(الفصل الثالث في جمع القرآن وترتيب نزوله وفي كونه نزل على سبعة أحرف)
(خ) عن زيد بن ثابت قال: بعث إلي أبو بكر لمقتل أهل اليمامة وعنده عمر فقال أبو بكر: إن عمر جاءني فقال: إن القتل قد استحر يوم اليمامة بقراء القرآن وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء في كل المواطن فيذهب من القرآن كثير وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن قال قلت لعمر كيف أفعل شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: عمر هو والله خير فلم يزل يراجعني في ذلك حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدر عمر ورأيت في ذلك الذي رأى عمر قال زيد: فقال لي أبو بكر: إنك رجل شاب عاقل لا نتهمك قد كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم فتتبع القرآن فاجمعه قال زيد: فوالله لو كلفني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل علي مما أمرني به من جمع القرآن فقلت: كيف تفعلان شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال أبو بكر: هو والله خير فلم يزل أبو بكر يراجعني حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدر أبي بكر وفي رواية فلم يزل عمر يراجعني حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدر أبي بكر وعمر ورأيت في ذلك الذي رأيا قال: فتتبعت القرآن أجمعه من الرقاع والعسب واللخاف وصدور الرجال حتى وجدت آخر سورة التوبة مع خزيمة أو مع أبي خزيمة الأنصاري فلم أجدها مع أحد غيره {لقد جاءكم رسول من أنفسكم} إلى آخر براءة فألحقتها في سورتها قال: فكانت الصحف عند أبي بكر حياته حتى توفاه الله ثم عند حفصة بنت عمر قال بعض الرواة اللخاف: يعني الخزف.
(خ) عن أنس أن حذيفة بن اليمان قدم على عثمان وكان يغازي أهل الشام في فتح إرمينية وأذربيجان مع أهل العراق فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة فقال حذيفة لعثمان: يا أمير المؤمنين أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى فأرسل عثمان إلى حفصة أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف ثم نردها إليك فأرسلت بها إليه فأمر زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام رضي الله عنهم فنسخوها في المصاحف وقال عثمان للرهط القرشيين إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش فإنما نزل بلسانهم ففعلوا حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف رد عثمان في الصحف إلى حفصة وأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا وأمر بما سوى ذلك من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق.
قال ابن شهاب وأخبرني خارجة بن زيد أنه سمع زيد بن ثابت يقول: فقدت آية من سورة الأحزاب حين نسخت الصحف قد كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بها فالتمسناها فوجدناها مع خزيمة بن ثابت الأنصاري {من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه} فألحقناها في سورتها في المصحف قال في روية ابن اليمان مع خزيمة بن ثابت الذي جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم شهادته شهادة رجلين زاد في رواية قال ابن شهاب اختلفوا يومئذ في التابوت فقال زيد التابوه وقال عبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص التابوت فرفع اختلافهم إلى عثمان فقال اكتبوه التابوت فإنه بلسان قريش.
شرح غريب ألفاظ الحديثين وما يتعلق بهما: (قوله: بعث إلي أبو بكر لمقتل أهل اليمامة) أي لأوان قتلهم وأراد به الوقعة التي كانت في اليمامة في زمن أبي بكر الصديق، وهي وقعة الردة مع أصحاب الردة فقتل فيها خلق كثير من قراء القرآن واليمامة مدينة باليمن على يومين من الطائف وعلى أربعة أيام من مكة ولها عمائر وهي في عداد أرض نجد (قوله: استحر القتل) أي كثر وينسب المكروه إلى الحر والمحبوب إلى البرد وشرح الصدر سعته قبوله الخير (قوله: فتتبعت القرآن أجمعه من الرقاع) جمع رقعة وهي ما يكتب فيها والعسب بضم العين والسين المهملتين جمع عسيب وهو جريد النخل وسعفه واللخاف حجارة بيض رقاق واحدته لخفة (قوله: يغازي أهل الشأم) أي: مع أهل الشام في فتح إرمينية بكسر الهمزة وتخفيف الياء لا غير سميت بارمين بن لمطي بن لومن بن يافث بن نوح وهو أول من نزل بها سميت باسمه وأذربيجان بفتح الهمزة وسكون الذال وغير ذلك في ضبطها.
