اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة منيرة محمد
تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29) وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيرًا )
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29)
الوقف في الآية :
-حكم الوقف في (عن تراض منكم) حسن ، وهو قول الأنباري ، والأشموني .
وقال الداني : كاف .
-القراءات :
القراءة في قوله : (إلّا أن تكون تجارةً )
القراءة الأولى : بالنصب ، قرأ بها حمزة وعاصم والكسائي وهو اختيار أبي عبيد.
القراءة الثانية : بالرفع ، قرأ بها المدنيون وابن كثير وابن عامر وأبو عمرو .
قال أبو منصور في " معاني القراءات وعللها " من رفع جعل كان مكتفية، ومن نصب أضمر لـ (كان) اسما.
وقال أبو علي في الحجة : من رفع فالاستثناء منقطع، لأنّ التجارة عن تراض ليس من أكل المال بالباطل.
ومن نصب إلا أن تكون تجارة احتمل ضربين: أحدهما: إلّا أن تكون التجارة تجارة، ومثل ذلك قوله:
إذا كان يوما ذا كواكب....
أي إذا كان اليوم يوما.
والآخر: إلّا أن تكون الأموال ذوات تجارة، فتحذف المضاف، وتقيم المضاف إليه مقامه، والاستثناء على هذا الوجه أيضا منقطع .
-الناسخ والمنسوخ :
القول الأول أنها منسوخة ،قال به ابن حزم في الناسخ والمنسوخ ، قال :نسخت بقوله تعالى في سورة النور: (ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج (وكانوا يجتنبونهم في الأكل فقال تعالى: {ليس على من أكل مع الأعرج والمريض حرج} فصارت هذه الآية ناسخة لتلك الآية .
وكذا قال ابن سلامة في الناسخ والمنسوخ .
القول الثاني: أنها محكمة ، قال به ابن الجوزي في نواسخ القرآن ، وروى حديثا عن الحسن ، وعن مسروق "إنّها لمحكمةٌ ما نسخت".
وقال :وقد زعم بعض منتحلي التّفسير، ومدّعي علم النّاسخ والمنسوخ: أنّ هذه الآية لمّا نزلت تحرّجوا من أن يواكلوا الأعمى والأعرج والمريض، وقالوا إنّ الأعمى لا يبصر أطايب الطّعام، والأعرج لا يتمكّن من المجلس، والمريض ،ولايستوفي الأكل، فأنزل الله عز وجل:( ليس على الأعمى حرجٌ ( الآية فنسخت هذه الآية.
وهذا ليس بشيء، ولأنه لا تنافي بين الآيتين، ولا يجوز أكل المال بالباطل بحالٍ، (وعلى ما قد زعم) هذا القائل قد كان يجوز أكل المال بالباطل ).
وقال السخاوي والجمهور على أنها محكمة والقول بأنها منسوخة يؤدي إلى إباحة أكلها بالباطل مع الأعمى والأعرج والمريض، وإنما فعلوا ذلك تورعا .
_ المسائل التفسيرية :
مناسبة الآية لما قبلها:
لما كانت الآيات السابقة قد اشتملت على أوامر بإيتاء ذي الحق في المال حقه، انتقلت الآيات بعد ذلك إلى تشريع عام في الأموال والأنفس.
مقصد الآية :
قال ابن عاشور : وهذه الآية أصل عظيم في حرمة الأموال، وقد قال رسول الله ﷺ «لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس» . وفي خطبة حجة الوداع «إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام .
فنهى بهذه الآية عن جميع المكاسب الباطلة بالشرع.
مناسبة تصدير الآية بالنداء:
لأجل العناية بما جاء في الخطاب فتوجيه النداء بــ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ يفيد الإغراء بالتزام هذا الخطاب أو بالتزام مدلول هذا الخطاب، ووجه ذلك أن وصف الإنسان بالإيمان يحمله على الامتثال، ويفيد أيضًا أن امتثال هذا الشيء من مقتضيات الإيمان، ويفيد أيضًا أن مخالفة ذلك نقص في الإيمان.
