مقدمات تفسير سورة الممتحنة
من تفسير ابن كثير وتفسير السعدي وزبدة التفسير للأشقر
أسماء السورة
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (تفسير سورة الممتحنة).[تفسير القرآن العظيم: 8/82]
قالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ نَاصِرٍ السّعْدِيُّ (ت: 1376هـ) : (تَفْسِيرُ سُورةِ الْمُمْتَحَنَةِ). [تيسير الكريم الرحمن: 854]
قالَ مُحَمَّدُ سُلَيْمَان الأَشْقَرُ (1430هـ) : (سورةُ الْمُمْتَحَنَةِ). [زبدة التفسير: 548]
نزول السورة
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (وهي مدنيّةٌ).[تفسير القرآن العظيم: 8/82]
قالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ نَاصِرٍ السّعْدِيُّ (ت: 1376هـ) : (وهي مَدَنِيَّةٌ). [تيسير الكريم الرحمن: 854]
أسباب النزول
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (كان سبب نزول صدر هذه السّورة الكريمة قصّة حاطب بن أبي بلتعة، وذلك أنّ حاطبًا هذا كان رجلًا من المهاجرين، وكان من أهل بدرٍ أيضًا، وكان له بمكّة أولادٌ ومالٌ، ولم يكن من قريشٍ أنفسهم، بل كان حليفًا لعثمان. فلمّا عزم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم على فتح مكّة لمّا نقض أهلها العهد، فأمر النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم المسلمين بالتّجهيز لغزوهم، وقال: "اللّهمّ، عمّ عليهم خبرنا". فعمد حاطبٌ هذا فكتب كتابًا، وبعثه مع امرأةٍ من قريشٍ إلى أهل مكّة، يعلمهم بما عزم عليه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم [من غزوهم]، ليتّخذ بذلك عندهم يدًا، فأطلع اللّه رسوله على ذلك استجابةً لدعائه. فبعث في أثر المرأة فأخذ الكتاب منها، وهذا بيّنٌ في هذا الحديث المتّفق على صحّته.
قال الإمام أحمد: حدثنا سفيان، عن عمرو، أخبرني حسن بن محمّد بن عليٍّ، أخبرني عبيد اللّه بن أبي رافعٍ -وقال مرّة: إنّ عبيد اللّه بن أبي رافعٍ أخبره: أنّه سمع عليًّا، رضي اللّه عنه، يقول: بعثني رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أنا والزّبير والمقداد، فقال: "انطلقوا حتّى تأتوا روضة خاخٍ، فإنّ بها ظعينة معها كتابٌ، فخذوه منها". فانطلقنا تعادى بنا خيلنا حتّى أتينا الرّوضة، فإذا نحن بالظّعينة، قلنا: أخرجي الكتاب. قالت: ما معي كتابٌ. قلنا: لتخرجنّ الكتاب أو لنلقين الثّياب. قال: فأخرجت الكتاب من عقاصها، فأخذنا الكتاب فأتينا به رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فإذا فيه: من حاطب بن أبي بلتعة إلى ناسٍ من المشركين بمكّة، يخبرهم ببعض أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "يا حاطب، ما هذا؟ ". قال: لا تعجل عليّ، إنّي كنت امرأً ملصقًا في قريشٍ، ولم أكن من أنفسهم، وكان من معك من المهاجرين لهم قراباتٌ يحمون أهليهم بمكّة، فأحببت إذ فاتني ذلك من النّسب فيهم أن أتّخذ فيهم يدًا يحمون بها قرابتي، وما فعلت ذلك كفرًا ولا ارتدادًا عن ديني ولا رضى بالكفر بعد الإسلام. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "إنّه صدقكم". فقال عمر: دعني أضرب عنق هذا المنافق. فقال: "إنّه قد شهد بدرًا، ما يدريك لعلّ اللّه اطّلع إلى أهل بدرٍ فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم".
وهكذا أخرجه الجماعة إلّا ابن ماجه، من غير وجهٍ، عن سفيان بن عيينة، به. وزاد البخاريّ في كتاب "المغازي": فأنزل اللّه السّورة: {يا أيّها الّذين آمنوا لا تتّخذوا عدوّي وعدوّكم أولياء}. وقال في كتاب التّفسير: قال عمرٌو: ونزلت فيه: {يا أيّها الّذين آمنوا لا تتّخذوا عدوّي وعدوّكم أولياء} قال: " لا أدري الآية في الحديث أو قال عمرٌو". قال البخاريّ: قال عليٌّ -يعني: ابن المدينيّ-: قيل لسفيان في هذا: نزلت {لا تتّخذوا عدوّي وعدوّكم أولياء}؟ فقال سفيان: هذا في حديث النّاس، حفظته من عمرٍو، ما تركت منه حرفًا، وما أرى أحدًا حفظه غيري.
