بسم الله الرحمن الرحيم
قال تعالى :﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّـهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّـهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا ﴿٣٦﴾﴾ الأحزاب
[*]عناصر الرسالة:
- هذه الآية قاعد من قواعد الدين.
-بيان سبب نزولها .
- إلغاء الفوارق بين أفراد المجتمع.
- حكم اتباع أمر النبي صلى الله عليه وسلم .
-اليقين بأن الخير هو ما اختاره الله ورسوله.
-التحذير من مخالفة أمر النبي.
-خطورة اتباع الهوى .
هذه الآية العظيمة تبرز إحدى دعائم العقيدة الإسلامية، هذه الدعامة تؤسس قاعدة أساسية تعتبر منهج حياة للمسلمين ، خلاصتها في أنه ليس لهم من أنفسهم ولا من أمرهم شيء ،لأنهم وما يملكون ملكا لربهم ، يصرفهم كيف يشاء، ويختار لهم ما يريد ؛ لما فيه صالحهم ،وإنَّ استقرار هذه القاعدة في نفوس المسلمين واستسلامهم لها تجعل من مجتمعهم مجتمع متماسك ؛لا تحكمه الأهواء .
قيل في سبب نزول هذه الآية :ما ذكره السيوطي مما أخرجه الطبراني بسند صحيح عن قتادة قال :"رُويَ أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم خطب زينب وهو يريدها لزيد فظنت أنه يريدها لنفسه، فلما علمت أنه يريدها لزيد أبت، فأنزل الله: {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة..} الآية، فرضيت وسلمت ؛ وقيل أنها نزلت كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، وكانت أول امرأة هاجرت من النساء فوهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم، فزوجها زيد بن حارثة فسخطت هي وأخوها قالا: إنما أردنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فزوجنا عبده فنزلت، وهذا أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن زيد.
وروى ابن كثير في التفسير كذلك رواية أخرى قال:وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم:نزلت في أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط - رضي الله عنها - وكانت أول من هاجر من النساء - يعني بعد صلح الحديبية - فوهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم فقال:" قد قبلت " . فزوجها زيد بن حارثة - رضي الله عنه - فسخطت هي وأخوها , وقال:إنما أردنا رسول الله عليه الصلاة والسلام ،فزوجنا عبده ! قال:فنزل القرآن: (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا)إلى آخر الآية . قال:وجاء أمر أجمع من هذا: (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم) قال:فذاك خاص وهذا أجمع .
وفي رواية ثالثة:قال الإمام أحمد:حدثنا عبد الرزاق , أخبرنا معمر , عن ثابت البناني , عن أنس - رضي الله عنه - قال:خطب النبي صلى الله عليه وسلم، على جليبيب امرأة من الأنصار إلى أبيها . فقال:حتى أستأمر أمها . فقال النبي عليه الصلاة والسلام:" فنعم إذن " . قال:فانطلق الرجل إلى امرأته , فذكر ذلك لها , فقالت:لاها الله ! إذن ما وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا جليبيبا , وقد منعناها من فلان وفلان ؟ قال:والجارية في سترها تسمع . قال:فانطلق الرجل يريد أن يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك . فقالت الجارية:أتريدون أن تردوا على رسول الله أمره ؟ إن كان قد رضيه لكم فأنكحوه . قال:فكأنها جلت عن أبويها . وقالا:صدقت . فذهب أبوها إلى رسول الله فقال:إن كنت قد رضيته فقد رضيناه . قال صلى الله عليه وسلم :" فإني قد رضيته " . قال:فزوجها . . ثم فزع أهل المدينة , فركب جليبيب , فوجدوه قد قتل , وحوله ناس من المشركين قد قتلهم . قال أنس - رضي الله عنه - فلقد رأيتها وإنها لمن أنفق بيت بالمدينة . .
والأشهر من هذه الروايات ؛ ما قيل أنها نزلت في زينب بنت جحش ، والحكمة من ذلك هو إعادة ترتيب المجتمع الإسلامي وفق نظام يٌبطل فيه ما كان من الموروثات السابقة من الفوارق والطبقات بين المسلمين ،إذ كان الناس حينها يندرجون وفق طبقاتهم فيتزوج السادات من السادات والعبيد والرقاق بعضهم من بعض ؛ فجاء الإسلام ليؤسس قاعدة جديدة وهي أنَّ الناس سواسية ،لا فرق بينهم .
لمَّا أثنى الله تعالى على أهل الخصال الإيمانية التي تدل على محبتهم له وتعظيمه وطاعته في الآية السابقة ، بقوله تعالى:إِ"نَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا "، وسوى بين ذكرهم وأنثاهم في ثوابه لهم ،أعقبه ببيان حكم طاعة نبيه صلى الله عليه وسلم ، وأنها واجبة كطاعته ، وأن معصية النبي صلى الله عليه وسلم بمنزلة معصية الله ، وهذه قاعدة عظيمة ينبغي لجميع المسلمين إدراكها ولا يفصلوا بين أمر الله وأمر الرسول .
