قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله تعالى: {والمحصنات من النّساء إلاّ ما ملكت أيمانكم كتاب اللّه عليكم وأحلّ لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين فما استمتعتم به منهنّ فآتوهنّ أجورهنّ فريضةً ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة إنّ اللّه كان عليماً حكيماً (24)}
قوله عز وجل: والمحصنات عطف على المحرمات قبل، والتحصن: التمنع، يقال حصن المكان: إذا امتنع، ومنه الحصن، وحصنت المرأة: امتنعت بوجه من وجوه الامتناع، وأحصنت نفسها، وأحصنها غيرها، والإحصان تستعمله العرب في أربعة أشياء، وعلى ذلك تصرفت اللفظة في كتاب الله عز وجل، فتستعمله في الزواج، لأن ملك الزوجة منعة وحفظ، ويستعملون الإحصان في الحرية لأن الإماء كان عرفهن في الجاهلية الزنا، والحرة بخلاف ذلك، ألا ترى إلى قول هند بنت عتبة للنبي عليه السلام، حين بايعته، وهل تزني الحرة؟ فالحرية منعة وحفظ، ويستعملون الإحصان في الإسلام لأنه حافظ، ومنه قول النبي عليه السلام «الإيمان قيد الفتك» ومنه قول الهذلي:
فليس كعهد الدّار يا أمّ مالك ...... ولكن أحاطت بالرّقاب السّلاسل
ومنه قول الشاعر:
قالت هلمّ إلى الحديث فقلت لا ...... يأبى عليك الله والإسلام
ومنه قول سحيم:
... ... ... ... ....كفى الشّيب والإسلام للمرء ناهيا
ومنه قول أبي حية:
رمتني وستر الله بيني وبينها
فإن أحد الأقوال في الستر أنه أراد به الإسلام، ويستعملون الإحصان في العفة، لأنه إذا ارتبط بها إنسان وظهرت على شخص ما وتخلق بها، فهي منعة وحفظ، وحيثما وقعت اللفظة في القرآن فلا تجدها تخرج عن هذه المعاني، لكنها قد تقوى فيها بعض هذه المعاني دون بعض، بحسب موضع وموضع، وسيأتي بيان ذلك في أماكنه إن شاء الله.
فقوله في هذه الآية والمحصنات، قال ابن عباس وأبو قلابة وابن زيد ومكحول والزهري وأبو سعيد الخدري: «هن ذوات الأزواج، أي هن محرمات، إلا ما ملكت اليمين بالسبي، من أرض الحرب، فإن تلك حلال للذي تقع في سهمه، وإن كان لها زوج»، وروى أبو سعيد الخدري: أن الآية نزلت بسبب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث جيشا إلى أوطاس فلقوا عدوا وأصابوا سبيا لهن أزواج من المشركين، فتأثم المسلمون من غشيانهن، فنزلت الآية مرخصة، وقال عبد الله بن مسعود وسعيد بن المسيب والحسن ابن أبي الحسن وأبيّ بن كعب وجابر بن عبد الله وابن عباس أيضا: «معنى المحصنات ذوات الأزواج، فهن حرام إلا أن يشتري الرجل الأمة ذات الزوج، فإن بيعها طلاقها، وهبتها طلاقها والصدقة بها طلاقها، وأن تعتق طلاقها، وأن تورث طلاقها، وتطليق الزوج طلاقها»، وقال ابن مسعود: « إذا بيعت الأمة ولها زوج فالمشتري أحقّ ببضعها»، ومذهب مالك والشافعي وجمهور العلماء أن انتقال الملك في الأمة لا يكون طلاقا، ولا طلاق لها إلا الطلاق، وقال قوم: المحصنات في هذه الآية العفائف، أي كل النساء حرام، وألبسهن اسم الإحصان، إذ الشرائع في أنفسها تقتضي ذلك، إلّا ما ملكت أيمانكم قالوا: معناه بنكاح أو شراء، كل ذلك تحت ملك اليمين، قال بهذا القول أبو العالية وعبيدة السلماني وطاوس وسعيد بن جبير وعطاء، ورواه عبيدة عن عمر رضي الله عنه، وقال ابن عباس: « المحصنات العفائف من المسلمين ومن أهل الكتاب».