وقال ابن جني فيها خمسة موانع من الصرف التعريف والتأنيث والعجمة والتركيب والألف والنون، وهو موضع من بلاد العجم يشتمل على بلاد كثيرة (قوله: حتى وجدت آخر سورة التوبة مع خزيمة) أو مع خزيمة الأنصاري وفي الحديث الآخر فقدت آية من سورة الأحزاب إلى قوله: فوجدناها مع خزيمة بن ثابت الأنصاري {من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه} الآية فاعلم أن المذكور في الحديث الأول غير المذكور في الحديث الثاني وهما قضيتان فأما المذكور في الحديث الأول فهو أبو خزيمة بن أوس بن زيد بن أصرم بن ثعلبة بن عمر بن مالك بن النجار الأنصاري شهد بدرا وما بعدها وتوفي في خلافة عثمان وهو الذي وجدت عنده آخر سورة التوبة كذا ذكره ابن عبد البر وأما المذكور في الحديث الثاني فهو أبو عمارة خزيمة بن ثابت بن الفاكه بمن ثعلبة بن ساعدة بن الخطمي الأوسي الأنصاري يعرف بذي الشهادتين شهد بدرا وما بعدها وقتل يوم صفين مع علي بن أبي طالب (قوله: فقدت آية من سورة الأحزاب إلى قوله: فوجدناها مع خزيمة) معناه أنه كان يتطلب نسخ القرآن من الأصل الذي كتب بأمر النبي صلى الله عليه وسلم وبين يديه فلم يجد تلك الآية إلا مع خزيمة وليس فيه إثبات القرآن بقول الواحد لأن زيدا كان قد سمعها من رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلم موضعها من سورة الأحزاب بتعليم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما صرح به الحديث قد كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بها وتتبعه الرجال كان للاستظهار لا لاستحداث علم لأن القرآن العظيم كان محفوظا عند زيد وغيره من الصحابة فقد ثبت في الصحيح عن أنس قال: جمع القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة كلهم من الأنصار أبي بن كعب ومعاذ بن جبل وأبو زيد وزيد يعني ابن ثابت قلت لأنس: من أبو زيد؟ قال: أحد عمومتي" أخرجاه في الصحيحين اسم أبي زيد سعد بن عبيد.
وأخرج الترمذي من حديث ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((خذوا القرآن من أربعة من ابن مسعود وأبي بن كعب ومعاذ بن جبل وسالم مولى أبي حذيفة)) قال: حديث حسن صحيح.
وتقدم حديث زيد ثابت وفيه أنه استحر القتل بقراء القرآن فثبت بمجموع هذه الأحاديث أن القرآن كان على هذا التأليف والجمع في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما ترك جمعه في مصحف واحد لأن النسخ كان يرد على بعضه ويرفع الشيء بعد الشيء من التلاوة كما كان ينسخ بعض أحكامه فلم يجمع في مصحف واحد ثم لو رفع بعض تلاوته أدى ذلك إلى الاختلاف واختلاط أمر الدين فحفظ الله كتابه في القلوب إلى انقضاء زمن النسخ ثم وفق لجمعه الخلفاء الراشدين رضي الله تعالى عنهم وثبت بالدليل الصحيح أن الصحابة إنما جمعوا القرآن بين الدفتين كما أنزله الله عز وجل على رسوله صلى الله عليه وسلم من غير أن زادوا فيه أو نقصوا منه شيئا والذي حملهم على جمعه ما جاء مبينا في الحديث وهو أنه كان مفرقا في العسب واللخاف وصدور الرجال فخافوا ذهاب بعضه بذهاب حفظته فافزعوا إلى خليفة رسول رب العالمين صلى الله عليه وسلم أبي بكر فدعوه إلى جمعه فرأى في ذلك رأيهم فأمر بجمعه في موضع واحد باتفاق من جميعهم فكتبوه كما سمعوه من رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير أن قدموا أو أخروا شيئا أو وضعوا له ترتيبا لم يأخذوه من رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلقن أصحابه ويعلمهم ما ينزل عليه من القرآن على الترتيب الذي هو الآن في مصاحفنا بتوقيف جبريل عليه السلام إياه على ذلك وإعلامه عند نزول كل آية أن هذه الآية تكتب عقب