اختر ثلاثة أقوال من الأقوال التالية وخرّجها ووجّهها:
القول الأول: قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه في تفسير التوبة النصوح: (أن تتوب من الذنب ثم لا تعود فيه، أو لا تريد أن تعود).
***
قال الله تعالى :{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا}
القول الأول: التوبة النصوح ترك الذنب ثم لا يعود إليه..وهو قول عبد الله ابن مسعود و عمر ابن الخطاب و الضحاك والحسن
تخريج قول عمر:
أخرجه يحي بن سلام كما في تفسير ابن أبي زمين وعبد الرزاق و ابن أبي شيبة و هناد في الزهد وابن منيع كما في المطالب العالية وابن جرير والطحاوي في مشكل الآثار الحاكم في المستدرك و اللالكائي في أصول الاعتقاد والبيهقي في كتابه الآداب
من طريق سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عن عمر رضي الله به
التوبة النصوح أنْ يتوب ثم لا يعود إلى الذنب ، كما لا يعود اللبن إلى الضرع ، ورفعهُ معاذ .
و أخرجه الفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وابن مردويه كما عند السيوطي
وعن حذيفة : بحسب الرجل من الشر أن يتوب عن الذنب ثم يعود فيه
توجيه القول:
وجه هذا القول ما رواه :
- ما رواه أبو الشيخ في العظمة عن معاذ بن رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا التَّوْبَةُ النَّصُوحُ؟ قَالَ: «أَنْ يَنْدَمَ الْمُذْنِبُ عَلَى الذَّنْبِ الَّذِي أَصَابَ فَيَعْتَذِرُ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، ثُمَّ لَا يَعُودُ إِلَيْهِ كَمَا لَا يَعُودُ اللَّبَنُ إِلَى الضَّرْعِ»
ما رواه البيهقي عن... قَالَ زِرٌّ: فَقُلْتُ لِأَبِي: وَمَا التَّوْبَةُ النَّصُوحُ؟، قَالَ: سَأَلْتُ عَنْ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «هُوَ النَّدَمُ عَلَى الذَّنْبِ حِينَ يَفْرُطُ مِنْكَ، فَتَسْتَغْفِرُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ بِنَدَامَتِكَ عِنْدَ الْحَافِرِ، ثُمَّ لَا تَعُودُ إِلَيْهِ أَبَدًا
القول الثاني: الندم بالقلب، والاستغفار باللسان، والإضمار أن لا يعود إليها... وهو قول ابن عباس والحسن البصري والكلبي
-سئل الحسن البصري عن التوبة النصوح ، فقال : ندم بالقلب ، واستغفار باللسان ، وترك بالجوارح ، وإضمار أن لا يعود
توجيه القول:
وجه هذا القول ما أخرجه يحي ابن سلام –كما عند ابن أبي زمين - من طريق عن عبد الله بن معقل قال : " كان أبي عند عبد الله بن مسعود فسمعته يقول لعبد الله : أسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : الندم توبة ؟ قال : نعم" اهـ
الثالث: : أن النصوح أن يبغض الذنب الذي أحبه ويستغفر منه إذا ذكره ، قاله الحسن .
وهذا القول قريب من الذي قبله ؛إلا أنه أضاف وصفا جديدا وهو بغض الذنب ؛ وفي الأول اكتفي بذكر الندم؛ والندم لا يلزم منه البغض
الرابع: أن التوبة النصوح هي الصادقة الناصحة ، قاله قتادة وابن زيد.
وجه هذا القول ما جاء في تهذيب اللغة: " ...وَقَالَ أَبُو زيد: نَصَحْتُه أَي صَدَقْتُه، وتَوْبَةٌ نَصُوحٌ: صادِقَةٌ.:
-وعن ابن زيد : النصوح: الصادقة ، ويعلم أنها صدق بندامته على خطيئته وحب الرجوع إلى طاعة الله.
الخامس: أن لا يثق بقبولها ويكون على وجل منها .
وفي توجيه هذا القول يقول ابن عطية:.. والدليل على ذلك دعاء كل واحد من المذنبين في قبول التوبة ولو كانت مقطوعاً بها لما كان معنى للدعاء في قبولها ، وظواهر القرآن في ذلك هي كلها بمعنى المشيئة اهـ
السادس : التوبة النصوح تكفر كل سيئة . وهو قول ابن مسعود
عن الشعبي قال : " التائب من الذنب كمن لا ذنب له ."