وقد أخرجاه في الصّحيحين من حديث حصين بن عبد الرّحمن، عن سعد بن عبيدة، عن أبي عبد الرّحمن السّلميّ، عن عليٍّ قال: بعثني رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وأبا مرثد، والزّبير بن العوّام، وكلّنا فارسٌ، وقال: انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ، فإن بها امرأةً من المشركين معها كتابٌ من حاطبٍ إلى المشركين: فأدركناها تسير على بعيرٍ لها حيث قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقلنا: الكتاب؟ فقالت: ما معي كتابٌ. فأنخناها فالتمسنا فلم نر كتابًا، فقلنا: ما كذب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم! لتخرجنّ الكتاب أو لنجردنك. فلمّا رأت الجدّ أهوت إلى حجزتها وهي محتجزة بكساءٍ فأخرجته. فانطلقنا بها إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فقال عمر: يا رسول اللّه، قد خان اللّه ورسوله والمؤمنين، فدعني فلأضرب عنقه. فقال: "ما حملك على ما صنعت؟ ". قال: واللّه ما بي إلّا أن أكون مؤمنًا باللّه ورسوله، أردت أن تكون لي عند القوم يدٌ يدفع اللّه بها عن أهلي ومالي، وليس أحدٌ من أصحابك إلّا له هنالك من عشيرته من يدفع اللّه به عن أهله وماله. فقال: "صدق، لا تقولوا له إلّا خيرًا". فقال عمر: إنّه قد خان اللّه ورسوله والمؤمنين، فدعني فلأضرب عنقه. فقال: "أليس من أهل بدرٍ؟ " فقال: "لعلّ اللّه قد اطّلع إلى أهل بدرٍ فقال: اعملوا ما شئتم فقد وجبت لكم الجنة -أو: قد غفرت لكم". فدمعت عينا عمر، وقال: اللّه ورسوله أعلم.
هذا لفظ البخاريّ في "المغازي" في غزوة بدرٍ، وقد روي من وجهٍ آخر عن عليٍّ قال ابن أبي حاتمٍ:
حدّثنا عليّ بن الحسن الهسنجاني، حدّثنا عبيد بن يعيش، حدّثنا إسحاق بن سليمان الرّازيّ، عن أبي سنان -هو سعيد بن سنانٍ-عن عمرو بن مرة الجملي، عن أبي البختريّ الطّائيّ، عن الحارث، عن عليٍّ قال: لمّا أراد النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم أن يأتي مكّة، أسرّ إلى أناسٍ من أصحابه أنّه يريد مكّة، فيهم حاطب بن أبي بلتعة وأفشى في النّاس أنّه يريد خيبر. قال: فكتب حاطب بن أبي بلتعة إلى أهل مكّة أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يريدكم. فأخبر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: فبعثني رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وأبا مرثد، وليس منا رجل إلا وعند فرسٌ، فقال: "ائتوا روضة خاخٍ، فإنّكم ستلقون بها امرأةً معها كتابٌ، فخذوه منها". فانطلقنا حتّى رأيناها بالمكان الّذي ذكر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم. فقلنا لها: هات الكتاب. فقالت: ما معي كتابٌ. فوضعنا متاعها وفتّشناها فلم نجده في متاعها، فقال أبو مرثدٍ: لعلّه ألّا يكون معها. فقلت: ما كذب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ولا كذبنا. فقلنا لها: لتخرجنّه أو لنعرينّك. فقالت: أما تتّقون اللّه؟! ألستم مسلمين؟ فقلنا: لتخرجنّه أو لنعرينّك. قال عمرو بن مرّة: فأخرجته من حجزتها. وقال حبيب بن أبي ثابتٍ: أخرجته من قبلها. فأتينا به رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فإذا الكتاب من حاطب بن أبي بلتعة. فقام عمر فقال: يا رسول اللّه، خان اللّه ورسوله، فائذن لي فلأضرب عنقه. فقال رسول اللّه: "أليس قد شهد بدرًا؟ ". قالوا: بلى. وقال عمر: بلى، ولكنّه قد نكث وظاهر أعداءك عليك. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "فلعل الله اطلع إلى على أهل بدرٍ فقال: اعملوا ما شئتم، إنّي بما تعملون بصيرٌ". ففاضت عينا عمر وقال: اللّه ورسوله أعلم. فأرسل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إلى حاطبٍ فقال: "يا حاطب، ما حملك على ما صنعت؟ ". فقال: يا رسول اللّه، إنّي كنت امرأً ملصقًا في قريشٍ، وكان لي بها مالٌ وأهلٌ، ولم يكن من أصحابك أحدٌ إلّا وله بمكّة من يمنع أهله وماله، فكتبت إليهم بذلك وواللّه-يا رسول اللّه-إنّي لمؤمنٌ باللّه ورسوله. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "صدق حاطبٌ، فلا تقولوا لحاطبٍ إلّا خيرًا". قال حبيب بن أبي ثابتٍ: فأنزل اللّه: {يا أيّها الّذين آمنوا لا تتّخذوا عدوّي وعدوّكم أولياء تلقون إليهم بالمودّة} الآية.
وهكذا رواه ابن جريرٍ عن ابن حميدٍ عن مهران، عن أبي سنانٍ -سعيد بن سنانٍ-بإسناده مثله. وقد ذكر ذلك أصحاب المغازي والسّير، فقال محمّد بن إسحاق بن يسار في السّيرة.