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وبهذا التأويل يرجع معنى الآية إلى تحريم الزنا، وأسند الطبري عن عروة أنه قال في تأويل قوله تعالى: والمحصنات: هن الحرائر، ويكون إلّا ما ملكت أيمانكم معناه بنكاح، هذا على اتصال الاستثناء، وإن أريد الإماء فيكون الاستثناء منقطعا، وروي عن أبي سعيد الخدري أنه قال:«كان نساء يأتيننا مهاجرات، ثم يهاجر أزواجهن فمنعناهن بقوله تعالى: والمحصنات الآية».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا قول يرجع إلى ما قد ذكر من الأقوال، وأسند الطبري أن رجلا قال لسعيد بن جبير: أما رأيت ابن عباس حين سئل عن هذه الآية والمحصنات من النّساء فلم يقل فيها شيئا؟ فقال سعيد: كان ابن عباس لا يعلمها، وأسند أيضا عن مجاهد أنه قال: لو أعلم من يفسر لي هذه الآية لضربت إليه أكباد الإبل، قوله: والمحصنات إلى قوله: حكيماً.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: ولا أدري كيف نسب هذا القول إلى ابن عباس ولا كيف انتهى مجاهد إلى هذا القول؟ وروي عن ابن شهاب أنه سئل عن هذه الآية والمحصنات من النّساء فقال: يروى أنه حرم في هذه الآية ذوات الأزواج والعفائف من حرائر ومملوكات، ولم يحل شيئا من ذلك إلا بالنكاح أو الشراء والتملك، وهذا قول حسن عمم لفظ الإحسان ولفظ ملك اليمين، وعلى هذا التأويل يتخرج عندي قول مالك في الموطأ، فإنه قال: هن ذوات الأزواج، وذلك راجع إلى أن الله حرم الزنا، ففسر الإحصان بالزواج، ثم عاد عليه بالعفة، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم وابن عامر وحمزة، «والمحصنات» بفتح الصاد في كل القرآن، وقرأ الكسائي كذلك في هذا الموضع وحده، وقرأ سائر ما في القرآن المحصنات بكسر الصاد «ومحصنات» كذلك، وروي عن علقمة أنه قرأ جميع ما في القرآن بكسر الصاد، ففتح الصاد هو على معنى أحصنهن غيرهن من زوج أو إسلام أو عفة أو حرية وكسر الصاد هو على معنى أنهن أحصنّ أنفسهن بهذه الوجوه أو ببعضها، وقرأ يزيد بن قطيب «والمحصنات» بضم الصاد، وهذا على إتباع الضمة الضمة، وقرأ جمهور الناس «كتاب الله» وذلك نصب على المصدر المؤكد، وقرأ أبو حيوة
ومحمد بن السميفع اليماني «كتب الله عليكم» على الفعل الماضي المسند إلى اسم الله تعالى، وقال عبيدة السلماني وغيره: قوله: كتاب اللّه عليكم إشارة إلى ما ثبت في القرآن من قوله: {مثنى وثلاث ورباع} وفي هذا بعد، والأظهر أن قوله كتاب اللّه عليكم إنما هو إشارة إلى التحريم الحاجز بين الناس وبين ما كانت العرب تفعله، واختلفت عبارة المفسرين في قوله تعالى: وأحلّ لكم ما وراء ذلكم فقال السدي:« المعنى وأحل لكم ما دون الخمس، أن تبتغوا بأموالكم، على وجه النكاح»، وقال نحوه عبيدة السلماني، وقال عطاء وغيره: المعنى «وأحل لكم ما وراء» من حرم من سائر القرابة، فهن حلال لكم تزويجهن، وقال قتادة: المعنى: وأحلّ لكم ما وراء ذلكم من الإماء.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: ولفظ الآية يعم جميع هذه الأقوال، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر «وأحل لكم» بفتح الألف والحاء، وهذه مناسبة لقوله كتاب اللّه إذ المعنى كتب الله ذلك كتابا، وقرأ حمزة والكسائي «وأحل» بضم الهمزة وكسر الحاء وهذه مناسبة لقوله: حرّمت عليكم والوراء في هذه الآية ما يعتبر أمره بعد اعتبار المحرمات، فهن وراء أولئك بهذا الوجه، وأن تبتغوا بأموالكم، لفظ يجمع التزوج والشراء وأن في موضع نصب، وعلى قراءة حمزة في موضع رفع، ويحتمل النصب بإسقاط الباء، ومحصنين، معناه متعففين أي تحصنون أنفسكم بذلك غير مسافحين، أي غير زناة، والسفاح: الزنا، وهو مأخوذ من سفح الماء أي صبه وسيلانه، ولزم هذا الاسم الزنا ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم حين سمع الدفاف في عرس: هذا النكاح لا السفاح ولا نكاح السر، واختلف المفسرون في معنى قوله: فما استمتعتم به منهنّ فآتوهنّ أجورهنّ فريضةً فقال ابن عباس ومجاهد والحسن وابن زيد وغيرهم: «المعنى فإذا استمتعتم بالزوجة ووقع الوطء ولو مرة فقد وجب إعطاء الأجر، وهو المهر كله، ولفظة فما تعطي أن بيسير الوطء يجب إيتاء الأجر»، وروي عن ابن عباس أيضا ومجاهد والسدي وغيرهم: «أن الآية في نكاح المتعة»، وقرأ ابن عباس وأبيّ بن كعب وسعيد بن جبير، «فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى فآتوهنّ أجورهن» وقال ابن عباس لأبي نضرة: هكذا أنزلها الله عز وجل، وروى الحكم بن عتيبة، أن عليا رضي الله عنه قال: لولا أن عمر نهى عن المتعة ما زنى إلا شقيّ، وقد كانت المتعة في صدر الإسلام، ثم نهى عنها النبي عليه السلام، وقال ابن المسيب: نسختها آية الميراث، إذ كانت المتعة لا ميراث فيها، وقيل قول الله تعالى: {يا أيّها النّبيّ إذا طلّقتم النّساء فطلّقوهنّ لعدّتهنّ}. وقالت عائشة: نسخها قوله: والّذين هم لفروجهم حافظون إلّا على أزواجهم ولا زوجية مع الأجل ورفع الطلاق، والعدة، والميراث، وكانت: أن يتزوج الرجل المرأة بشاهدين وإذن الولي إلى أجل مسمى، وعلى أن لا ميراث بينهما، ويعطيها ما اتفقا عليه، فإذا انقضت المدة فليس له عليها سبيل، وتستبرئ رحمها لأن الولد لاحق فيه بلا شك، فإن لم تحمل حلت لغيره.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وفي كتاب النحاس: في هذا خطأ فاحش في اللفظ، يوهم أن الولد لا يلحق في نكاح المتعة، وحكى المهدوي عن ابن المسيب: أن نكاح المتعة كان بلا ولي ولا شهود، وفيما حكاه ضعف، وفريضةً نصب على المصدر في موضع الحال، واختلف المفسرون في معنى قوله: {ولا جناح عليكم } الآية، فقال القائلون بأن الآية المتقدمة أمر بإيتاء مهور النساء إذا دخل بهن: إن هذه إشارة إلى ما يتراضى به من حط أو تأخير بعد استقرار الفريضة، فإن ذلك الذي يكون على وجه الرضا جائز ماض، وقال القائلون بأن الآية المتقدمة هي أمر المتعة: إن الإشارة بهذه إلى أن ما تراضيا عليه من زيادة في مدة المتعة وزيادة في الأجر جائز سائغ، وباقي الآية بين). [المحرر الوجيز: 2/511-518]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (وقوله تعالى{والمحصنات من النّساء إلا ما ملكت أيمانكم} أي: وحرّم عليكم الأجنبيّات المحصنات وهي المزوّجات {إلا ما ملكت أيمانكم} يعني: إلّا ما ملكتموهنّ بالسّبي، فإنّه يحلّ لكم وطؤهنّ إذا استبرأتموهنّ، فإنّ الآية نزلت في ذلك.
قال الإمام أحمد: حدّثنا عبد الرّزّاق، أخبرنا سفيان -هو الثّوريّ-عن عثمان البتّي، عن أبي الخليل، عن أبي سعيدٍ الخدريّ قال:« أصبنا نساءً من سبي أوطاس، ولهنّ أزواجٌ، فكرهنا أن نقع عليهنّ ولهنّ أزواجٌ، فسألنا النّبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، فنزلت هذه الآية: {والمحصنات من النّساء إلا ما ملكت أيمانكم} قال فاستحللنا فروجهنّ».
وهكذا رواه التّرمذيّ عن أحمد بن منيعٍ، عن هشيم، ورواه النّسائيّ من حديث سفيان الثّوريّ وشعبة بن الحجّاج، ثلاثتهم عن عثمان البتّيّ، ورواه ابن جريرٍ من حديث أشعث بن سوّاريّ عن عثمان البتّيّ، ورواه مسلمٌ في صحيحه من حديث شعبة عن قتادة، كلاهما عن أبي الخليل صالح بن أبي مريم، عن أبي سعيدٍ الخدريّ، فذكره، وهكذا رواه عبد الرّزّاق، عن معمرٍ، عن قتادة عن أبي الخليل، عن أبي سعيد، به.
وقد روي من وجهٍ آخر عن أبي الخليل، عن أبي علقمة الهاشميّ، عن أبي سعيدٍ قال الإمام أحمد:
حدّثنا ابن أبي عديّ، عن سعيدٍ، عن قتادة، عن أبي الخليل، عن أبي علقمة، عن أبي سعيدٍ الخدريّ؛ أنّ أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أصابوا سبايا يوم أوطاس، لهنّ أزواجٌ من أهل الشّرك، فكأنّ أناسًا من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم كفّوا وتأثّموا من غشيانهنّ قال: فنزلت هذه الآية في ذلك: {والمحصنات من النّساء إلا ما ملكت أيمانكم}.
وهكذا رواه مسلمٌ وأبو داود والنّسائيّ من حديث سعيد بن أبي عروبة -زاد مسلمٌ: وشعبة-ورواه التّرمذيّ من حديث همّام بن يحيى، ثلاثتهم عن قتادة، بإسناده نحوه. وقال التّرمذيّ: هذا حديثٌ حسنٌ، ولا أعلم أنّ أحدًا ذكر أبا علقمة في هذا الحديث إلّا ما ذكر همّامٌ عن قتادة. كذا قال. وقد تابعه سعيدٌ وشعبة، واللّه أعلم.
وقد روى الطّبرانيّ من طريق الضّحّاك عن ابن عبّاسٍ: أنّها نزلت في سبايا خيبر، وذكر مثل حديث أبي سعيدٍ، وقد ذهب جماعةٌ من السّلف إلى أنّ بيع الأمة يكون طلاقًا لها من زوجها، أخذًا بعموم هذه الآية. قال ابن جريرٍ: حدّثنا ابن مثنّى، حدّثنا محمّد بن جعفرٍ، عن شعبة، عن مغيرة، عن إبراهيم: أنّه سئل عن الأمة تباع ولها زوجٌ؟ قال: كان عبد اللّه يقول: بيعها طلاقها، ويتلو هذه الآية {والمحصنات من النّساء إلا ما ملكت أيمانكم}.
وكذا رواه سفيان عن منصور، ومغيرة والأعمشن عن إبراهيم، عن ابن مسعودٍ قال:«بيعها طلاقها». وهو منقطعٌ.
وقال سفيان الثّوريّ، عن خالدٍ، عن أبي قلابة، عن ابن مسعودٍ قال: «إذا بيعت الأمة ولها زوجٌ فسيّدها أحقّ ببضعها».
ورواه سعيدٌ، عن قتادة قال: إنّ أبيّ بن كعبٍ، وجابر بن عبد اللّه، وابن عبّاسٍ قالوا:«بيعها طلاقها».
وقال ابن جريرٍ: حدّثني يعقوب، حدّثنا ابن عليّة، عن خالدٍ، عن عكرمة، عن ابن عبّاسٍ قال: «طلاق الأمة ستٌّ بيعها طلاقها، وعتقها طلاقها، وهبتها طلاقها، وبراءتها طلاقها، وطلاق زوجها طلاقها».