السابع :أن النصوح هي التي لا يحتاج معها إلى توبة . وقد يعبر عنها بالتوبة المقبولة وهو قول سعيد ابن جبير
- عن أبي الحسن الأشعري أنه قال : التوبة إذا توفرت شروطها قطع على الله بقبولها لأنه تعالى أخبر بذلك .
الثامن:: توبة تنصحون بها أنفسكم .وهو قول سعيد بن المسيّب
عن سري السقطي : لا تصح التوبة النصوح إلاّ بنصحة النفس من المؤمنين ؛ لأن مَن صحت توبته أحب أن يكون النّاس مثله .
وفي توجيه هذا القول قال ابن القيم:" وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: تَوْبَةً نَصُوحًا، تَنْصَحُونَ بِهَا أَنْفُسَكُمْ، جَعَلَهَا بِمَعْنَى نَاصِحَةٍ لِلتَّائِبِ، كَضَرُوبِ الْمَعْدُولِ عَنْ ضَارِبٍ.اهـ
وقال الزمخشري :. ويجوز أن يراد : توبة تنصح الناس ، أي : تدعوهم إلى مثلها لظهور أثرها في صاحبها ، واستعماله الجد والعزيمة في العمل على مقتضياتها اهـ
ثم في تعيين صفات التوبة النصوحة وتحديد شروطها أقوال لأهل العلم
قيل : ولا تقبل ما لم يكن فيها ثلاث : خوف أن لا تُقبل ، ورجاء أن تقبل ، وإدمان الطاعات
عن القرظي : تجمعها أربعة أشياء : الاستغفار باللسان ، والأقلاع بالأبدان ، وإظهار ترك العود بالجَنان ، ومهاجرة سيّئ الخلاّن .
عن سفيان الثوري : علامة التوبة النّصوح أربع : القلّة ، والعلة ، والذلة ، والغربة .
عن فضيل بن عياض : هي أن يكون الذنب نصب عينيه ، ولا يزال كأنّهُ ينظرُ إليه .
وقيل غير ذلك
النقاش:
يمكن جمع شتات الأقوال بالرجوع إلى أصل كلمة "نصوحا"
أولا : نصوح بمعنى منصوح فيها
1- كلمة "نصوحا" بفتح النون صفة التوبة ، ومعناه : توبة بالغة في النصح ؛ قال ابن القيم : وَالنَّصُوحُ عَلَى وَزْنِ فَعُولٍ الْمَعْدُولِ بِهِ عَنْ فَاعِلٍ قَصْدًا لِلْمُبَالَغَةِ، كَالشَّكُورِ وَالصَّبُورِ قال الزجاج: و " فَعُول " من أسماء الفاعلين التي تستعمل للمبالغة في الوصف . تقول : رجل صبور ، وشكور .اهـ
.وَأَصْلُ مَادَّةِ (ن ص ح) لِخَلَاصِ الشَّيْءِ مِنَ الْغِشِّ وَالشَّوَائِبِ الْغَرِيبَةِ.
فَالنُّصْحُ فِي التَّوْبَةِ وَالْعِبَادَةِ وَالْمَشُورَةِ تَخْلِيصُهَا مِنْ كُلِّ غِشٍّ وَنَقْصٍ وَفَسَادٍ، وَإِيقَاعُهَا عَلَى أَكْمَلِ الْوُجُوهِ، وَالنُّصْحُ ضِدُّ الْغِشِّ.
وعلى هذا يكون " نصوحا " بمعنى الْمَفْعُولِ، أَيْ قَدْ نَصَحَ فِيهَا التَّائِبُ وَلَمْ يَشُبْهَا بغش . فَهِيَ بِمَعْنَى مَنْصُوحٍ فِيهَا، كَرَكُوبَةٍ وَحَلُوبَةٍ، بِمَعْنَى مَرْكُوبَةٍ وَمَحْلُوبَةٍ.
2- "نصوحا" بمعنى ناصحة للتائب
وقيل "نَصوحا " ...قال ابن القيم : النصوح بمعنى ناصحة للتائب؛ كَضَرُوبِ الْمَعْدُولِ عن ضارب... -فنصوح بمعنى الْفَاعِلِ، أَيْ نَاصِحَةٌ كَخَالِصَةٍ وَصَادِقَةٍ.
