الشيخ: الحمد لله رب العالمين, وصلى الله وسلم على نبينا محمد, وعلى آله وصحبه أجمعين, وبعد.
نبدأ بشرح اختصار علوم الحديث للحافظ ابن كثير رحمه الله,الذي اختصر فيه كتاب علوم الحديث المعروف بمقدمة ابن الصلاح.
وابن الصلاح هذا هو أحد علماء الحديث,كانت
ولادته في سنة سبع وسبعين وخمسمائة.
ونشأ في بيئة صالحة معروفة بالعلم,وتفقه على أبيه,وبرع في علم الحديث وفي علوم أخرى.
فلم يقصر نفسه على علم الحديث فقط,وأخذ عن بعض العلماء المشاهير؛كأبي المظفر السمعاني, وابن قدامة صاحب (المغني) وغيرهم من العلماء.
وكان محل ثناء من قبل العلماء قاطبة,يصفونه بالصلاح والزهد والعبادة, ووصفه ابن كثير بأنه كان على طريقة السلف التي هي طريقة بعض المحدثين في زمانه, ويؤكد ذلك الذهبي رحمه الله,فيصفه بأنه كان سلفيا حسن المعتقد, ولا ريب؛ فإن علم الحديث يدل صاحبه على الطريق الصحيح الذي فيه تعظيم نصوص الشرع, والوقوف معها حيث وقفت,وعدم الخوض في علم الكلام.
توفي رحمه الله في سنة ثلاث وأربعين وستمائة,
وترك عدة مؤلفات نافعة وجيدة,من جملتها شرح لصحيح مسلم, لكن الذي يظهر أنه لم يتمه, ومن جملة ذلك أيضا كتاب آخر في طبقات الشافعية,وكتب أخرى, من أهمها هذا الكتاب الذي هو (علوم الحديث) الذي صنفه رحمه الله, واتكأ عليه كل من جاء بعده من العلماء, ما بين مختصر وناظم ومعلق ومحشي وشارح لذلك الاختصار, وشارح لذلك النظم, وهلم جرا.
فهو أول من قعد علوم الحديث بهذه الصفة؛ لأنه جاء وعلوم الحديث شتات في كتب الخطيب البغدادي, وفي كتب غيره, ولكن من أهمها كتب الخطيب البغدادي, فجمع شتات تلك الكتب, ووضعه على صفة أنواع سنرى إن شاء الله ونسمع في كلام الحافظ ابن كثير تعداده لهذا العلوم, وهذه الأنواع, التي ذكرها ابن الصلاح, وما لابن كثير عليه من ملاحظات, وهي ملاحظات كما يسمى فنية في تقسيم بعض الأنواع إلى أقسام, وكان الأولى أن يضم بعضها إلى بعض أو العكس, وهكذا.
أما ابن كثير فهو الإمام المشهور, المفسر المحدث المؤرخ البارع,كنيته أبو الفداء, ويلقب بعماد الدين.
وهو: إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي, ولد رحمه الله كما يخبر هو من نفسه في سنة إحدى وسبعمائة, وتوفي في سنة أربع وسبعين وسبعمائة.
وطلب العلم على أيدي خلق كثير, من أهمهم وممن تأثر بهم شيخ الإسلام ابن تيمية المتوفى في سنة ثمان وعشرين وسبعمائة, والحافظ جمال الدين يوسف بن زكي المزي المتوفى سنة اثنتين وأربعين وسبعمائة,صاحب كتاب (تهذيب الكمال) و (تحفة الأشراف), ومن جملتهم الحافظ الذهبي المتوفى في سنة ثمان وأربعين وسبعمائة,هؤلاء من أهم شيوخه,وغيرهم كثير.
ومن جملة من تتلمذ عليه والده.
فوالده رحمه الله كان من أهل العلم,وكان رجلا صالحا, وكان خطيبا في بلدته,بل وخطيبا مفوها مؤثرا يجتمع الناس عليه, وكان لخطبه تأثير بالغ, أحبه الناس لأجلها, ووالده من تلاميذ النووي.
وكان بيته بيت علم, وأسرته أسرة صالحة, فوالدته كانت حافظة لكتاب الله, ووالده سوى حفظ كتاب الله -كما قلت- أيضا هو من أهل العلم, وممن تتلمذ عليه ابن كثير,ثم إنه تزوج بابنة شيخه جمال الدين المزي, وكانت حافظة لكتاب الله أيضا هذه الزوجة, وحفظت القرآن على والدتها, فوالدتها كانت أيضا من الحافظات لكتاب الله, فهكذا يكون تأثير هذه البيوت على هذا النشأ, وله من زوجته أربعة أولاد,من جملتهم عمر, وكان من أشهر أولاده, ومن الذين لهم نصيب أيضا في العلم, لكن شهرته كشهرة والده.
القارئ : الحمد لله رب العالمين, وصلى الله على أشرف الأنبياء والمرسلين,نبينا محمد بن عبد الله, صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين, أما بعد..,
قال المصنف رحمه الله تبارك وتعالى:
الحمد لله, وسلام على عباده الذين اصطفى,أما بعد..,
فإن علم الحديث النبوي, على قائله أفضل الصلاة والسلام,قد اعتنى بالكلام فيه جماعة من الحفاظ قديما وحديثا,كالحاكم والخطيب,ومن قبلهما من الأئمة ومن بعدهما من حفاظ الأمة,ولما كان من أهم العلوم وأنفعها, أحببت أن أعلق فيه مختصرا نافعا جامعا لمقاصد الفوائد, ومانعا من مشكلات المسائل الفرائض.
قال: ولما كان الكتاب الذي اعتنى بتهذيبه الشيخ الإمام العلامة أبو عمرو بن الصلاح,تغمده الله برحمته, من مشاهير المصنفات في ذلك بين الطلبة لهذا الشأن, وربما عني بحفظه بعض المهرة من الشبان,سلكت وراءه,واحتذيت حذاءه, واختصرت ما بسطه, ونظمت ما فرطه.
وقد ذكر من أنواع الحديث خمسة وستين, وتبع في ذلك الحاكم أبا عبد الله الحافظ النيسابوري, شيخ المحدثين, وأنا بعون الله أذكر جميع ذلك مع ما أضيف إليه من الفوائد الملتقطة من كتاب الحافظ الكبير أبي بكر البيهقي, المسمى بـ (المدخل إلى كتاب السنن) وقد اختصرته أيضا بنحو من هذا النمط,من غير وكس ولا شطط.والله المستعان,وعليه التكلان.
قال : ذكر تعداد أنواع الحديث:
صحيح, حسن, ضعيف, مسند, متصل, مرفوع, موقوف. مقطوع .مرسل. منقطع. معضل. مدلس. شاذ. منكر. ماله شاهد. زيادة الثقة. الأفراد.المعلل. المضطرب. المدرج. الموضوع. المقلوب.
معرفة من تقبل روايته, معرفة كيفية سماع الحديث وإسماعه, وأنواع التحمل من إجازة وغيرها,معرفة كتابة الحديث وضبطه, وكيفية رواية الحديث وشرط أدائه,آداب المحدث. آداب الطالب.
معرفة العالي والنازل. المشهور. الغريب. العزيز. غريب الحديث ولغته. المسلسل. ناسخ الحديث ومنسوخه. المصحف إسنادا ومتنا. مختلف الحديث. المزيد في الأسانيد. الخفي المرسل. معرفة الصحابة. معرفة التابعين. معرفة أكابر الرواة عن الأصاغر.
المدبج ورواية الأقران. معرفة الإخوة والأخوات, رواية الأبناء عن الآباء, عكسه, من روى عنه اثنان متقدم ومتأخر، من لم يرو عنه إلا واحد. من له أسماء ونعوت متعددة, المفردات من الأسماء. معرفة الأسماء والكنى. من عرف باسمه دون كنيته. معرفة الألقاب. المؤتلف والمختلف. المتفق والمختلف. نوع مركب من اللذين قبله.نوع آخر من ذلك.
من نسب إلى غير أبيه. معرفة الأنساب التي يختلف ظاهرها وباطنها, معرفة المبهمات. تواريخ الوفيات.
معرفة الثقات والضعفاء. من خلط في آخر عمره. معرفة الطبقات. معرفة الموالي من العلماء والرواة. معرفة بلدهم وأوطانهم.
قال: فهذا تنويع الشيخ أبو عمرو وتركيبه رحمه الله.
قال : وليس بآخر الممكن في ذلك؛فإنه قابل للتنويع إلى مالا يحصى؛ إذ لا تنحصر أحوال الرواة وصفاتهم وأحوال متون الحديث وصفاتها.
قال : قلت : وفي هذا كله نظر,بل في بسطه هذه الأنواع إلى هذا العدد نظر؛ إذ يمكن إدماج بعضها في بعض, وكان أليق مما ذكره.
قال : ثم إنه قد فرق بين متماثلات منها بعضها عن بعض, وكان اللائق ذكر كل نوع إلى جانب ما يناسبه.
