5: أبو جعفر محمد بن جرير الطبري (ت: 310هـ)
الإمام الجليل، شيخ المفسرين، ولد سنة 224هـ، ببلدة آمل من إقليم طبرستان، ونشأ نشأة صالحة، وطوّف البلدان في طلب العلم، وتحصيل النُّسَخ، وتدوين العلم، ولقي جماعة من الشيوخ المسندين، الذين جمعوا فأكثروا من الكتب والنسخ وحفظوا كثيراً من الأحاديث والآثار، كأبي زرعة الرازي، وأبي كريب محمد بن العلاء الكوفي، ويعقوب بن إبراهيم الدورقي، وأبي سعيد الأشج، وأبي حفص الفلاس، ومحمد بن بشار، ومحمد بن المثنى، ومحمد بن حميد الرازي، وهنّاد بن السري، وأحمد بن عبدة الضبي، وأحمد بن منيع، ونصر بن عليّ الجهضمي، ويونس بن عبد الأعلى، والوليد بن شجاع، وغيرهم كثير.
وقرأ القرآن على سليمان بن عبد الرحمن الطلحي صاحب خلاد، وعباس بن الوليد بن مزيد البيروتي، ويونس بن عبد الأعلى، وغيرهم، وتبحّر في الحروف واختلافها، وقراءات قراء الأمصار، حتى صنّف فيها كتاباً، وكان قارئاً حسن القراءة.
- قال أبو علي الطُّوماري: كنت أحمل القنديل في شهر رمضان بين يدي أبي بكر بن مجاهد إلى المسجد لصلاة التراويح، فخرج ليلة من ليالي العشر الأواخر من داره، واجتاز على مسجده فلم يدخله وأنا معه، وسار حتى انتهى إلى آخر سوق العطش، فوقف بباب مسجد محمد بن جرير، ومحمد يقرأ سورة الرحمن، فاستمع قراءته طويلا ثم انصرف، فقلت له: يا أستاذ تركت الناس ينتظرونك وجئت تسمع قراءة هذا؟!!
فقال: (يا أبا علي! دع هذا عنك، ما ظننت أن الله تعالى خلق بشرا يحسن يقرأ هذه القراءة). رواه الخطيب البغدادي.
أخذ عنه القراءة جماعة من القراء منهم: أبو بكر ابن مجاهد صاحب كتاب السبعة في القراءات، ومحمد بن أحمد الداجوني، وعبد الواحد بن أبي هاشم، ومحمد بن محمد بن فيروز الكرجي، وغيرهم.
وبرع ابن جرير في فنون العلم، وحصل علماً غزيراً مباركاً، واجتمعت له كتب كثيرة جداً، وعرض عليه القضاء فأبى، وعرضت عليه الجوائز فأباها، وتفرّغ للتصنيف والإملاء والتعليم، وكتب كتباً كثيرة مباركة.
- قال الخطيب البغدادي: (استوطن الطبري بغداد، وأقام بها إلى حين وفاته، وكان أحد أئمة العلماء يحكم بقوله، ويرجع إلى رأيه لمعرفته وفضله.
وكان قد جمع من العلوم ما لم يشاركه فيه أحد من أهل عصره، وكان حافظا لكتاب الله، عارفا بالقراءات بصيرا بالمعاني، فقيها في أحكام القرآن، عالما بالسنن وطرقها صحيحها وسقيمها وناسخها ومنسوخها، عارفا بأقوال الصحابة والتابعين، ومن بعدهم من الخالفين في الأحكام، ومسائل الحلال والحرام، عارفا بأيام الناس وأخبارهم، وله الكتاب المشهور " في تارخ الأمم والملوك "، وكتاب في " التفسير " لم يصنف أحد مثله، وكتاب سماه " تهذيب الآثار " لم أر سواه في معناه إلا أنه لم يتمه، وله في أصول الفقه وفروعه كتب كثيرة، واختيار من أقاويل الفقهاء، وتفرد بمسائل حفظت عنه).
- وقال أيضاً: (سمعت علي بن عبيد الله بن عبد الغفار اللغوي المعروف بالسمسماني يحكي أنَّ محمد بن جرير مكث أربعين سنة يكتب في كل يوم منها أربعين ورقة).
طُبع من كتبه: تفسيره الكبير واسمه جامع البيان عن تأويل آي القرآن، والتبصير بمعالم الدين، وصريح السنة، وتهذيب الآثار، وتاريخ الرسل والملوك، واختلاف الفقهاء، وحديث الهميان.
وقد جمع في تفسيره روايات كثيرة جداً انتخبها من كتب ونسخ تفسيرية كثيرة حصّلها، وصنَّف ما انتخبه على الآيات، ثم على الأقوال، وحرَّر ونقد، واحتجّ ورجّح، وأجاد وأفاد.
- وقد روى الخطيب البغدادي وابن عساكر في تاريخيهما عن القاضي أبي عمرو السمسار وأبي القاسم الوراق أن أبا جعفر الطبري قال لأصحابه: أتنشطون لتفسير القرآن؟
قالوا: كم يكون قدره؟
فقال: ثلاثون ألف ورقة.
فقالوا: هذا مما تفنى الأعمار قبل تمامه
فاختصره في نحو ثلاثة آلاف ورقة.
وقد أملى تفسيره في سبع سنين من سنة 283هـ إلى سنة 290هـ.
- قال محمد بن عبد الله النيسابوري الحافظ: سمعت أبا بكر بن بالويه يقول: قال لي أبو بكر محمد بن إسحاق -يعني ابن خزيمة- بلغني أنك كتبت التفسير عن محمد بن جرير.
قلت: بلى، كتبت التفسير عنه إملاء.
قال: كله؟
قلت: نعم.
قال: في أي سنة؟
قلت: من سنة ثلاث وثمانين إلى سنة تسعين.
قال: فاستعاره مني أبو بكر فرده بعد سنين، ثم قال: (قد نظرت فيه من أوله إلى آخره، وما أعلم على أديم الأرض أعلم من محمد بن جرير، ولقد ظلمته الحنابلة). رواه الخطيب البغدادي.
ومن نظر إلى الأصول التي جمع منها ابن جرير الطبري تفسيره وصنّفه وهذّبه علِم أنه كان محقّاً حين قدّره بثلاثين ألف ورقة لأن بعض النسخ التفسيرية المشتهرة في زمانه عن بعض الأئمة لم يخرج منها إلا قليلاً.
له أشعار حسنة منها قوله:
إذا أعسرت لم يعلم رفيقـــــــــــي ... وأستغني فيستغني صديقــــــــــــي
حيائي حافظٌ لي ماء وجهـــــــي ... ورِفْقي في مطالبتي رفيقـــــــــــــــي
ولو أني سمحتُ ببذل وجهـــــي ... لكنت إلى الغنى سهل الطريق