وقد جاء عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: إذا قال الله: يا أيها الذين آمنوا فأرْعها سمعك؛ فإما خير تُؤمر به، وإما شر تنهى عنه .
وجه خص الأكل بالذكر :
خص الأكل بالذكر ونهى عنه تنبيهاً على غيره من جميع التصرفات الواقعة على وجه الباطل، لأن معظم المقصود من المال الأكل، وذلك نظير قوله تعالى: ﴿إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما﴾ فكما يحرم أكل مال اليتيم بالظلم يحرم إنفاقه في غير الأكل.
وقيل: لأنه لا يعود معه إلى الغير، فأكل الأموال هو الاستيلاء عليها بنية عدم إرجاعها لأربابها .
مناسبة الإيجاز والجمع في قوله: ﴿لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ﴾
فيه دلالة على أن المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم ومصالحهم كالجسد الواحد، حيث كان الإيمان يجمعهم على مصالحهم الدينية والدنيوية.
فكأنّه يقول : إنَّ مال كلّ واحد منكم هو مال أمتكم، فإذا استباح أحدكم أن يأكل مال الآخر بالباطل، كان كأنّه أباح لغيره أكل ماله وهضْم حقوقه .
أوجه أخذ المال :
قال الزجاج :حرم اللّه جلّ وعز المال إلّا أن يوجد على السّبل التي ذكر من الفرائض في المواريث والمهور والتسري والبيع والصدقات التي ذكر وجوهها.
المراد بالباطل :
الباطل في اللغة: الضائع سدى .
والمراد بالباطل في هذه الآية ما خالف الشرع؛ لأن الشرع حق وما خالفه باطل، والمعنى على هذا: لا تأكلوا أموالكم بينكم على وجه يخالف الشرع، مثل: الربا، والغش، والكذب، والتدليس، وما أشبه ذلك.
وقد ذكر المفسرون في المراد بالباطل ثلاثة أقوال :
القول الأول : أنه الزنى، والقمار، والبخس، والظلم، وهو قول السدي ،رواه ابن جرير ،وبن أبي حاتم من طريق أسباط .
الثاني: ان المراد به العقود الفاسدة، وهو قول ابن عباس، رواه ابن جرير، وبن أبي حاتم من طريق عكرمة .
الثالث: أنه نهى أن يأكل الرجل طعام قرى وأمر أن يأكله شرى ثم نسخ ذلك بقوله تعالى في سورة النور: ﴿ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم﴾ [النور: 61] إلى قوله: ﴿أو أشتاتا﴾ وهو قول الحسن، وعكرمة ،ورواه ابن جرير
قال ابن جرير: وأولى هذين القولين بالصّواب في ذلك قول السّدّيّ: وذلك أنّ اللّه تعالى ذكره حرّم أكل أموالنا بيننا بالباطل، ولا خلاف بين المسلمين أنّ أكل ذلك حرامٌ علينا، فإنّ اللّه لم يحلّ قطّ أكل الأموال بالباطل.
وإذا كان ذلك كذلك فلا معنى لقول من قال: كان ذلك نهيًا عن أكل الرّجل طعام أخيه قرًى على وجه ما أذن له، ثمّ نسخ ذلك لنقل علماء الأمّة جميعًا وجهًا لها أنّ قرى الضّيف، وإطعام الطّعام كان من حميد أفعال أهل الشّرك والإسلام، الّتي حمد اللّه أهلها عليها وندبهم إليها ...)
قوله :( إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ)
التجارة في اللغة : عبارة عن المعاوضة ومنه الأجر الذي يعطيه الله تعالى للعبد عوضاً من الأعمال الصالحة.
كما قال تعالى: ﴿ياأيها الذين آمَنُواْ هَلْ أَدُلُّكمْ على تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ وقال ﴿يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ﴾ وقال ﴿إِنَّ الله اشترى مِنَ المؤمنين أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ﴾ ، فسمَّى ذلك كلَّه بيعاً وشراءً على ، تشبيهاً بعقُود المبيعات الّتي تحصل بها الأغرار .
