تقوى الله تعالى في السر والعلن هي العدة،وهي مهبط الفضائل،ومتنزل المحامد،ومبعث القوة،ومعراج السمو، والرابط الوثيق على القلوب عن الفتن قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ۗ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ }(29)
قد بين الله تعالى في هذه الآية الكريمة أموراً عظيمة يجدها المتقي الذي عمر ظاهره وباطنه بتقوى الله:
-فمنها:يجعل الله له فرقاناً يفرق به بين الحق والباطل، وبين الطاعة والمعصية، وبين أولياء الله وأعداء الله، ونحوها من الفضائل.
-ومنها: مغفرة الذنوب ومحو السيئات.
-ومنها: البصيرة والتبصر في دين الله وشرعه الحكيم.
-ومنها: الحكمة، {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا}
وأعظم الناس تقوى وخشية لله تعالى هم العلماء العارفون به، كما قال تعالى:{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ } أي: إنما يخشاه حق الخشية العلماء العارفون به؛ لأنه كلما كانت المعرفة للعظيم القدير العليم الموصوف بصفات الكمال المنعوت بالأسماء الحسنى ، كلما كانت المعرفة به أتم والعلم به أكمل، كانت الخشية له أعظم وأكثر.
والخشية تعني شدة الخوف المبني على العلم بعظمة المخشي منه والهيبة منه، فمن كان بالله أعرف كان به أخشى.
وحقيقة الخشية أنها عمل قلبي قائم على أصلين:
-أحداهما: العلم.
-والآخر: التقوى.
وإذا صحة الخشية كانت دليل على علم صاحبها وتقواه، كما قال صلى الله عليه وسلم: (إن اتقاكم وأعلمكم بالله أنا)
*قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله تعالى: {إنما يخشى الله من عباده العلماء} قال: الذين يعلمون أن الله على كل شيء قدير، ذكره ابن كثير في تفسيره.
*وقال ابن لهيعة، عن ابن أبي عمرة، عن عكرمة، عن ابن عباس قال:العالم بالرحمن من لم يشرك به شيئاً، وأحل حلاله، وحرم حرامه، وحفظ وصيته، وأيقن أنه ملاقيه ومحاسب بعمله، ذكره ابن كثير.
*وقال سعيد بن جبير: الخشية هي التي تحول بينك وبين معصية الله عز وجل، ذكره ابن كثير.
*وقال الحسن البصري: العالم من خشي الرحمن بالغيب، ورغب فيما رغب الله فيه، وزهد فيما سخط الله فيه ، ثم تلا الحسن: {إنما يخشى الله من عباده العلماء}
*وعن ابن مسعود-رضي الله عنه-أنه قال: ليس العلم عن كثرة الحديث، ولكن العلم عن كثرة الخشية، ذكره ابن كثير.
*وقال سفيان الثوري، عن أبي حيان[التميمي]، عن رجل قال: كان يقال : العلماء ثلاثة:
1-عالم بالله عالم بأمر الله: الذي يخشى الله ويعلم الحدود والفرائض.
2-عالم بالله ليس بعالم بأمر الله: الذي يخشى الله ولا يعلم الحدود والفرائض.
3-عالم بأمر الله ليس بعالم بالله: الذي يعلم الحدود والفرائض ولا يخشى الله عز وجل، ذكره ابن كثير في تفسيره.
ومن أحوال السلف في خشية الله تعالى:
*قال مغيرة بن سعد بن الأخرم: (ما خرج عبد الله إلى السوق، فمر على الحدادين، فرأى ما يخرجون من النار إلا جعلت عيناه تسيلان)
*وقال عبد الله بن عمر: (لأن أدمع دمعة من خشية الله أحب إلي من أن أتصدق بألف دينار) ذكره محمد بن نصر المروزي في قيام الليل، ذكرهما الشيخ في أعمال القلوب.
وللخشية ثلاثة أسباب وهي جامعة لمعانٍ كثيرة:
الأول: محبة الله تعالى، فصدق المحبة يحمل على الخشية من الانقطاع عن الله والحرمان من رضوانه.
والثاني: الرجاء، وصدق الرجاء يحمل على الخشية من فوات ثواب الله عز وجل وفضله العظيم.
والثالث: الخوف، فالخوف الصادق يحمل على خشية التعرض لسخط الله وعقابه.
وقد تبين مما سبق أن أصل العلم خشية الله عز وجل، وأهل الخشية والخشوع هم أصحاب العلم الخاص وإن كان أحدهم لا يقرأ ولا يكتب ؛ وذلك لما وقر في قلوبهم من خشية الله وتعظيمه وإجلاله وإقبالهم على كتابه الكريم فدفعهم ذلك إلى القيام بطاعة الله عز وجل على أتم وجه وأحسنه.
بعض الفوائد السلوكية المستفادة من الآية الكريمة:
-معرفة الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى تكسب العبد الخشية والخوف من الله تعالى، فمن عرف الله أحبه ومن أحبه عمل من أجله وسعى لرضاه وابتغاء ما عنده.
-أصل العلم خشية الله عز وجل؛ ومن لم يورثه علمه الخشية والإقبال على ربه تعالى فلا خير في علمه.
-أهل الخشية متفاوتون في خشيتهم بتفاوت علمهم ومعرفتهم بالله تعالى فكلما زاد العبد معرفة بربه عز وجل زاد خشية وإنابة إليه.
-تدبر كتاب الله عز وجل والإقبال عليه من أعظم الأسباب التي تورث القلب الخشية، فمن وقف عند حدوده وعرف حلاله وحرامه أوجب له ذلك الخوف من الله والعمل بما علم.
-تعلق القلب بالآخرة، فمن علق قلبه بالآخرة عرف للدنيا قدرها وزهد فيها فقصر أمله وسابق لعمل الخير وكل ما يقربه إلى ربه عز وجل.
-دوام المراقبة؛ فمن استشعر مراقبة الله له وأنه مطلع عليه استحيا من مخالفة أمره أو التقصير في طاعته.
اللهم نسألك خشيتك في الغيب والشهادة ، وكلمة الحق في الغضب والرضا، ولا تحرمنا يارب خير ما عندك بسوء ما عندنا ... آمين.
المراجع:
تفسير ابن كثير.
تفسير الشيخ ابن باز رحمه الله في معنى الآية.
حلية طالب العلم للشيخ بكر أبا زيد رحمه الله.
فضل العلم وأعمال القلوب لشيخنا الفاضل عبد العزيز الداخل حفظه الله.