قال : ونحن نرتب ما نذكره على ما هو الأنسب,وربما أدمجنا بعضها في بعض؛ طلبا للاختصار والمناسبة, وننبه على مناقشات لابد منها إن شاء الله تعالى.
الشيخ :الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله..,
كما رأيتم وسمعتم, أن الحافظ ابن كثير رحمه الله ذكر السبب الدافع له إلى هذا المختصر, وأنه أحب أن يؤلف كتابا مختصرا ينتفع منه طلاب العلم جميعا, فعمد إلى كتاب ابن الصلاح هذا الذي كان في الأصل ابن الصلاح ألفه حينما كان يدرس بالمدرسة الأشرفية, التي أنشأها الملك الأشرف دارا للحديث, جعل ابن الصلاح مدرسا فيها, فألف ابن الصلاح كتابه الذي عرف بالمقدمة.
وذكر ابن الصلاح هذه الأنواع التي عدها ابن كثير,وأشار ابن كثير رحمه الله إلى بعض الذين ألفوا قبل ابن الصلاح,وهذا يدعونا إلى الإشارة إلى من هو أول من ألف؟ وهل يعتبر هذا التأليف تأليفا مستقلا, أو جاء عرضا في ثنايا بعض المؤلفات الأخرى ؟
حقيقة الكلام في علم الحديث,كلام الأئمة فيه كان في السابق منثورا, إما على صفة أسئلة توجه لبعضهم, أو لمناسبات معينة,كأن يرد ذكر لبعض الأحاديث أو لغير ذلك من المناسبات التي تجعل الإمام يتكلم عن مسألة من المسائل,كالمرسل مثلا أو التدليس أو الشذوذ, أو غير ذلك من الأشياء.
ثم جاء الإمام الشافعي - رحمه الله - فألف كتابه (الرسالة), وكتاب (الرسالة) في الأصل هو في أصول الفقه, ولكنه تضمن بعض مباحث علوم الحديث, مثل كلامه - رحمه الله - عن الآحاد, ومثل كلامه عن زيادات الثقات, وعن الشذوذ,وعن المرسل, وغير ذلك من الأنواع التي هي من مباحث علم المصطلح.
ثم جاء بعد ذلك مسلم بن الحجاج, فألف كتابه الصحيح, وجعل له مقدمة طويلة, هذه المقدمة تعتبر مما كتب في مصطلح الحديث, فقد تضمنت عدة أمور,كلها يستشهد بها,ويتكأ عليها, ويعتمد من جاء بعد ذلك ممن ألف.
ثم جاء بعد ذلك أبو داود السجستاني, فلما ألف كتابه (السنن) كان وجه إليه سؤال من أهل مكة عن سننه, فكتب لهم رسالة عرفت بـ: رسالة أبي داود إلى أهل مكة في وصف سنته, هذه الرسالة تضمنت أيضا بعض مباحث علم المصطلح.
ثم جاء الترمذي أبو عيسى, فألف كتابه المشهور (الجامع) وفي آخر الجامع هذا كتب كتابا ألحق بالجامع, هو كتاب (العلل المفردة), وهذا الكتاب تضمن أيضا الكثير من مباحث علم المصطلح, شرحه الحافظ ابن رجب رحمه الله في (شرح علل الترمذي) شرحا بديعا, لا يصلح لطالب علم أن يكف عنه, بل ينبغي لطلبة العلم أن يقرؤوا هذا الشرح؛ ليروا ما فيه من درر الفوائد.
وهكذا توالى كلام العلماء في هذه المسائل,ككلام لابن خزيمة نجده مبثوثا في صحيحه, أو لابن حبان في مقدمة صحيحه,أو مقدمة المجروحين ومقدمة الثقات, نجد الكلام مبثوثا,يختلف قلة وكثرة.
إلى أن جاء القاضي عبد الرحمن بن خلاد, المعروف بالرامهرمزي, المتوفى في ستين وثلاثمائة. فألف كتابه المشهور (المحدث الفاصل بين الراوي والواعي) فيعتبر هذا المؤلف أول ما ألف في علم المصطلح.. تأليفا مستقلا أعني, وإلا فقد سبقه ما أشرت إليه كالشافعي ومسلم وغيرهما, ولكن كلامهما ذاك جاء منثورا في كتب لم يقصدوا تأليفها مفردة في مصطلح الحديث, لكن أول من أفرده بالتصنيف هو القاضي عبد الرحمن بن خلاد المعروف بالرامهرمزي.