قوله: (إِلَّا أَنْ تَكُونَ) (إِلَّا) أداة استثناء، والمراد به الاستدراك؛ يعني لكن إن كانت تجارةٌ أو تجارةً بينكم عن تراضٍ منكم فهذا لا بأس به .
وقد ذكر ابن عادل في اللباب لصحة انقطاعه وجهين:
أحدهما: أن التجارة لم تندرج في الأموال المأكولة بالباطل حتى يستثنى عنها سواء فسر الباطل بغير عوض، أو بغير طريق شرعيّ.
والثاني: أن المستثنى كون، والكون ليس مالاً من الأموال .
الثالث: أنه متصل قيل: لأن المعنى لا تأكلوها بسبب إلا أن تكون تجارة.
قال أبو البقاء: وهو ضعيف؛ لأنه قال: بالباطل، والتجارة ليست من جنس الباطل، وفي الكلام حذف مضاف تقديره؛ إلا في حال كونها تجارة، أو في وقت كونها تجارة ..انتهى.
قال ابن عطية عليه رحمة الله: "والاستثناء منقطع في كل تقدير وفي قراءة الرفع."
وقال بعد ذكره للقراءات الوارده :"وهما قولان قويان، إلا أن تمام «كان» يترجح عند بعض، لأنها صلة «لأن» فهي محطوطة عن درجتها إذا كانت سليمة من صلة وغيرها، وهذا ترجيح ليس بالقوي ولكنه حسن، وأن في موضع نصب، ومن نصب «تجارة» جعل اسم كان مضمرا، تقديره الأموال أموال تجارة، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، أو يكون التقدير: إلا أن تكون التجارة تجارة، ومثل ذلك قول الشاعر:
[الطويل] إذا كان يوما ذا كواكب أشنعا أي: إذا كان اليوم يوما"
قال ابن جرير: وكلتا القراءتين عندنا صوابٌ جائزةٌ القراءةُ بهما، لاستفاضتهما في قرأة الأمصار، مع تقارب معانيهما.
وأورد ابن عثيمين رحمه الله تعالى اشكالاً قد يقع فقال:"وحينئذٍ يشكل أن يكون الاسم مستترًا وتقديره (هي) مع أن الأكل ﴿لَا تَأْكُلُوا﴾ مذكّر، فهل يصح أن نقول: إلا أن تكون الأكل تجارة؟ لا يصح، ولكن هاهنا فائدة وهو: إذا توسط الضمير أو الإشارة بين شيئين الثاني مذكر والأول مؤنث أو بالعكس فإنه يجوز مراعاة الأول أو الثاني ..
يذكر باعتبار مرجعه السابق، وأن يؤنث باعتبار مرجعه اللاحق، فهنا أُنّث باعتبار مرجعه الثاني اللاحق .
سبب خص التجارة بالذكر:
خصت التجارة بالذكر لأن أسباب الرزق أكثرها متعلق بها ولأنها أرفق بذوي المروآت بخلاف الإيهاب وطلب الصدقات،وقد أجمعت الأمة على جواز أكل الأموال بالتجارة، واتفق جمهور العلماء على جواز الغبن فيها، مثال ذلك: أن يبيع الرجل ياقوتة بدرهم وهي تساوي مائة، فذلك جائز، ويعضده حديث النبي صلى الله عليه وسلم "لا يبع حاضر لباد"
قال ابن جرير:" في هذه الآية إبانةٌ من اللّه تعالى ذكره عن تكذيب قول الجهلة من المتصوّفة المنكرين طلب الأقوات بالتّجارات والصّناعات، واللّه تعالى يقول: {يا أيّها الّذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلاّ أن تكون تجارةً عن تراضٍ منكم} اكتسابًا منا ذلك بها. كما:.
