ فعل الفاحشة تاب منها كما وقع بعض الأنبياء في خطايا تابوا منها وقبل الله توبتهم.
- قال ابن الأنباري: (فيكون الهم خطيئة من الخطايا وقعت من يوسف عليه السلام، كما وقعت الخطايا من غيره من الأنبياء).
وهذا خطأ ظاهر؛ أداهما إليه الاغترار بما روي من الإسرائيليات في هذا الشأن، وهي روايات متعددة متخالفة على حادثة واحدة وقوع بعضها ينفي البعض الآخر.
وليس في القرآن ما يدلّ على خطيئة وقع فيها يوسف عليه السلام في ذلك الموقف كما تقدّم شرح ذلك.
ودلائل صدق يوسف عليه السلام في أنّه لم يقارف خطيئة دلائل ظاهرة في السورة في قوله تعالى: {وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين}
فحكم عليها بالكذب في قولها : "أراد بأهلك سوءاً"
وحكم له بالصدق والبراءة؛ فهو لم يرد بأهل العزيز سوءاً، و{سوءا} نكرة عامة تقع على الفاحشة وما دونها مما يوصف بأنه عمل سيّء.
ولذلك لمّا رأى العزيز صدق يوسف قال: {إنه من كيدكنَّ إن كيدكنّ عظيم . يوسف أعرض عن هذا واستغفري لذنبك إن كنت من الخاطئين}.
فحمل الذنب عليها وحدها، وبرأه من أيّ ذنب يُمكن أن يُلام عليه، ولم يجد من يوسف عملاً يَسوءُه.
وقد أخبر الله أنه صرف عنه السوء والفحشاء؛ فلم يقع منه سوء وفحشاء.
وأخبر أنه من عباده المخلَصين، ومن أخلصه الله له فهو مطهَّر من السوء والفحشاء.
ثمَّ إن الله عزّ وجلَّ قصَّ خبر يوسف عليه السلام ليكون أسوة يُؤتسى بها، ومثلاً عالياً في العفّة والتقوى، وأخبر أنه اجتباه في قوله: {وكذلك يجتبيك ربّك} فلا يليق أن يُظنّ به في موضع الأسوة التي أمرنا أن نأتسي بها أنه عمل سيئة تعاب عليه.
وهذه الدلائل وغيرها تدلّ دلالة بيّنة على أنه لم يقع من يوسف عليه السلام في ذلك الموقف ما يصحّ أن يوصف بأنه عَمَلٌ سيّء.
- قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وأما يوسف الصديق فلم يذكر الله عنه ذنبا فلهذا لم يذكر الله عنه ما يناسب الذنب من الاستغفار، بل قال: {كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين} فأخبر أنه صرف عنه السوء والفحشاء، وهذا يدل على أنه لم يصدر منه سوء ولا فحشاء).
إلى أن قال: (فيوسف عليه السلام لم يصدر منه إلا حسنة يثاب عليها، وقال تعالى: {إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون} .
وأما ما ينقل من أنه حل سراويله، وجلس مجلس الرجل من المرأة، وأنه رأى صورة يعقوب عاضا على يده، وأمثاله ذلك، فكله مما لم يخبر الله به ولا رسوله، وما لم يكن كذلك فإنما هو مأخوذ عن اليهود الذين هم من أعظم الناس كذبا على الأنبياء وقدحا فيهم، وكل من نقله من المسلمين فعنهم نقله، لم ينقل من ذلك أحد عن نبينا صلى الله عليه وسلم حرفاً واحداً)ا.هـ.


رد مع اقتباس
  #2  
قديم 13 محرم 1442هـ/31-08-2020م, 10:48 AM
أحمد طلال سالم أحمد طلال سالم غير متواجد حالياً
برنامج إعداد المفسّر - المستوى الأول - المجموعة الأولى
 
تاريخ التسجيل: Aug 2020
المشاركات: 67
افتراضي

جزاكم الله خيرا.

رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
رسالة, في

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 01:55 AM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir