الدرس العاشر: توجيه أقوال المفسرين
عناصر الدرس:
1. تمهيد
2. المراد بتوجيه الأقوال
3. مراتب توجيه أقوال المفسرين
4. السبيل إلى اكتساب مهارة توجيه أقوال المفسّرين
5. مسالك التفسير عند السلف.
6. الأمثلة
7. التطبيقات
تمهيد:
من المهارات التي تشتدّ حاجة المفسّر إليها مهارة توجيه أقوال المفسّرين؛ فلا تكاد تخلو مسألة من مسائل الخلاف في التفسير من حاجة إلى توجيه بعض الأقوال فيها، ومعرفة مآخذها وعللها.
وإتقان هذه المهارة يعين المفسّر على حسن دراسة مسائل التفسير ونقد أقوال المفسّرين، وإدراك كثيرٍ من حجج المفسرين، وعلل الأقوال التفسيرية، ومعرفة أوجه الجمع والترجيح.
وهذه الملكة الذهنية تفتح له بإذن الله تعالى أبواباً في تدبّر القرآن، واستخراج الفوائد واللطائف والأوجه التفسيرية لقوة الاتصال بين توجيه أقوال المفسرين والأدوات العلمية التي تُستخرج بها الفوائد واللطائف القرآنية.
المراد بتوجيه أقوال المفسرين:
توجيه قول المفسّر هو بيان وجه الحجة فيه باستعمال الأدوات العلمية التي تُظهر ترتّب ذلك القول على الأصل الذي بُني عليه.
وتوجيه الأقوال منه ما هو يقيني يظهر وجه الحجة فيه جلياً، ومنه ما هو ظنّي، وقد يقع من بعض المتكلمين في توجيه أقوال المفسّرين تكلّف وخطأ.
وتوجيه القول لا يقتضي صحّته وإنما هو بيان لوجه حجة قائله، ثم قد يكون احتجاجه صحيحاً، وقد يدخله الخطأ والضعف، وقد يعارضه ما هو أرجح منه وأولى.
وقد يكون لبعض الأقوال أوجه متعددة؛ وهذا أقوى في الاستدلال، وأظهر لحجة قائله.
مراتب توجيه أقوال المفسرين:
توجيه أقوال المفسّرين على مراتب:
المرتبة الأولى: أن يكون توجيه القول منصوصاً عليه أو مقروناً ببيان دليله الذي يدلّ عليه دلالة ظاهرة.
المرتبة الثانية: أن يكون القول مقروناً بدليل يحتاج فيه إلى بيان وجه دلالته عليه.
المرتبة الثالثة: أن يُذكر القول من غير دليل يدلّ عليه فيجتهد المفسّر في استخراج الدليل له وبيان مأخذ ذلك القول وما بُني عليه.
والمرتبة الثالثة تتفاوت فيها الأقوال في ظهور التوجيه وخفائه، فأمّا الظاهر فأمره هيّن، وأما الخفيّ فهو مما يتفاضل فيه المفسّرون.
السبيل إلى اكتساب مهارة توجيه أقوال المفسّرين:
السبيل إلى اكتساب مهارة توجيه أقوال المفسّرين إنما يكون بالجمع بين أمرين:
الأمر الأول: التمرن على الأمثلة التي أجاد جهابذة المفسّرين فيها توجيه الأقوال، ثمّ أداء التطبيقات المتدرّجة في نظائرها، يبدأ بالسهل الممكن ثم ينتقل لما هو أصعب منه قليلاً حتى يتعرف الأدوات العلمية التي يستعملها العلماء في توجيه أقوال المفسرين ويُحسن استعمالها.
وممن عني بتوجيه الأقوال من العلماء: ابن جرير الطبري، ومكي بن أبي طالب، وابن عطية، وابن تيمية، وابن القيم، وابن كثير، وابن الجزري، وابن حجر، وابن عاشور، ومحمد الأمين الشنقيطي.
فقراءة تحريراتهم لمسائل التفسير في تفاسيرهم أو رسائلهم التفسيرية أو في بعض مباحث كتبهم الأخرى والتمرّن على محاكاتها مما يعين على اكتساب هذه المهارة وإتقانها بإذن الله تعالى.
والأمر الثاني: المعرفة الحسنة بجملة من العلوم التي يُعتمد عليها في توجيه أقوال المفسّرين، ومن ذلك:
1. علم القراءات ولا يُقتصر فيها على القراءات المتواترة، بل يحتاج المفسّر إلى الاطلاع على ما حُكي في التفاسير المتقدمة وكتب القراءات من قراءات منسوبة لقرّاء السلف، وربما احتاج إلى الوقوف على بعض ما نُسخت تلاوته أو تركت القراءة به في الجمع العثماني إذا تعلّق به قول من أقوال المفسّرين.
2. علم الإعراب، وبه يُعرف توجيه كثير من الأقوال.
3. معاني الحروف، وهو من أهمّ العلوم التي يحتاجها المفسّر، ويكشف بها عن أوجه كثير من أقوال المفسرين.
4. معاني الأساليب
5. الصرف
6. الاشتقاق
7. البلاغة
فهذه العلوم من أهمّ ما يُحتاج إليه في توجيه الأقوال، ومتى رأى طالب علم التفسير حاجته لدراسة مختصر في علم من هذه العلوم؛ فليبادر إلى دراسته حتى يكتسب إلماماً حسناً بذلك العلم يعينه على استعماله في توجيه أقوال المفسرين.
ومن بلغ مرتبة الإتقان في مهارة توجيه أقوال المفسّرين تمكّن بإذن الله تعالى من محاكاة العلماء في تحرير مسائل التفسير والتوجيه والنقد والإعلال واستخراج الفوائد والأوجه التفسيرية؛ لأن الجامع بين هذه الأمور ملكة ذهنية ومعارف مكتسبة.
والنبوغ في العلم إنما يحصل باجتماع المعارف والمهارات.
مسالك التفسير عند السلف:
مما يتّصل بتوجيه أقوال المفسرين معرفة مسالك التفسير عند السلف؛ ومنها:
1. تفسير المفردة القرآنية ببيان معناها المطابق أو المقارب، وهو الأصل في تفسير ألفاظ القرآن.
2. تفسير المفردة ببعض معناها، ومنه التفسير بالمثال؛ وهو كثير في تفاسير السلف، وقد يراد به أحيانا التنبيه على دخول ذلك المثال في معنى الآية.
أ: فمن التفسير ببعض المعنى قول ابن عباس في المراد بالقسورة؛ قال: (هم الرماة) رواه ابن جرير من طرق عنه.
وقال أبو هريرة: (الأسد). رواه ابن جرير من طريق زيد بن أسلم عنه، وهو منقطع لكن رواه البزار في مسنده موصولاً من طريق زيد بن أسلم عن ابن سيلان عن أبي هريرة.
والقسورة لفظ مشترك يطلق على الرماة وعلى الأسد، وكلٌّ قد قال ببعض المعنى.
ب: ومن التفسير بالمثال قول أنس بن مالك رضي الله عنه في تفسير قول الله تعالى: {وسارعوا إلى مغفرة من ربكم} قال: التكبيرة الأولى). رواه ابن المنذر.
قال ابن عطية: (هذا مثال حسن يحتذى عليه في كل طاعة).
3. تفسير بلازم المعنى؛ وهو من مسالك التفسير المعتبرة عند السلف؛ فتفسّر اللفظة بلازم معناها لا بحقيقة معناها بمقتضى الوضع اللغوي.
- ومن أمثلته قول عبد الرحمن بن زيد في تفسير قول الله تعالى: {لأحتنكنّ ذرّيّته إلاّ قليلاً} قال: لأضلّنّهم). رواه ابن جرير.
وليس الإضلال من معاني الاحتناك في اللغة، ولكن لمّا كان لازم الاحتناك أن يضلّهم سلك ابن زيد في تفسير هذه الآية مسلك بيان لازم معنى اللفظة.
- ومن أمثلته أيضاً قول الفراء في تفسير قول الله تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} قال: إلا ليوحدوني).
وهذا تفسير باللازم لأنّ العبادة لا تكون معتبرة في الشرع حتى تكون خالصة لله تعالى.
4. تفسير ببعض لازم المعنى، وهذا غالباً ما يكون لغرض التنبيه على دخول ذلك الأمر المذكور في التفسير في معنى الآية.
وإذا عرف الباحث في مسائل التفسير المسلك الذي سلكه صاحب القول في التفسير أعانه ذلك على معرفة وجهه.
الأمثلة:
1: قال السدي في تفسير قول الله تعالى: ({يوم التناد}: تندّون)
التخريج: رواه ابن جرير في تفسيره من طريق أحمد بن المفضل عن أسباط بن نصر عنه.