- حدّثنا بشر بن معاذٍ، قال: حدّثنا يزيد، قال: حدّثنا سعيدٌ، عن قتادة: قوله {يا أيّها الّذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلاّ أن تكون تجارةً عن تراضٍ منكم} قال: التّجارة رزقٌ من رزق اللّه، وحلالٌ من حلال اللّه لمن طلبها بصدقها وبرّها، وقد كنّا نحدّث أنّ التّاجر الأمين الصّدوق مع السّبعة في ظلّ العرش يوم القيامة.
قوله: (عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ )
قال ابن عاشور (وقوله: ﴿عن تراض﴾ منكم صفة لـ ”تجارة“، و(عن) فيه للمجاوزة، أي صادرة عن التراضي وهو الرضا من الجانبين بما يدل عليه من لفظ أو عرف.
وقال السعدي : تنعقد العقود بما دلَّ عليها من قول أو فعل؛ لأنَّ الله شرط الرّضا، فبأيّ طريق حصل الرّضا انعقد به العقد .
وقد أورد المفسرون له قولان:
أحدهما: أن التراضي هو أن يكون العقد ناجزا بغير خيار، وهو قول مالك، وأبي حنيفة.
قال ابن عاشور : وفي الآية ما يصلح أن يكون مستندا لقول مالك من نفي خيار المجلس؛ لأن الله جعل مناط الانعقاد هو التراضي، والتراضي يحصل عند التبايع بالإيجاب والقبول.
والثاني: هو أن يخير أحدهما صاحبه بعد العقد وقبل الافتراق، وهو قول شريح، وابن سيرين، والشعبي.
وقد روى ابن جرير عن سليمان الجعفيّ، عن أبيه، عن ميمون بن مهران، قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: البيع عن تراضٍ، والخيار بعد الصّفقة، ولا يحلّ لمسلمٍ أن يغشّ مسلمًا.
قال ابن جرير: وأولى القولين بالصّواب في ذلك عندنا قول من قال: إنّ التّجارة الّتي هي عن تراضٍ بين المتبايعين: ما تفرّق المتبايعان على المجلس الّذي تواجبا فيه بينهما عقدة البيع بأبدانهما، عن تراضٍ منهما بالعقد الّذي جرى بينهما، وعن تخيير كلّ واحدٍ منهما صاحبه؛ لصحّة الخبر عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بما.
- حدّثني يعقوب بن إبراهيم، عن نافعٍ، عن ابن عمر، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: البيّعان بالخيار ما لم يتفرّقا، أو يكون بيع خيارٍ وربّما قال: أو يقول أحدهما للآخر: اختر .
قوله: (وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ )
مناسبتها لما قبلها :
لمّا كان المال عديل الرّوح، ونهى عن إتلافه بالباطل، نهى كذلك عن إتلاف النّفس؛ لكونِ أكثر إتلافهم لهما بالغارات لنهْب الأموال .
وجه تقدم النهي عن أكل المال بالباطل على قتل النفس وهي أشد .
تقدم النهي عن أكل المال بالباطل على النهي عن قتل أالنفس، لأنه أكثر وقوعا، وأفشى في الناس من القتل .
وقد ذكر المفسرون في هذه الآية عدة أقوال:
ألأول: أنه على ظاهره، أن الله حرم على العبد قتل نفسه ،وقد ورد في الوعيد الشديد،كما في الصحيحين من رواية أبي هريرة، قال: قال رسول الله ﷺ: "من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده، يجأ بها بطنه يوم القيامة في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا، ومن قتل نفسه بسم، فسمه في يده، يتحساه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا، ومن تردى من جبل فقتل نفسه، فهو مترد(30) في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا".
الثاني: أن معناه: لا يقتل بعضكم بعضا، وهذا قول ابن عباس، والحسن، وسعيد بن جبير، وعكرمة، وقتادة، والسدي، ومقاتل، وابن قتيبة.