حدّثني محمّد بن جعفر بن الزّبير، عن عروة بن الزّبير وغيره من علمائنا قال: لمّا أجمع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم المسير إلى مكّة، كتب حاطب بن أبي بلتعة كتابًا إلى قريشٍ يخبرهم بالّذي أجمع عليه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم من الأمر في السّير إليهم، ثمّ أعطاه امرأةً -زعم محمّد بن جعفرٍ أنّها من مزينة، وزعم غيره أنّها: سارة، مولاةٌ لبني عبد المطّلب-وجعل لها جعلا على أن تبلّغه قريشًا فجعلته في رأسها، ثمّ فتلت عليه قرونها، ثمّ خرجت به. وأتى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم الخبر من السّماء بما صنع حاطبٌ، فبعث عليّ بن أبي طالبٍ والزّبير بن العوّام فقال: "أدركا امرأةً قد كتب معها حاطبٌ بكتابٍ إلى قريشٍ، يحذّرهم ما قد أجمعنا له من أمرهم".
فخرجا حتّى أدركاها بالخليفة -خليفة بني أبي أحمد-فاستنزلاها بالخليفة، فالتمسا في رحلها فلم يجدا شيئًا، فقال لها عليّ بن أبي طالبٍ: إنّي أحلف باللّه ما كذب رسول اللّه وما كذبنا ولتخرجنّ لنا هذا الكتاب أو لنكشفنّك. فلمّا رأت الجدّ منه قالت: أعرض. فأعرض، فحلّت قرون رأسها، فاستخرجت الكتاب منها، فدفعته إليه. فأتى به رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فدعا رسول اللّه حاطبًا فقال: "يا حاطب ما حملك على هذا؟ ". فقال: يا رسول اللّه، أما واللّه إنّي لمؤمنٌ باللّه ورسوله ما غيّرت ولا بدّلت، ولكنّي كنت امرأً ليس لي في القوم من أهلٍ ولا عشيرةٍ، وكان لي بين أظهرهم ولد وأهلٌ فصانعتهم عليهم فقال عمر بن الخطّاب: يا رسول اللّه، دعني فلأضرب عنقه، فإنّ الرّجل قد نافق. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "وما يدريك يا عمر! لعلّ اللّه قد اطّلع إلى أصحاب بدرٍ يوم بدرٍ فقال: اعملوا ما شئتم، فقد غفرت لكم". فأنزل اللّه، عزّ وجلّ، في حاطبٍ: {يا أيّها الّذين آمنوا لا تتّخذوا عدوّي وعدوّكم أولياء تلقون إليهم بالمودّة} إلى قوله: {قد كانت لكم أسوةٌ حسنةٌ في إبراهيم والّذين معه إذ قالوا لقومهم إنّا برآء منكم وممّا تعبدون من دون اللّه كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدًا حتّى تؤمنوا باللّه وحده} [الممتحنة: 4] إلى آخر القصّة.
وروى معمر، عن الزّهريّ، عن عروة نحو ذلك. وهكذا ذكر مقاتل بن حيّان: أنّ هذه الآيات نزلت في حاطب بن أبي بلتعة: أنّه بعث سارة مولاة بني هاشمٍ، وأنّه أعطاها عشرة دراهم، وأنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بعث في أثرها عمر بن الخطّاب وعليّ بن أبي طالبٍ، رضي اللّه عنهما، فأدركاها بالجحفة = وذكر تمام القصّة كنحو ما تقدّم. وعن السّدّيّ قريبًا منه. وهكذا قال العوفيّ، عن ابن عبّاسٍ، ومجاهدٍ وقتادة، وغير واحدٍ: أنّ هذه الآيات نزلت في حاطب بن أبي بلتعة).[تفسير القرآن العظيم: 8/82-85]
قالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ نَاصِرٍ السّعْدِيُّ (ت: 1376هـ) : (ذَكَرَ كثيرٌ مِن الْمُفَسِّرِينَ رَحِمَهم اللَّهُ أنَّ سَبَبَ نُزولِ هذهِ الآياتِ الكريماتِ في قِصَّةِ حاطِبِ بنِ أبي بَلْتَعَةَ، حينَ غَزَا النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ غَزاةَ الفتْحِ، فكتَبَ حاطِبٌ إلى المُشرِكِينَ مِن أهْلِ مَكَّةَ يُخْبِرُهُم بِمَسيرِ رسولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ إليهم؛ لِيَتَّخِذَ بذلك يَداً عندَهم، لا شَكًّا ونِفاقاً، وأرْسَلَه معَ امرأةٍ.
فأُخْبِرَ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ بشأنِه، فأَرْسَلَ إلى المرأةِ قبلَ وُصولِها وأخَذَ منها الكتابَ، وعاتَبَ حاطِباً؛ فاعتذَرَ بعُذْرٍ قَبِلَه النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ). [تيسير الكريم الرحمن: 855]
* للاستزادة ينظر: هنا