التوجيه: (تندّون) أي: تهربون وتشردون شرود البعير، مأخوذ من قولهم ندّت الإبل إذا شردت.
هذا القول مبني على قراءة {التنادّ} بتشديد الدال، وهذه القراءة ذكرها ابن جرير في تفسيره من غير نسبة، ونسبها أبو القاسم الهذلي في "الكامل" للحسين بن مالك الزعفراني ومحمد بن الحسن ابن مِقْسَم، ونسبها أبو الفتح ابن جني في "المحتسب" لابن عباس والضحاك وأبي صالح والكلبي.
قال ابن جنّي: (هو تفاعل، مصدر تنادّ القوم، أي: تفرقوا، من قولهم: ندَّ يندّ، كنفر ينفر. وتنادوا كتنافروا، والتناد كالتنافر، وأصله التنادد، فأسكنت الدال الأولى وأدغمت في الثانية استثقالا لاجتماع المثلين متحركين)ا.هـ.
2: قال الضحاك في تفسير قول الله تعالى: ({كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون} : كانوا قليلاً من الناس).
التخريج: رواه ابن جرير من طريق سفيان الثوري عن الزبير بن عدي عن الضحاك، وهو في تفسير سفيان الذي رواه أبو حذيفة النهدي.
التوجيه: هذا القول مبني على إعراب "قليلاً" خبراً لكانَ يتمّ به الكلام، ثم يستأنف: (من الليل ما يهجعون).
3: قال مجاهد في تفسير قول الله تعالى: {ن والقلم}: «الّذي كتب به الذّكر» ).
التخريج: رواه ابن جرير من طرق عن ابن أبي نجيح عنه.
التوجيه: هذا القول مبني على أنّ التعريف في "القلم" للعهد الذهني وليس للجنس، وأنّ أولى ما يراد به أشرف الأقلام وهو القلم الذي كُتب به الذكر.
4: قال قتادة في تفسير قول الله تعالى: {وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا} يقول: سجنا.
التخريج: رواه ابن جرير من طريق يزيد بن زريع عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة.
التوجيه: هذا القول مبني على أنّ حصيراً فعيل بمعنى فاعل، أي: حاصر؛ فهي حاصرة لهم يسجنون فيها.
5: قال عطاء في قوله تعالى: {ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة} قال: عطيةً).
التخريج: رواه سفيان الثوري في تفسيره، وابن جرير من طريق ابن جريج عنه.
التوجيه: هذا القول يوجّه بأن تعرب "نافلة" نائب مفعول مطلق لتكون مؤكدة لمعنى الهبة، تقول: وهبته شيئاً هبةً ووهبته إياه نافلة بمعنى واحد.
وفي المسألة قول آخر، وهو أنّ الموهوب إسحاق، وأنّ يعقوب نافلة أي زيادة ؛ فتعرب على هذا القول حالا من يعقوب؛ فالنافلة تطلق بمعنى الهبة وبمعنى الزيادة.
وممن قال بالقول الثاني: قتادة ؛ فقال: (النافلة ابن ابنه يعقوب). رواه ابن جرير.
قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي: (وقوله: {نافلة} فيه وجهان من الإعراب؛ فعلى قول من قال: النافلة العطية فهو ما ناب عن المطلق من {وهبنا} أي: وهبنا له إسحاق ويعقوب هبة، وعليه النافلة مصدرٌ جاء بصيغة اسم الفاعل كالعاقبة والعافية.
وعلى أن النافلة بمعنى الزيادة فهو حال من {يعقوب} أي: وهبنا له يعقوب في حال كونه زيادة على إسحاق)ا.هـ.
التطبيقات:
خرّج أقوال المفسّرين التالية ووجّهها:
1: قول ابن عباس في قوله عز وجل: {وله المثل الأعلى} قال: (يقول: ليس كمثله شيء).
2: قول ابن عباس في تفسير قول الله تعالى: {وادّكر بعد أمه} قال: بعد نسيان.
3: قول سالم الأفطس في قوله تعالى: {إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه} قال: (يخوفكم بأوليائه).
4: قول سعيد بن جبير في قول الله تعالى: {يحفظونه من أمر اللّه}: (الملائكة: الحفظة، وحفظهم إيّاه من أمر اللّه)
5: قول ابن عباس رضي الله عنهما في الكوثر: (هو الخير الكثير الذي أعطاه الله إياه).