وعلى هذا قول سعيد بْنُ الْمُسَيَّبِ: تَوْبَةً نَصُوحًا، تَنْصَحُونَ بِهَا أَنْفُسَكُمْ.اهـ
هذا ما يختص بأصل تصريف كلمة "نصوحا " بفتح النون
أما ما يتعلق بأصل معنى مادة "نصح" فقد ورد فيها معاني
1- الناصح: الخالص .
ومنهم قولهم ..عسل ناصح إذا خلص من الشمع.
قال الأصمعيّ: الناصِحُ الخالص من العسل وغيره. وكل شيء خلص فقد نصح.اهـ
وتوبة نصوح توبة خلصت من الغش خلصت مما يفسدها أو ينقصها أو يبطلها ؛ فكانت لله خالصة من الرياء والشرك والتسميع ؛ وكانت خالصة من ترك ذنب أو معصية لم يتب منها.
2-الناصح الصادق
قال ابن الأعرابي :.. ومنه التوبة النصوح، وهى الصادقة.
-والتوبة الصادقة التي صدق صاحبها فيها فاستمر عليها ولم يرجع إلى ذنبه
فيحدث التائب نفسه إِذا تَابَ من ذَلِك الذَّنب ألاَّ يعود إِلَيْهِ أبدا.
وذكر ابن فارس أن أصل مادة "نصح" ترجع إلى أصل واحد وهو
يَدُلُّ عَلَى مُلَاءَمَةٍ بَيْنَ شَيْئَيْنِ وَإِصْلَاحٍ لَهُمَا. أَصْلُ ذَلِكَ النَّاصِحُ: الْخَيَّاطُ. وَالنِّصَاحُ: الْخَيْطُ يُخَاطُ بِهِ
والنصح بالفتح: مصدر قولك نَصَحْتُ الثوب: خِطْتُهُ
وثوبٌ متَنَصَّح، أي مُخَيَّطٌ، بالتوكيد. والناصِح: الخيَّاط. اهـ
ويقال منه توبة نصوح؛ من جهة أن الذنوب والمعاصي أحدثت خرقا في دين المذنب ؛
كما روى عن النبي صلى الله عليه وسلما مرفوعا "" مَنِ اغْتابَ خَرَقَ، ومنِ استغْفَرَ رَفَأَ".
المذنب فيقوم بإصلاح خرقه بالتوبة هذا على اعتبار أن "نصوحا" مفعول ؛ أو أن التوبة هي التي تصلح الخرق وهذا على اعتبار أن نصوحا فاعلا
قال زمخشري :"وقيل : نصوحاً من نصاحة الثوب ، أي : توبة ترفو خروقك في دينك ، وترمّ خَلّك . اهـ
ويمكن أن يكون المراد منها توبة ينصح بها الناس ؛ فالمذنب بعدما أصلح الخرق الذي كان عليه في دينه سعى لإصلاح غيره وذلك بظهور أثر التوبة عليه في أعماله وجوراحه ولسانه
قال الزمخشري : .ويجوز أن يراد : توبة تنصح الناس ، أي : تدعوهم إلى مثلها لظهور أثرها في صاحبها ، واستعماله الجد والعزيمة في العمل على مقتضياتها .اهـ
وعبارة السلف وإن تباينت في ذكر معنى "توبة نصوحا" إلا أنها كلها يرجع إلى شيء واحد
قال ابن القيم:" .وَقَدِ اخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُ السَّلَفِ عَنْهَا، وَمَرْجِعُهَا إِلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ... اهـ
***
[بارك الله فيكِ ونفع بكِ.
أرجو الاعتناء بهذه الملحوظات:
1. عند التخريج انتبهي لاختلاف ألفاظ الروايات، هل هو مجرد خلاف لفظي والمعنى واحد، أو في بعضها زيادات تؤثر في المعنى، حينئذ لا يصح أن نسوق التخريج في مساق واحد دون التنبيه على الطرق التي وردت منها الزيادة
فإن كان الطريق واحد، يذكر الراوي الذي روى عن " مخرج الأثر " ووردت عنده الزيادة، وهذا يفيد المحققون في تصحيح هذه الزيادة أو تضعيفها.