وقد أرشد الله عباده في مواطن كثيرة في محكم كتابه أن طاعة نبيه مقترنة بطاعته ، فقال جل وعلا :{ياأيُّها الَّذين آمَنُوا أطيعوا الله وأطيعوا الرَّسولَ وأُولي الأمرِ منكُم فإن تنازعتُم في شيءٍ فرُدُّوه إلى الله والرَّسولِ إن كنتم تؤمنونَ بالله واليومِ الآخِرِ ذلك خيرٌ وأحسنُ تأويلاً(59)} النساء، وقال أيضا : {وما أرسَلنا من رسولٍ إلاَّ ليُطاعَ بإِذنِ الله ولو أنَّهُم إذ ظلموا أنفُسَهُم جاءُوكَ فاستغفَروا الله واستغفرَ لهم الرَّسولُ لَوَجدوا الله توَّاباً رحيماً(64) فلا ورَبِّكَ لا يؤمِنونَ حتَّى يُحكِّموكَ فيما شَجَرَ بينهم ثمَّ لا يَجدوا في أنفُسهِم حرَجاً ممَّا قضَيتَ ويُسلِّموا تَسليماً(65)} ، وقال أيضاً: {ومن يُطع الله والرَّسولَ فأولَئِكَ معَ الَّذين أنعَمَ الله عليهِم من النَّبيِّينَ والصِّدِّيقينَ والشُّهداءِ والصَّالِحينَ وحَسُنَ أُولئِكَ رفيقاً(69) ذلك الفضلُ من الله وكفى بالله عليماً(70)، وقال أيضاً: {من يُطعِ الرَّسولَ فقد أطاعَ الله ومن تَولَّى فما أرسلناكَ علَيهِم حفيظاً(80)} ، وفي سورة الأنفال :{وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيْحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَابِرِين (46)}
قال تعالى : وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّـهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّـهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا ﴿٣٦﴾
بدأت الآية الكريمة بقوله تعالى " وما كان "؛ ذكر ابن عاشور دلالة الواو هنا هي واو العاطفة ،فد عطفت على آية نزلت قبلها لم يتوقف عليها ولا على السورة التي تتضمنها ؛وهي من باب عطف جملة على أخرى .، وقيل أنها استئنافية .
"وما كان " تفيد معنى ما ينبغي أما دلالة "ما كان " فهي أقوى في دلالة نفي الحكم من غيرها ؛لأن معنى "كان" يقتضي الوجود ؛ونفيه يقتضي نفي الوجود برمته، ومعناه المنع والحظر من الشيء والإخبار بأنه لا يحل لأحد يؤمن بالله أن يتقدم بين يدي الله ورسوله، فعليه أن يسرع لأمر الله ورسوله ممتثلا لحكمهما ،ابتغاء مرضات ربه واجتنابه غضبه.
في قوله تعالى:"لمؤمن ولا مؤمنة" : نكرة في سياق النفي فتعم كل من يؤمن بالله تعالى ،ودخل في لباس الإيمان ؛ وقد ذكر البغوي أن المراد بالمؤمن هو :عبدالله بن جحش ؛والمؤمنة :هي أخته زينب ، ومن المعلوم في القواعد التفسيرية أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
لكن لِمَ اختصت هذه الآية بالخطاب بلفظة الإيمان دون الإسلام بقوله تعالى :" لمؤمن ولا مؤمنة " ؟ لأن الإيمان يزيد وينقص وتتأثر تبعا له الموافقة لأمر الله ، ولكن من مقتضى الإيمان أن لا يخالف أمر الله وأمر نبيه.
أما في قوله تعالى :"إذا قضى الله ورسوله أمرا":
القضاء : أي الحكم ،فمجرد دخول العبد في الإسلام يذعن ويخضع لحكم الله، فأين الناس اليوم من حظوظ النفس وقد غلبت أهواءهم ما قضاه الله ورسوله، أما قوله "أَمْراً": فهي نكرة للتقليل، لتفيد أي أمر وإن صغر، فبذلك أوجبت الآية الطاعة في كل الأمور والانقياد والتسليم ، قال تعالى: {إنَّما كان قولَ المؤمنينَ إذا دُعُوا إلى الله ورسولِهِ لِيَحْكُمَ بينهم أن يقولوا سَمِعنا وأطَعنا وأولئِكَ هم المفلِحونَ }
وقوله تعالى "أن يكون لهم الخيرة من أمرهم "
الخيرة: مصدر من تخيّر، كالطّيرة مصدر من تطيّر. وقوله: مِنْ أَمْرِهِمْ متعلق بها، أو بمحذوف وقع حالا منها.
وقرأ الكوفيون : أن يكون بالياء (يكون)، وهو اختيار أبي عبيد ، والسبب قد فرق بين المؤنث وبين فعله .
أما الباقون فقرؤوها بالتاء ؛ لأن اللفظ مؤنث فتأنيث فعله حسن .
وقرأ ابن السميقع " الخيرة " بإسكان الياء .