وقال عبد الرّزّاق: أخبرنا معمر، عن الزّهريّ، عن ابن المسيّب قوله: {والمحصنات من النّساء} قال: «هن ذوات الأزواج، حرّم اللّه نكاحهنّ إلّا ما ملكت يمينك فبيعها طلاقها وقال معمر: وقال الحسن مثل ذلك».
وهكذا رواه سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن الحسن في قوله: {والمحصنات من النّساء إلا ما ملكت أيمانكم} قال: «إذا كان لها زوجٌ فبيعها طلاقها».
وقال عوفٌ، عن الحسن: «بيع الأمة طلاقها وبيعه طلاقها».
فهذا قول هؤلاء من السّلف رحمهم اللّه وقد خالفهم الجمهور قديمًا وحديثًا، فرأوا أنّ بيع الأمة ليس طلاقها ؛ لأنّ المشتري نائبٌ عن البائع، والبائع كان قد أخرج عن ملكه هذه المنفعة وباعها مسلوبةً عنها، واعتمدوا في ذلك على حديث بريرة المخرّج في الصّحيحين وغيرهما؛ فإنّ عائشة أمّ المؤمنين اشترتها ونجّزت عتقها، ولم ينفسخ نكاحها من زوجها مغيثٍ، بل خيّرها النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم بين الفسخ والبقاء، فاختارت الفسخ، وقصّتها مشهورةٌ، فلو كان بيع الأمة طلاقها -كما قال هؤلاء لما خيّرها النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، فلمّا خيّرها دلّ على بقاء النّكاح، وأنّ المراد من الآية المسبيّات فقط، واللّه أعلم.
وقد قيل: المراد بقوله: {والمحصنات من النّساء} يعني: العفائف حرامٌ عليكم حتّى تملكوا عصمتهنّ بنكاحٍ وشهودٍ ومهورٍ ووليٍّ واحدةً أو اثنتين أو ثلاثًا أو أربعًا. حكاه ابن جريرٍ عن أبي العالية وطاوسٍ وغيرهما. وقال عمر وعبيدة: {والمحصنات من النّساء} ما عدا الأربع حرامٌ عليكم إلّا ما ملكت أيمانكم.
وقوله: {كتاب الله عليكم} أي: هذا التّحريم كتابٌ كتبه اللّه عليكم، فالزموا كتابه، ولا تخرجوا عن حدوده، والزموا شرعه وما فرضه.
وقد قال عبيدة وعطاءٌ والسّدّيّ في قوله: {كتاب اللّه عليكم} يعني الأربع. وقال إبراهيم: {كتاب الله عليكم} يعني: ما حرّم عليكم.
وقوله: {وأحلّ لكم مّا وراء ذلكم} أي: ما عدا من ذكرن من المحارم هنّ لكم حلالٌ، قاله عطاءٌ وغيره. وقال عبيدة والسّدّيّ: {وأحلّ لكم مّا وراء ذلكم} ما دون الأربع، وهذا بعيدٌ، والصّحيح قول عطاءٍ كما تقدّم. وقال قتادة {وأحلّ لكم مّا وراء ذلكم} يعني: ما ملكت أيمانكم.
وهذه الآية هي الّتي احتجّ بها من احتجّ على تحليل الجمع بين الأختين، وقول من قال: أحلّتهما آيةٌ وحرّمتهما آيةٌ.
وقوله: {أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين} أي: تحصّلوا بأموالكم من الزّوجات إلى أربعٍ أو السّراري ما شئتم بالطّريق الشّرعيّ؛ ولهذا قال: {محصنين غير مسافحين}وقوله: {فما استمتعتم به منهنّ فآتوهنّ أجورهنّ فريضةً} أي: كما تستمتعون بهنّ فآتوهنّ مهورهنّ في مقابلة ذلك، كقوله: {وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعضٍ} وكقوله {وآتوا النّساء صدقاتهنّ نحلةً} وكقوله {ولا يحلّ لكم أن تأخذوا ممّا آتيتموهنّ شيئًا}.