2. في هذا المثال جاء في رأس السؤال زيادة " أو لا تريد أن تعود " وهذه الزيادة جاءت في بعض الطرق عند ابن جرير الطبري
وفي طرق أخرى " ألا يعود إلى الذنب" وفي بعضها " أبدًا "
3. إذا تأملتِ هذه الزيادات وجدتِ أنها تؤثر في المعنى، فقوله " أو لا تريد أن تعود " يفيد أن مجرد العزم على عدم العودة للذنب، يعني أن هذه التوبة توبة نصوح حتى وإن عاد بعد ذلك، وهذه المسألة محل خلاف.
4. توجيه قول عمر رضي الله عنه، أنه من لازم القول، فبعد رجوعكِ لمعنى كلمة " نصوح " في اللغة، فمن لازم كونها صادقة خالصة أن لا يعود إلى الذنب، أو لا يريد أن يعود، وإلا لم يكن صادقًا.
5. في تحريركِ تكرار لعدد من الأقوال مختلفة لفظًا ومتفقة معنى، وهذا يطيل تحريركِ دون داع، لأنه وكما تعلمين، هذا لا يدخل في الخلاف
وإنما الخلاف إما تنوع وتختلف الأقوال في المعنى لكن يمكن الجمع بينها، أو تضاد بألا يمكن الجمع بينها
6. يمكنكِ تلخيص أقوال أهل اللغة بأسلوبك دون النقل عنهم، ليتكون لديكِ ملكة في التعبير، وأنتِ بالفعل لديكِ أسلوب رائع يحسن إظهاره وتنميته]
تخريج القول الثاني:
قول معاذ بن جبل رضي الله عنه في تفسير قول الله تعالى: {لا انفصام لها} قال: (لا انقطاع لها دون دخول الجنة)
القول الأول: لا انقطاع لها دون دخول الجنة وهو قول معاذ و السدي والحسن. ومقاتل
وقال الحسن : لا انفصام لها دون أن تهجم بأهلها على الجنة
تخريج قول معاذ:
أخرجه ابن أبي حاتم [عن] عمرو بن ميمون ، ثنا حميد بن أبي الخزامي قال : سئل معاذ بن جبل عن قول الله : { فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها } قال : { لا انفصام لها } يعني : لا انقطاع لها _ مرتين _ دون دخول الجنة.
وأخرجه ابن المنذر كما عند السيوطي
توجيه القول:
الْفَصْمُ كَسْرُ الشَّيْءِ مِنْ غَيْرِ إِبَانَةٍ.. فالعروة الوثقى لا انكسار لها وانقطاع فمن تمسك بها فهو في مأمن من التردي في الضلال و الهوي في نار جهنم لأن الإيمان بالله وعقيدة التوحيد سبيل النجاة وطريق الفوز برضا الله ودخول الجنة ؛ فليزال التوحيد يدافع عن صاحبه حتى يدخله الجنة
القول الثاني: { لاَ انفِصَامَ لَهَا } ؛ أي لا انكسار لها
توجيه القول :
من باب التفسير اللغوي ..حمل اللفظ على معناه اللغوي ..فإن الفصل لغة هو الكسر دون إبانة. كسر مع اتصال ...كما تسكر اليد مع بقائها معلقة
فأصل الفصم : الكسر ، ومنه قول أعشى بني ثعلبة :
ومبسمها عن شَتيِتِ--*** النبات غير أكسَّ ولا متفصّم
قال ذو الرمة يذكر غزالا يشبهه بدُمْلُج فضة :
كأنَّهُ دُمْلُجٌ من فضة نَبَهٌ *** في ملعب من جواري الحيِّ مَفْصُومُ
وإنما جعله مفصوما لتثنيه وانحنائه إذا نام . ولم يقل " مقصوم " بالقاف فيكون بائنا باثنين
فالانفصام: يمنع الاتصال الداخلي.فقوله " لا انفصام لها" يعنى أن العروة الوثقى ظاهرها كباطنها متصل متلاحم يشد بعضه بعضا متلاحم ؛ فلا يخشى أحد استمسك بها من السقوط والتردي
فعقيدة التوحيد لا انكسار فيها ولا خلل ولا نقص وما ذلك إلا لإحكامها و إتقانها وقوتها ومتانتها
القول الثالث : { لاَ انفِصَامَ لَهَا } أي لا انقطاع ؛ وهو قول السدي والزجاج
توجيه القول:
الفصم الكسر بغير إبانة؛ و القَصْم هو الكسر بإبانة ونفيُ الأول يدل على انتفاءِ الثاني بالأولوية.... تفسير للتنبيه على المعنى الأولى
وقيل هما بمعنى
- قَالَ الْفَرَّاءُ: الِانْفِصَامُ وَالِانْقِصَامُ هُمَا لُغَتَانِ، وَبِالْفَاءِ أَفْصَحُ، .كما عند القرطبي".