أما الضمائر فقد وردت هنا بصيغة الجمع لبيان أن السياق يعم كل مؤمن وكل مؤمنة.
ولفظ " من أمرهم ":دلالة على أن المؤمن ليس له اختيار في طاعة الله ورسوله، وعليه الخضوع بين يدي ربه الذي يصرف له أموره ويدبر له شؤونه، فالله القيوم قائم على أمره كله ، وفي تفاصيل حياته كلها صغيرها وكبيرها .
لكن الله عز شأنه لم يترك العقل دون أن يكون له حيزا يعمل به ،فكثير من أمور الدنيا تركه دون تقييد بشرع معين لما فيه مصالح لهم ،كما قال صلى الله عليه وسلم للذين وجدهم يأبِرون نخلهم : «لو تركتموها لصلحت ثم قالوا تركناها فلم تصلح فقال : أنتم أعلم بأمور دنياكم» ، وأيضا موقف أخر يدل عليه ،ما كان من أمرِه صلى الله عليه وسلم يوم بدر ، بالنزول بأدنى ماء من بدر فقال له الحباب بن المنذر : أهذا منزل أنزلكَه الله ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه ، أم هو الرأي والحرْب والمكيدة؟ قال : «بل هو الرأي والحرب والمكيدة» . قال : فإنَّ هذا ليس بمنزل فانهض بالناس حتى نأتي أدنى ماءٍ من القوم فننزِلَه ثم نُغَوِّرَ ما وراءه من القُلُب ثم نبني عليه حوضاً فنملأه ماء فنشرب ولا يشربوا . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لقد أشرت بالرأي " فنهض بالناس ،
إنَّ اليقين بأنَّ الخير فيما اختاره الله لعبده له الأثر الكبير على النفس ، مما يجعل العبد في طمأنينة وراحة أنَّ أمره كله خير ، فتراه في أمور حياته كلها راضيا بأمر الله وراضيا بقدر الله ،وكلما توطدت علاقة العبد بربه ،فعرف أسماءه وصفاته ،وأنه لا يصدر عنه إلا الحكمة ازداد رضى عن أفعاله عزوجل ،وهذه المرتبة من أعلى المراتب التعبدية وهي الرضى، نسالك اللهم أن نكون من أهلها.
ثم قال تعالى : "ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا"
وهنا جاء الحكم على كل من يأبى طاعة النبي صلى الله عليه وسلم ، تناسبا مع مقام تعظيم طاعة النبي صلى الله عليه وسلم في بداية الآية ،فكان الحكم عليه بالضلال في حياته الدنيا والآخره جزاء استكباره على طاعة نبيه ، وكما تقرر أنه كلما كانت المعصية أكبر أو أكثر كان الضلال أبين وأوضح ، لأنه وصف يزيد بزيادته وينقص بنقصانه.
ولكن قد يسأل سائل كيف تكون طاعة النبي بعد وفاته ؟:فالجواب يكون باتباع سنته وترك ما نها عنه، فبهذا يحقق نشر سنة نبيه ولا يفرق بين ما قال الله وقال رسوله .
فأخي المسلم أختي المسلمة :
قِس نفسك اليوم ،على أيِّ الموازيين تسيِّر حياتك ،ميزان هوى النفس أم ميزان الشرع ؟
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
"صاحب الهوى يعميه الهوى ويصمه؛ فلا يستحضر مالله ورسوله في الأمر ،ولا يطلبه أصلا ولا يرضى لرضا الله ورسوله ،ولا يغضب لغضب الله ورسوله ،بل يرضى إذا حصل ما يرضاه هواه ،ويغضب إذا حصل ما يغضب له بهواه ، فليس قصده أن يكون الدين كله لله وان تكون كلمة الله هي العليا، بل قصده الحمية لنفسه وطائفته أو الرياء ،ليعظم هو ويثنى عليه أو لغرض من الدنيا ، فلم يكن لله غضبه ولم يكن مجاهدا في سبيل الله ،بل إن أصحاب الهوى يغضبون على من خالفهم وإن كان مجتهدا معذورا ،لا يغضب الله عليه ويرضون عمن يوافقهم وإن كان جاهلا سيء القصد ،ليس له علم ولا حسن قصد ، فيفضي هذا إلى أن يحمدوا من لم يحمده الله ورسوله ، ويذموا من لم يذمه الله ورسوله ، وتصير موالاتهم ومعادتهم على أهواء أنفسهم لا على دين الله ورسوله ."
فخذ من آثار اتباع الهوى : تفريق واختلاف ،نزاع وشقاق ، كبر وعجب ، ظلم للنفس والناس ،جلب للهموم والضيق والأحزان ...
وما أردى الأمة اليوم إلا اتباع الهوى ..
المراجع:
-جمهرة العلوم /تفسير سورة الأحزاب .
-تفسير الطبري.
-تفسير البغوي.
-تفسير ابن كثير.
-تفسير ابن عثيمين.
- تفسير ابن عاشور.
-معاني القرآن للزجاج .
والحمدلله رب العالمين