قال ابن جرير:" ولا يقتل بعضكم بعضًا، وأنتم أهل ملة واحدة، ودعوة واحدة، ودين واحد. فجعل جل ثناؤه أهل الإسلام كلهم بعضَهم من بعض. وجعل القاتل منهم قتيلا في قتله إياه منهم بمنزلة قَتله نفسه، إذ كان القاتلُ والمقتول أهلَ يد واحدة على من خالف مِلَّتَهُما."
وعبر عن البعض المنهي عن قتلهم بالأنفس للمبالغة في الزجر .
الثالث: أن المعنى: لا تكلفوا أنفسكم عملا ربما أدى إلى قتلها وإن كان فرضا، وعلى هذا تأولها "عمرو بن العاص في غزاة ذات السلاسل حيث صلى بأصحابه جنبا في ليلة باردة، فلما ذكر ذلك للنبي ﷺ، قال له: يا عمرو صليت بأصحابك وأنت جنب؟ فقال: يا رسول الله إني احتلمت في ليلة باردة، وأشفقت إن اغتسلت أن أهلك، فذكرت قوله تعالى: ﴿ولا تقتلوا أنفسكم﴾ فضحك رسول الله ﷺ ".
الرابع: أن المعنى: لا تغفلوا عن حظ أنفسكم، فمن غفل عن حظها، فكأنما قتلها، هذا قول الفضيل بن عياض.
الخامس: لا تقتلوها بارتكاب المعاصي.
وقيل : لا تخاطروا بنفوسكم في القتال، فتقاتلوا من لا تطيقونه .
وقيل: لا تتجروا في بلاد العدو فتفردوا بأنفسكم، وبه استدل مالك على كراهة التجارة إلى بلاد الحرب .
ولا مانع من حمل الآية على جميع هذه المعاني، ومما يدل على ذلك احتجاج عمرو بن العاص بها حين لم يغتسل بالماء البارد حين أجنب في غزوة ذات السلاسل فقرر النبي صلى الله عليه وآله وسلم احتجاجه فدل هذا على عموم ضمير ”تقتلوا“ دون خصوص السبب .
قوله :( إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا)
تعليل للنهي، والمعنى أنه تعالى لم يزل مبالغا في الرحمة والرأفة ، ومن رحمته بكم نهيكم عن أكل الحرام وإهلاك الأنفس، وعن كل شيء تستوجبون به مشقة أو محنة .
وقيل: معناه: إنه كان بكم يا أمة محمد رحيما، إذ لم يكلفكم قتل الأنفس في التوبة، كما كلف بني إسرائيل بذلك.
قوله : (وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيرًا (30)
الوقف في الآية :
نصليه نارا (حسن)
يسيرا (تام) للابتداء بالشرط ، الأشموني .
_ المسائل التفسيرية :
مناسبة الآية :
لما نهى اللهُ المؤمنين في الآية السابقة أن يأخذ بعضهم أموال بعض بغير حقّ، او يقتل بعضهم بعضا، توعد من يفعل ذلك منهم بالعذاب الشديد .
مقصد الآية :
تعظيم ما سبق ذكره والترهيب من فعله .
قوله تعالى: (ومن يفعل ذلك عدوانا وظلما)
اختلف المفسرون في المشار إليه على أقوال :
الأول : أنه عائد على القتل، لأنه أقرب مذكور، وهو قول عطاء، واختيار الزمخشري، روى ابن جرير عن ابن جريج قال: قلت لعطاء: أرأيتَ قوله:"ومن يفعل ذلكُ عدْوانًا وظلمًا فسوف نُصليه نارًا"، في كل ذلك، أو في قوله:"ولا تقتلوا أنفسكم"؟ قال: بل في قوله:"ولا تقتلوا أنفسكم" .
الثاني : انه عائد على أكل المال بالباطل وقتل النفس، لأن النهي عنهما جاء متسقا مسرودا، ثم ورد الوعيد حسب النهي.
وهو الذي رجحه ابن عثيمين بقوله:المشار إليه ما ذكر في الآية السابقة فقط خلافا لبعض العلماء الذين قالوا أنه كل ما نهي عنه من أول السورة، فإن هذا لا وجه له، بل الإشارة تعود إلى أقرب مذكور .