وقال الزجاج: يقال فصمت الشيءَ أفْصُمُه فصماً أي قطعته.اهـ
. فهو تفسير ... تعبير بالمترادف
القول الرابع :لا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم . وهو قول ابن أبي نجيح عن مجاهد ؛ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ.
توجيه القول:
من استمسك بالعروة الوثقى؛ بعقيدة التوحيد والإيمان بالله وأقام شرع الله وامتثل أمره واجتنب نهيه فهو من مأمن من زوال اسم الإيمان عنه لأنه قد استمسك بما لا انفصام ولا انقطاع له ؛استمسك بالشد الوثيق والحبل المتين؛ فهو ثابت مستقيم على الطريقة المثلى إلا أن يكفر هو فيغير حاله؛ فيترك التمسك بالعروة الوثقى ؛ فمن فعل ذلك لا يأمن على نفسه انقلاب الحال والانتقال من سعة الإسلام إلى ضيق الكفر ؛ فهذا لا يسمى مستمسك بالعروة الوثقى
لطيفة:
استمسك على وزن "استفعل " ؛من معانيه الطلب ؛فالمستمسك بالعروة الوثقى طالب لها قاصد إليها مريد لها ؛ فمادام هو كذلك فقد أمن من تغير حاله وانقلابه من الإيمان إلى الكفر ؛ إلا أن يغير حاله هو فيترك الاستمساك بدين الحق والعقيدة الصحيحة فهذا لا يأمن على نفسه من انقلاب حاله و دخوله الكفر والنفاق بعد الإيمان وهو معنى :لا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.
نقاش:
لا تعارض بين الأقوال؛ كلها ترجع إلى شيء واحد...حصول الأمن والطمأنينة لمن استمسك بالعروة الوثقى ؛ لأنه قد استمسك بعقد وثيق الشد محكم الفتل قوي ثابت لا يصدعه شيئا فأدنى فصم لا يحدث فيه؛ فما بالك بالقطع فهو عنه بعيد ؛ بعد المشرقين ؛فالعروة الوثقى لا انقطاع لها ولا زوال لها ولا هلاك لها ولا اضمحلال وانحلال . عموم في جميع أنواع النقص والعيب .. " ... "لا انفصام لها " لا نافية للجنس دالة على انتفاء جنس الفصم؛ استغراق في نفي أنواع الفصم ؛ فأدنى فصم وأقل فصم لا يحصل للعروة الوثقى فمن باب أولى ما كان فوقها من القطع والهلاك
فعدد ما شئت من أنواع النقص والعيب فكلها العروة الوثقى سلمت منها؛ فكما أنها سالمة في ذاتها فهي أيضا تُسلم من تمسك بها من السقوط والتردي في هوة وما ذلك إلا لمتانتها و إحكام رباطها
فعقيدة التوحيد والإيمان بالله ونبذ الكفر والشرك؛ والبراءة من الآلهة والأصنام والطواغيت ؛ عقيدة محكمة صحيحة قوية صلبة لا خلل فيها ولا نقص ولا عيب ولا تناقض فيها موافقة للفطرة لا يمكن كسرها ولا انقطاعها
و ومن استمسك بهذه العقيدة فقد عقد لنفسه من الدين عقداً وثيقاً لا تحله شبهة ولا غيرها لأنه استمسك من الدين بأقوى سبب يمنعه من التردي في الضلال والزيغ .فلا يخشى مع اعتصامه خذلانه إياه .في دنياه وآخرته.
آمن في دنياه من شر الشيطان وغوائله وتضليلاته عن طريق الحق وصراطه المستقيم ؛
آمن من فساد دينه ودخول الشبه والبدع عليه أمن من زوال اسم الإيمان عنه .
آمن في أخراه من التردي في نار جهنم فالتوحيد مدافع عنه حتى يدخله الجنة قال ابن جرير :" وإسلامه عند حاجته إليه في أهوال الآخرة كالتمسك بالوثيق من عرى الأشياء التي لا يخشى انكسار عراها "اهـ
فكما أن عقيدة التوحيد لا انفصام لها كذلك شريعة الإسلام لا انفصام لها ؛ كلها حسنة لا نقص فيها ولا تناقض موافقة للعقل جالبة للمصالح دارئة للمفاسد.