آية كذا في سورة كذا فثبت أن سعي الصحابة كان في جمعه في موضع واحد لا في ترتيبه فإن القرآن مكتوب في اللوح المحفوظ على النحو الذي هو في مصاحفنا الآن وقد صح في حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعرض القرآن على جبريل عليه السلام في كل عام مرة في رمضان وأنه عرضه في العام الذي توفي فيه مرتين ويقال: إن زيد بن ثابت شهد العرضة الأخيرة التي عرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم على جبريل عليه السلام وهي العرضة التي نسخ فيها ما نسخ وبقي فيها ما بقي ولهذا أقام أبو بكر زيد بن ثابت في كتابة المصحف وألزمه بها لأنه قرأ على النبي صلى الله عليه وسلم في العام الذي توفي فيه مرتين فكان جمع القرآن سببا لبقائه في الأمة رحمة من الله تعالى لعباده وتحقيقا لوعده في حفظه على ما قال تعالى: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} واعلم أن الله تعالى أنزل القرآن المجيد من اللوح المحفوظ جملة واحدة إلى سماء الدنيا في شهر رمضان ليلة القدر ثم كان ينزله مفرقا على لسان جيربل عليه السلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم مدة رسالته نجوما عند الحاجة وحدوث ما يحدث على ما شاء الله تعالى وترتيب نزول القرآن غير ترتيبه في التلاوة والمصحف فأما ترتيب نزوله على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأول ما نزل من القرآن بمكة {اقرأ باسم ربك الذي خلق} ثم {ن * والقلم} ثم {يا أيها المزمل} ثم المدثر ثم {تبت يدا أبي لهب} ثم {إذا الشمس كورت} ثم {سبح اسم ربك الأعلى} ثم {والليل إذا يغشى} ثم {والفجر} ثم {والضحى} ثم {ألم نشرح} ثم {والعصر} ثم {والعاديات} ثم {إنا أعطيناك الكوثر} ثم {ألهاكم التكاثر} ثم {أرأيت الذي} ثم {قل يا أيها الكافرون} ثم الفيل ثم {قل هو الله أحد} ثم {والنجم} ثم عبس ثم سورة القدر ثم سورة البروج ثم {والتين} ثم {لإيلاف قريش} ثم القارعة ثم القيامة ثم الهمزة ثم المرسلات ثم ق ثم سورة البلد ثم الطارق ثم {اقتربت الساعة} ثم ص ثم الأعراف ثم الجن ثم يس ثم الفرقان ثم فاطر ثم مريم ثم طه ثم الواقعة ثم الشعراء ثم النمل ثم القصص ثم سورة بني إسرائيل ثم يونس ثم هود ثم يوسف ثم الحجر ثم الأنعام ثم والصافات ثم لقمان ثم سبأ ثم الزمر ثم المؤمن ثم السجدة ثم حم عسق ثم الزخرف ثم الدخان ثم الجاثية ثم الأحقاف ثم الذاريات ثم الغاشية ثم الكهف ثم النحل ثم نوح ثم إبراهيم ثم الأنبياء ثم {قد أفلح المؤمنون} ثم تنزيل السجدة ثم الطور ثم الملك ثم الحاقة ثم {سأل سائل} ثم {عم يتساءلون} ثم النازعات ثم {إذا السماء انفطرت} ثم {إذا السماء انشقت} ثم الروم ثم العنكبوت واختلفوا في آخر ما نزل بمكة فقال ابن عباس: العنكبوت وقال الضحاك وعطاء: المؤمنون وقال مجاهد: {ويل للمطففين} فهذا ترتيب ما نزل من القرآن بمكة فذلك ثلاث وثمانون سورة على ما استقرت عليه روايات الثقات وأما ما نزل بالمدينة فأحد وثلاثون سورة فأول ما نزل بها سورة البقرة ثم الأنفال ثم آل عمران ثم الأحزاب ثم الممتحنة ثم النساء ثم {إذا زلزلت الأرض} ثم الحديد ثم سورة محمد صلى الله عليه وسلم ثم الرعد ثم سورة الرحمن ثم {هل أتى على الإنسان} ثم الطلاق ثم {لم يكن} ثم الحشر ثم الفلق ثم الناس ثم {إذا جاء نصر الله والفتح} ثم النور ثم الحج ثم {إذا جاءك المنافقون} ثم المجادلة ثم الحجرات ثم التحريم ثم الصف ثم الجمعة ثم التغابن ثم الفتح ثم التوبة ثم المائدة ومنهم من يقدم المائدة على التوبة فهذا ترتيب ما نزل من القرآن بالمدينة واختلفوا في شورى فقيل نزلت بمكة وقيل نزلت بالمدينة وسنذكر ذلك مواضعه إن شاء الله تعالى.