الثالث: أنه عائد على ما نهى عنه من آخر وعيد، من قوله ):يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها) وذلك لأن كل ما نهي عنه من أول السورة قرن به وعيد إلا من قوله: (يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها) فإنه والنواهي بعده لا وعيد معها إلا قوله: (ومن يفعل ذلك عدوانا وظلما ( وهو الذي رجحه ابن جرير .
قال ابن حيان:" وما ذهب إليه الطبري بعيد جدا لأن كل جملة قد استقلت بنفسها، ولا يظهر لها تعلق بما بعدها إلا تعلق المناسبة، ولا تعلق اضطرار المعنى.
الرابع : أنه عائد على كل ما نهى عنه من القضايا من أول السورة إلى قوله تعالى: (ومن يفعل ذلك ) .
قال ابن جرير راداً هذا القول :" فإن قال قائلٌ: فما منعك أن تجعل قوله: {ذلك}: معنيًّا به جميع ما أوعد اللّه عليه العقوبة من أوّل السّورة؟ قيل: منعنى ذلك أنّ كلّ فصلٍ من ذلك قد قرن بالوعيد، إلى قوله: {أولئك أعتدنا لهم عذابًا أليمًا} ولا ذكر للعقوبة من بعد ذلك على ما حرّم اللّه في الآية الّتي بعده، إلى قوله: {فسوف نصليه نارًا} ..."
قال ابن حيان:" وأبعد من قول الطبري ما ذهب إليه جماعة من أن ذلك إشارة إلى كل ما نهى عنه من القضايا، من أول السورة إلى النهي الذي أعقبه قوله: ﴿ومن يفعل ذلك﴾ .
قوله:( عُدْوَانًا وَظُلْمًا)
العدوان تجاوز الحد،وهو التسلط بشدة،ويكون بظلم غالبا، وقد يكون بحق،كما في قوله تعالى: (فلا عدوان إلا على الظالمين) .
وعطف قوله ”وظلما“ على ”عدوانا“ من عطف الخاص على العام،والظلم وضع الشيء في غير موضعه .
مناسبة تقييد الوعيد بذكر العدوان .
قيد الوعيد بذكر العدوان والظلم ليخرج منه فعل السهو والغلط، وذكر العدوان والظلم مع تقارب معانيهما لاختلاف ألفاظهما، ولأن ذلك حسن في الكلام ، كقوله:
وألفى قولها كذبا ومينا .
(قوله: فسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيرًا (30)
(سوف) حرف يدخل على المضارع فيمحضه للزمن المستقبل، وهو مرادف للسين على الأصح، وتفيدان في مقام الوعد تحقيق الوعد وكذلك التوعد .
(نصليه) نجعله صاليا أو محترقا .
(نَارًا) أتت نكرة لإفادة تعظيم أمرها وشدة خطرها .
قوله: (وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيرًا)
هينا عليه، لا عسر فيه ولا صارف عنه؛ لأنه تعالى لا يعجزه شيء،واظهر اسم الجلالة لتربية المهابة في النفوس .
قال ابن كثير:وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد، فليحذر منه كل عاقل لبيب ممن ألقى السمع وهو شهيد.
وقال ابن عاشور:والآية دلت على كليتين من كليات الشريعة: وهما حفظ الأموال وحفظ الأنفس، من قسم المناسب الضروري.
|
بارك الله فيك أختي الكريمة وأحسن إليك
فقط عندي ملاحظات على التخريج في بعض الأقوال فقد كنت تذكرين القول وتذكرين من خرجه ولكن لا تذكرين الطريق الذي روي منها ، كما فاتك بعض المسائل لأنك كنت تدرجين عدة مسائل تحت عنوان كبير وتذكرين تحته المعنى الإجمالي للآية ، كما أنك كنت تدرجين كثيرا من الأقوال والتفاسير دون نسبتها لقائليها ،فتح الله عليك وتقبل منك .