فدين الإسلام في قوته ومتانته وصلابته وتماسكه وكماله أشبه بالعروة القوية من الحديد الصلب الذي لا يقبل الانكسار أو التهشيم لا يمكن كسره ولا انقطاعه
ففيه رد على كل من ادعى وجوه تناقض في الدين الله ؛أو أن شريعة الله غير موافقة للحكمة و مصادمة للعقل؛ أو أنها لا تصلح لكل زمان ومكان؛ أو من يزعم أن الشارع يفرق بين المتماثلين..أو غير ذلك..فكل أولئك يقال لهم " وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا"
فائدة:
(وَالِانْفِصَامُ ) مُطَاوِعُ الْفَصْمِ؛ فَصَمْتُهُ فَانْفَصَمَ؛ فمهما حاول العبد أن يفصم عقيدة التوحيد والإيمان بالله أو يفصم الدين الإسلامي عموما فلن يقدر ولن يجد إلى ذلك سبيلا ؛ لصلابتها وقوتها إحكامها ؛ ففيه رد على من يحاول إيجاد الخلل والعيب والنقص وإلقاء الشبه في دين الإسلام عقيدةً وشريعةً ؛ يسعى حثيثا إلى ذلك؛فسيجد الباب مغلق و الطريق مسدود لأن عقيدة السليمة لا تطاوعه و الشريعة الحق لا تطاوعه فيقال له "هيهات هيهات لا جن و لا سحره بقادرين على أن يلحقوا اثره"
قال الزمخشري: وهذا تمثيل للمعلوم بالنظر ، والاستدلال بالمشاهد المحسوس ، حتى يتصوّره السامع كأنه ينظر إليه بعينه ، فيحكم اعتقاده والتيقن به: اهـ
[أحسنتِ، النقاش بارك الله فيك، وأقترح أن تحتفظي به وتزيديه تحبيرًا، ليكون رسالة تفسيرية في هذه الآية]
والأقوال الثلاثة الأولى توجيهها من معنى الكلمة لغة وقد انتفى المعنى الأقل "الكسر دون إبانة " فما فوقه من باب أولى، والرابع من لازم هذا المعنى]
****
تخريج
قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه في يوم الحجّ الأكبر قال: هو يوم عرفة.
قال الله تعالى :{وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ.}
في المراد ب " الحج الأكبر " أقوال:
القول الأول يوم عرفة: وهو قول عمر بن الخطاب و[رواية عن ] على ابن أبي طالب و عبد الله بن الزبير وسعيد بن المسيب في إحدى الروايات وعطاء بن أبي رباح وطاووس و مجاهد في إحدى الروايات
-عن عكرمة عن ابن عباس قال : إن يوم عرفة يوم الحج الأكبر يوم المباهاة ، يباهى الله ملائكته في السماء بأهل الأرض يقول تبارك وتعالى : جاؤوني شعثا غبرا ، آمنوا بي ولم يروني وعزتي لأغفرن لهم ، وهو يوم الحج الأكبر . رواه ابن أبي حاتم
تخريج قول على رضي الله عنه
- ما أخرجه ابن جرير عن أبي الصهباء البكري قال : سألت علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن يوم الحج الأكبر ؟ فقال : يوم عرفة .
توجيه القول:
ما روى عن ابن جريج عن محمد بن قيس بن مخرمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب يوم عرفة وقال : " هَذَا يَوْمُ الْحَجِّ الأَكْبَرِ .
-
-"يَوْمَ" منصوب على الظرف والعامل فيه أَذانٌ؛ أي يوم الحج الأكبر ظرف للتأذين ؛ و لما كان التأذين يوم عرفة - لأن عليا رضي الله عنه أذن بتلك الآية يوم عرفة إثر خطبة أبي بكر رضي الله عنه- عُلم أن الحج الكبر يوم عرفة حيث وقع فيه أول الأذان
روى ابن جرير في ذلك أثرا عن علي رضى الله عنه :قال ".. : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا بكر بن أبي قحافة رضي الله عنه يقيم للناس الحج، وبعثني معه بأربعين آية من براءة، حتى أتى عرفة فخطب الناس يوم عرفة، فلما قضى خطبته التفت إليّ، فقال: قم، يا علي وأدِّ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم! فقمت فقرأت عليهم أربعين آية من "براءة"..."
