المثال الثاني: تفسير قول الله تعالى: {قل أتخذتم عند الله عهداً فلن يخلف الله عهده}.قال الله تعالى: {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (80)}
اختلف في المراد بالعهد على قولين:
القول الأول: العهد من الله بما يقولون بأن النار لن تمسّهم إلا أياماً معدودة، وهذا قول مجاهد وقتادة.
- قال ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ: «قوله: {قل أتّخذتم عند اللّه عهدًا} مَوثِقًا من اللّه بذلك أنّه كما تقولون؟». رواه ابن جرير وابن أبي حاتم.
- وقال آدم بن أبي إياس: حدثنا أبو جعفر الرازي، عن قتادة، قال: «قالت اليهود: لن ندخل النّار إلا تحلّة القسم خلال عدد الأيّام الّتي عبدنا فيها العجل. فقال اللّه: أتّخذتم عند اللّه عهدًا بهذا الّذي تقولون؟ ألكم بهذا حجّةٌ وبرهانٌ فلن يخلف اللّه عهده؟ هاتوا حجّتكم وبرهانكم أم تقولون على اللّه ما لا تعلمون؟». رواه ابن جرير وابن أبي حاتم.
والقول الثاني: العهد هو عهد التوحيد والإيمان الذي من تمسّك به أمن من العذاب، وهذا قول الضحاك، وقد رواه عن ابن عباس.
- قال بشر بن عمارة عن أبي روق عن الضحاك أنه روى عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «لمّا قالت اليهود ما قالت، قال اللّه جلّ ثناؤه لمحمّدٍ: {قل أتّخذتم عند اللّه عهدًا} يقول: أدّخرتم عند اللّه عهدًا؟ يقول: أقلتم لا إله إلاّ اللّه لم تشركوا، ولم تكفروا به؟ فإن كنتم قلتموها فارجوا بها، وإن كنتم لم تقولوها فلم تقولون على اللّه ما لا تعلمون؟ يقول: لو كنتم قلتم لا إله إلاّ اللّه، ولم تشركوا به شيئًا، ثمّ متّم على ذلك لكان لكم ذخرًا عندي، ولم أخلف وعدي لكم أنّي أجازيكم بها». رواه ابن جرير، ورواية الضحاك عن ابن عباس منقطعة من جهة الإسناد، لكنّها معتبرة في التفسير.
- وقال سرور بن المغيرة عن عباد بن منصور عن الحسن البصري قال: ({قل أتّخذتم عند اللّه عهدًا} أي: هل عندكم من اللّه من عهدٍ أنّه ليس معذّبكم؟ أم هل أرضيتم اللّه بأعمالكم فعملتم بما افترض عليكم وعهد إليكم فلن يخلف اللّه عهده؟ أم تقولون على اللّه ما لا تعلمون؟). رواه ابن أبي حاتم.
وهذا تفسير حسن من الحسن رحمه الله، وهو جامع للمعنيين.
وجملة {فلن يخلف الله عهده} تحتمل خمسة أوجه من الأعراب يؤدّي كل واحد منها معنى غير الذي يؤدّيه غيره:
الوجه الأول: الجملة معترضة لا محلّ لها من الإعراب، و{أم} متّصلة، وتقدير المعنى على هذا الوجه: أتخذتم عند الله عهداً أم تقولون على الله ما لا تعلمون، واعترضت جملة {فلن يخلف الله عهده} بينهما لرفع توهّم خلاف المراد.
وهذا الوجه اختاره ابن عطية في تفسيره؛ فقال: (قوله: {فلن يخلف الله عهده} اعتراض أثناء الكلام).
- قال أبو حيان الأندلسي: (كأنه يقول: أي هذين واقع؟ أتخاذكم العهد عند الله؟ أم قولكم على الله ما لا تعلمون؟
وأخرج ذلك مخرج المتردد في تعيينه على سبيل التقرير، وإن كان قد علم وقوع أحدهما، وهو قولهم على الله ما لا تعلمون، ونظيره: {وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين} ، وقد علم أيهما على هدى وأيهما هو في ضلال)ا.هـ.
والوجه الثاني: {أم} منقطعة بمعنى "بل" ، وجملة {فلن يخلف الله عهده} في محلّ رفع على الاستئناف، لتقرير أنّ الله تعالى لا يخلف عهده، وللتحضيض على اتخاذ عهد عند الله بالإيمان به وتوحيده؛ فمتى كان العبد على عهد الله فإنّ الله لا يخلف عهده حتى يكون العبد هو الذي ينقض العهد من قبل نفسه.
والوجه الثالث: الجملة في محلّ نصب على جواب الاستفهام، وهو اختيار أبي حيان الأندلسي.
فيكون تقدير المعنى: أتّخذتم عند الله عهداً؟ فإن الله لن يخلف عهده، ويكون الخطاب موجّهاً لمن وُجّه إليهم الاستفهام.
والوجه الرابع: الجملة في محلّ جزم في جواب الطلب بـ{قل} أي: قل لهم أتخذتم عند الله عهداً فلن يخلف الله عهده.
فيكون الخطاب في قوله {فلن يخلف الله عهده} موجّها لمن وجّه إليه الأمر بـ{قل} وهو النبي صلى الله عليه وسلم أو هو من قبيل خطاب غير المعيّن، ليكون كلّ مبلّغ للقرآن ومؤدٍّ حجّة الله في موضع الخطاب بـ{قل}.
الوجه الخامس: جملة {فلن يخلف الله عهده} جواب لشرط محذوف، والتقدير: إن اتخذتم عند الله عهداً فلن يخلف الله عهده.
وهذا القول قال بأصله أبو إسحاق الزجاج ثم قال به الزمخشري في كشافه، واختاره ابن عاشور.
- قال أبو إسحاق الزجاج: (وقوله عزّ وجلّ: {فلن يخلف اللّه عهده} أي: إن كان لكم عهد فلن يخلفه اللّه).
- وقال الزمخشري: ({فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ} متعلق بمحذوف تقديره: إن اتخذتم عند اللَّه عهدا فلن يخلف اللَّه عهده)ا.هـ.
- وقال ابن عاشور: (وقوله: {فلن يخلف الله عهده} "الفاء" فصيحة دالة على شرطٍ مقدَّرٍ وجزائه، وما بعد "الفاء" هو علة الجزاء، والتقدير: فإن كان ذلك؛ فلكم العذر في قولِكم لأنَّ الله لا يخلف عهده)ا.هـ.