ثم جاء بعده الحاكم أبو عبد الله فألف كتابه : (معرفة علوم الحديث) وعدد أنواعا من علوم الحديث في كتابه, وعليها اعتمد كثيرا ابن الصلاح في تعداده لهذه الأنواع, ولكن ينقصه أيضا أشياء كملها ابن الصلاح من كتب أخرى, لكن عمدة ابن الصلاح في الإسهاب في كثير مما ذكره هي كتاب للخطيب البغدادي الذي جاء بعد الحاكم, فألف عدة كتب, بل لا يكاد فن من فنون المصطلح إلا وتجد الخطيب البغدادي مصنفا فيه,ألف كتاب (الكفاية في علم الرواية), وألف كتاب (الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع), وألف كتاب (السابق واللاحق), وألف كتاب (الفقيه والمتفقه), وألف كتاب (الرحلة في طلب الحديث),وألف كتاب (شرف أصحاب الحديث)...
إلى غير ذلك من الكتب الكثيرة التي ألفها الخطيب البغدادي, وما أكثرها,كل كتاب يعتبر عبارة عن نوع أو أكثر من أنواع علوم الحديث.
الخطيب البغدادي متوفى في سنة ثلاث وستين وأربعمائة, أبو نعيم الأصبهاني متوفى في سنة ثلاثين وأربعمائة, فهو قبل الخطيب البغدادي,كان قد عمل مستخرجا على كتاب شيخه أبي عبد الله الحاكم (معرفة علوم الحديث) وقابل الخطيب البغدادي أيضا البيهقي, المتوفى في سنة ثمان وخمسين وأربعمائة, ألف الكتاب الذي أشار إليه ابن كثير, ألف كتاب (المدخل إلى السنن) يعني: سننه الكبرى, وهذا الكتاب فيه كثير من مباحث علم المصطلح, لكنه لم يقصد بالتأليف في مصطلح الحديث, وإنما أراد أن يقدم بين يدي سننه بهذه المقدمة التي سماها المدخل.
كذلك أيضا مقدمة كتابه (معرفة السنن والآثار) فيه مباحث جيدة ورائعة في فن مصطلح الحديث.
فكل هذه الكتب هي من الكتب التي استفاد منها ابن الصلاح في تأليفه لهذا الكتاب الذي اختصره ابن كثير, الخطيب البغدادي, عدة أناس كالقاضي عياض وكالميانجي وغيرهما. لكن هؤلاء تقريبا هم أشهر من اعتمد عليه ابن الصلاح لما جاء ابن الصلاح رحمه الله وألف هذه المقدمة,كما ذكرت هي التي أصبحت عمدة لمن جاء بعده, لا تكاد تجد أحدا ممن ألف في المصطلح بعد ابن الصلاح إلا وتجد له أدنى صلة بكتاب ابن الصلاح.
فالنووي مثلا اختصر المقدمة في كتابه (التقريب) جاء السيوطي فشرح التقريب هذا في كتابه (تدريب الراوي), ابن كثير اختصر المقدمة في كتابه هذا, العراقي نظم مقدمة ابن الصلاح في منظومته المعروفة بألفية العراقي, وشرحها في شرح طبع باسم (فتح المغيث), والظاهر أن هذه التسمية ليست من الحافظ العراقي نفسه,وعمل أيضا حاشية على مقدمة ابن الصلاح وهي المسماة (التقييد والإيضاح).
جاء بعد ذلك الحافظ ابن حجر فوجد أن شيخه العراقي قد انتقد وأحش على مقدمة ابن الصلاح, وانتقد عليه بعض الأشياء, فجاء ابن حجر فاستدرك بعض الأشياء على ابن الصلاح,واستدرك أشياء على شيخه العراقي, وذلك في كتابه (النكت على كتاب ابن الصلاح).
جاء بعد ذلك تلميذه السخاوي فشرح ألفية العراقي في كتابه (فتح المغيث في شرح ألفية الحديث), ثم كما ذكرت لكم جاء السيوطي فألف (تدريب الراوي) الذي شرح فيه تقريب النووي, ونظم أيضا مقدمة ابن الصلاح في ألفية, وهي المعروفة بألفية السيوطي, وشرحها أيضا نفس السيوطي بشرح, لكنه لم يكمله وإنما أكمله بعد ذلك الترمذي.
على كل حال المؤلفات في علم الحديث كثيرة, لكن كل من جاء بعد ابن الصلاح -كما قلت لكم- نجد أنه يتصل بكتاب ابن الصلاح, وهذا دليل على أهمية هذا الكتاب, وإلا لو لم يكن كذلك لما حظي بهذا الاهتمام من قبل هؤلاء العلماء.
تمت مراجعته وتهذيبه بواسطة ام العنان