القول الثاني : يوم النحر...وهو قول على ابن أبي طالب في رواية ؛ وابن عمر وابن عباس وعبد الله بن أبي أوفى والمغيرة بن شعبه وسعيد بن جبير والشعبي والنخعي وقيس بن عبادة و عبد الله بن شداد و ابراهيم النخعي ومجاهد وعطاء والسدي وهو اختيار ابن جرير و لم يذكر ابن كثير غيره [بل ذكر غيره، من عادة ابن كثير أنه يذكر اختياره في بداية تفسيره للآية ويفسرها بشكل إجمالي ثم يسرد الروايات الواردة في تفسيرها وبقية الأقوال]
توجيه القول:
وجهه ما أخرجه الترمذي وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن علي رضي الله عنه قال : « سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن يوم الحج الأكبر ؟ فقال «يوم النحر » .
-ما أخرجه ابن جرير ..من طريق نافع، عن ابن عمر قال: وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم النحر عند الجمرات في حجة الوداع فقال: هذا يوم الحج الأكبر..
-وما رواه أيضا من طريق مرة الهمدانيعن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم على ناقة حمراء مخضرمة،فقال: أتدرون أيَّ يوم يومكم؟ قالوا: يوم النحر! قال: صدقتم، يوم الحج الأكبر
- ويوم الحج الأكبر هو يوم النحر حيث وقع إكمال الأذان، لأن عليا رضى الله عنه رأى أنه لم يعلم الناس بالإسماع بالأذان بالآية يوم عرفة فتتبعهم بالأذان بها يوم النحر ..
" قال علي : "..ثم صدرنا، حتى أتينا مِنًى، فرميت الجمرة ونحرتُ البدنة، ثم حلقت رأسي، وعلمت أن أهل الجمع لم يكونوا حضروا خطبة أبي بكر يوم عرفة، فطفقت أتتبع بها الفساطيط أقرؤها عليهم. ..)
- أن من فاته الوقوف يوم عرفة فإنه يجزيه الوقوف ليلة النحر، بخلاف من فاته يوم النحر فقد فاته الحج ؛فليس يوم عرفة على هذا يوم الحج الأكبر.
عن سعيد بن جبير: ".....أرأيت لو أن رجلا فاته يوم عرفة، أكان يفوته الحج؟ وإذا فاته يوم النحر فاته الحج!." رواه ابن جرير
و انتقد ابن عطية هذا القول بقوله : "ولا حجة في هذا"
القول الثالث: أنه اليوم الثاني : وهو قول سعيد بن المسيب
عن سعيد بن المسيب : الحج الأكبر اليوم الثاني من يوم النحر ، ألم تر أن الإمام يخطب فيه ؟ ...رواه ابن أبي حاتم.
القول الرابع :..أيام الحج كلها و هو قول مجاهد وسفيان و هو ظاهر قول ابن عطيو
وخصه مجاهد في رواية عنه بأيام منى كما عند الطبري وابن عطية
توجيه القول:
-أن التأذين بالآية تتابع أيام الحج ولم يقتصر على يوم النحر قال ابن عطية :" .. وبعث أبو بكر معه من يعينه بالأذان بها كأبي هريرة وغيره، وتتبعوا بها أيضا أسواق العرب كذي المجاز وغيره، فمن هنا يترجح قول سفيان إن يَوْمَ في هذه الآية بمعنى أيام" اهـ
من جهة اللغة
أن العرب تطلق بلفظ "يوم " والمراد منه أيام ....وذكر سيبويه: تقول لرجل: ما شغلك اليوم؟ وأنت تريد في أيامك هذه.
-وكما يقال يوم صفين ويوم الجمل والمراد به جميع أيامه.
- وكما قال عثمان لعمر حين عرض عليه زواج حفصة: إني قد رأيت ألا
أتزوج يومي هذا.
النقاش:
- رجح ابن جرير رحمه الله القول بأن المراد بالحج الأكبر يوم النحر ؛ وترجيحه قائم على دلالة السنة و أقوال السلف واللغة والنظر
- السنة: ما جاء من أخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال عن يوم النحر أنه يوم الحج الأكبر وسبق ذكرها في توجيه هذا القول
- أقوال السلف: تظافر قول السلف على أن المراد بالحج الأكبر يوم النحر
- اللغة : أن اليوم يضاف إلى المعنى الذي يكون فيه ؛ فيقال يوم الفطر لليوم الذي يفطرون فيه؛ ويوم عرف لليوم الذي يقفون فيه في عرفة ؛ ويوم الحج لليوم الذي يحجون فيه.
