فإِمَّا تَرَيْنِي كابنةِ الرمْلِ ضَاحِيًا = على رِقَّةٍ أَحْفَى ولا أَتَنَعَّلُ
ابنةُ الرَّمْلِ قيلَ: هي الحيَّةُ. وقيلَ: هي الوَحشيَّةُ، و"ضاحيًا" بَارزاً، ومنه قولُه عليه السلامُ: ((اضْحَ لِمَنْ أَحْرَمْتَ لَهُ)) تقولُ: ضَحِيتُ للشمسِ ضَحَاءً ممدودٌ، إذا بَرَزَتْ، وضَحَيَتُ بفتْحِ الحاءِ مثلُه، و"على رِقَّةٍ" يَعني: رقَّةِ حالٍ.
إمَّا: إن الشرطيَّةُ زِيدَتْ عليها ما، ولا تَمنَعُ عمَلَها، كما لم تَمنعْه لا، لأنها إنما جاءتْ للتوكيدِ، وتَرَيْنِي مِن رُؤيةِ العينِ، وهو مَجزومٌ بإنْ الشرطيَّةِ، وقد جاءَ مِثلُ هذا في الكتابِ العزيزِ كثيرٌ، بنونٍ مشَدَّدَةٍ للتأكيدِ، فتكونُ النونُ كذلك، ولم نَرَهُ في القرآنِ إلا على ذلك، ومنه قولُه سُبحانَه: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى}. {فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا} والنونُ في "تَرَيِنِّي" نونُ الوِقايةِ وليستْ نونَ الضميرِ.
وحُذِفَتْ النونُ بالجازِمِ، وكابنةِ الرمْلِ حالٌ مِن المفعولِ في "تَرَيْنِي"، وهي الياءُ, أيْ: تَرَيْنِي مُشْبِهاً ابنةَ الرمْلِ، و"ضاحياً" حالٌ أيضاً مِن الياءِ في "تَرَيْنِي"، وعلى رِقَّةِ حالٍ أيضاً مِن الضميرِ في "ضَاحِياً" ويَجوزُ أنْ يكونَ حالاً مِن الضميرِ في "أَحْفَى"، ولا أَتَنَعَّلُ تَوكيدُ قولِه: أَحْفَى، إذ مِن المعلومِ أنَّ مَن كان حافِياً كان غيرَ مُتَنَعِّلٍ.
فإِنِّي لَمَوْلَى الصبرِ أَجتابُ بَزَّهُ = على مِثلِ قلبِ السِّمْعِ والحزْمَ أَنْعَلُ
مولى الصبرِ: وَلِيُّه، يُريدُ أنا القائمُ به, وكلُّ مَن قامَ بأمْرِ أحدٍ أو وَلِيَه فهو وَلِيُّه، والصبرُ حَبْسُ النفْسِ عن الْجَزَعِ، وقد صَبَرَ فلانٌ عندَ المصيبةِ، وصَبَرْتُه حَبَسْتُه، وفي حديثٍ عن النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في رجُلٍ أمْسَكَ رَجلاً وقَتَلَه آخَرُ: ((اقْتُلُوا الْقَاتِلَ وَاصْبِرُوا الصَّابِرَ)) أيْ احْبِسُوا الذي حبَسَه للموتِ حتى يَموتَ، وأَجتابُ: أَلْبَسُ, والْبَزُّ مِن الثيابِ أَمْتِعَةُ البَزَّازِ، يُريدُ أَنِّي وَلِيُّه ألْبَسُ ثَوبَه، والسِّمْعُ سَبُعٌ مرَكَّبٌ، وهو ولَدُ الذئبِ مِن الضَّبُعِ، وفي الْمَثَلِ: (أَسْمَعُ مِن سِمْعٍ) قالَ الشاعرُ:
تَراهُ حديدَ الطرْفِ أَبلَجَ وَاضِحاً = أَغَرَّ طويلَ الباعِ أَسْمَعَ مِن سِمْعِ
والحزْمُ ضَبْطُ الرجُلِ أمْرَه وأَخْذُه بالثقةِ، وقد حَزُمَ الرجلُ بالضمِّ حَزامةً فهو حازِمٌ.
والمعنى أَنِّي القائمُ بالصبرِ، أتَصَرَّفُ فيه كما أُريدُ وأَحْتَذِي الحزْمَ، فإني مَلِكُ هذه الأشياءِ وقاهِرٌ لها.
والفاءُ جوابُ الشرْطِ، وهو "إمَّا" في البيتِ قَبْلَه، ولَمَوْلَى خَبَرُ "إنَّ" وأَجتابُ, يَجوزُ أنْ يكونَ في مَوْضِعِ رفْعِ خبرٍ ثانٍ لـ "إني"، والأجوَدُ أنْ يكونَ حالاً مِن الضميرِ في "مَوْلَى"، و"على مِثلِ" حالٌ، وصاحبُه الضميرُ في "أَجتابُ"، والحزْمُ مفعولُ "أَنْعَلُ".