وقد استدلّ بعموم هذه الآية على نكاح المتعة، ولا شكّ أنّه كان مشروعًا في ابتداء الإسلام، ثمّ نسخ بعد ذلك. وقد ذهب الشّافعيّ وطائفةٌ من العلماء إلى أنّه أبيح ثمّ نسخ، ثمّ أبيح ثمّ نسخ، مرّتين. وقال آخرون أكثر من ذلك، وقال آخرون: إنّما أبيح مرّةً، ثمّ نسخ ولم يبح بعد ذلك.
وقد روي عن ابن عبّاسٍ وطائفةٍ من الصّحابة القول بإباحتها للضّرورة، وهو روايةٌ عن الإمام أحمد بن حنبلٍ، رحمهم اللّه تعالى. وكان ابن عبّاسٍ، وأبيّ بن كعبٍ، وسعيد بن جبير، والسّدّي يقرءون: "فما استمتعتم به منهنّ إلى أجلٍ مسمّى فآتوهنّ أجورهنّ فريضةً". وقال مجاهدٌ: نزلت في نكاح المتعة، ولكنّ الجمهور على خلاف ذلك، والعمدة ما ثبت في الصّحيحين، عن أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالبٍ رضي اللّه عنه قال: نهى النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم عن نكاح المتعة وعن لحوم الحمر الأهليّة يوم خيبر ولهذا الحديث ألفاظٌ مقرّرةٌ هي في كتاب "الأحكام".
وفي صحيح مسلمٍ عن الرّبيع بن سبرة بن معبدٍ الجهنيّ، عن أبيه: أنّه غزا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فتح مكّة، فقال:«يأيّها النّاس، إنّي كنت أذنت لكم في الاستمتاع من النّساء، وإنّ اللّه قد حرم ذلك إلى يوم القيامة، فمن كان عنده منهنّ شيءٌ فليخلّ سبيله، ولا تأخذوا ممّا آتيتموهنّ شيئًا»وفي روايةٍ لمسلمٍ في حجّة الوداع وله ألفاظٌ موضعها كتاب "الأحكام".
وقوله: {ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة} من حمل هذه الآية على نكاح المتعة إلى أجلٍ مسمّى قال: فلا جناح عليكم إذا انقضى الأجل أن تراضوا على زيادةٍ به وزيادةٍ للجعل.
قال السّدّيّ: إن شاء أرضاها من بعد الفريضة الأولى -يعني الأجر الّذي أعطاها على تمتّعه بها-قبل انقضاء الأجل بينهما فقال: أتمتّع منك أيضًا بكذا وكذا، فازداد قبل أن يستبرئ رحمها يوم تنقضي المدّة، وهو قوله: {ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة}.
قال السّدّيّ: إذا انقضت المدّة فليس له عليها سبيلٌ، وهي منه بريئةٌ، وعليها أن تستبرئ ما في رحمها، وليس بينهما ميراثٌ، فلا يرث واحدٌ منهما صاحبه.
ومن قال بالقول الأوّل جعل معناه كقوله: {وآتوا النّساء صدقاتهنّ نحلةً فإن طبن لكم عن شيءٍ منه نفسًا فكلوه هنيئًا مريئًا}أي: إذا فرضت لها صداقًا فأبرأتك منه، أو عن شيءٍ منه فلا جناح عليك ولا عليها في ذلك.
وقال ابن جريرٍ: حدّثنا محمّد بن عبد الأعلى، حدّثنا المعتمر بن سليمان، عن أبيه قال: زعم الحضرميّ أنّ رجالًا كانوا يفرضون المهر، ثمّ عسى أن يدرك أحدهم العسرة، فقال: {ولا جناح عليكم} أيّها النّاس {فيما تراضيتم به من بعد الفريضة} يعني: إن وضعت لك منه شيئًا فهو لك سائغٌ، واختار هذا القول ابن جريرٍ، وقال عليّ بن أبي طلحة عن ابن عبّاسٍ: {ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة} والتّراضي أن يوفيها صداقها ثمّ يخيّرها، ويعني في المقام أو الفراق.
وقوله: {إنّ الله كان عليمًا حكيمًا} مناسب ذكر هذين الوصفين بعد شرع هذه المحرمات [العظيمة] ). [تفسير القرآن العظيم: 2/256-260]
* للاستزادة ينظر: هنا