- النظر: وكان يوم النحر يوم الحج لأنه اليوم الذي يحجون فيه ويقضون فيه مناسكهم ويعملون فيه أعمال الحج ؛ والوقوف بعرفة غير فائت إلى طلوع فجر يوم النحر ؛ وفي صبيحته يعمل أعمال الحج.
قال أبو جعفررحمه الله: وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصحة، قولُ من قال: "يوم الحج الأكبر، يوم النحر"، لتظاهر الأخبار عن جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عليًّا نادى بما أرسله به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرسالة إلى المشركين، وتلا عليهم "براءة"، يوم النحر. هذا، مع الأخبار التي ذكرناها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال يوم النحر: أتدرون أيّ يوم هذا؟ هذا يوم الحج الأكبر.
وبعدُ، فإن "اليوم" إنما يضاف إلى المعنى الذي يكون فيه، كقول الناس: "يوم عرفة"، وذلك يوم وقوف الناس بعرفة = و"يوم الأضحى"، وذلك يوم
يضحون فيه = "ويوم الفطر"، وذلك يوم يفطرون فيه. وكذلك "يوم الحج"، يوم يحجون فيه، وإنما يحج الناس ويقضون مناسكهم يوم النحر، لأن في ليلة نهار يوم النحر الوقوفُ بعرفة غير فائت إلى طلوع الفجر، وفي صبيحتها يعمل أعمال الحج...." اهـ
وقد انتقد رحمه الله القول الأول من قال هو يوم عرفة بدليل النظر قال رحمه الله :" فأما يوم عرفة، فإنه وإن كان الوقوف بعرفة، فغير فائت الوقوف به إلى طلوع الفجر من ليلة النحر، والحج كله يوم النحر."اهـ
وانتقد قول سفيان ومجاهد بدليل اللغة ؛ والأصل :
من جهة اللغة: وأن إطلاق لفظ اليوم والمراد به "الأيام" مخالف للأشهر و الأعرف لكلام العرب في استعمال لفظ يوم" بل المشهور المعروف في كلام العرب أن لفظ يوم يطلق من غروب الشمس إلى مثله من الغد
وأن الأصلحمل كلام الله على المعنى الأشهر الأعرف من كلام العرب دون غيره من المعاني
قال رحمه الله:". وأما ما قال مجاهد: من أن "يوم الحج"، إنما هو أيامه كلها، فإن ذلك وإن كان جائزًا في كلام العرب، فليس بالأشهر الأعرف في كلام العرب من معانيه، بل أغلبُ على معنى "اليوم" عندهم أنه من غروب الشمس إلى مثله من الغد. وإنما محمل تأويل كتاب الله على الأشهر الأعرف من كلام من نزل الكتابُ بلسانه. اهـ
وقال ابن كثير في ترجيح يوم النحر : :..وهو يوم النحر الذي هو أفضل أيام المناسك وأظهرها وأكثرها جمعا " اهـ
وأما ابن عطية رحمه الله فالذي يظهر من كلامه أنه رجح قول سفيان ومجاهد ؛ بحجة أن الـتأذين من علي رضي الله عنه كان متواصلا ومستمرا أيام الحج قال رحمه الله : وفي ذلك اليوم بعث معه أبو بكر من يعينه بالأذان بها كأبي هريرة وغيره، وتتبعوا بها أيضا أسواق العرب كذي المجاز وغيره، فمن هنا يترجح قول سفيان إن يَوْمَ في هذه الآية بمعنى أيام.."اهـ
أما في سبب تسميته بيوم الحج الأكبر قولين:
" أحدها : أنها تسمية للتعظيم
وورد فيه أقوال منها وأشهرها
أنه سمي بذلك لأنه كان في سنة اجتمع فيها حج المسلمين والمشركين ، ووافق أيضاً عيد اليهود والنصارى ، قاله الحسن .
الثاني : أنها تسمية للتعريف والتبيين فهو في مقابل الحج الأصغر وفيه قولين:
أحدهما : أن الحج الأكبر القِران ، والأصغر الإفراد ، قاله مجاهد .
الثاني : أن الحج الأكبر هو الحج ، والأصغر هو العمرة ، قاله عطاء والشعبي .
والله أعلم