وأُعْدِمُ أحياناً وأَغْنَى وإنما = يَنالُ الغِنَى ذُو البُعدةِ الْمُتَبَذِّلُ
العَدَمُ بفتْحِ العينِ والدالِ الفقْرُ، وكذلك هو بضَمِّ العَيْنِ وسكونِ الدالِ، و"أُعْدِمُ" أَفْتَقِرُ، و"أَحياناً" جَمْعُ حِينٍ، والْحِينُ يُطلَقُ على الوقْتِ, قالَ خُوَيْلِدٌ:
كَابِي الرَّمادِ عظيمُ القَدْرِ جَفَنْتُهُ حينَ الشتاءِ كحَوضِ الْمَنْهَلِ اللَّقِفِ
والحينُ أيضاً الْمُدَّةُ، ومنه قولُه تعالى: {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَذْكُوراً} والبُعدةُ ـ بضَمِّ الباءِ وكَسْرِها ـ اسمٌ للبُعدِ، كما يقالُ: بَيْنَنَا بُعدةٌ مِن الأرضِ، والقَرابةِ قالَ الأَعْشَى:
فلا تَنْأَ مِن ذِي بُعدةٍ أنْ تَقَرَّبَا
والمتبَذِّلُ الذي لا يَصونُ نفْسَه
أُعْدِمُ ماضِيهِ: أَعْدَمَ، و"أُعْدِمُ" فعلٌ لازمٌ أيْ: أَصيرُ ذا عَدَمٍ، كما يُقالُ: أَجْرَبَ الرجُلُ، إذا صارَ ذا جَرَبٍ، وعَدِمَ مُتَعَدٍّ، وهذا عكْسُ القاعدةِ، وهو أنْ يكونَ "فَعَلَ" مُتَعَدِّياً و"أَفْعَلُ"، لازماً، و"أَحياناً" ظرْفٌ، والعامِلُ فيه "أُعْدِمُ".
فلا جَزِعٌ مِن خَلَّةٍ مُتَكَشِّفٌ = ولا مَرِحٌ تحتَ الغِنَى أَتَخَيَّلُ
الْجَزَعُ نَقيضُ الصبْرِ، وقد جَزِعَ مِن الشيءِ, بكسْرِ الزايِ، والْخَلَّةُ الحاجةُ والفَقْرُ، والمتكشِّفُ الذي يُظْهِرُ فقْرَه وحاجتَه للناسِ.
والْمَرَحُ شِدَّةُ الفرَحِ والنشاطِ، وقد مَرِحَ بالكسْرِ فهو مَرِحٌ، والتخيُّلُ التكَبُّرُ.
والمعنَى: لا أَجزَعُ عندَ حاجَتِي ولا أَتَكَبَّرُ عندَ غِنَائِي.
"جَزِعٌ" خبرُ مُبتدأٍ محذوفٍ، التقديرُ: فلا أَنَا جَزِعٌ، و"مِن خَلَّةٍ" يَتعلَّقُ بـ "جَزِعٌ" أيْ: فلا أَجْزَعُ مِن خَلَّةٍ، ومتَكَشِّفٌ مِثلُ "جَزِعٌ"، وكذلك مَرِحٌ، و"تحتَ" ظرْفٌ لِـ "مَرِحٌ"، وإنْ شئتَ كانَ ظَرْفاً لـ "أَتَخَيَّلُ".
ولا تَزْدَهِي الأَجْهَالُ حِلْمِي ولا أُرَى = سَؤولاً بأَعقابِ الأقاويلِ أَنْمُلُ
تَزدهِي تَستخِفُّ، والأجهالُ واحدُها جَهِلٌ، وجَمْعُ فَعِلٍ على أفعالٍ قَليلٌ لا يَكادُ يُستعمَلُ، والقياسُ أَجْهُلٌ وجُهولٌ، والنَّمْلَةُ النَّمِيمَةُ، ورَجُلٌ نَمِلٌ نَمَّامٌ، وأَنْمُلُ أيْ: أَنُمُّ، قالَ الكُمَيْتُ:
ولا أُزْعِجُ الكَلِمَ الْمُحْفِظَا تِ للأقربينَ ولا أَنْمُلُ
و"لا تَزدهِي" جُملةٌ مَعطوفةٌ على الْجُمَلِ المتقدِّمَةِ، وحِلْمِي مَفعولٌ مضافٌ إلى ياءِ المتكلِّمِ، فيكونُ مَبْنِيًّا, وعِلَّةُ بِنائِه أنه صارَ تابِعاً للياءِ، إذ لا يكونُ ما قبلَها إلا مَكسوراً، فإذِنَ صارَ تابعاً في البناءِ، وقيلَ: بُنِيَ لأنه خالَفَ نظائرَه مِن المضافاتِ؛ لأن شيئاً منها لا يَتْبَعُ غيرَه، وسَؤولاً حالٌ، والرؤيةُ مِن رَؤيةِ العينِ، والقائمُ مَقامَ الفاعلِ لـ "أُرَى" الضميرُ فيه, تقديرُه: أنا، وهو المفعولُ، و"بأعقابِ الأقاويلِ" يَتعلَّقُ بـ "أَنْمُلُ"، و"أَنْمُلُ" صفةٌ لـ "سَؤولاً"، ويَجوزُ أنْ يكونَ "أَنْمُلُ" حالاً مِن الضميرِ في "سَؤولاً", وهي حالٌ مُقَدَّرَةٌ.